|
بيئات الإنسان
الثلاث
ألكزاندر
كنغ
رئيس
نادي روما
أطروحة هذه الورقة هي أن كل فرد يعيش في الوقت نفسه في
بيئات ثلاث منفصلة لكنها متفاعلة. البيئة
الخارجية هي بيئة الطبيعة الجسمانية ويقال إن
عدداً من ظواهر التلوث الجهاري تهدد حياة
الإنسان على الأرض، ومنه ضرورة استبدال مقترب
تعايشي باستغلالنا الحالي للطبيعة. فحتى الآن
أسهم العلم والتكنولوجيا بإيجاد مجتمع تغلب
عليه المادية، الأمر الذي يومئ للحاجة إلى
أبحاث تعويضية لتنمية العنصرين الروحي
والعاطفي للوجود. أما البيئة الأبطن فهي بيئة
الحياة السرية للفرد المستوعاة جزئياً وحسب.
بذلك تُرى خصائص الأمم والمجتمعات كإسقاطات
للخواص الأنانية للفرد ويشار إلى أن مستقبل
البشرية لا يمكن ضمانه إلا بتربية تضامن
إنساني كلي بوصفه تنوّراً مشترك للاهتمام
بالذات. (أ. كنغ، المجلة
الدولية حول وحدة العلوم، ص 59، 1991) نُحتت كلمة "إيكولوجيا"
في الأصل لوصف ذلك الفرع من العلوم
البيولوجية الذي يستقصي علاقات العضويات
بعضها مع بعض ومع ما يحيط بها. أما اليوم
فيستعمَل المصطلح في الدارج من الكلام وفي
وسائل الإعلام بمعانٍ متنوعة، مبهمة غالباً
وتكاد تكون دائماً محمَّلة بالقيمة. سوف
ننطلق في هذه الورقة الموجزة من التعريف
الأصلي، وكعاقبة من عواقب العنجهية المركزية
البشرية، أساساً بلغة الإيكولوجيا البشرية –
تفاعل الناس مع بيئتهم؛ وأحكام القيمة،
بالطبع، لا يمكن أن تُخلَّف بعيداً. بعيد نشر حدود
النموّ في عام 1972، جرت سلسلة من المناقشات
حول ما اصطُلح على تسميته بـ"الحدود
الخارجية" the outer limits،
وتحديداً المدى الذي كان بوسع النطاق
الإيكولوجي ecosphere أن يبلغه في
توفير المتطلبات المتزايدة لسكان العالم
والنمو الاقتصادي. ومن ثم دعت الحاجة إلى
مفهوم "الحدود الداخلية" the inner limits، قدرة تنظيمنا
وابتكارنا الاجتماعي والسياسي على الإحاطة
بالوضع المتطور للتعقيد المتنامي والتغير
السريع بكل ما يولدان من انعدام اليقينيات. من
أجل هذين النطاقين الواجب استكشافهما، أطالب
بأولوية تركيز الانتباه على استقصاء "الحدود
الداخلية القصوى" the innermost limits
داخل كل فرد بشري، التي من شأنها أخيراً أن
تعيِّن الأداء البشري الجمعي ومستقبل
المجتمع والكوكب. يلوح لي، إذن، أن
كلاً منّا نحن البشر موجود في آن معاً في
ثلاثة بيئات مختلفة، إنما متصلة، وأن طرحاً
لهذا المفهوم يصف آلية المجتمع. هناك البيئة
الظاهرة للكوكب، التربة والمياه والجوّ،
والعالم الباطن السري لكل فرد، المعزول
والخفي، بينما في موضع ما بين الاثنين،
ومرتبطاً بكليهما، هناك الحلبة الاجتماعية
حيث تستفعل الواحدات الفردية، ضمن طيف واسع
من التحالفات تتراوح بين الزواج وحق الأسرة
عبر الأمم المتحدة، مطوِّرة عملاً مشتركاً من
أجل الأمن والازدهار والرضى. 1.
البيئة الظاهرة
هذه البيئة هي
أكثر البيئات الثلاث ظهوراً للعيان، هي صعيد
الطبيعة. حتى وقت ليس بالبعيد، ظلت أمراً
مستهاناً به وثابتة من ثوابت ديناميّات
التطور: اعتُبر الهواء والماء من "السلع
المجانية"، ومن المظاهر الخارجية بنظر أهل
الاقتصاد. مقاربتنا للطبيعة مقاربة
استغلالية مثلما ظلت فعلاً مقاربة الرجال ضد
الرجال والرجال ضد النساء. صار الهدف من
المسعى إلى العلم اقتناص أسرار الطبيعة. لقد
توهم البشر أن كرم الطبيعة لانهاية له. وقد
حسبت غالبية الحكومات، في تعليلها لنفسها، أن
الاستمرار اللامحدود للنمو الاقتصادي هدف
رئيسي مع المتطلبات المتزايدة أبداً للمواد
الخام والطاقة. ومن المناسب أن نذكر هنا مبلغ
سرعة تزايد هذه المتطلبات مع الاستمرار
البعيد المدى للنموّ الأسّي. فإذا نما اقتصاد
إحدى الدول، على سبيل المثال، بنسبة سنوية
قدرها 5%، فإنه في غضون عشر سنوات سوف يبلغ
مستوى أكبر بـ 500 ضعف من المستوى الحالي. وحتى
إذا قيِّض لاستعمال المواد أن يتناقص بحدة
فيما يتعلق بالزيادة في المردود الاقتصادي،
فإن مشكلة التزوُّد بالمواد وتصنيعها
والتخلص من نفاياتها تبقى مرعبة، هذا بصرف
النظر عن صعوبة التعامل على نحو غير عنيف مع
المشكلات النفسانية والاجتماعية والثقافية
والسياسية الناجمة عن النموّ الاقتصادي
المستمر والمتسارع وغير المتمايز. فكما هو
الأمر مع المنظومات الأخرى ذات النمو الأسّي،
بما فيها منظومة أجسامنا، لابد للمنحنى أن
يتعدّل، إما بتغييرات جذرية في السياسة ونمط
المعيشة وإما بكارثة. وحتى وإن حاجج
بعضهم بأن المشكلات لم تبلغ بعد حد الأزمة فإن
إشارات الإنذار بادية من الآن مرأى العين
وبخاصة فيما يتعلق بوقع النشاط والسلوك
البشريين على البيئة الأولى. للمرة الأولى
منذ أن انتشر البشر على سطح الكوكب وبدأوا
باستغلال موارده يبدو أن لنشاطهم وقعاً كبيراً، لعلّه غير
عكوس، على التوازنات
الطبيعية. لقد كانت ممارسات القطع والحرق
والزراعة والرعي الجائرين في أزمنة سابقة
مُخِلَّة بالتوازن قطعاً، لكنها كانت تتم عن
جهل. لدينا اليوم فهم أكبر بكثير للقوانين
الطبيعية ولهشاشة موطننا ، لكن قبولنا السابق
لأنفسنا على أننا جزء لا يتجزأ من المنظومة
الطبيعية تغير لتصير نظرتنا نظرة المستغِل.
والأدهى من ذلك أن نوعنا البشري، على الرغم من
قدرته على النظر في المستقبل، هو من الهوس
بالرغبة في الكسب الآني وإشباع الرغبات
الزائلة بحيث إننا لا نلقي بالاً إلا قليلاً
جداً لمشكلات التقوّت sustainability ونتجاهل حقوق
الأجيال المقبلة. إن اهتمام
الجمهور العام بتدهور البيئة اهتمام جديد
نسبياً. لقد كانت لدى الآباء الأولين للثورة
الصناعية رؤيا عن القضاء على الفقر وعن
العدالة الاجتماعية الشاملة، لكن المستغلين
في مآل الأمر هم الذين تسلَّموا مقاليد
الأمور بدون اعتبار يذكر للبيئة وللصالح
الاجتماعي، مما نجم عنه ظهور "الطواحين
الشيطانية القاتمة" لإنكلترة الفيكتورية
وسحائب "حساء البازلاء" اللندنية. كانت
هذه ظواهر محلية نسبياً، وعلى مدى القرن
التالي أدت البيّنات الطبية والضرر العام إلى
تحسينات لا يستهان بها، لكن ظواهر التلوث لم
تُعتبَر من الجميع شاملة من حيث مغزاها
ومهدِّدة للمستقبل قبل ستينيات القرن
العشرين. لقد لفتت منشورات مثل كتاب راشيل
كارسون الربيع الصامت وكتاب شوماخر الصغير
جميل الانتباه الشعبي وساعدت على توسيع
إدراك أن مقاربات جديدة للتكنولوجيا
وللطبيعة باتت ضرورية. نتجت تحسينات
عديدة، بالطبع، من بروز الحركات البيئوية
والمحافظية. ففي الدول المصنَّعة، برزت
سياسات
بيئوية ووزراء بيئة:
ساعد التشريع على إزالة المظاهر الأكثر فظاظة
للتلوث، وأقنعت مبادئ من نحو "الملوِّث هو
الذي يدفع" في الصناعة بالحاجة إلى تحمل
مسؤولية اجتماعية جديدة، وتم تنظيف بعض
الأنهار، بينما صارت مجموعات محلية في كل
مكان متيقظة فيما يخص التنميات التي قد تهدد
البيئة، تارة بحس مشترك عظيم، وطوراً بتعصب
أعمى. ولقد برز وضع
جديد أصعب نتيجة ظهور "التلوث الكبير" macropollution،
ظواهر ذات مغزى شامل، أعصى من أن تقدر الأمم
على إزالتها منفردة. كان أولها الانتشار في
العالم بأسره لكيميائيات من نحو الـ DDT، التي هي في
الواقع غير متحلِّلة بيولوجياً، ويمكن الكشف
عنها على مسافات كبيرة من مكانها الأصلي،
ويمكن أن تدخل ضمن السلسلة الغذائية. في مثل
هذه الحالات يمكن تأمين الإزالة، من حيث
المبدأ، بالعديد من التشريعات،لكن هذه
سيرورة بطيئة ومعقدة. وفي الوقت الحاضر،
يُعتبَر المطر الحامضي، وتدمير طبقة الأوزون، والأثر المسمى بأثر البيت الأخضر greenhouse effect
الأمثلة الثلاثة الأكثر إلحاحاً على التلوث
الكبير. غير أننا هنا سوف نقتصر على مناقشة
أثر البيت الأخضر بوصفه يوضح المصاعب التي
تعاني منها الأمة في الحيلولة دون تفاقمه إلى
أزمة على المستوى العالمي. لقد لوحظ أن
تركيز ثاني أكسيد الكربون في الجو ظل بازدياد
منذ بداية القرن. وهذا يعود جزئياً إلى حرق
الوقود الأحفوري، الفحم الحجري، النفط، إلخ،
وجزئياً إلى انخفاض امتصاص الطبيعة لـ CO²عبر
الورقة الخضراء من جراء القطع الواسع للغابات
المدارية، وهو تدهور بيئوي ذو عواقب مناخية
ممكنة. إن ثاني أكسيد الكربون يمنع انعكاس
الإشعاع الشمسي إلى الفضاء الخارجي، وهذا
يؤثر على حرارة سطح الأرض. ويُعتبَر أن المزيد
من تراكم هذا الغاز سوف يفضي إلى ارتفاع محسوس
في حرارة الأرض. وثمة ارتياب عظيم فيما يتعلق
بهذه الظاهرة، وبخاصة فيما يخص مدى قدرة
المحيطات على امتصاص فائض ثاني أكسيد الكربون
ومعدَّل هذا الامتصاص. إنما يبدو أن عدداً من
علماء الجوّ، بعد فترة من المجادلة، قد
توصلوا إلى إجماع على صحة هذه الأثر. ويشير
عدد من النماذج المختلفة والمعقدة أن ازدياد
المحتوى الحالي للجو من ثاني أكسيد الكربون
بمقدار الضعف سوف ينجم عنه ارتفاع في الحرارة
الإجمالية بين 1.5% درجة و4.5% درجة وأن التوقعات
تشير إلى بلوغ الضعفين هذا قبل منتصف القرن
القادم. زد على ذلك أنه قد تبيَّن مؤخراً أن
"غازات بيت أخضر" أخرى مثل الميثان
وأكاسيد الآزوت باتت هي الأخرى تبدي تراكيز
متزايدة في الجو، الأمر الذي سوف يعجِّل
كثيراً في حدوث النتيجة المتوقعة. إن أثر
التسخين سوف يكون أخطر بكثير على خطوط العرض
العالية منه عند خط الاستواء، وهذا من شأنه أن
يحدِث تغييراً كبيراً في المنحنيات الحرارية
للكوكب، متسبباً في تعديلات لا يستهان في
الرياح وأنماط الهطول المطري، وبالتالي
تغيرات عميقة، إنما غير قابلة للتوقع في
الوقت الحالي، في القدرات الزراعية للمناطق
المختلفة من سطح الأرض. وبالإضافة إلى ما سبق،
ينبغي علينا أن نتوقع صعوداً في مستوى البحر
ناجماً عن الامتداد الحراري وعن ذوبان الجليد
المحمول على اليابسة land-supported. وهذا الصعود قد
يكون من مرتبة نصف متر وقد يهدد المناطق
الساحلية المنخفضة في كل مكان. إن بلداً من
نحو بنغلادش يكاد يعدم كل فرصة للاستمرار في
مثل هذه الشروط. تترتب على هذا
السيناريو، المحتمَل إنما غير المؤكد، عواقب
هائلة على الكوكب –
بشرية، اقتصادية، وسياسية. فإذا سُمِح له أن
يبلغ أبعاد التأزم، فلا مفرّ من أن يصير غير
قابل للعكس في الممارسة، إذ لقد قُدِّر بأنه
إذا تمّ إيقاف كل حرق للوقود الأحفوري عند
نقطة تضاعف تركيز ثاني أكسيد الكربون مرتين،
فسوف تستغرق الطبيعة حوالى 900 سنة لإعادة
التوازن الحالي إلى نصابه. كل هذا يوضح صعوبة
التخطيط في حالة الارتياب، التي يتزايد
احتمال مواجهتنا لها باطّراد. إننا نعرف
الكثير، إنما ليس بالقدر الكافي. فمع أن أثر
البيت الزجاجي ومخاطره وُصِفَت مؤخراً على
نطاق واسع في وسائل الإعلام، يبدو أن
الحكومات تتجاهله بكل برود. بالطبع فإن من
الواقعي تماماً في ضوء الإثباتات الحالية أن
يُتَوَقَّع منهم التخلي عن حرق النفط والفحم
الحجري في غياب أية إمكانية مبكرة لسياسات
طاقية بديلة، غير أنه عندما يتعذَّر سياسياً
تجاهل الظاهرة قد يكون فات الأوان على إيجاد
الترياق. ومع ذلك كلِّه، فمن الممكن القيام
بإجراءات مؤجِّلة، دارئة، وضامنة عديدة؛
فعلى سبيل المثال، يمكن بلوغ زيادات ملحوظة
في فعالية النفط لتخفيض الاستهلاك، وبالتالي
إطلاق ثاني أكسيد الكربون؛ وقد يؤدي الضغط
إلى التحوِّل إلى استعمال الغاز الطبيعي الذي
يتألف أساساً من الميثان، الذي ينتِج من ثاني
أكسيد الكربون أقل من جزيئات الهدروكربون
الطويلة السلسلة للفحم الحجري والبترول، لكل
حريرة طاقة مولَّدة؛ وقد ينبغي النظر في
إمساك الانشطار النووي كواحد من الخيارات في
الانتقال المديد إلى منظومة طاقية جديدة،
يراها بعضهم أقل خطراً من حرق الفحم الحجري.
هناك حاجة ماسة إلى تكثيف البحث في التنمية
الاقتصادية لمنظومات الطاقة اللطيفة؛ ولسوف
يتم اللجوء إلى تسريع البحث في تدجين النبات،
بحيث يستفاد من البيولوجيا الحديثة باتجاه
توفير طائفة واسعة ومتنوعة من السلالات
المقاومة من أجل زيادة مرونة الزراعة إبان
التغير المناخي. كذلك توجد، على
ما يبدو، حاجة قاهرة إلى البدء بالنظر في مثل
هذه الإجراءات على الفور: فإن الوقت الذي
يستغرقه البحث، عبر التنمية التكنولوجية، من
أجل الإنتاج على سلَّم كاف، وقت طويل للغاية،
أطول قطعاً من الوقت الذي سوف يستغرقه بلوغ
التغيُّر مستوى الأزمة. إن الأخطار على
البيئة ناجمة مباشرة عن الزيادة الهائلة في
مجموع النشاط البشري بالمقارنة مع الماضي،
يوم كان بإمكان التربة والجو والأنهار
والمحيطات أن تمتص منتوجاته المهدورة بسهولة.
وهذه الأخطار تتأثر أيضاً تأثراً عظيماً
بطبيعة نشاطنا. أما أشد
المكوِّنات وضوحاً في نمو النشاط البشري فهو،
بالطبع، تضخم أعدادنا. ففي مستهل القرن
العشرين كان تعداد سكان الأرض حوالى 1.8
ملياراً؛ ومع نهايته تفجر هذا العدد إلى أكثر
من ستة مليارات، بينما يقدِّر الديموغرافيون
أنه يمكن توقع ارتفاع تعداد سكان العالم إلى
حوالى 10-12 ملياراً مع منتصف القرن الحادي
والعشرين، بما سوف يسبب ضغطاً أعظم أيضاً على
الهواء والأرض والماء. لكن ثمة مكوِّن أعظم
أيضاً في نموّ النشاط البشري، ألا وهو
الاستهلاك المتزايد للرأس الواحد الذي
يسَّره النمو الاقتصادي، كما وزهد البضائع
المنتَجة بالجملة التي فرّختها الثورة
الصناعية وانتشارها. فلعل الاستهلاك للرأس
الواحد في أوروبا، قبل الثورة الصناعية، لم
يكن يختلف كثيراً عنه في العديد من بلدان
العالم الثالث اليوم، بينما، بحسب باتسي
هالِّن، "يستعمل أوسترالي واحد الآن موارد
كينيّ واحد مضاعفة خمسين مرة". وفي الحد
الأقصى، يبلغ مقدار الفارق نسبة 1/100 أو حتى
أكثر. وهذا ليس مثالاً على انعدام العدالة
الاجتماعية وحسب، بل مؤشر على إفراطنا في
استنزاف الطبيعة. وبمقابلة عدد السكان
بالاستهلاك للرأس الواحد، أحسب أن مجموع
النشاط البشري قد تضاعف خلال حياتي بين عشرين
وأربعين مرة. إن بدء البيئة في المقاومة أمر
يفقأ وضوحُه العين. يجب أن نضيف
أيضاً لهذه الصورة الاستعمال الهادر
الإجرامي للموارد –
المادية والطاقية والبشرية –
لأغراض عسكرية. يصعب فهم كيفية قبول العالم
لهذا الهدر بوجود الانتشار الواسع للجوع
والفقر والمرض وانعدام التنمية التي تولِّد
بحد ذاتها الحرب والعنف. يصعب توخي الدقة في
حساب حجم استهلاك الموارد. غير أن الإنفاق
المالي الوطني على الدفاع يمكن أن يعطي
مؤشراً على ذلك. يبدو أن الإجمالي العالمي
الحالي يتجاوز الـ 650 مليار دولار، وهو رقم
يفوق بأربع مرات نظيره منذ نهاية الحرب
العالمية الثانية ويفوق بخمسة وعشرين مرة
نظيره منذ بدء القرن المنصرم. وإن أرقاماً
بهذا الحجم ليست سهلة التقدير من حيث
المنظور، لذا فإن بعض المقارنات قد يكون
مفيداً. فلقد أشير، على سبيل المثال، أن
الإنفاق العسكري السنوي للعالم قابل
للمقارنة بإجمالي الإنتاج الوطني GNP
لجميع بلدان أمريكا اللاتينية وأفريقيا
معاً؛ والميزانية السنوية لليونيسيف تكافئ
حوالى أربع ساعات من الإنفاق العسكري
العالمي؛ ولقد استغرق إتمام القضاء على
الجدري بتوجيه من منظمة الصحة العالمية WHO
عشر
سنوات، لكنه كلَّف أقل 100 مليون دولار –
أقل من كلفة تطوير صاروخ جو-جو صغير. 2.
الإنسان والتكنولوجيا والمجتمع المادي
نأتي الآن إلى
مسألة طبيعة المجتمع كما تطور إبان القرنين
المنصرمين وكيفية تحتيم هذا التطور لنوعية
النشاط المعزَّز لأفراده وجماعاته. هذه هي
البيئة الثانية، الداخلية التي تقتات
بالأولى وقد بدأت بتعريض وجودها المدعوم
كقاعدة للموارد. لقد صرح دنيس غابور، مخترع
الهولوغرافيا الحائز على جائزة نوبل، وواحد
من أوائل أعضاء نادي روما: "إن مجتمعنا
الحالي قائم مادياً على تكنولوجيا هائلة
النجاح وروحياً على لاشيء عملياً." ومع تنمية
تكنولوجيا تزداد تعقيداً باطراد، تكيّفت
أنماط معيشتنا وأهدافنا تدريجياً للسماح
بالتمتع بما نُظِر إليه باعتباره التقدم
المادي، وهي سيرورة زادت، بالطبع، من ازدهار
قطاع واسع من المواطنين في البلدان
المصنَّعة، مقلِّصة العديدة من أكثر أشكال
الفقر فظاظة، محسِّنة الظروف الصحية، مطيلة
معدَّل العمر، معمِّمة التعليم، وإنْ ليس على
النحو المناسب دوماً، ومؤمِّنة العديد من
المرافق الاجتماعية. إن الاعتراف بأن
للتكنولوجيا دوراً حاسماً في التنمية
العالمية أمر حديث العهد تماماً، حتى إن
المنظومة الاقتصادية التي تعتمد اعتماداً
هائلاً على الحلول التكنولوجية للمشكلات لم
توطِّن نفسها
عليها
تماماً بعد. إذ مازال العديد من الاقتصاديين
يعتقدون ضمناً أن التكنولوجيا الجديدة تبرز
كجواب على التفاعل بين القوى الاقتصادية
وأنها، إذا جاز التعبير، واحدة من العضلات في
ذراع يد آدم سميث الخفية. هناك، بالطبع، شيء
من الحقيقة في هذا؛ بيد أن عدداً متزايداً من
التنميات التكنولوجية نشأ عن الاكتشافات في
مختبرات البحث التي ما كان بالإمكان التنبؤ
بها ولاترتبط بمتطلبات المستهلك المعلنة.
فمنذ بداية التاريخ البشري، مع الأدوات
الصوانية الأولى، ظلت التكنولوجيا العامل
الرئيسي في الكفاح صعوداً من البقاء، وحتى
بوضوح أكبر، في بلوغ التفوق في الحرب والغزو.
ينبغي أن نعتبر التكنولوجيا، إذن، كأداة من
أدوات الإنسان، وليس كقوة مستقلة. فهي تخدم –
وينبغي أن نشرك العلم بهذا –
الصفات الفاوستية للنوع البشري، الهدّامة
منها والبنّاءة. والعديد من الفلاسفة وكذلك
الشعراء، من وليم بليك فصاعداً، قد حذّروا من
أوجهها السلبية، لكن السخاء المادي لعطاياها
قد أقنع دوماً المتعهِّدين والجمهور
باستغلالها. لقد برزت السيطرة
المجتمعية للتكنولوجيا من الثورة الصناعية
التي، عبر الآلة البخارية، ومن بعدُ الطاقة
الكهربائية، والنفطية، والنووية، ضاعفت
مضاعفة هائلة من القدرة العضلية الضئيلة
للبشر والحيوانات بدون زيادة المعرفة
والحكمة للسيطرة عليها. واليوم بتنا نشهد
الذهن والذاكرة، في ثورة الميكروإلكترونيات
والمعلومات، يندمجان في بنية الآلة، يترافق
ذلك بإمكانية عظيمة للتحرر من العمل أو، على
غير ذلك، بخطوة إضافية نحو سحق الإنسان، بحسب
ما تكون عليه حكمتنا في استعمالها. إن نجاح
العلم في الحرب العالمية الثانية، الذي أنتج
كلا البنسلين والـ DDT،
الكمبيوتر والقنبلة النووية، أقنع الحكومات
بأن البحث العلمي، متبوعاً بالتنمية
التكنولوجية، من شأنهما أن يسهما إسهاماً
حاسماً في إيجاد الغنى والعافية. من هنا
الزيادة الضخمة في الموارد الموفَّرة من أجل
مثل هذه النشاطات. وبالتوازي مع هذا
وبالارتباط معه، شهدت الخمسينيات والستينيات
في البلدان المصنَّعة فترة من النمو
الاقتصادي المرتفع ارتفاعاً استثنائياً. ومع
بلوغ عام 1968، صارت المنتوجات الثانوية غير
المرغوب فيها لهذه الحركات مرئية من الجميع؛
فالنموّ قد أنتج الوفرة قطعاً واستنهض آمالاً
بالاستمرار غير المنتهي الذي لابد أن يصير
متعذَّر التغذية، بيد أن الكثير من الفقر
وعدم المساواة بقي على حاله؛ صار التدهور
البيئي مرئياً للجميع؛ وسُلِّطت القنبلة
النووية مثل سيف داموقليس؛ لم يعد الشباب
يرون أي مستقبل وسمحت لهم الوفرة العامة
باستعراض إحباطاتهم؛ قاسى ملايين عمال
الخطوط عملاً مملاً تكرارياً، وعلى الإجمال،
كان ثمة شعور بأن النوعية كانت تتسرب من
الحياة. ومع ذلك، فإن الضغط المعمَّم للطلب
على المزيد من المال ومزيد المزيد من البضائع
المادية باقٍ ضمن منظومة اقتصادية مؤسَّسة
على استثارة إنفاق المستهلك. كماليات الأمس
أمست ضروريات اليوم؛ وانتهاء الصلاحية
المخطَّط له يسرِّع في تقليب المال؛ مهدورات
المجتمع تتراكم وتزداد سمِّية واستعصاء على
التخلص مع بثّ التعقيد العلمي لمنتوجات
الوفرة المادية في الحياة اليومية. هناك، بالطبع،
وجه آخر للعملة. فبعض الثراء الناتج من النمو
الاقتصادي قد كُرِّس لإيجاد الخيرات
الاجتماعية، تعويضات البطالة، الخدمات
الصحية الوطنية، خطط الرخاء والتدريب، إلى ما
هنالك، مع التخفيف، في الدول المصنَّعة، من
الفقر وتأمين الرعاية الصحية. وفي عدد من
البلدان باتت هذه التنمية من القوة بحيث
أوجدت دولة الرخاء المزعومة بكل تكاليفها
وبفوائدها. وفي بعض بلدان الشمال الثرية التي
يشيخ سكانها بلغت تكاليف الصحة والرخاء
المتزايدة أبداً مستويات تصعب المحافظة
عليها. ومن المحسوس أيضاً أن مقاربة دولة
الرخاء تشجع على اتكال إجمالي للأفراد على
الدولة، نجم عنه تدنٍّ غير صحي في المسؤولية
والمبادرة الفرديتين. إن أبوّة شركات وأرباب
عمل الماضي، التي طالما ازدرتها النقابات، قد
حلّت محلها أبوة الدولة، التي تُزدَرى
بيروقراطياتُها الضخمة هي الأخرى بوصفها
نائية، عديمة الوجه، ولاشخصية. لقد تسربت
المقاربة المادية، القائمة على التكنولوجيا،
إلى المجتمعات والثقافات من كل الأنواع، حتى
إن أكثر المجتمعات أصولية يصعب عليه أن يقاوم
الوعد بالسلطان والثراء اللذين يبدو أنها تعد
بهما. إن تحسين الأساس الفيزيائي للحياة هو،
بنظر الملايين من فقراء العالم الثالث
ومهضومي الحقوق فيه، هو الضرورة الأولية،
وسياسات كلا مقدِّمي مساعدات التنمية
ومتلقيها تستهدف، بما يقبل التفهُّم، النمو
الاقتصادي للبلدان الفقيرة. غير أن ثمة أدلة
قليلة حتى الآن للإشارة إلى أن منتوجات نموّ
كالذي يُنجَز تتسرّب إلى جماهير الفقراء.
فعلى الرغم من توعك المجتمعات المصنَّعة
للشمال، يؤخذ واقع ازدهارها الإجمالي،
الفريد من نوعه في التاريخ والمنجَز من خلال
السعي إلى نموّ اقتصادي قائم على
التكنولوجيا، للإشارة إلى أن هذا هو الدرب
الأوحد الحتمي الواجب على كل البلدان وكل
الثقافات اتباعه. المأساة هي في أن
هذا لم يفعل إلا القليل لإغناء أوجه الوجود
البشري غير الوجه المادي. لذا فإن الإلزام
الواجب العمل به الآن هو محاولة السيطرة على
التكنولوجيا بما يسهم في الصلاح العام
والقابل للتقوّت لكل الناس في هذا الجيل
والأجيال اللاحقة ضمن إطار شامل، كلاني holistic، وحتى كوني،
وبما يوازن الفتوح المادية بالتحلِّي
بالصفات الاجتماعية والخلقية والروحية. نحن
في عالم انتقالي نحو نمط جديد بالكلية من
المجتمع ما بعد الصناعي والمعلوماتي يبدي
مشكلات جديدة وممكنات جديدة. حسبنا مثال واحد
على تيارات هذا الانتقال، هو أن التكنولوجيات
الجديدة، عبر الأتمتة automation وما شاكلها، سوف
تقضم أخلاقيات العمل ولابد أن تزيد كثيراً
مخصصات العمر من أوقات الفراغ للجميع. ولكن هل
سيولِّد هذا خواءً سوف يُملأ بالتسلية
الميكانيكية وكل ضروب السخافات ليس غير، أو
أنه يمكن أن يُستعمَل استعمالاً بناءً لتأمين
التحقق والتنمية الفردية؟ 3.
الحدود الداخلية القصوى – بيئة الذات
عززت فتوح
التكنولوجيا، على كرّ الأجيال، قدرة الجسم
البشري؛ السيارة تمنح أرجلنا سرعة، الطائرة
تمنحنا أجنحة، أذرعنا تؤدي مهمات هائلة
ورائعة التنوع عبر الآلة، التلفزيون
والراديو تعير عيوننا وآذاننا مدى، بينما، في
مواجهة الأعداء، لدينا صواريخ عابرة للقارات
ذات رؤوس نووية بدلاً من قبضات الأيدي أو
العصيّ. ومع ذلك فإننا لانرى إلا علامات قليلة
على تعزيز الجوانب الأخرى من كياننا. فالأدلة
على أي زيادة
في
الحكمة الإنسانية عبر الـ 4000 سنة الأخيرة
قليلة للغاية، بينما تتطلب سعة المجتمع
المعاصر وتعقيده بصائر جديدة ومحاكمة ثاقبة
في قيادة مصير البشرية. لدينا فائض رهيب من
المعلومات وكذلك من المعرفة، لكن علينا أن
نسأل، مع ت. س. إليوت: "أين المعرفة التي
ضاعت في المعلومات وأين الحكمة التي ضاعت في
المعرفة؟" يبدو إذن أن جسم
المجتمع مختل التوازن –
إذ إن عناصره العاطفية، والروحية، وحتى
العقلية، يطغى عليها وزر النجاح المادي – وأن التأسيس
لتوازن صحي لا يمكن أن يأتي إلا من فهم أعمق
لطبيعة الكائن البشري الفرد، من إدراك تام
لدوافعنا، قبول مخلص لمكوِّناتها السلبية
والإيجابية، وإنشاء قاعدة لنموّ الحكمة
والإبداع. إن المشكلات الأساسية، على ما
يبدو، للفرد ولتجمّعه الذي هو المجتمع
كليهما، مكنونة أعمق في الطبيعة البشرية،
وبدون معرفة أتمّ بحدودنا ومكنوناتنا
الداخلية، فإن مقاربتنا لحل المشكلات سوف
ينحصر بصعيد محاولة إزالة الأعراض بدون تشخيص
واضح للداء. إن محاولات نزع السلاح، على سبيل
المثال، على ضرورتها العاجلة، لا يمكن أن
تقضي على الحرب قضاء مبرماً، إلى أن نفهم
أسباب الحرب الكامنة في كل منّا. الأنانية أو قوة
الحياة، كما كان الفكتوريون يسمونها، خاصية
من خصائص الأنواع الحية جميعاً، من حيث هي
تؤمِّن النزوع القديم إلى البقاء، والتناسل،
والازدهار، والامتياز؛ إنها القوة الدافعة
للتجديد والتقدم. لكنها أيضاً تتجلّى على نحو
ثابت في السلوك الأناني الضداجتماعي، في
القسوة، في التعطش إلى السلطة، في استغلال
الآخرين والسيطرة عليهم. والصراع بين الأوجه
الإيجابية والسلبية للأنانية هو الدراما
الفاوستية الأبدية، وتحقيق توازن دينامي بين
الجانبين هو الغاية المركزية للسياسة
الاجتماعية –
إذ إن إعطاء هامش أوسع مما يجب لنشاط القوى
الأنانية قد ينتج مجتمعاً دينامياً، لكنه قد
يؤدي إلى الفساد، ونقص العدالة الاجتماعية،
والاستبداد. إننا مسكونون
بأصولنا البيولوجية. لقد لعبت الأوجه السلبية
لطبيعتنا، التي يصعب علينا أن نعترف بها
لأنفسنا، بما فيها الجشع، والغرور، والغضب،
والخوف، والكراهية، وكذلك، عبر السيرورة
المضنية للتطور العضوي، دوراً لا يستهان به
في تحقيقنا السيطرة على أنواع الخليقة الأخرى
كلها وعلى الأجناس البشرية الأضعف للإنسان
العاقل homo
sapiens. أما
وقد بلغنا مستوانا الحالي من الوعي، مدركين
أننا فانون وقادرون على النظر في المستقبل
بوصفه المتَّصل الجيلي للحياة، فإن السمات
السلبية لم تعد لها من فائدة في كفاحنا
صعوداً، لكنها ماتزال فينا ويجب أن تؤخذ
بالحسبان في السلوك الشخصي والجمعي. لقد ظل
الأفراد قروناً طوالاً يحاسبون أنفسهم، رغبة
في الجنة ورهبة من النار، إنما، مع الفقدان
الواسع الانتشار للإيمان بالدين، وكذلك
بالإيديولوجيات والنظم السياسية، تبخرت
الروادع، وباتت الأقليات ترفض الأخذ بقرار
الأكثرية، وهناك فقدان لاحترام القانون
يترافق بتصاعد للإرهاب والجريمة. هذه السمات،
مطروحة من المستوى الفردي على المستوى
الجمعي، تفعل فعلها في البيئة الاجتماعية
سواء بسواء. الأنانية القومية جامعة بين
الضدين على حد سواء؛ إذ يمكن أن تعبر عن نفسها
كحب طبيعي ومرغوب للوطن، أو يمكن أن تستثار
فتصير شوفينية، وكرهاً للأجنبي، وكراهية
للبلدان وأنماط المعيشة الأخرى، وتؤدي
أخيراً إلى الحرب؛ ففي المفاوضات الدولية
كثيراً ما تبرز هذه الأنانية كانتصار للمصلحة
الذاتية الضيقة ضد التناغم الأوسع والصلاح
المستقبلي لمجموعة من الأمم، بما في ذلك
صلاحها هي، وغالباً ما تضحّي، على ما يبدو،
بمصلحتها البعيدة المدى لتسجيل نقطة تكتيكية
آنية. مثل هذه الأمور
قلما يُعترَف بها، وعندما يتم ذلك فإنها
تسربَل بحجاب المحرَّم المسكوت عنه taboo. فإذا كان في هذا
التشخيص شيء من الصحة أصلاً، يبدو أن ثمة حاجة
إلى الاعتراف بوجود وبسلطان الأوجه السلبية
للسلوك الفردي والجمعي، وإلى العمل من أجل
المصلحة الذاتية المستنيرة، ضمن إطار يقوم
على فهم أنه في مصلحة كل ساكن من سكان الكوكب
قطعاً أن يعمل من أجل ضمان إنجاز بيئات مادية
واجتماعية قابلة للتقوّت الذاتي، من أن يعمل
بمبدأ "ومن بعدي الطوفان". إن العديد من
الخرافات الاجتماعية والسياسية يتفرع من
تجاهل الأوجه السلبية للأنانية. فعلى سبيل
المثال، يمكن النظر في المردودية المتدنية
للاقتصادات الشيوعية بوصفها ناجمة في معظمها
عن إيمان ساذج بالطبيعة البشرية، عن ادعاء
بأن الناس يفعلون كل ما بوسعهم في الزراعة،
والصناعة، وغيرهما، بدون حافز شخصي. وهذا
أبعد ما يكون عن الواقعية. كذلك، فإن المطامح
الخاصة للسياسيين وغيرهم من الأفراد أصحاب
السلطة، على كونها تشكل موضوعاً للكثير من
القيل والقال، قلما تؤخذ بالحسبان بما يكفي
في المناظرات أو عند الاقتراع. إذا كان التشخيص
أعلاه صالحاً أصلاً، يبدو من الضروري من أجل
المصلحة العامة تعديل الكثير من مواقف
وممارسات الحياة العامة. إن الكثير من تهريج
السياسة، إذ يقارن بمخاطر الوضع الحالي
ووعوده، يبدو مأساوي العبث، من نحو اختيار
الزعماء على أساس شعبيتهم أمام كاميرات
التلفزيون أو طقوس المواجهة. ويبدو كذلك أن
التشاتم بين أعضاء الأحزاب المختلفة يستهلك
الكثير من وقت بعض البرلمانات، بينما تبدو
الحاجة ماسة للسعي نحو الإجماع في سبيل
المصلحة الوطنية. والأمر نفسه بادٍ بصورة
أخطر وضوحاً في العديد من المفاوضات الدولية.
يبدو أن الوقت مؤاتٍ، بخاصة لتحسين العلاقات
بين الشرق والغرب، إنما، بصورة أعمّ، لمقاربة
إيجابية تسعى لاستكشاف نطاقات المصلحة
المشتركة وتحديدها، والعمل على تغذيتها
وتوسيعها. إن المحافظة على
البيئة الظاهرة التي تتجذّر فيها حياتنا
البيولوجية تتطلب ألاتقتصر أنانيتنا على مدى
عمرنا، بل أن تمتد لتشمل على الأقل أطفالنا
وأحفادنا الذين يجد معظم الناس أنفسهم فيهم
بصورة طبيعية، بحيث نكافح، كفاحاً أنانياً
إنْ شئت، لتأمين الشروط التي سوف تسمح بحياة
كريمة وإنسانية حقاً للأجيال اللاحقة. مثل
هذه المقاربة تتطلب منظوراً بعيد المدى، ليس
في تفكيرنا وشعورنا الشخصي، لكنْ في السياسة.
المدى البعيد هو في سياسة اليوم من قبيل الكفر.
فضمن الدورات الانتخابية القصيرة في
بلداننا، كلا الإدارات والمعارضة مكبَّل
بالقضايا الآنية ذات الأهمية المحلية بنظر
المصوِّت، بينما يتم تجاهل المشكلات الأكثر
أساسية التي تلوح في الأفق البعيد.
والترتيبات المؤسّساتية التي تمكِّن
الحكومات والناس من مواجهة الحاجات الأبعد
مدى قد فات أوانها –
ليس الاهتمامات البيئية وحسب، وإنما عناصر
أخرى عديدة في مجتمعنا السريع التغير. كثيراً ما يصرَّح
بأن الفرد البشري عالم صغير microcosm
يختصر كلِّية الأشياء. غير أن مفهوم البيئات
الثلاث يتلقى خدمة أفضل بقلب هذا التصريح
واعتبار المجتمع تراصاً للواحدات المكوِّنة
له، في قناعة بأن إصلاح حياة المجتمعات
والأمم لا يصح استمداده إلا من تفتح الفرد،
الخلقي والاجتماعي معاً، بما يتيح له
استعمالاً بنّاءً ومتوازناً للقوة الأنانية
الكامنة فيه. ففقط عبر تثقيف متعمَّد جديد ضمن
بيئاتنا الصغيرة الخاصة المنفصلة، يأخذ كل ما
سبق بعين الاعتبار، يمكن لمجتمع من التكامل،
والتناغم، والعدالة الاجتماعية أن يشرق. للتوسع:
-
Alexander King, The Limits of Growth. - Rachel Carson, Silent Spring. - Ernest F. Schumacher, Small is Beautiful. - Henryk Skolimowski, Living Philosophy: Eco-Philosophy as a Tree of Life.
|
|
|