|
نظرات إلى العالم
وقيم
للمستقبل
هنريك
سكوليموفسكي
النظرات
إلى العالم كالأنهار – قد تكون مغذِّية
وقد تكون سامَّة. النظرة إلى العالم مغذِّية
عندما تكون مبادئها العامة ذات طبيعة، وذات
خصوبة، من الغنى بحيث يمكننا حتى بعد قرون من
وجودها أن نستمد منها الإلزامات لأعمالنا،
والمبادئ لفهم العالم. بذلك فإن النظرات
الراسخة إلى العالم لا تني تعيننا على تفسير
العالم وعلى الحياة فيه حياة رضيَّة. ***
*** *** النظرات النقلية
إلى العالم دينية بطبيعتها، بما أنها تفترض
أن إلهاً غير مرئي هو في أصل الكون وغالباً ما
يشرف على سير أموره. والنظرات النقلية إلى
العالم معبَّر عنها عادة في كتب مقدسة من نحو الأوبنشاد
أو الكتاب المقدس أو القرآن الكريم.
ولغة مثل هذه الكتب المقدسة غير دقيقة – وبخاصة إذا قيست
إلى معايير العلوم الصارمة. لكن في عدم الدقة
هذا قوة أيضاً، من حيث إنه يجيز تأويلات
متنوعة للكلمة المقدسة. وبالفعل، فإن النظرات
الخصبة إلى العالم (من نحو النظرة الفيدية إلى
العالم، كما هي مؤسَّسة على الفيدا وعلى الأوبنشاد)
مدهشة في مرونتها – إذ هي يمكن أن
تتخذ تنوعاً من الأشكال والتأويلات بدون أن
تفقد هويتها. وهذا ما يمكِّنها من البقاء
قروناً وألفيات بدون أن تتناقص قدرتها على
الإلهام والتقوُّت التي هي القدرة على
التغذية. إن القدرة على
الإلهام والتقوُّت مقدرة حاذقة جداً إذ إننا
لا نعرف كيفية عملها على وجه الدقة –
كل ما نعرف هو أنها تعمل. الكلمات والأفكار،
وبعضها مولود من رؤى مضت عليها دهور، تنطوي
على طاقة هي من الكثافة بحيث إننا مازلنا
نجدها مغذِّية. قد يكون إسرافاً في التبسيط أن
نقول عن هذه الحقائق التي اكتشفناها والتي
تقوتنا إنها هي الحقائق الأبدية، هي القوانين
الكونية، هي البرهمن القديم، لأنها
تمثِّل حقائق أبدية. فالحقيقة أمر حاذق وعسير.
وعندما نمعن النظر فيها، فإننا لا ندري ما هي.
فكل أنواع الصروح، التي زُعِم أنها مشيدة على
حقائق أبدية، قد انهارت في التاريخ البشري. زد
على ذلك أن تنوع البنى الكوسمولوجية
والأخلاقية التي نجت تاريخياً متنوعة جداً من
حيث طبيعتها، كما أنها لاتمتثل لتصور أو
معيار الحقيقة نفسه. والأمثلة المقاومة لبلى
الزمان هي الطاوية، والبوذية، والهندوكية،
والمنقول اليهودي-المسيحي-الإسلامي –
أربع نظرات مختلفة إلى العالم، لعلها ذات
أربعة تصورات مختلفة عن الحقيقة. فما الذي
يمكِّن هذه النظرات إلى العالم أن تبقى
وتزدهر؟ قطعاً ليس حجم الكلمات التي عبرت
عنها. دونك، على سبيل المثال، الطاوية التي
عُبِّر عنها أصلاً في 500 سطر أغلبها مبهم إلى
حد الإغاظة. ومع ذلك، فإن الطاوية، إذ هي تعود
عودة مدهشة في زماننا، قد عبّرت قطعاً عن شيء
من الطبيعة الجوهرية للشرط البشري. وكلتاهما
لا تنفصل الواحدة منهما عن الأخرى: فإن لوحة
مقوِّتة للكوسموس تعطينا عادة صورة منوِّرة
عما هو عليه الشخص البشري في هذا الكوسموس وعن
الدور الذي يلعبه/تلعبه في الخطة الإجمالية. بذلك نرى أن
إبهام الصياغات أو دقتها كليهما ليسا عاملين
حاسمين. ففي أمور الكوسمولوجيا والمصير
البشري القصوى، ليس الإبهام سيئاً بالضرورة
والدقة ليست حسنة بالضرورة.
علينا الآن أن
نلجأ إلى النظرة العلمية إلى العالم التي
انبثقت من تصور القرن السابع عشر للكون بوصفه
آلية أشبه بالساعة ومن تصور المعرفة بوصفها
نفوذاً. لقد أثنت هذه النظرة إلى العالم على
نفسها لدقّتها وغالباً ما نبذت النظرات
الأخرى (وبخاصة الكوسمولوجيات النقلية)،
لمجرد أنها كانت مبهمة. ولقد ادّعت النظرة
العلمية إلى العالم بأنها تحتكر امتلاك
الحقيقة. وكل ما أو مَن كان يخالف حقائقها كان
يحكم عليه بالتقادم وبالنبوّ، أو بأسوأ من
ذلك –
بالظلامية. إن سقوط النظرة
العلمية إلى العالم هو جزئياً على الأقل
نتيجة سعيها إلى الدقة وهاجسها أن تضع كل شيء
في علب متقنة حصرية. ومع انقضاء الوقت، تم
تخطي العلب الجامدة في قطاعات المعرفة كافّة
والمخطط الآلتي mechanistic برمّته قد
أبطلته عن آخره عدة مرات الامتدادات الحديثة
للفيزياء. وهذا نذير شؤم على نظرة إلى العالم
يتم تصورها بعبارات جامدة ومعيَّنة بحدة.
والنظرة العلمية إلى العالم، بسبب من سعيها
إلى الدقة، وبسبب من اعتناقها للاستعارة
الآلتية، شديدة الصلادة حتى قابلية القصف (بينما
النظرة النقلية إلى العالم مرنة). وعندما بدأ
تخطي حدود النظرة الآلتية المعيَّنة بحدة (واتضح
أن الحقائق النيوتنية ليست حقائق أبدية بل
التقريبات الأولى في فهمنا للبنيان
العملاق للكوسموس الفيزيائي) بدأ البنيان
الصلد برمّته بالتناثر. وهو مازال يتناثر! عند أي نقطة يصير
بنيان كهذا غير مغذٍّ ويتحول بالفعل إلى نهر
سام؟ عند تلك النقطة التي نقر عندها أن
البنيان لم يعد يصلح، أنه لا يحتكر الحقيقة،
أن طبيعته الصلدة تجعله يتناثر. ومع ذلك فإننا
نظل نصرّ على حشر تنوع الحياة وتنوع المعرفة
قسراً فيها. إن ستراتيجية كهذه مضادة للإنتاج. هناك بعض الأسباب
الأخرى التي من جرائها لم تعد النظرة العلمية
إلى العالم نهراً مغذِّياً. فمن النظرة
الفيدية إلى العالم (القائمة على الأوبنشاد)
استمد المرء مبدئي أهمسا ahimsa ["كفّ الأذية"
– م] ودهرما dharma ["الواجب"
– م]. ومن النظرة
البوذية إلى العالم استمد المرء مبدأ الرحمة
الشاملة. هناك مبادئ أخلاقية هامة جداً
أفادتنا إفادة جمّة خلال الألفيات الماضية.
إننا، بما نحن مجتمع بشري، نحتاج لمثل هذه
المبادئ. فما المبادئ
الأخلاقية التي نستمدها من النظرة العلمية
إلى العالم؟ طيب، إذا كانت المعرفة نفوذاً،
وإذا كان الكون آلية يمكن التلاعب بها، فإن
المهم هو –
النفوذ، التلاعب، السيطرة، والمردودية. لقد
صارت هذه بالفعل هي القيم السائدة للمجتمع
العلمي-التكنولوجي. فإذا لم تكن هناك آلهة
أسمى من المردودية والعقلانية، فإننا كلما
حزنا على مردودية ونفوذ أكثر كان هذا أحسن لنا.
وهذا يقود إلى تنافسية عديمة الرحمة (يصير
قيمة اجتماعية أخرى)، إلى الصعود على أكتاف
الآخرين، إلى الأنانية، وإلى المادية
الغليظة. وهذه ليست بالدقة المبادئ الأخلاقية
إذا أدركنا أننا نحيا على السفينة الفضائية
أرض المتواصلة والمرتبطة بعدد هائل من حلقات
التكافل. علاوة على ذلك
فمن العقلاني، والمسوَّغ بالتالي، في تمسكنا
بالنظرة العلمية إلى العالم (وبالقيم التي
تنطوي عليها)، أن نستغل الطبيعة (إذ إننا
نستعرض حينئذٍ سلطاننا على الطبيعة)، أن نلوث
الأنهار، أن نراكِم النفوذ والمال، حتى وإنْ
كان هذا يؤذي الأرض والمَواطن habitats الإيكولوجية.
جليٌّ إنه إذا كانت النظرة إلى العالم تسمح
مثل هذا المفهوم عن العقلانية الذي يجوز لك
باسمه أن تسلب، تخرب، وتدمِّر (الطبيعة بصورة
خاصة)، فإن مثل هذه النظرة إلى العالم يجب أن
تكون قاصرة في الأساس. بذلك فإنها ليست نهراً
يغذي. إنها نهر يسمِّم. لقد آن الأوان
الآن، ونحن نخطو أولى خطواتنا في القرن
الحادي والعشرين وننشد مستقبلاً أبعد، أن
ندرك اليوم إدراكاً واضحاً إلى أين نريد أن
نذهب وإلى أين يجب أن نذهب. نحن بحاجة إلى
إيجاد نظرات إلى العالم سوف تقيت وتغذي
الأسرة البشرية بأسرها إلى جانب المخلوقات
الأخرى للكوكب وتكون أيضاً مفيدة لتكامل
الأرض، معزِّزة لغناها وجمالها. مثل هذه
النظرة إلى العالم يجب أن تعترف بطبيعتنا
الروحية وسعينا الصميمي للمعنى. يجب أيضاً أن
تعترف بفكرة العدالة للجميع ويجب أن تتضمن
مبدأ كفّ الأذية (أهمسا) بوصفه كيفية
أساسية من كيفيات تفاعلنا مع كائنات هذا
العالم كلِّها. وهي، ثالثاً، يجب أن تعترف
بالامتدادات والمنجزات الحديثة للعلم. في تجاوز النظرة
الآلتية إلى العالم (نظرة الميكانيكا
النيوتنية إلى العالم) لسنا نريد أن نكون
لوديين*
معادين للعلم، بل نريد العلم الصحيح الذي
يفسر كيف تتراكب كل الأشياء في هذا الكون، كيف
أننا جزء من هذا النسيج الكوني المذهل، وكيف
يمكن لهذا الكون، على الرغم من تنوّعه الخارق، أن يكون ذا معنى ويكون
متسقاً. إن
نوعية النظرة إلى العالم التي تفتش عنها،
أميل إلى تسميتها النظرة الإيكولوجية إلى
العالم، باعتبار التسمية تشدد بقوة على
ولائنا للطبيعة وعلى مسؤوليتنا نحوها. تشكل القيم
الإيكولوجية، بما هي جزء لا يتجزأ من هذه
النظرة الجديدة إلى العالم، أساس السلام –
الشرط المسبق للممارسات الإيكولوجية السليمة
كلها ولكثير جداً من المساعي في تفتيشنا عن
حياة مفعمة بالمعنى. ما الفرق بين
إرثنا البيولوجي وإرثنا الإيكولوجي؟ الفرق
حاذق لكنه هام. فالإرث البيولوجي يعزِّز
الأوجه المادية للحياة –
لبنات بناء الحياة الضرورية لبقاء الحياة.
والبيولوجيا تعامِل أشكال الحياة كآلات
للطاقة. أما الإرث الإيكولوجي، فيعزِّز من
جهته شروط حسن حال الحياة، ويحلل الحِواء matrix
الذي تقوم عليه، والبنى الأعمق التي تمكِّن
الحياة من الترعرع والتفتح. قوانين
البيولوجيا معنيّة بقابلية أفراد معيَّنين
أو أنواع معينة للبقاء. أما قوانين
الإيكولوجيا فمعنيّة بنوعية الحياة
وبالمحافظة على التنوع الصحي من خلال مختلف
أشكال الحياة؛ معنيّة بـالشروط المثلى optimal
conditions
التي تسمح لمختلف أشكال الحياة أن تحيا بعضها
مع بعض. قوانين البيولوجيا كمية ويعبَّر عنها
بلغة الكيمياء (أو الفيزياء). أما قوانين علم
الإيكولوجيا فنوعية ويعبَّر عنها بلغة غائية –
فمخطط الحياة وغايتها يجب أن يؤخذا بالحسبان
أثناء دراسة الإرث الإيكولوجي. وما علينا
الآن إلا أن نحاول الكشف عن بعض الطبقات
الخفية للإرث الإيكولوجي. إرث ………………………………………………………………………………
الحياة هو إرث …………………………………………………………………………
التكافل وكيفيات التكافل
هي …………….…………………………………………
تعايش مبدع، وعلة وجود
تعايش حقيقي هي ………………………………………
الإجلال وبذلك فإن فهم
تعقيد الحياة نفسه لا ينطوي على فهم السياقات
البيولوجية ويستلزمه وحسب، إنما يشمل فهم
البنى الواصلة الأعمق التي تنتظم وتضمن حسن
حال المَواطن الأوسع. فعلينا، عند التحليل
النهائي، أن نفهم أن هذه البنى الواصلة
الأعمق محمَّلة بالقيم. تنبثق القيم
الإيكولوجية عند هذا المنعطف من التاريخ
البشري عندما يتعذر حصر فهم الحياة في
الحِواء البيولوجي وحده. فالقيم الإيكولوجية
تمثل فهمنا لتلك السياقات المعيارية، ضمن
المَواطن الإيكولوجية الأوسع، المسؤولة عن
حسن حال المتعضيات؛ أو، بعبارات أعم، عن
الشروط المثلى للمَواطن الإيكولوجية
المتنوعة. بذلك يمكن تقديم المكونات الأساسية
الأربعة للإرث الإيكولوجي: الحياة، التكافل،
التعايش، الإجلال، على شكل مندلة:
وإن قراءة أعمق
للمندلة تجعلنا ندرك أن "التكافل" و"التعايش"
ليسا مصطلحين وصفيين وحسب. فهما مصطلحان
قيميان أيضاً؛ على الأقل مصطلحان محمَّلان
بالقيم. فلِمَ علينا أن نهتم بالعديد من أشكال
الحياة وليس بشكل واحد فحسب، ألا وهو شكلنا؟
ولِمَ علينا أن نهتم بالتعايش بدلاً من أن
نسمح لشكل سرطاني واحد من أشكال الحياة أن
يفترس الأشكال الأخرى؟ لأننا منحازون إلى
جانب إرث الحياة كله! وهذا الانحياز لا يمثل
موقفاً علمياً، إنما يمثل موقفنا القيمي،
يمثل التزامنا الأعمق بجمال الحياة وسرّها
الدفين. علينا أن نشدّد
هنا أن العلم، وتوصيفاته للعالم المجرّدة من
القيم، لا يستطيع أن يتخذ أي موقف من قضية
القيمة، من أهمية الحياة، من أهمية تنوع
الحياة. التنوع نفسه مفهوم هام، لأنه، أيضاً،
ليس مفهوماً وصفياً وحسب، بل مفهوم معياري
كذلك. ونحن نقوِّم التعايش والتنوع
كمركبتين تكفلان نبضان الحياة ومرونتها. يسعى هذا التحليل
إلى تبيان أن وراء فكرة الشروط المثلى
للمَواطن الإيكولوجية يكمن نسق من القيم
الإيكولوجية أعادت الحياة سَنَّها مرة بعد
مرة. وحجتي الإجمالية بسيطة، ألاوهي التالية:
الحِواء الذي يقوم عليه الإرث الإيكولوجي
للحياة، والقيم الراسخة فيه، هو الحِواء الذي
يستطيع أن يضمن ويؤمِّن شروط السلام بين
الناس. فالإيكولوجيا والسلام متحدان على هذا
المستوى من التحليل عندما نفهم قوانين نوعية
الحياة. غير أن من الجليّ
أن المجتمعات البشرية أعقد من المَواطن
الإيكولوجية؛ وهي على كل حال تحوي بعض طبقات
التعقيد التي لا تحويها الطبيعة. وهنا لست
داعية إلى إجراء تطعيم للقوانين والبنى
الناظمة لحسن حال المَواطن الإيكولوجية على
العالم البشري والراهن بصورة عمياء، إنما أرى
بالحري أن ترسيخ قوانين الإرث الإيكولوجي قد
تكون خطوة هامة في سبيل سلام دائم. وهي خطوة من
الأهمية برأيي بحيث إننا لا نستطيع إلا أن
نقوم بها. إن واحدة من
القيم النوعية الهامة للإرث الإيكولوجي،
والقيمة ذات الأهمية الحاسمة هي الإجلال reverence –
إجلال الحياة بعامة، إجلال الحياة قاطبة.
وبالفعل، فإن تبريراً أعمق لمفاهيم "التعايش"
و"التواصل" و"التنوع" يكاد يكون
متعذراً بدون فكرة الإجلال كمرساة لها. فليس
علينا أن نتعلم التفكير في الإجلال وحسب، بل التفكير
بإجلال. علينا أن نعلِّم التفكير الإجلالي
للأطفال والطلاب. فالتفكير الإجلالي ليس
التفكير الموضوعي المعتاد مضافاً إليه شيء من
الورع، إنما هو نوع جديد من التفكير يضم فيه
ذهننا موضوعات فهمنا وتفكيرنا في إطار
التعاطف. وإن فعل التفكير الإجلالي يساعد
الحياة على النمو، ويساعدنا على أن نكون
متواصلين داخلياً. من القيم
الإيكولوجية الهامة الأخرى قيمة المسؤولية.
ومع أن هذه القيمة ليست واضحة للعيان على
الفور كقيمة من قيم الإرث الإيكولوجي، فهي
هامة جداً في زماننا ومن أجل الحالة الراهنة
للعالم: المسؤولية التي تتعدى أنيّة المرء،
المسؤولية عن البيئة، عن الكوكب بأسره، عن
الكائنات البشرية الأخرى، عن الكائنات الحية
الأخرى، وعن الكوسموس ككل. أجل، المسؤولية عن
الكل. وهذا النوع من المسؤولية جزء من الوعي
الإيكولوجي. فإذا كان أحدهم مدركاً حقاً
لتواصل كل الأشياء، وخصوصاً في الكون العضوي،
عليه ألا يستهين بمسؤوليته عن حسن حال غيره من
أشكال الحياة، وغيره من البشر. دعوني أشدِّد:
إن المسؤولية عن حسن حال الكوكب إلزام من
إلزامات زماننا الأخلاقية. والمسؤولية وفقاً
لهذا التصور ركن من أركان السلام بين الأمم.
ولا يتطلب الأمر إلا هنيهة من التفكير لكي
يدرك المرء أن حسن حال الكوكب يعادل السلام؛
فالسلام شرط مسبق لحسن حال الكوكب. وفيما بين
المسؤولية والإجلال تقف الرحمة compassion
لتربط بينهما في المجال الأخلاقي. الرحمة
كيفية من كيفيات الفهم، وقيمة إيكولوجية في
آن واحد. وهي تعلِّمنا أن الرحمة، في الكون
المتواصل الذي يكون الإجلال فيه قوة حقيقية،
هي ذلك الوعاء الذي يعبِّر فيه الإجلال عن
ذاته في الحياة اليومية. والرحمة أيضاً شكل من
أشكال المسؤولية. وبالعكس، فإن المسؤولية
الأصيلة عن حسن حال الآخرين يجب أن تفصح عن
ذاتها، أحياناً، من خلال الرحمة. وبوسعنا أن
نرى بأن المفاهيم الثلاثة: الإجلال،
والمسؤولية، والرحمة يعرِّف كل منها
بالمفهومين الآخرين ويعتمد على معنييهما. ومع ذلك، فينبغي
أن يتم تمييز قيمة إيكولوجية أخرى وتحليلها.
فإذا كنا نعيش في عالم محدود الموارد، وإذا
شئنا أن نحيا بمسؤولية، على أسلوب حياتنا
حينئذٍ ألا يتعارض وأسلوب حياة سوانا؛ على
استهلاكنا، أو بالأحرى فرط استهلاكنا (في هذا
العالم المتواصل)، ألايقود إلى إملاق الآخرين
في أصقاع أخرى من الكوكب. وباختصار، فإن كلية
الحياة وإجلالها، ينطويان على الترشيد frugality،
ألا وهو قيمة أخرى من القيم الإيكولوجية. ومع
ذلك فعلينا أن نفكر في الترشيد على النحو
الملائم، لأنه ليس شكلاً من أشكال الفقر، أو
إنكار الذات، أو حرمان النفس، بل هو قيمة
إيجابية: هو القيام بالمزيد بأقل ما يمكن –
الأمر الذي تقوم به الحياة دوماً على نحو بديع.
أما في العالم البشري، فبالوسع التعريف
بالترشيد باعتباره نعمة بلا تبذير grace
without waste.
ففي أساس فكرة الترشيد يكمن حسّنا بالتعايش،
إذ إننا لا يمكن أن نعيش على حساب الآخرين.
فالترشيد في هذا السياق منهاج هام للمشاركة
وللتضامن. والتضامن مفهوم
قوي. وهو واعد بالكثير في فهم القيم
الإيكولوجية. فالتضامن تعبير عن رباط الوحدة
البشرية، وهو آخراً رباط الوحدة مع جميع
المخلوقات. لكننا قلّما نستجيب بطيب خاطر،
على مستوى عاطفي عميق في الأقل، لمفاهيم
كالإجلال والمسؤولية. غير أننا نستجيب لنداء
التضامن لأنه يضرب فينا على أوتار إرث الحياة
المشترك. بيد أن التضامن، لدى تحليله بعمق،
يفصح عن الرحمة والمسؤولية؛ ويفصح عن الإجلال
أيضاً حين لا نتوانى عن اعتناق السياق الروحي
للحياة. كل القيم
الإيكولوجية متواصلة بعضها مع بعض وداعمة
واحدتها للأخريات، بحيث إن التعايش يمكن أن
يُرى منطوياً على الترشيد، ويُرى الترشيد
باعتباره ضرباً من التعايش المبدع. ولقد كان
أرسطو على دراية بفكرة الترشيد حين أصرَّ على
أن الأغنياء ليسوا من يملكون الكثير وحسب، بل
أيضاً من يحتاجون إلى القليل. فلو قسنا القيم
الإيكولوجية على نسقي القيم الآخرين: النسق الديني
للثقافة الغربية لما قبل النهضة، والنسق الدنيوي
secular
أو العلمي للعصر التكنولوجي الراهن، لحصلنا
على الصورة الآتية:
ولنقم الآن
بتشديد التنويه إلى بعض النقاط الرئيسة.
القيم الدينية إلهية التمركز. وهي تنظم
علاقات الإنسان مع الله، ومع غيره من البشر. أما القيم
العلمية-التكنولوجية، من جهة أخرى، فهي شيئية
التمركز. ولنشدد على هذه النقطة: ليس للقيم
المرعية كأكثر ما تكون المراعاة في المجتمعات
التكنولوجية المتقدمة، من تحكم، وتلاعب،
ونفوذ، وشيئية، وذرذرة، وتحليل – ليس لهذه القيم
صلة تذكر بالبشر الآخرين أو بالله. إنها
ببساطة تنتظم علاقات الإنسان بالأشياء.
إن إدراكنا أن القيم العلمية قد قطعتنا عن
السياق الإنساني وعن الكون المقدس ليس إلا
إدراكاً غامضاً. فهذه القيم تتحدانا على نحو
موصول وتربطنا بالأشياء بشدة. وأما القيم
الإيكولوجية، أخيراً، فهي كونية التمركز
وحيويته. وهي تعيد وصلنا بكل أشكال الحياة في
الكون، وتفوضنا المسؤولية عن الكل وتأتمننا
عليها. فنحن جزء من هذا النسيج المقدس العظيم
المسمى بالكوسموس. وإنْ نحن إلا قسيمات ضئيلة
في هذا النسيج، لكننا على قدر هائل من الأهمية
باعتبارنا حائكين واعين له. قد تبدو القيم
الإيكولوجية، وسط مشهد الفوضى في زماننا،
ووسط لامبالاة، إن لم نقل قسوة سلوكنا
وتفكيرنا (المسوَّغين بما ندرك أنه الجشع،
والتنافسية، والعدوان على الآخرين) شديدة
المثالية، وبخاصة قيمة إجلال الحياة. غير
أننا بإمعاننا النظر قد نتوصل إلى نتيجة
مفادها أن الإجلال على وجه التحديد – إجلال غيرنا من
الناس، إجلال الثقافات الأخرى، إجلال الحياة
عموماً –
هو الذي قد يصبح أهم مركبة لترسيخ الوئام
الشامل بين الموجودات الحية كلِّها، ولتوطيد
السلام على الأرض بين الأمم قاطبة. ليس بوسعنا، وسط
قوى الفوضى والانحلال، أن نأتي بالعقلانية
والتناغم باستخدام القوى عينها، إنما
بالتفتيش عن ستراتيجيات وقوى مختلفة. فما
يوحِّدنا هو رباط التضامن، وفهم الرحمة،
وشجاعة الإجلال. سوف نقرّ على
الفور بأن جدلية الحياة الاجتماعية معقّدة
ومليئة بالتوتّر. غير أن هذا التوتر يجب ألا
يؤدي إلى الدمار، لأننا لن نُجابَه حينئذٍ
بالسيرورة الجدلية، إنما بالسيرورة
التدميرية. علينا أن نقرّ بأن الضرب الأساسي
من التفاعل، كما في الطبيعة كذلك في المجتمع
البشري، هو التعايش والتعاون، وليس الفناء
والدمار. فقد ظلَّ العقد الاجتماعي الضمني
للمجتمعات المقاومة للفناء، طوال ألفيات
عديدة، عقد تعاون وتكافل، وتعايش. لقد عبّر جان جاك
روسّو عن هذه الأفكار عينها ببلاغة وقوة في
كتابه العقد الاجتماعي. فالإنسان حيوان
اجتماعي يتشوف الفردية والاستقلال، غير أنه
كإنسان ومنزلته ككائن متحضر يعتمدان تماماً
على قدرته على قبول الخير الاجتماعي. فإذا كان
لإنسان أن يعيش على قدر كمونه، عليه بالضرورة
أن يقبل كل المنجزات المجيدة التي اقتناها
المجتمع والثقافة وأن يستعملها. فالعطاء
والأخذ جوهر الحياة الاجتماعية. لذا فإن عقداً
اجتماعياً رشيداً ودائماً لهو عقد
تعايشي. ومع ذلك فقد كان
روسّو يسبح ضد التيار. فقبله بقرن، أعلن توماس
هوبز فكرة أن "الإنسان يفتك بالإنسان" Homo
Homini Lupus Est.
وكانت فكرة هوبز قد قُبلت وأُخذت على محمل
الجد أكثر مما ينبغي. وقد أساء التجريبيون،
والدارونيون الجدد من بعدهم، قراءة سلوك
الطبيعة، باعتبارها بطاشة وعدوانية. لقد
خلقنا، في الواقع، عالماً اجتماعياً على صورة
"الإنسان يفتك بالإنسان".
وحربنا
على الطبيعة امتداد لهذه الفكرة. وإن عجزنا
عن التفاهم مع الطبيعة ومع الثقافات المختلفة، لا بل مع الكوسموس
عموماً، هو
نتيجة سعينا وراء فلسفة اجتماعية خاطئة يُلغى
ضمنها العقد الاجتماعي. وفي هذا السياق،
على إرث كارل ماركس والماركسية عموماً أن
يعاد النظر فيه. فنحن نعلم أن تفكيرنا حول
العالم يتغير بتغيّره. وهذا من الجلاء بمكان
لكل من يمتلك ألفباء الفهم الجدلي. لكن ما
ينبغي علينا أن نستعمله ليس العقائد المتحجرة، إنما التفكير الجدلي المبدع. لقد استلهم ماركس
كثيراً روسو ؛ لا بل إن سخطه الخلقي وهو يشهد
الجور الاجتماعي وبلايا البشر، كان روسوياً
إلى حد كبير. لكن ماركس آثر آخر الأمر اتّباع
هوبز على اتّباع روسو. وفكرته عن المجتمع
بوصفه متعضية في حالة صراع متواصل قريبة جداً
من فكرة هوبز. فصراع الطبقات، بحسب ماركس،
منهاج أساسي للتاريخ. لقد مأسَس ماركس، بمعنى
من المعاني، النزاع وصراع الطبقات بوصفهما
مشروعين، لا بل مركبتين لا يستغنى عنهما
للتقدم الاجتماعي وفهم التاريخ. بالإمكان،
بالطبع، الاحتجاج بأن ماركس لم يبتكر فكرة
النزاع باعتبارها القوة المبطِّنة للحياة
الاجتماعية، إنما رصدها وحسب. غير أن القضية
ليست بهذه البساطة. فضمن الحقل الاجتماعي
يصعب الفصل بين ما هو مرصود وما هو مبتكَر.
فلنكن واضحين كل الوضوح: كل بنيان اجتماعي فهو
ابتكار بشري. كل تأويل عميق للمجتمع فهو فعل
ابتكاري، إلى حد أن ماركس كان مفكراً
اجتماعياً أصيلاً، وكان مبتكراً عظيماً
بالفعل في الحقل الاجتماعي. لئن صحَّ الآن
بأن كل المجتمعات الغابرة لا تُفهم خير الفهم
إلا عبر النزاع وصراع الطبقات باعتبارهما نهج
عملها (الأمر الذي أشك فيه)، فنحن الآن نحيا في
واقع اجتماعي جديد. ويتطلب هذا الواقع أشكالاً جديدة من التفكير الاجتماعي. ونحن
على هذا الكوكب من التواصل في أيامنا هذه بحيث
إننا لا نستطيع أن نطيق الفلسفة الاجتماعية
القائمة على فكرة أن "الإنسان يفتك
بالإنسان". فالخطر النووي، وخطر الدمار
البيئي يجعلان لزاماً علينا أن نحيا في شكل ما
من التعايش –
فهذه فرصتنا الوحيدة للنجاة. نحن نحيا في زمان
تاريخي لم يسبق له مثيل، لم تعد تنطبق عليه
الإيديولوجيات البالية القائمة على افتراض
عدم قابلية الطبيعة للنضوب وعدم قابلية
العالم للدمار. فعلى إيديولوجيانا الجديدة أن
تُصاغ بحيث تضمن نجاة الجنس البشري، وليس
طبقة اجتماعية أو أخرى. والتعليم الماركسي
الذي يشدد على صراع الطبقات باعتباره يتخلل
كل شيء لا يساعدنا في هذا الشأن. بذلك يجب أن
يُخلق وأن يتوطد عقد اجتماعي جديد. وعلى
هذا العقد الاجتماعي أن يقوم على التعاون،
والتعايش، والتكافل؛ وآخراً على إجلال
الحياة وعلى إجلال الجميع بعضهم بعضاً، بصرف
النظر عن النظام السياسي الذي نعيش فيه
والطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها. وسيدرك
القارئ النبيه على الفور بأن العقد الاجتماعي
الجديد يجب أن يقوم على نسق القيم
الإيكولوجية، أو نوع مشابه من القيم. ويكشف هذا
التحليل أكثر عن سبب إمكانية النظر إلى
القيم الإيكولوجية كأساس للسلام: فهي في
تمكيننا من إيجاد عقد اجتماعي جديد – سيكون تعاونياً
وتعايشياً – تمهد السبيل
لسلام دائم وعادل. فالقيم الإيكولوجية، بهذا
المعنى، قد تصبح العمود الفقري لنظام عالمي
جديد. وإن صحَّ هذا، فلا شيء يَعْدِلُها أهميةً. إن إرث الحياة
العظيم، ولسنا في حاجة إلى الاعتذار للتعلُّم
منه، وبخاصة التعلم من بنى الحياة والشبكات
المبطنة لها التي تضمن تنوعها وغناها طوال
مليارات السنين. وفي الترويج للقيم
الإيكولوجية والجهر بها، لا نبتدع كيانات
فلسفية خيالية جديدة، إنما نستخرج المبادئ
والبنى التي أثبتت أنها مؤزِّرة للحياة في
المواطن الإيكولوجية المعقّدة. الحياة كلها وحدة؛ ونحن جزء منها. ولما كانت الحياة
الاجتماعية جزءاً من الحياة بعامة، يجب أن
تحكمها قوانين ومبادئ مؤزِّرة للحياة. وإن
عقداً اجتماعياً تعايشياً جديداً هو إلزام
للحياة الاجتماعية التي يهددها الدمار
النووي والبيئي. لم يكن الغرض من
هذا المقال الوقوف عند احتكارية
الإيديولوجيات التي تجزئنا وتفرِّق فيما
بيننا، إنما الإصرار على وحدتنا الجوهرية
كنوع وككائنات ذكية وحساسة تتوق إلى حياة
مترعة بالمعنى وبقليل من النعمة وتستحق مثل
هذه الحياة. القيم الإيكولوجية، مثلها كمثل
الأوكسيجين الذي نتنشَّقه، عبرإيديولوجية trans-ideological. وقد يُنظر إلى
القيم الإيكولوجية كجزء من فلسفة موحِّدة
جديدة نود ترسيخها حتى ننجو. على القيم
الإيكولوجية ألا يُنظر إليها كنسق منفصل
ومستقل، إنما بالحري كجزء من بنيان أوسع، جزء
من فلسفة جديدة –
إذ إن زماننا يتطلب فلسفة جديدة يجب أن تكون
عالمية شاملة، وكلانية شافية، معطاء
وإنسانية، مسؤولة خلقياً ومتماسكة فكرياً.
وإني أدعو هذه الفلسفة بالفلسفة الإيكولوجية Eco-philosophy. فقد أوجدنا في
الماضي، تحت رعاية المذهب التجريبي وغيره من
الفلسفات المشابهة، لغة قاصرة عن قراءة
الطبيعة وحِواءاً قاصراً عن التفاعل مع
الكائنات الأخرى. ولقد آن الأوان لإبداع
فلسفة جديدة تصحح هذا القصور وتأتي بإطار
للوحدة والتعايش. *** *** *** للتوسع:
-
Henryk Skolimowski, Living Philosophy: Eco-Philosophy
as a Tree of Life, Arkana Paperbacks. -
-------------------------, Dancing Shiva in the
Ecological Age, Clarion Books. -
-------------------------, A Sacred Place to Dwell:
Living With Reverence upon the Earth, Element Books. *
إشارة إلى جماعات العمال
التي كانت تخرب الآلات خوفاً من حدوث
البطالة (1811-1816) في بريطانيا. |
|
|