english arabic
 

للتاريخ:

حول أصل الفلسفة الإيكولوجية

 

هنريك سكوليموفسكي

 

1. مقدمة:

الفلسفة مرآة تنعكس عليها البُنى العميقة لمجتمع ما وثقافته. وهي أيضاً مرآة تنعكس عليها الشروخ في هذه البُنى العميقة.

لقد كتب الشاعر شِلِّي: "إنما الشعراء هم المرايا العملاقة التي تخيِّم فيها ظلال المستقبل على الحاضر." والفلسفة أحياناً تتحلَّى بهذه المقدرة، فتحاول أن تكون مرآة تلتقط الأشكال المستقبلية لثقافة ما – وإن يكن الانعكاس خافتاً.

تحاول الفلسفة الإيكولوجية، متصوَّرة تصوراً واسعاً، أن تشمل إيكوصوفيا آرني نيس، حركة الإيكولوجيا العميقة، اللاهوت الإيكولوجي المسيحي الجديد، الإيكولوجيا، الإيكولوجيا الاجتماعية، والإيكولوجيا النَسَوية، من أجل أن تضطلع بالدور الذي يعزوه شِلِّي إلى الشعراء. إننا نحاول أن نحيط بشكل العالم المنبثق والتعبير عنه بمصطلحات فلسفية. بالإضافة إلى ذلك، نحاول أن نؤثِّر في هذا الشكل بأن نفترض ما ينبغي أن يكون عليه. ودورنا، بما هو كذلك، دور رؤيوي ومعياري. ففي كل مجتمع يجب أن يكون هناك أناس يتطلَّعون إلى المستقبل ببصيرة وجلاء.

إبان ربع القرن الأخير، وبخاصة إبان العقد الأخير، ازدهرت الفلسفة الإيكولوجية – وإن يكن ذلك على نحو شارد بعض الشيء. إذ عندما تبزغ شتلة جديدة فإن نموَّها أحياناً يتملَّص من السيطرة. وهذا ما جرى على مختلف فروع الفلسفة الإيكولوجية. لقد كانت نضارتها علامة على نموِّها السليم. بيد أننا (وبضمير "نا" أعني الفلاسفة الإيكولوجيون) لسنا كائنات بيولوجية وحسب، تستحثُّنا وتحدِّدنا القوى الحيوية المقيمة فينا، بل يُفترَض فينا كذلك أن نكون متنبِّهين إلى طبيعة نشاطنا.

إن ما جعلني أضطرب، وأنا أراقب المشهد الفلسفي الإيكولوجي، هو أننا، بينما نحثُّ على فهمٍ و تراحُم أعمق، مراراً ما نمتنع عن ممارسة هذا التراحُم نحو بعضنا بعضاً. هكذا كثيراً ما يرى المرء، بدلاً من الإكرام والإجلال، تنافسَ الخصوم وتناحرهم – لأنهم زعماً يخالفون عدداً من معتقداتنا الأثيرة. فكما سبق لي أن قلت: إن ما يوحِّدنا أهم بكثير مما يفرِّقنا.

ما يوحِّدنا، قبل كل شيء، هو العناية والاهتمام بالمحافظة على الكوكب بأسره وبسلامته، بكل المخلوقات التي تعيش عليه. هذا ما أدعوه الإلزام الإيكولوجي. نحن جميعاً نشترك في هذا الإلزام، بما ينبغي أن يجعل منه قوة موحِّدة، ترشد عملنا وتفكُّرنا. ففي الوحدة قوَّتنا. في الوحدة يمكننا أن نساعد بعضنا بعضاً على تطوير فلسفة متماسكة وشاملة من شأنها أن تكون أساساً لحضارة جديدة. ونحن أبعد ما نكون عن إتمام مثل هذه الفلسفة. هناك في الوقت الراهن قِطَع جزئية واعدة وحسب.

2. ابتداء فلسفتي الإيكولوجية

سوف أؤرِّخ في هذه الورقة لتطور فلسفتي الإيكولوجية الخاصة، بما أنها احتفلت عام 1999 بيوبيلها الفضي. لقد وُضِعَت الصياغة الأولى لفلسفتي الإيكولوجية في الظروف التالية: دعتني الرابطة المعمارية لمدرسة المعمار في لندن إلى المشاركة في ندوة بعنوان "فيما يتعدى التكنولوجيا البديلة". وقد كنا على قناعة، حتى في ذلك الوقت المبكر، أن الحركة الإيكولوجية قد استهلكت نفسها نوعاً ما. فبناء طواحين الهواء والإصرار على التكنولوجيا اللطيفة لم يكن كافياً. لذا فقد وقف أربعة منَّا خطيبين متسائلين: "إلى أين نمضي من هنا؟" كان لكل منَّا عشر دقائق بالدقة لتبليغ رسالته. فبدلاً من أن أحلِّل تقصير الحركة الإيكولوجية، قررت أن أقوم بقفزة إلى الأمام وأتساءل: "ما هو الشيء الأكثر تقلقُلاً في أسس معرفتنا، وأي أساس آخر يجب الأخذ به بحيث يستطيع حمل صرح تفكير جديد ومجتمع جديد؟" والنبذة التي قدَّمتها كانت بعنوان الأنَسية الإيكولوجية. وفيها صغت الأفكار الكبرى التي صارت العمود الفقاري لفلسفتي الإيكولوجية. قلَّما يحدث أن يتنبَّه المرء إلى نقطة الانطلاق الجديدة بعينها. ولعله كان من محض المصادفة أن الرابطة المعمارية نشرت نصِّي على الفور. ولقد شاء الحظ أن أحتفظ بنسخة منه. لذا سوف أشارك القارئ نصَّ هذه النسخة كجزء من هذه الرواية لتطور الفلسفة الإيكولوجية. ونص هذه المحاضرة هو المقطع التالي:

3. الأنسية الإيكولوجية: جواب على "إلى أين نمضي من هنا؟"

كتب أوزفالد شبنغلر أن "التقنيات هي نُهُج العيش". وهذه عبارة مفيدة للغاية. ولسوف أستفيد منها وأنا أطرح مأزقنا بحثاً عن حلول ممكنة.

لقد خذلتْنا التكنولوجيا الحديثة، أو بالأصح – التكنولوجيا الغربية، ليس لأنها صارت كاسحة إيكولوجياً، إنما رئيسياً لأنها تناست وظيفتها الأساسية، وأعني أن كل التقنيات هي، في المقام الأخير، نُهُجٌ للعيش. وبما أن التكنولوجيا الحديثة خذلتْنا بوصفها جملة من نُهُج العيش، فقد تبيَّن من خلال ذلك أنها مضادة للإنتاج ومدمِّرة إيكولوجياً.

لكن هذه الجريرة تنسحب كذلك على التكنولوجيا البديلة. فالتكنولوجيا البديلة بدأت بداية قوية نوعاً ما، فاستولت على خيال الكثيرين، وها هي ذي الآن في طور الإخفاق. لماذا؟ لأن التكنولوجيا البديلة لم تأخذ نفسها على محمل الجد كفاية، أي كجملة جديدة من نُهُج العيش.

عندما دُفِعت إلى أقصاها صارت التكنولوجيا البديلة إما عبادة وثنية لضرب جديد من ضروب الألعاب، وإما إيديولوجيا تامَّة احتكرها اليسار الجديد. سيرورة محمومة تُديم نفسها، لعلَّها، ربما، خالية من المضمون. التكنولوجيا البديلة آيلة إلى الانحسار (مع أن المؤسسة الرسمية قد اكتشفتها لتوِّها: أنظر المقال في الأوبزرفر، 26 أيار 1974) لأنها لم تستمد نسغها من جذورها؛ لم تواجه نفسها بالمهمة الأخيرة لكل التقنيات: أن تصير جملة من نُهُج العيش.

إن نُهُج العيش ليست مجرد استعمالات جديدة لأدوات قديمة. الثقافة جزء أساسي من نُهُج العيش. فالثقافة، مزدهرةً وصحيحةً، تزوِّد بجملة من البُنى الدينامية الضرورية للعيش. بيد أن العالم الغربي، ولاسيما إبان الـ 150 سنة الأخيرة، وبخاصة إبان الـ 50 سنة الأخيرة، قد أساء فهم الثقافة (وكذلك الدين)، وغُيِّبت، وأُسيئت قراءتها، وشُوِّهت، على نحو مطَّرد، وتم تناولها بوصفها إما نتاجاً سقيماً من نتاجات أذهان منحطَّة، وإما مفارقة تاريخية من عصر ما قبل التكنولوجيا. وفي كلا الحالين، اعتُبِرَت الثقافة، بمقدار يزيد أو ينقص، غير شرعية. لكن الثقافة والدين جزء ملازم من ستراتيجيات الإنسان للبقاء وحسن الحال. بيد أن الثقافة في عصر ما بعد الصناعة لا يمكن أن تكون مجرد إحياء لعدد من الثقافات المنقولة، من حيث إنها سوف تضطر لمجابهة طوارئ جديدة من طوارئ الحياة، الأمر الذي يعني أن عليها أن تعيد التفكير في منتجات الذهن والروح البشريين ضمن عالم متصوَّر تصوُّراً مختلفاً.

ولقد اخترت أن أدعو هذه الجملة الجديدة من نُهُج العيش، التي تحيط بالتكنولوجيا وبالثقافة وبالإيديولوجيا الجديدة، بالـالأنَسية الإيكولوجية. الأنَسية الإيكولوجية ليست تسمية جديدة لأشياء قديمة، ولا هي بمجرد دلق خمر قديمة في قَنانٍ جديدة. يجب علي أن أشير، بصفة خاصة، إلى أن الأنَسية الإيكولوجية لا تمتُّ بصلة تُذكَر للأنَسية التقليدية؛ وهي تقيم حداً فاصلاً بينها وبين الأنَسية الماركسية أو الاشتراكية، التي تدعو (إلى جانب الأنَسية الأخرى) إلى استملاك الإنسان للطبيعة.

لقد شددت الأنَسية التقليدية على نبل الكائن الإنساني، على استقلالية البشر، وبالفعل على عظمة البشر المسكوبين في القالب البروتيوسي. وهذا التصوُّر عن البشرية تَرافَق خطوة خطوة مع فكرة استملاك الطبيعة من أجل الأهداف والحاجات البشرية. وقد لاقى هذا التصوُّر عن البشرية وعن استملاك الطبيعة (أو ببساطة استعمال الطبيعة) للمصلحة البشرية، أو، بالفعل، لإرضاء البشر، استحسان ماركس.

الأنَسية الإيكولوجية قائمة على المقدمة المعكوسة. فهي تطالب باستملاك الطبيعة للبشر. علينا أن ننظر إلى البشري كجزء من مخطط للأشياء أوسع: الطبيعة والكوسموس. علينا أن نتجاوز فكرة البشري البروتيوسي (والفاوستي) ونلغيها. وإن نتائج هذا العكس بعيدة المدى للغاية، وسوف أحاول أن أعرِّج على بعضها. على مستوى أكثر عملية، تعني الأنَسية الإيكولوجية، في جملة ما تعني، الوَفْر، إعادة التصنيع، إجلال الطبيعة، التي هي حقاً ثلاثة مظاهر مختلفة للشيء نفسه.

عليَّ أن أشدد أن الأنَسية الإيكولوجية ليست مجرد تسمية مبتكَرة للقول بأننا يجب أن نكون أقل تبذيراً، إذ إنه يعني إعادة توجيه أساسية للعديد من الأشياء. إن قلة من الناس، ليس الماركسيون منها قطعاً، واعية أن الأنَسية التقليدية، القائمة على مثال البشري البروتيوسي وفكرة استملاك الطبيعة (مع القبول الضمني لكلا العلم والتكنولوجيا الراهنين) هي ببساطة غير متوافقة مع مثال التناغم بين النوع البشري وبقية الطبيعة.

دعوني الآن أبيِّن عدداً من نتائج الأنَسية الإيكولوجية. على المستوى العملي، كما سبق لي أن ذكرت، تطرح الأنَسية الإيكولوجية نوعاً جديداً من التكنولوجيا قائم على فكرة التوفير، وإعادة التصنيع، وإجلال الطبيعة. هو اقتصاد جديد، ليس فيه إجلال الطبيعة زينة زائدة، بل جزء صميمي من تصميم جديد.

على مستوى الفرد، تعني الأنَسية الإيكولوجية النضارة الداخلية بدلاً من النشاط الخارجي الذي لا يكل؛ التعاطف والتراحم، بدلاً من التنافس الذي لا يرحم؛ الفهم العميق بدلاً من مجرد تداول المعلومات.

على مستوى الثقافة برمَّتها، تعني الأنَسية الإيكولوجية انتقالاً أساسياً من اللهجة التقليدية، التي يؤكِّد فيها البشر على أنفسهم ضد الأشياء "في الخارج"، ويحاولون فرض أنفسهم على العالم، إلى اللهجة التي يتواشج فيها البشر مع الأشياء "في الخارج".

لقد بات من الواضح لكم الآن، على ما آمُل، أنه ما من تكنولوجيا جديدة تستطيع وحدها أن تقدم حلاً، وأنه ما من ثقافة يمكنها أن تقدم جواباً بحد ذاتها، وأنه ما من إيديولوجيا من شأنها أن تقدم جواباً بمفردها، بل إن كلاً منها يجب أن يصبح مظهراً من مظاهر أنموذج معياري أوسع، وبعبارة أخرى، مظهراً من مظاهر جملة جديدة من نُهُج العيش.

وفي فلك الإيديولوجيا، تشير الأنَسية الإيكولوجية نحو علاقات اجتماعية قائمة على فكرة المشاركة والخلافة، بدلاً من امتلاك الأشياء وخوض معارك مستمرة مستميتة في حروب اجتماعية مموَّهة وصريحة.

باختصار، فإن الأنَسية الإيكولوجية قائمة على صياغة جديدة للعالم قاطبة:

-       إنها ترى العالم ليس كمكان للنهب والسلب، ساحة لاقتتال المصارعين، بل كـحَرَم نسكن إليه مؤقتاً، وعلينا واجب الاعتناء به كأحسن ما يكون الاعتناء؛

-       إنها ترى البشر ليس كمستملكين وكغزاة، بل كـقوَّامين وخلفاء؛

-       إنها ترى المعرفة ليس كأداة للسيطرة على الطبيعة، بل في المقام الأخير كفنون لتهذيب النفس؛

-       إنها ترى القيم ليس في المكافِئات النقدية، بل بعبارة جوهرية كمركبة تعين الناس على فهم بعضهم بعضاً فهماً أعمق، وعلى تماسك أعمق بين الناس وبين بقية الخليقة؛

-       وترى كل ما ذُكِر أعلاه من عناصر كجزء من نُهُج جديدة للعيش.

"على بغية المرء أن تجاوِز متناوَل يده، وإلا فما فائدة السماء؟" (براوننغ)

هذا النص قادني إلى كتابة رسالة، مُعَنْوَنة أيضاً بـالأنَسية الإيكولوجية، نشرتها منشورات غرايفون في إنكلترا عام 1977. وهذه الرسالة تؤذِن أيضاً بالأفكار الرئيسية لكتاب ديفيد إهرنفِلد غطرسة الأنَسية، المنشور عام 1978.

وقد توسعت أكثر في أفكار هذه الرسالة ونشرتها ككتاب، الفلسفة الإيكولوجية: تصميم نُهُج جديدة للعيش، 1981؛ وكذلك منشورات أخرى مثل: الإنسان الإيكولوجي، 1981، "السلطة – الواقع والأوهام، تحليل فلسفي" (في بدائل: صحيفة السياسة العالمية، آذار 1983) واللاهوت الإيكولوجي: نحو دين من أجل زماننا، 1985.

لقد تبيَّن لي منذ البدء أن إعادة بناء فلسفية تسعى للإتيان بأساس فلسفي جديد لحضارتنا، وتستهدف إيجاد فلسفة جديدة، ينبغي أن تراعي في آنٍ معاً بنيان الواقع (وينبغي بالتالي أن توجِد ميتافيزياء جديدة، أو كوسمولوجيا جديدة)، والظاهرة البشرية، ومشكلة القيم. فمقابل النظرة، أو الكوسمولوجيا الآلتية إلى العالم، علينا أن نوجِد تصوُّراً جديداً للواقع، كوسمولوجيا جديدة. إن اسماً مناسباً لهذه الكوسمولوجيا هو، بالطبع، الكوسمولوجيا الإيكولوجية. والكوسمولوجيا الإيكولوجية يجب أن تسعى إلى إعادة التعريف ببنيان الكوسموس بمصطلحات جديدة. ومن هذا البنيان الإجمالي ينبغي أن يستتبع أن بنياناً تعايشياً، تشاركياً، عادلاً، ومنصفاً للعالم البشري ليس من قبيل الشذوذ، بل هو نتيجة طبيعية. (الأمر الذي نسلِّم به في فلسفاتنا الإيكولوجية، وإن يكن تسليماً غير مباشر؛ بالإصرار على المساواتية النوعية والبشرية.)

لقد سبق لي أن لخصت عدداً من معتقدات هذه الكوسمولوجيا البديلة في كتابي الفلسفة الإيكولوجية،* ومؤخراً في ورقة بعنوان "الكوسمولوجيا الإيكولوجية بوصفها أساساً لإعادة البناء الثقافية الجديدة". ولقد طرح توماس بِرِّي هذه المسألة الكوسمولوجية فعلياً طرحاً جيداً ومسهباً في كتاباته المختلفة. وهو يصر، محقاً تماماً، أن أزمتنا ليس أزمة بيئية وحسب، ليست أزمة دينية وحسب، لكنها فوق كل شيء، أزمة كوسمولوجية. فالكوسمولوجيات القديمة، المتصوَّرة تحت مظلة الأديان التقليدية والفلسفات التقليدية، قد تبيَّن بوضوح قصورها ودورها كسُتَر مقيِّدة، تعيق الطرق نفسها التي نفكر فيها في العالم.

إن أهمية البعد الكوسمولوجي لا تقدِّرها حقَّ قدرها مختلفُ مدارس الفلسفة الإيكولوجية، وهي قطعاً غير مرعيَّة حقَّ رعايتها في كتاباتهم. فالإيكولوجيا العميقة، والإيكولوجيا الاجتماعية، والنَسَوية الإيكولوجية قاصرة قطعاً بهذا الخصوص. على أني يجب أن أذكر أن هناك موجزاً خافتاً لكوسمولوجيا جديدة في بعض الكتابات الجديدة للإيكولوجيا النَسَوية، وهي تسعى إلى إعادة بناء نظرتنا إلى العالم بإعادة بَنْيَنَة واقعنا على صورة الإلهة وخصائصها، بصفاتها الأنثوية، الضامَّة، الرحمانية، والتعاونية. بيد أن هذا الموجز الخافت ليس بعد كوسمولوجيا. وهناك نوع من الكوسمولوجيا الضمنية في كتابات الفلاسفة الإيكولوجيين العميقين. بيد أنه مُضمَر فقط وليس مصرَّحاً به.

أما كوسمولوجيا موري بوكتشِن، كما هي معبَّر عنها في إيكولوجياه الاجتماعية، فإن الوضع ربما أقل إرضاء. ذلك أنه مؤمن مخلص بالدهرية. كما أنه أيضاً مؤمن عنيد بالعلم والتكنولوجيا، اللذين هما (بنظره) القوتين الرئيسيتين في التغيير والتحسين الاجتماعيين. إن قبول بوكتشِن بالدهرية، والعلم، والتكنولوجيا (بكل بركاتها)، يجعله على نحو غير مباشر يقبل جملةً بخليط المدنية العقلانية والعلمية والتكنولوجية. وبذلك فإن ما يتبقى كامناً في كتابات بوكتشِن هو بعض من العناصر الرئيسية للكوسمولوجيا الآلتية التي عفا عليها الزمن، والتي بعواقبها قد أنزلت بالعالم الطبيعي والبشري الكثير من الأذى.

4. فلسفة الإنساني والأخلاق الإيكولوجية

إن بعداً آخر لفلسفة إيكولوجية قابلة للحياة يجب أن يكون تصوُّراً جديداً للإنساني. هنا أيضاً يتناول توماس بِرِّي هذه المسألة تناولاً ممتازاً، إذ يصرُّ على ضرورة أن نعيد ابتكار فكرة الإنساني على مستوى النوع. وفي مؤلفاتي، أقترح فكرة الإنساني الإيكولوجي (الشخص الإيكولوجي قد يكون شكلاً للتعبير أكثر ملاءمة) في مقابل الإنسان الفاوستي، والإنسان التكنولوجي، والإنسان صانع الأداة، وكذلك الإنسان العقلاني.

الشخص الإيكولوجي هو مخلوق التطور. وهو ينبثق عند مفصل معين من مفاصل التطور البشري وسوف يختفي عند مفصل آخر، عندما يتخطى التطور (من خلالنا) نفسه مزيداً من التخطِّي. والشخص الإيكولوجي يعترف بالطبيعة العاتقة الضرورية للألم، للتراحم، ولمحبة الحكمة. الشخص الإيكولوجي ينظر في الشرط البشري بوصفه معرَّفاً على الأقل بالمكوِّنات الأربعة المذكورة أعلاه. وفي رسالتي في الإنسان الإيكولوجي حلَّلت هذه المكوِّنات بشيء من العمق.

لعل ما يجب التشديد عليه في زماننا هو أهمية الحكمة، وبخاصة الحكمة الإيكولوجية. الحكمة ليست حيازة جملة من المبادئ الدائمة، وهي، تالياً، ليست واجبة الوجود في الأوبنشاد، في الكتاب المقدس، في القرآن الكريم، أو في الكوميديا الإلهية لدانتي. الحكمة هي حيازة المعرفة السليمة لحالة معطاة من حالات العالم، لشروط معطاة من شروط المجتمع، لإفصاح معطى من إفصاحات الشرط البشري. فمادامت حالة العالم في تغيُّر، ومادامت شروط المجتمع في تغيُّر، ومادام الإفصاح عن المعرفة يستمر، وبالتالي، مادام الإفصاح عن الكائن البشري يتواصل، مادام العقل البشري والحساسيات البشرية تتهذب، لا نستطيع أن نعتنق بنياناً واحداً للحكمة يصلح لكل الأزمنة، بل يجب أن ننشد بنياناً مختلفاً، شكلاً مختلفاً من التوازن ملائماً لزمن مختلف معطى.

بذا فإن الحكمة هي مقولة تاريخية، ليس كجملة من الأشكال الدائمة، بل كجملة من البُنى الدينامية، ينبغي دوماً إعادة بنائها، إعادة بَنْيَنَتها، إعادة تكييفها، وإعادة الإفصاح عنها. الحكمة التطورية هي فهم كيفية تغير الشرط البشري عبر القرون والألفيَّات ودهور الزمن. وحده مثل هذا التصور عن الحكمة يمكنه أن يعين النوع في رحلته التطورية.[1] إن مفهوم الشخص الإيكولوجي ليس معالَجاً بما يكفي في أدبيات كلا الإيكولوجيا العميقة والإيكولوجيا الاجتماعية. وأهمية الحكمة الإيكولوجية كذلك ليس معترَفاً بها ومُدرَجة بما يكفي في تفكير غالبية الفلاسفة الإيكولوجيين.

إن مسألة أخرى غير موفاة حقَّها من المناقشة، أو ليس بالعمق الكافي على كل حال، هي مشكلة الأخلاق. فالقيم الإيكولوجية، بما هي تتميز عن القيم التقليدية وعن مجرد القيم البيئية، يجب أن تصاغ صياغة واضحة وتُربَط إلى مفهوم الشخص الإيكولوجي وإلى الأرضية الفلسفية للكوسمولوجيا الإيكولوجية. من الواضح أن مشكلة القيم مشكلة صعبة بنظر الفلاسفة الإيكولوجيين. فهم لا يريدون الأخذ بأخلاق ظرفية ولاسيما بالنسبوية؛ فعندئذٍ (إذا تُرِكَت الأخلاق للتعيين الذاتي للأفراد) سوف يُعطى الذين يريدون استغلال المساكن الطبيعية ونهبها الإجازة للقيام بذلك. ومن جانب آخر، فإن الفلاسفة الإيكولوجيين، وخصوصاً الإيكولوجيين الاجتماعيين منهم، يحذِّرون من مغبة قبول أية قيم مطلقة أو موضوعية، من حيث إن هذا يصفع الدين البالي. لذا فإنهم عادة يجتنبون الإجابات القطعية ويأخذون بنوع من القيم البيئية–الأداتية: يجب أن نحافظ على البيئات لأنها، على المدى الطويل، تغذِّينا. وجلِّي أن هذا ليس بالأخلاق الإيكولوجية المُرضية فلسفياً.

ولقد توفَّرتُ على هذه المشكلة من قبل،[2] وبما أنها هامة، فإني سأتوفر عليها من جديد. إذا شئنا أن ننشئ أخلاقاً إيكولوجية كجزء لا يتجزأ من النظرة الإيكولوجية إلى العالم، علينا أن نقبل بنواة من القيم الجوهرية. فإذا اعتبرنا الكوكب مقدساً، أي ذا قيمة جوهرية، وإذا اعتبرنا الأنواع الأخرى مساوية للبشر (وإذا اعتبرنا البشر مقدسين، أي ذوي قيمة جوهرية)، فإن إجلالاً للحياة في كل تجلِّياتها يجب أن ينبثق كقيمة جوهرية من قيم الأخلاق الإيكولوجية.

ليس لزاماً أن يعرَّف بالقيم الجوهرية بوصفها مطلقة أو موضوعية. غير أنها عالمية تشمل النوع في زمن معطى – باعتبار قيودنا الحالية وإلزامات نجاتنا الحالية والرغبة في حياة ذات معنى. أودُّ أن أعارض مزاعم بيرد كاليكوت، وسواه، ممَّن يزعمون أن المقصود من صيغة "س قيِّم جوهرياً" أن تكون زعماً أونطولوجياً عن س، أي أن تُتَّخَذ زعماً يخص الطبيعة الماهوية لكون الشيء س، أي واقعة تخص س مستقلة عن واعيتنا المقوِّمة. وهذا، بنظري، غلط، من حيث إنه يقود إلى الأفلاطونية، أي إلى طلب مُثُل مطلقة (في واقع مطلق ما) ملازمة لقيمنا. القيم لا تكمن في الموضوعات، بل في واعيتنا. لهذا السبب فإنها لا تقبل التبرير بالرجوع إلى الموضوعات، بل بالرجوع إلى الواعية الإنسانية. ولأشدِّد هنا أن المزاعم القيمية ليست مزاعم أونطولوجية، بل أكسيولوجية [خاصة بعلم الفضائل]. بذا فإن تبريرها ليس جسمانياً، ولا طبيعانياً، ولا أونطولوجياً، بل هو فينومينولوجي، من حيث إنه مؤسَّس على واعيتنا الأكسيولوجية.

فليُسمَح لي بأن أشرح هذه النقطة، باعتبارها ذات أهمية لا يستهان بها في الجدل الخُلُقي لزماننا برمَّته. أظن أنه منذ صدور المبادئ الأخلاقية لـج. إ. مور عالم 1903، اتخذت فلسفتُنا مساراً مغلوطاً. أو بالحري، فإننا قد تبعنا الدرب التحليلي وكأنه الدرب الأخلاقي.

لقد كان مور مفكراً داهية، كما هو معلوم، ماهراً بخاصة في فضح مختلف ضروب الزيف في المحاججة الخُلُقية. بيد أنه من منظورنا للزمن، يبدو أن فلسفته الخُلُقية برمَّتها تتأسَّس على زيف اللبس بين البصيرة الخُلُقية والبصيرة اللغوية. ولقد وقعت الفلسفة التحليلية منذ مور في هذا الزيف. فقد افترضنا (بسذاجة) أن الاستقصاء التحليلي للمفاهيم الخُلُقية سوف يقود بحدِّ ذاته لمناقبية صحيحة. بيد أن المناقبية والتحليل أمران مختلفان.

لنأخذ على ذلك مثالاً بسيطاً. إذا قلت لطفل صغير أو لشخص بسيط غير متعلِّم: "لا تقتل"، قد يسأل: "لماذا؟" فأجيبه عندئذٍ: "لأن كل الكائنات لها الحق في أن تعيش." ولسوف يفهم، ليس لأنه يفهم تحليلي، بل لأنه يفهم طبيعة بصيرتي الخُلُقية. لدى كلٍّ منَّا، في داخله، الحسُّ الخُلُقي. فعندما يُنشِّط هذا الحسُّ الخُلُقي مبدأً يمسُّ نواة أخوَّتنا مع الكائنات الأخرى، أو يضيء لنا فكرة العدالة، فإن البصيرة الخُلُقية تتبع. وهذا يحدث في عمر مبكر، وكذلك في العقول "البدائية" المزعومة. من جهة أخرى، فإن استقصاءً تحليلياً معقَّداً للمفاهيم الخُلُقية الأساسية، ينهض له عقل منطقي ألمعي، قد لا يتمخض عن أية بصيرة خُلُقية على الإطلاق، ولاسيما إذا كان العقل عديم الحساسية، يتأكَّله التشكيك والعدمية. لذا فإن الأمرين – البصيرة الخُلُقية والبصيرة التحليلية – متمايزان كل التمايُز. وهذا بيِّن في زماننا بصورة خاصة. فنحن – وبخاصة الشباب منَّا – مثقَلون تماماً بالاستقصاء التحليلي للمفاهيم الخُلُقية، فيما نحن نعدَم أي مرشدين خُلُقيين نتقيد بهم.

لقد انبثقت الأخلاق، كجزء من الثقافات الإنسانية، بالدقة عند النقطة التي تقبَّل فيها الإنسان البدئي البصيرة الخُلُقية كجزء من الخاصية التعريفية للشخص الإنساني. البصيرة الخُلُقية تقع في مجال الوعي الأكسيولجي. إننا مجبولون بحيث إن بعض الأمور صحيح وبعضها الآخر خاطئ – بنظرنا بوصفنا عمَّالاً أخلاقيين، وهذا بصرف النظر عن المصاعب التحليلية التي قد نصادفها لدى التعريف بمصطلحَيْ "صحيح" و"خاطئ"؛ وهذه المصاعب أظْهَرُ للفلاسفة منها للناس "السُذَّج" المزعومين. وليُسمَح لي بأن أشدد على أننا إذا لم نقبل بفكرة الوعي الأكسيولوجي، كوعي مقوِّم، لن يكون بمقدورنا أن ننجح في أي استقصاء تحليلي للمفاهيم الخُلُقية. إن الاستقصاء التحليلي للـ"صحيح" والـ"خاطئ" يفترض مسبقاً وجود الوعي الأكسيولوجي . أي أن الوعي الأكسيولوجي سابق للوعي التحليلي. إذا انعدم الوعي الإنساني، انعدمت القيم – جوهرية كانت أم غير ذلك.

هذا الموقف الذي يؤكد أن القيم تكمن في الوعي الإنساني هو أيضاً موقف يؤكد عدم وجود قيم جوهرية فيما يتعدَّى وعينا – كجنس من نوع خاص وبالاستقلال عنه. وللننتبه أن هذا ليس تعبيراً عن الذاتانية. فإن قيمنا الجوهرية خاصة بنوعنا. وهي بهذا المعنى بالذات داخلذاتية أو عبرذاتية. وبالفعل فإن اختصاصها النوعي يحول بينها وبين أن تكون شخصية أو ذاتية. إنما لا حاجة إلى إعلانها موضوعية أو مطلقة – اللهم إلا إذا كنَّا أفلاطونيين أو من أتباع النظرة الدينية إلى العالم، التي يضع فيها الله أو الكتب المقدسة قيمتي الخير والشر.

ولأشدِّد أيضاً أن من الممكن والمبرَّر التعريف بالقيم الإيكولوجية بوصفها جوهرية، بدون الوقوع في أي من شِركَيْ الإطلاقية أو الذاتانية. إن وعينا الأكسيولوجي، الخاص بنوعنا، والعبرذاتي، بالتالي، هو الضامِن للخاصية الجوهرية لقيمنا، وبمعنى ما لعالمية هذه القيم. وهذه العالمية محدودة بنوع معطى.

في فلسفة إيكولوجية متَّسقة، حسنة النمو، يكون كلٌّ من هذه العناصر الثلاثة، الكوسمولوجيا–مفهوم الإنسانية–القيم، مظهراً للعنصرين الآخرين. نحن في حاجة لصوغ منظومة للقيم ومفهوم عن الإنساني يتلاءمان تلاؤماً متَّسقاً مع صورة الكون الجلالي الذي نعمل فيه على نحو تشاركي.

لعلِّي أقترح بنياناً مغالياً في الأناقة. ولعلَّ النظرة إلى العالم المستقبلية ستكون فضفاضة أكثر من حيث خاصيَّتُها، وأكثر اعتباطية. لكننا إذا أجزنا من الاعتباطية والنسبوية أكثر مما ينبغي فإننا سنفقد كل شيء: عندئذٍ سوف يحاجِج الإنسان الجشع، الطائش، وغير المستنير، بأن طُرُقه الكسولة، الاستهلاكية، تماثل الطرق الوَفْرية والإيكولوجية جودة، إذ إن كل شيء اعتباطي وكل شيء نسبي. لذا فإن النظرة الإيكولوجية إلى العالم، التي سوف تضع أساساً متماسكاً وقابلاً للحياة للنوع بأسره، لا يمكن أن يكون قضية اعتباط. فالكون نفسه، وكذلك المساكن الإيكولوجية، وبنيان حياتنا نفسه (إذا كانت ذات معنى ومتَّسقة)، كلُّها تقتضي قيوداً نوعية كثيراً ما تكون صارمة. وإن الاعتراف بهذه القيود هو الحكمة الإيكولوجية. والبناء على هذه القيود هو جزء من النعمة الإيكولوجية والنضارة الإيكولوجية.

إن الطاو الأخضر في انبثاق بطيء. ففي غضون الأسبوع نفسه، في نهاية أيلول 1988، أعلنت رئيسة الوزراء مارغرت تاتشر اهتداءها للمذهب البيئي، واقترح وزير الخارجية السوفييي إدوارد شِفَرنادزه، بالنيابة عن الاتحاد السوفييتي، تشكيل المجلس الإيكولوجي العالمي للاضطلاع بالوصاية على البيئة الكوكبية. كلا هذين الحدثين بشير بالخير. إن روح العصر قد بدأ، ربما، بالنطق من خلالنا جميعاً. وعلى كرِّ الزمن، سوف يُدعى الكثيرون منا إلى تقديم النصح لجماعات الناس، وحتى للحكومات، بخصوص قضايا بيئية، إيكولوجية، وأخلاقية. ينبغي أن نكون مستعدين للخدمة، إذ إن زمن الوعي الإيكولوجي ينبثق.

أذيِّل هذه الورقة باقتراح تنظيم مؤتمر في وقت ما من عام 1990 يستطيع فيه الممثِّلون عن المدارس المختلفة للفلسفة الإيكولوجية التصريح بمواقفهم وتوضيحها. وفوق كل شيء، من أجل صوغ الأرضية المشتركة التي توحِّد الفروع المتنوعة للفلسفة الإيكولوجية، والإيكولوجيا العميقة، والإيكولوجيا الاجتماعية، أو أية تسميات تودُّون إطلاقها على فلسفة زماننا الجديدة التي تقدِّم هندسة الطاو الأخضر.

*** *** ***


* صدرت الطبعة العربية الأولى منه، المزيدة عن الطبعة الإنكليزية الأولى، بعنوان فلسفة البيئة، بترجمة ديمتري أفييرينوس وتقديم م. فايز فوق العادة، سلسلة أبجدية المعرفة 5، دار الأبجدية، دمشق 1992.

[1] للمزيد من المناقشة أنظر فصل "الإنسان البيئوي" من الترجمة العربية الآنفة الذكر، وكذلك هنريك سكوليموفسكي، الفصل السابع من التكنولوجيا ومصير الإنسان، جامعة مدراس، 1983.

[2] أنظر بخاصة: "دفاعاً عن الفلسفة الإيكولوجية وعن القيم الجوهرية"، ذي ترامبيتر، الجزء 3، رقم 4، خريف 1986.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود