|
عشر
سنوات من الأبحاث حول حرب 1947-1949 مؤرِّخون
إسرائيليون يعيدون النظر في
تهجير الفلسطينيين قبل
خمسين عاماً، في 29 تشرين الثاني 1947، قررت
الجمعية العامة للأمم المتحدة تقسيم فلسطين
إلى دولة يهودية وأخرى عربية. لكن حرب 1947-1949
أعادت خلط الأوراق: فإذا وسّع إسرائيل
أراضيه بمقدار الثلث، آل ما تبقى من الدولة
العربية الجهيضة إلى الحكم عبرالأردني
والمصري. والأهم من ذلك أن عدة مئات من ألوف
الفلسطينيين اضطروا إلى التخلي عن منازلهم -
وهؤلاء اللاجئون أمسوا في القلب من نزاع لا
ينتهي. منذ عشر سنوات و"المؤرخون الجدد"
الإسرائيليون ينقبون عن أصول هذه المأساة.
وما استخلصوه يدحض خرافات كثيرة. "وحدهم
قلة أقروا بأن قصة العودة، قصة افتداء وتحرير
آبائهم،
كانت قصة غزو وترحيل وطغيان وموت." يارون
إزراشي، الرصاص المطاطي. بين
مخطط تقسيم فلسطين الذي تبنَّته الجمعية
العامة للأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني 1947
وهدنتي 1949 التاليتين للحرب الإسرائيلية–العربية
الأولى التي نشبت في أعقاب غزو 15 أيار 1948 غادر
منازلهم عدة مئات من ألوف الفلسطينيين الذين
كانوا يعيشون على الأراضي التي آلت إلى
الاحتلال الإسرائيلي[1]. كان الأمر في نظر المؤرخين
الفلسطينيين والعرب – وهم ما فتئوا يصرون على
ذلك – عملية طرد بكل معنى الكلمة. لقد أُرغِمت
الغالبية الساحقة من اللاجئين (التي تقدَّر
بين 000 700 و 000 900)، على حد تفسيرهم، على
المغادرة في أثناء المجابهات الإسرائيلية–الفلسطينية،
ومن بعدُ في أثناء الحرب الإسرائيلية–العربية،
في إطار مخطط سياسي–عسكري للطرد تخلَّله
العديد من المجازر. تلك هي حصراً الأطروحة
التي دافع عنها، منذ 1961، وليد الخالدي في
مقالة بعنوان "الخطة دالِت: الخطة الأم
لغزو فلسطين"[2]،
وأحدث من ذلك، إلياس صنبر في فلسطين 1948:
الطرد[3]. أما بحسب التأريخ
الإسرائيلي التقليدي، فإن اللاجئين (وعددهم
لا يتجاوز 000 500)، على العكس، قد فروا بمعظمهم
طوعاً استجابة لنداءات قادة كانوا يَعِدونهم
بعودة سريعة بعد النصر. ومسؤولو الوكالة
اليهودية، ومسؤولو الحكومة الإسرائيلية من
بعدهم، ليسوا بريئين من التخطيط لنزع اليد
هذا وحسب، بل إن المذابح القليلة المؤسفة –
ولاسيما مذبحة دير ياسين في 9 نيسان 1948 – قد
نفَّذتها فصائل متطرفة تنضوي تحت إرغون
مناحيم بيغن وليهي إسحق شامير. بيد أنه منذ الخمسينات شرع
عدد من الشخصيات الإسرائيلية ذات الصلة
بالحركة الشيوعية، بل حتى بدوائر اليسار
الصهيوني (ولاسيما المابام)، في التنديد بهذه
الرواية. ومنذ النصف الثاني من الثمانينات
انضم إلى هؤلاء في نقدهم عدد من الباحثين
أطلقوا على أنفسهم اسم "المؤرخون الجدد":
سمحا فلابان، توم سيغيف، آفي شلاييم، إيلان
بابِّه وبِنِّي موريس – وهذا الأخير هو الذي
أطلق جرس الفضيحة بكتابه ميلاد مسألة
اللاجئين الفلسطينيين[4].
ذلك أن ما يوحِّد هؤلاء الباحثين، فيما يتعدى
اختلافاتهم من حيث الموضوع والمنهج والرأي،
هو تنديدهم بخرافات تاريخ إسرائيل[5]
وإعادتهم النظر بخاصة في تاريخ الحرب
الإسرائيلية–العربية الأولى، مساهمين بذلك
في إظهار الحقيقة حول نزوح الفلسطينيين –
جزئياً على الأقل، كما سنرى، إنما بما يكفي
لاستجلاب سخط المؤرخين الأرثوذكس[6]. لقد تضافرت ظاهرتان لتحريض
هذه الأبحاث. أولاً فتح السجلات الإسرائيلية،
العامة والخاصة. وبالمقابل، يبدو أن الباحثين
يكادون يجهلون كل الجهل سجلات الدول العربية
– الصعبة المنال والحق يقال –، كما والذاكرة
الشفهية للفلسطينيين التي يثابر غيرهم على
تسجيلها. على أن "التاريخ والتأريخ –
كما يلحظ محقاً المؤرخ الفلسطيني نور مصالحة
– ينبغي ألا يكتبهما المنتصرون حصراً[7]
". لكن الغوص في السجلات
الإسرائيلية ما كان حتماً ليكون بهذا الإثمار
لو لم تتَّسم السنوات العشر التالية لوضعها
في المتناول بسمة غزو لبنان عام 1982 وبانطلاق
الانتفاضة [الأولى] عام 1987 اللذين عمَّقا
الشقة، في إسرائيل نفسه، بين المعسكر القومي
ومعسكر السلام. وباختصار، فإن "المؤرخين
الجدد" يُظهِرون أصل المشكلة الفلسطينية
في وقت تحتل هذه المشكلة موقع الصدارة. في مقال حديث منشور في مجلة
الدراسات الفلسطينية[8]
يشدد إيلان بابِّه، واحد من رواد هذا "التاريخ
الجديد"، على دور الحوار الإسرائيلي–الفلسطيني
المنعقد آنذاك "بقيادة الجامعيين
بالدرجة الأولى"، كما يدقق.
"ومهما
بدا ذلك مدهشاً فإن تعرُّف غالبية الباحثين
الإسرائيليين المشتغلين على تاريخ بلدهم،
ممَّن لم يكونوا على صلة بالجماعات السياسية
المتطرفة، على الرواية التاريخية لنظرائهم
الفلسطينيين تم بواسطة هذا الحوار. لقد وعـ[ـوا]
التناقض الأساسي بين المطامع القومية
الصهيونية وبين تنفيذها على حساب سكان فلسطين
المحليين". ولنضف أن هذا التلاعب
بالتاريخ لأغراض سياسية ليس حكراً إسرائيلياً: فهو في الغالب ملازم للقومية. ما هي الدروس التي استخلصها
"المؤرخون الجدد" من انكبابهم المثابر
على السجلات؟ بما أن هذه السجلات تتعلق عموماً بتوازنات القوى السائدة عام 1947 كما في
عام 1948 بين اليهود والعرب فهي تكذِّب الصورة
التي تقدِّم جالية يهودية ضعيفة قليلة
التسليح، يهددها بالإبادة عالم عربي موحَّد
مدجج بالسلاح – داود في مواجهة جوليات.
يُجمِع "المؤرخون الجدد" بخاصة على
إبراز المؤهلات العديدة للدولة اليهودية
الناشئة في مواجهة أعدائها: تفكك المجتمع
الفلسطيني، انقسامات العالم العربي وضعف
قواته المسلحة عدداً وتدريباً وتسليحاً،
الأفضلية الاستراتيجية التي يمثلها لإسرائيل
الاتفاق المسبق مع أمير عبرالأردن عبد اللـه (الذي
تعهد، مقابل
الضفة الغربية، بعدم مهاجمة
الأراضي التي منحتها الأمم المتحدة لإسرائيل)،
تأييد بريطانيا العظمى لهذا التنازل، كما
ودعم كلا الولايات المتحدة والاتحاد
السوفييتي، وتعاطف الرأي العام العالمي، إلخ. من هنا، في جملة أسباب أخرى،
تلك الخاصية الصاعقة غالباً للهجمات
الإسرائيلية في ربيع 1948. وهذا ما يلقي ضوءاً
جديداً على السياق الذي تنطرح فيه مسألة نزوح
الفلسطينيين الجماعية. ينقسم هذا النزوح في
الواقع إلى موجتين كبيرتين تكادان تتساويان
من حيث السعة: الأولى قبل هذا المنعطف الحاسم
الذي يمثله إعلان استقلال دولة إسرائيل في 14
أيار 1948 وتدخل جيوش الدول العربية المجاورة
صبيحة ذلك اليوم والثانية بعده. فإن
تكن الخاصية الإرادية لفرار
آلاف الفلسطينيين الميسورين – من حيفا ويافا
خاصة – في الأسابيع الأولى التالية لتبنِّي
مخطط تقسيم فلسطين ليست موضع شك، ماذا عمَّا
تلا ذلك؟ في الصفحات الأولى من مولد
مشكلة اللاجئين الفلسطينيين اقترح بنِّي
موريس جواباً إجمالياً: على خارطة تحدد مواقع
المدن والقرى العربية الـ 369 في إسرائيل (في
حدودها عام 1949) لخَّص، ناحية ناحية، أسباب
نزوح سكانها[9].
ففي 45 حالة اعترف المؤلف بجهله لهذه الأسباب.
أما في 228 حالة أخرى نزح السكان إبان غارات
للفصائل اليهودية، منها 41 حالة طرد بقوة
السلاح. وفي 90 ناحية أخرى أذعن الفلسطينيون
للذعر الناجم عن سقوط تجمُّع سكني مجاور أو
لوسواس هجوم معادٍ أو حتى للإشاعات التي
نشرها الجيش اليهودي – وبخاصة بعد مذبحة 250 من
سكان دير ياسين في 9 نيسان 1948 التي سرى خبرها
في البلاد سريان النار في الهشيم. غير أنه، بالمقابل، لم يحصر
إلا 6 حالات نزوح بإيعاز من السلطات العربية
المحلِّية. وأضاف: "لا يوجد دليل يؤكد بأن
الدول العربية واللجنة العربية العليا [ل. ع.
ع. الفلسطينية] كانت تتمنى خروجاً جماعياً،
أو بأنها نشرت توصية عامة أو نداءات تدعو
الفلسطينيين إلى الفرار من منازلهم، وإن يكن
سكان قرى معينة في بعض المناطق تلقوا من قواد
عرب أو من ل. ع. ع. الأمر بالمغادرة لأسباب
استراتيجية بصفة خاصة" (مولد...، ص 129). على العكس هُدِّد الفارُّون
بـ"عقوبات صارمة". أما ذلك الحضُّ
العربي المزعوم على الفرار الذي أذاعته
الإذاعات العربية فإن الاستماع إلى برامجها
المسجلة يبيِّن أنه محض اختلاق لأغراض
الدعاوة السياسية. عمليات
تخللتها فظائع
في 1948 وما بعده يحلل
بنِّي موريس تحليلاً أكثر تفصيلاً مستنَداً
يعدُّه موثوقاً من حيث الأساس، باعتباره
يتعلق بالطور الأول من الخروج: إنه التقرير
الذي وضعته أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية
المؤرَّخ في 30 حزيران 1948. إن هذه الوثيقة
المُعَنْوَنة بـ"هجرة عرب فلسطين في
الفترة بين 1/12/1947 و 1/6/1948" تقدِّر عدد
الفلسطينيين الذين سبق أن غادروا الأراضي
التي آلت إلى يدي إسرائيل بـ000 391، وتقوِّم
تأثير مختلف العوامل المفسِّرة لمغادرتهم: "55
% على الأقل من مجموع الخروج قد تسببت فيها
عملياتنا"، كما كتب الخبراء الذين
يضيفون إلى هذه النسبة عمليات المنشقين عن
الإرغون والليهي "الذين تسببوا مباشرة في
حوالى 15 % من الهجرة". ومع الـ2 % المنسوبين
إلى أوامر الطرد الصريحة التي أعطاها الجنود
اليهود والـ1 % المنسوب إلى حربهم النفسية نصل
إلى 73 % من المغادرات تسبب فيها الإسرائيليون
مباشرة. وفضلاً عن ذلك، يعزو التقرير المشكلة
في 22 % من الحالات إلى "مخاوف" السكان
الفلسطينيين و"أزمة الثقة" بينهم.
أما عن النداءات العربية للفرار فهي لا تدخل
بالحسبان إلا في 5 % من الحالات... وباختصار، فإن هذا التقرير،
كما يلخص بنِّي موريس نفسه، "يقوِّض
التفسير الإسرائيلي التقليدي عن فرار جماعي
بأمر أو بدعوة من الإدارة العربية". على
أنه، كما يشير المؤرخ، "لا يؤيد التفسير
العربي التقليدي للخروج – ألا وهو أن اليهود،
على نحو متعمَّد ومركزي ومنهجي قد شنوا حملة
ترمي إلى الطرد التام للسكان الفلسطينيين
الأصليين". بيد أن بنِّي موريس يقرُّ بأن
الفترة الثانية – التي يقدِّرها أيضاً بين 000
300 و 000 400 شخص – "هي قصة أخرى". من نماذج هذه المرحلة يبرز
طرد العرب من اللدِّ والرملة في 12 تموز 1948 في
إطار عملية "داني": تُتَّخذ مناوشة مع
مصفحات عبرأردنية ذريعة لقمع عنيف (250 قتيل،
بمن فيهم أسرى عُزَّل)، يليه إخلاء قسري،
ترافق بإعدامات فورية وعمليات نهب طالت حوالى
000 70 مدني فلسطيني – ما يقرب من 10 % من الخروج
الكلِّي بين 1947-1949! وقد نفَّذت سيناريوهات
مشابهة – كما يبيّن بنِّي موريس – في الجليل
الأوسط وفي شمال النقب وفي الجليل الشمالي،
بدون نسيان طرد فلسطينيي المجدل (عسقلان) في
أعقاب الحرب. وكلها عمليات غالباً ما ترافقت
– باستثناء الأخيرة – بفظائع قال عنها
المكلَّف بالزراعة أهارون زسلنغ لمجلس
الوزراء المنعقد في 17 تشرين الثاني 1948: "لم
يغمض لي جفن هذه الليلة. إن ما يجري يجرح نفسي
ونفوس أسرتي ونفوسنا جميعاً [...]. اليهود أيضاً
يتصرفون الآن كالنازيين، وكياني كله مزعزع من
جراء ذلك[10]." اعتمدت الحكومة
الإسرائيلية من جانبها سياسة متعنِّتة
للحيلولة "بأي ثمن" – على حد تعبير
دافيد بن غوريون نفسه – دون عودة اللاجئين
التي طالبت بها مع ذلك الجمعية العامة للأمم
المتحدة منذ 11 كانون الأول 1948. فلقد دُمِّرت
قُراهم أو استثمرها مهاجرون يهود، ووُزِّعت
أراضيهم بين الكيبوتزيم المجاورة. ولقد "شرَّع"
القانون الخاص بـ"الممتلكات المتروكة"
– الهادف إلى إتاحة استملاك أوقاف كل شخص "غائب"
–، منذ كانون الأول 1948، هذه المصادرة
المعمَّمة. بذلك فإن ما يقرب من 400 ضيعة عربية
شُطِبت من الخارطة أو هُوِّدت، مثلما جرى في
غالبية الأحياء العربية للمدن المختلطة.
وبحسب إحصاء أجري عام 1952 وضع إسرائيل يده على
000 73 غرفة سكن في بيوت متروكة، وعلى 800 7 حانوت
ومشغل ومستودع، وعلى 5 ملايين ليرة فلسطينية
من حسابات مصرفية، ولاسيما على 000 300 هكتار من
الأرض[11]. في كتابه 1948 وما بعده (الفصل
4)، يطيل بنِّي موريس الوقوف على الدور الذي
لعبه في هذا الإطار يوسف فايتس، مدير مصلحة
الأراضي في الصندوق القومي اليهودي آنذاك.
ففي يومياته، بتاريخ 20 كانون الأول 1940، أسرَّ
هذا الصهيوني ذو القناعات المحسومة بلا
مواربة: "ينبغي أن يكون من الواضح أنه لا
مكان لشعبين في هذا البلد [...]، وأن الحل
الأوحد هو تجريد أرض إسرائيل، أو على الأقل
الجزء الغربي من أرض إسرائيل، من العرب. ليس
هناك تنازل ممكن حول هذه النقطة! [...] ما من
وسيلة أخرى غير إبعاد العرب من هنا إلى
الأقطار المجاورة. [...] ما من قرية يجب أن تبقى،
ما من عشيرة بدو." لم تمض سبع سنوات حتى عمل
يوسف فايتس على تطبيق هذا البرنامج الجذري
بنفسه. فمنذ كانون الثاني 1948 وهو ينسق، هنا
وهناك، طرد الفلسطينيين. وفي نيسان طالب
بتشكيل "تنظيم يقود الحرب بهدف تهجير
أكبر عدد ممكن من العرب" وتمت الموافقة
على طلبه. ولقد أشرفت "لجنة الترحيل"،
غير الرسمية حتى نهاية آب 1948، والرسمية بعدئذٍ، على هدم قرى فلسطينية و/أو إعادة
إعمارها بمهاجرين يهود جدد للحيلولة دون أية
عودة للاجئين. وقد اتسعت هذه الصلاحيات في
تموز، إذ أضيفت إليها مهمة جديدة: مضاعفة
المستوطنات اليهودية عند الحدود. خاض إسرائيل هذه المعركة
لقطع طريق العودة على المنفيين الفلسطينيين
على الجبهة الدبلوماسية أيضاً. ومن وجهة
النظر هذه، كما يلحظ هنري لورنس في تقديم لـ"المؤرخين
الجدد"[12]،
"سمح فتح السجلات والاستفادة منها بتصحيح
بعض الأحكام. فبعكس كلام مكرور منتشر عموماً
كان المسؤولون العرب مستعدين للتفاوض".
ففي صبيحة الحرب، إبان مؤتمر لوزان، حاول
هؤلاء بالفعل – وإيلان بابِّه يعرض لجهودهم
بالتفصيل[13]
– التوصُّل إلى تسوية على أساس قبول العرب
لمخطط تقسيم الأمم المتحدة مقابل قبول
إسرائيل لعودة اللاجئين. وعلى الرغم من
الضغوط الدولية، بدءاً من ضغوط الولايات
المتحدة، اصطدمت هذه المبادرة بتعنُّت
السلطات الإسرائيلية، ولاسيما بعد مكسب
انضمام الدولة اليهودية إلى الأمم المتحدة... وعلى الرغم من هذا التراكم
المذهل للعناصر القاطعة فقد تمسك بنِّي موريس
في كتابه الأول بمقولة: "المشكلة
الفلسطينية ابنة الحرب وليست ابنة نية
مقصودة، يهودية كانت أم عربية" (مولد...،
ص 286). وهي مقولة قد عدَّلها تعديلاً طفيفاً في
مؤلَّف ثانٍ، معترفاً بأن الخروج الفلسطيني
كان قد شكَّل "سيرورة تراكمية، متداخلة
الأسباب، إنما وُجِد صاعق أساسي، طلقة رحمة،
على هيئة هجوم الهاغاناه أو الإرغون أو قوات
دفاع إسرائيل في كل ناحية" (1948...، ص 32).
لكن هذا التطور لا يمنعه من الاستمرار في
إنكار كل فكرة مخطَّط يهودي للطرد وفي تبرئة
ساحة دافيد بن غوريون، رئيس الوكالة اليهودية، ثم رئيس وزراء ووزير دفاع دولة
إسرائيل الفتية. لكن أول ما ينقض هذا الإنكار، كما بيَّن نورمان ج. فنكلشتاين في
دراسة للنصوص لا تعادل نباهتها إلا
سجاليَّتها[14]،
كما يبدو، هو... بنِّي موريس نفسه. ألا يؤكد
المؤرخ أن "جوهر" الخطة دالِت (د
بالعبرية)، الموضوعة موضع التنفيذ ابتداءً من
نهاية كانون الثاني 1948 والمطبَّقة ابتداءً من
نهاية آذار، كان "طرد كل القوى المعادية
والمعادية بالإمكان من داخل الأراضي الآيلة
إلى الدولة اليهودية، وتوطيد استمرارية
إقليمية بين التمركزات الأساسية للسكان
اليهود، وضمان أمن الحدود المستقبلية قبل
الغزو العربي المنتظر" (ميلاد...، ص 62).
ألا يعترف بأن الخطة د هذه، وإن لم توقِّع على
بياض على طرد المدنيين، فقد كانت تمثل أساساً
استراتيجياً وإيديولوجياً للطرد على يد قادة
الجبهة والمناطق والمَفرَزات والألوية"
الذين أعطتهم "لاحقاً تغطية رسمية
ومقنِعة لتسويغ أفعالهم" (ص 63)؟ ويبلغ
الأمر ببنِّي موريس التأكيد، بعد ذلك بصفحتين، بأن "الخطة د لم تكن خطة سياسية
لطرد العرب من فلسطين"، من جهة، ومن جهة
أخرى أنه "اعتباراً من بداية نيسان توجد
آثار واضحة لسياسة طرد على المستويين القومي
والمحلي في آن معاً" (ميلاد...، ص 62 و
64)... يصحُّ هذا فيما يتعلق
بمسؤولية دافيد بن غوريون. يذكر بنِّي موريس
بوضوح أن رئيس الوزراء كان أبا الخطة د. فهو
أيضاً في تموز 1948 مَن أمر بتنفيذ عملية اللد
والرملة: فلقد أجاب إيغال ألون وإسحق رابين
بكلمة – حذفتها الرقابة من مذكرات هذا الأخير
وكشفتها النيويورك تايمز[15]
بعدئذٍ بثلاثين عاماً –: "اطردوهم!"
وهذا الأمر، كما يدقق بنِّي موريس، لم يَصِر
محل جدل في الحكومة الإسرائيلية. صحيح أن
المابام، شريك الماباي في السلطة، قد حصل من
رئيس الوزراء، قبلئذٍ ببضعة أيام، على تعليمة
رسمية بمنع العسكريين من القيام بأي إجراء
طرد، إلا أن دافيد بن غوريون سخر بعيد ذلك من
نفاق هذا الحزب الصهيوني الماركسي الذي يندد بـ"نشاطات"
يقوم بها أيضاً نشطاؤه أنفسهم، سواء من
عسكريي البالماخ أو من الكيبوتزنكيم. جدير بالذكر أن الجنرال
حاييم لاسكوف أخذ في الناصرة التعليمة
الرسمية على محمل الحرف. حتى إن "العجوز"،
إذ قَدِم إليها ووجد سكانها على حالهم،
استشاط غضباً وصاح: "ماذا يفعلون هنا؟"[16]
في تموز أيضاً، إنما في حيفا هذه المرة، أوحى
دافيد بن غوريون خفية تقريباً بعملية "إزالة
توطين" 500 3 عربي بقوا في المدينة، ثم بهدم
أحيائهم القديمة هدماً جزئياً. إن بنِّي موريس نفسه يشدد أن
دافيد بن غوريون انفرد آنذاك بالسلطة. معه كان
يتقرر كل شيء سواء على الصعيد العسكري أو على
الصعيد المدني، وعلى الغالب بدون أية استشارة
للحكومة، وبالحري للأحزاب الممثَّلة فيها. إن
غياب قرار رسمي اتخذته الحكومة أو المجلس
بطرد الفلسطينيين من السجلات ليس مقنِعاً
البتة ضمن هذه الشروط. إن بنِّي موريس نفسه
يعترف أن "بن غوريون امتنع دوماً عن إصدار
أوامر طرد واضحة أو مكتوبة. إذ كان يفضل أن "يفهم"
جنرالاته ما كان يتمنى عليهم أن يفعلوا. كان
قصده الحيلولة دون حط التاريخ من شأنه إلى
رتبة "طارد عظيم"" (مولد...، ص
292-293). على أن اجتهاد مؤسِّس دولة
إسرائيل، مستفيداً من اتساع مدى صلاحيَّاته
الهائل، في توسيع الأراضي التي أعطتها الأمم
المتحدة للدولة اليهودية إلى الحد الأقصى،
وفي تقليص عدد السكان العرب إلى الحد الأدنى،
لا جدال فيه تاريخياً. ألم يخصص بنِّي موريس
نفسه دراسة هامة[17]
للدعم الذي قدمه دافيد بن غوريون منذ أمد طويل
لمشروع النقل؟ ولقد كتب في التوطئة لكتابه 1948
وما بعده: "منذ 1937 نجد بن غوريون (وغالبية
القادة الصهاينة) مؤيدين لحل للـ"مشكلة
العربية" بـ"النقل". [...] وبحلول عام 1948،
مع فوضى الحرب والانتقالات المرافقة لها،
سرعان ما انتهز بن غوريون الفرصة لـ"تهويد"
الدولة اليهودية الناشئة" (1948…،
ص 33). وكان المؤرخ قد ذكر أعلاه: "إن
ميل القادة العسكريين المحلِّيين إلى دفع
الفلسطينيين إلى الفرار ازداد زيادة مطَّردة
مع الحرب. ولقد أسهمت الفظائع اليهودية –
الأوسع انتشاراً مما رَوَتْه القصص القديمة (إذ
تعرَّض العرب لمجازر في الدوايمة وإيلابون
وجش وصفصف ومجد الكروم والحولة (في لبنان)
وصالحة وسعسع، بالإضافة إلى دير ياسين واللد
وأماكن أخرى) –
أيضاً إسهاماً لا يستهان به في الخروج"
(1948...، ص 22). "الخطيئة
الأصلية"
خصص إيلان بابِّه، الأستاذ
في جامعة حيفا، لكل هذه الأعمال فصلاً من
كتابه صنع الصراع العربي–الإسرائيلي،
1947-1951. وهو يخلص إلى القول، ضارباً بحذر
بنِّي موريس عرض الحائط: "يمكن تقدير
الخطة د من كثير من الوجوه بوصفها استراتيجية
طرد. هذه الخطة لم توضَع على حين غرة – فالطرد
كان يعتبر واحدة من وسائل الاقتصاص بعد
الغارات العربية ضد
القوافل والمستوطنات
اليهودية؛ مثلما أنه قد نُظِر إليها كواحدة
من خيرة وسائل ضمان سيطرة اليهود في المناطق
التي استولى عليها الجيش الإسرائيلي" (صنع...، ص 98). إن نص الخطة د نفسه، والحق
يقال، لا يدع مجالاً للشك في نوايا بن غوريون
وأصحابه. فهو يُعِدُّ "لعمليات ضد
المراكز السكانية المعادية الواقعة في قلب
منظومتنا الدفاعية أو بالقرب منها، بغرض
الحيلولة دون استخدامها كقواعد من قبل قوة
عسكرية نشطة. هذه العمليات يمكن القيام بها
على النحو التالي: إما بتدمير القرى (بإضرام
النار فيها وبنسفها بالديناميت وبزرع ألغام
في حطامها)، وبخاصة في حالة مراكز سكانية يصعب
ضبطها؛ وإما بالنهوض بعمليات تمشيط وتفتيش
بحسب التوجيهات التالية: تطويق القرية
والتحقيق في الداخل. وفي حال المقاومة يجب
القضاء على القوة العسكرية ويجب طرد السكان
خارج حدود الدولة" (صنع...، ص 92). ينبغي التأكيد على الشجاعة
التي أبداها "المؤرخون الجدد"
الإسرائيليون، مع عثراتهم وعلى الرغم من
حدودهم. ذلك لأنهم لم يسهموا في تصحيح مجرد
صفحة من صفحات التاريخ في جملة صفحات أُخَر.
فما قد عُرِّي هو حقاً "الخطيئة الأصلية"
لإسرائيل. هل كان ينبغي لحقِّ الناجين من
الإبادة الهتلرية في حياة آمنة في دولة أن
يستبعد حق بنات وأبناء فلسطين في الحياة، هم
أيضاً، بسلام في دولتهم؟ بعد ذلك بخمسين عاماً يكاد الأوان يفوت على وضع حد لذلك
المنطق المولِّد للحرب وللسماح للشعبين بأن
يتعايشا – بدون أن يعني ذلك إلقاء حجاب خجول
على أصل المأساة... ***
*** *** ترجمة:
ديمتري أفييرينوس عن
لوموند ديبلوماتيك، كانون الأول 1997 000
800 لاجئ في عشرين شهراً
1947 *
29 تشرين الثاني: الجمعية العامة
للأمم المتحدة تتبنى، بأغلبية الثلثين
المطلوبة، مخطط تقسيم فلسطين إلى دولة
يهودية ودولة عربية ومنطقة دولية في القدس
وفي الأماكن المقدسة. 1948 *
كانون الأول: وحدات جيش
الإنقاذ من المتطوعين العرب تدخل فلسطين. *
آخر آذار: القوات اليهودية
تستلم أولى شحنات الأسلحة التشيكوسلوفاكية
وخطة دالِت توضع موضع التنفيذ. *
9 نيسان: مذبحة دير ياسين. *
18 نيسان: الهاغاناه
تستولي على طبريا، وبعدئذٍ بأربعة أيام على
حيفا. *
10 أيار: الاستيلاء على
صفد، وبعدئذٍ بيومين على يافا. *
14 أيار: انتهاء الانتداب
البريطاني وإعلان استقلال إسرائيل.
الولايات المتحدة تعترف فعلاً بالدولة
الجديدة. جيوش خمس دول عربية تدخل فلسطين. *
17 أيار: الاتحاد
السوفييتي يعترف قانوناً بإسرائيل.
الهاغاناه تحتل عكا. القوات المصرية تستولي
على بئر السبع في اليوم التالي. *
28 أيار: الحي اليهودي في
القدس يستسلم. *
11 حزيران-8 تموز: وقف
إطلاق النار الأول. *
9-17 تموز: إسرائيل يغتصب
اللد والرملة والناصرة. *
18 تموز-15 تشرين الأول: وقف
إطلاق النار الثاني. *
17 أيلول: كومندو صهيوني
متطرف يقوم باغتيال وسيط منظمة الأمم
المتحدة الكونت السويدي فولكه برنادوت. *
15 تشرين الأول: الجيش
الإسرائيلي ينتهك وقف إطلاق النار ويهاجم في
النقب. *
11 كانون الأول: الجمعية العامة
للأمم المتحدة تقر بحق اللاجئين بالعودة. *
22 كانون الأول: مصر وإسرائيل
يستأنفان القتال الذي ينجز احتلال النقب.
بريطانيا العظمى تهدد بالتدخل المباشر لكي
ترغم الجيش الإسرائيلي على الانسحاب من شمال
سيناء في 7 كانون الثاني 1949.
1949 *
24 شباط: الهدنة
الإسرائيلية-المصرية. *
10 آذار: القوات
الإسرائيلية تستولي على أم رشرش (إيلات). *
23 آذار: الهدنة
الإسرائيلية-اللبنانية. *
3 نيسان:الهدنة
الإسرائيلية-العبرأردنية. *
11 أيار: قبول إسرائيل في
الأمم المتحدة. *
12 أيار: إسرائيل والدول
العربية توقع بروتوكولات مؤتمر لوزان. *
20 تموز: الهدنة
الإسرائيلية-السورية. *
8 كانون الأول: تأسيس مكتب
الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين الفلسطينيين UNRWA. [1]
هذا المقال عبارة عن مداخلة ألقيت في ندوة
حول "تاريخ فلسطين المعاصرة" في 13
حزيران 1997 في معهد العالم العربي [بباريس].
وقد توسع المؤلف فيها في كتاب صدر في ربيع
1998 [Éditions
de l’Atelier]. [2]
في
Middle East Forum،
عدد تشرين الثاني 1961؛ أعادت نشرها مع تعليق
جديد: Journal
of Palestinian Studies, Beirut, vol. XVIII, nº
69, 1988. 3 Elias Sanbar, in Palestine 1948.
L’expulsion, Les livres de la Revue d’études
palestiniennes, Paris, 1984. [4]
أهم كتبهم هي: - Simha
Flapan, The Birth of Israel: Myth and Realities, Pantheon Books, New
York, 1987. - Tom Segev, 1949. The First
Israelis, Free Press Macmillan, New York & London, 1986. - Avi Schlaïm, Collusion Across
the Jordan: King Abdallah, the Zionist Movement and the Partition of
Palestine, Calendron Press, Oxford, 1988. - Ilan Pappé, Britain and the
Arab-Israeli Conflict, 1948-1951, Macmillan, NewYork, 1988. - -------------, The Making of
the Arab-Israeli Conflict, 1948-1951, I.B.Tauris, London, 1992. - Benny Morris, The Birth of the
Palestinian Refugee Problem, 1947-1949, Cambridge University Press,
ambridge, 1987. - -----------------, 1948 and
After: Israel and the Palestinians, Calendron Press, Oxford, 1990. لم يترجم أي من هذه
الكتب إلى الفرنسية [ولا إلى العربية على حد
علمنا!].
[5]
إعادة النظر لا تقتصر بالطبع على الحرب
الإسرائيلية–العربية الأولى: فهي تطال
أيضاً موقف الإدارة الصهيونية من إبادة [اليهود]
(ولاسيما مع كتاب:
Tom Segev, The Seventh Million, tr. fran., Liana
Levi, Paris, 1992)، لا بل حتى طبيعة
الاستيطان اليهودي إبان الانتداب
البريطاني. وبالمثل فإن بنِّي موريس تابع
استكشاف السجلات لإظهار السياسة التوسعية
الإسرائيلية في الخمسينات. أنظر: - Benny
Morris, Israel’s Border Wars: Arab Infiltration, Israeli Retaliation
and the Countdown to the Suez War, Calendron Press, Oxford, 1993. وهو يطال أيضاً علوماً أخرى غير
التاريخ، وبالدرجة الأولى
علم الاجتماع، وبخاصة مسألة موضع اليهود
المشرقيين في المجتمع الإسرائيلي، من
الأصول حتى أيامنا هذه... [6]
أنظر بخاصة: - Shabtai
Teveth, “The Palestinian Refugee Problem and Its Origins”, Middle
Eastern Studies, vol. 26, nº 2, 1990. - Ephraïm Karsh, Fabricating
Israeli History: The “New Historians”, Frank Cass, London, 1997. 7 Nur Masalha, “‘‘1948 and
After’’ Revisited”, Journal of Palestine Studies, nº 96,
vol. XXIV, nº 4, été
1995. 8 Ilan Pappé,
“La critique post-sioniste en Israël”, Revue d’études
palestiniennes, nº 12, été 1997. 9 The Birth...,
op. cit., pp. XIV-XVIII. إن مقارنة متأنية بين
نص الكتاب والجداول، حيث يرد، لكل قرية على
حدة، السبب الرئيسي للخروج، تكشف في
الجداول تقديراً أدنى واضحاً – ومفاجئاً –
لعمليات الطرد حصراً. 12 Henry Laurens,
“Travaux récents sur l’histoire du premier conflit israélo-arabe”, Maghreb-Machrek,
Paris, nº 132, avril-juin 1991. [13] The
Making..., op. cit., chap. 8-10.
أنظر أيضاً: Jean-Yves
Ollier, “1949 : la conférence de Lausanne ou les limites du refus arabe”, Revue d’études palestiniennes, nº 35, printemps
1990. 14 Norman G. Finkelstein, Image and
Reality of the Israel-Palestine Conflict, Verso, London & New York,
1995, Chap. 3. [16]
على حد رواية ميشيل بار زوهار، كاتب سيرة بن
غوريون، الواردة في اليومية الإسرائيلية Hadashot,
Tel-Aviv, 19 October 1986. 17 Benny Morris,
“Remarques sur l’historiographie sioniste de l’idée d’un transfert
de population en Palestine dans les années 1937-1944”, in “Les
nouveaux enjeux de l’historiographie israélienne”, Florence Heymann
ed., Lettre d’information du Centre de recherche français de Jérusalem,
nº 12, décembre 1995. حول تناقضات المابام، أنظر الفصل الأول من 1948 وما بعده.
|
|
|