english arabic

العالم بأسره يحتاج إلى العالم بأسره

تأسيس إطار لحوار الحضارات

 

 

عبد العزيز سعيد*

 

مقدمة: الوحدة، التنوع، والأمل

إننا نعيش في عالم انهارت حدودُه، كما انهارت مفاهيمُنا التقليدية عن الزمان والمكان والمسافات. الثقافات والمجتمعات ينفتح بعضُها على بعض ويتفاعل بعضُها مع بعض على نحو غير مسبوق نتيجة للثورات في المعلومات؛ وإننا نكتشف بشكل متزايد بأن مصير كلٍّ منا ومستقبله يعتمد اعتمادًا متعاظمًا على مصير ومستقبل الآخر، مما يجعل التفاهم والاحترام والتعاون قضايا جوهرية لتحقيق الأوجُه الإيجابية لتواكلنا المتنامي. إن قدرتنا المتعاظمة على التعلم واطلاعنا الأوسع على "الأجنبي" يمثل نموًّا قويًّا في المعرفة ويشير إلى نقطة انعطاف في الحضارة الإنسانية.

أطلقت ثورة المعلومات هذه نزعتين في العالم متناقضتين: نزعة محلية متزايدة، تقود إلى تأكيد الذات وتعزيز كل ثقافة لتقاليدها، والعولمة التي تحيط بالتنوُّع العارم للتعبيرات البشرية. وهذا السياق يعرِّف بطبيعة اتصالنا بمعنى أوسع: فمن خلال هذا الوعي المتزايد لتنوُّعنا تكمن وحدتنا التي لا ريب فيها: إنسانيتنا وقيمنا وحاجاتنا المشتركة. الأمر متروك لنا، في هذه اللحظة الحاسمة من تاريخنا المشترك، لكي نحدِّد كيفية معرفتنا واتصالنا بعضنا ببعض، وكيفية تعريفنا بعلاقتنا والاستفادة منها، وكيفية التكيف معًا مع التنوع الزاخر لمجتمعنا الإنساني الشامل. الحوار، كأنموذج جديد في العلاقات الدولية، يقوم على تقاسُم المعرفة من أجل الوصول إلى معرفة جديدة، على رؤية بعضنا بعضًا بعيون جديدة، وفي ضوء جديد، وعلى النظر معًا إلى مستقبل مشترك في مجتمع عالمي من أجل جعل العالم أمينًا على تنوعه.

لماذا حوار الحضارات؟

تقوم الحاجة إلى حوار بين الحضارات على الاعتراف بأن واقعنا المتغير يتطلب منظومة أخلاقية عالمية جديدة وإدراكًا جديدًا لبعضنا بعضًا. اثنتان من أقوى حضارات العالم تعارفتا كخصمين وفرسي رهان شديد طوال انبساط خيال كليهما وذاكرته التاريخية.

إن الجذور الثقافية المشتركة التي تربط الإسلام بالغرب مرارًا ما تنسى. ومع أن الآراء التي طُرِحَتْ مؤخرًا (وغالبًا ما أسيء فهمها) فيما يتعلق بـ"صدام الحضارات" تضع الإسلام خارج الاستمرارية الثقافية اليهودية المسيحية والهلنستية فإن العكس في الواقع هو الصحيح. إن الحضارة الإسلامية الكلاسيَّة بُنيت بلبنات الثقافات العربية والكتابية والإغريقية، لكنها طرحتْ شبكة أوسع بضمِّها مكوِّناتٍ فارسية وآسيوية وسطى وهندية في بنيتها الثقافية. الإسلام، تاريخيًّا، هو الجسر الحقيقي بين الغرب والشرق.

رغم ذلك، مع اتِّباع كل حضارة مسارًا تاريخيًّا خاصًا بها ومواجهتها الحضارة الأخرى كخصم في سياسة القوة التنافسية، عفَّتْ كلٌّ منهما عن الأخرى لتخوض صراعات داخلية اختزلتْ الآخر إلى صور سكونية لـ"آخرين" مهدِّدين ونائيين. يعمل المرض النفسي على مستوى الرموز لكي يولِّد نظامًا جديدًا من المعاني، منفصلاً عن المفاهيم المادية أو الروحية الأعم، ويقتات بالحاجة لمعالجة اليأس من خلال الخوف. هذه الصور المبسطة أجازت قيام علاقة جديدة تتأسس على القوة والسيطرة. إن انكفاء أية جماعة على "غيتو" ثقافي، سواء كانت هذه الجماعة مسلمة، يهودية، مسيحية، بوذية، أو هندوسية، لا يتنكَّر للتنوع الثَّر للتجربة الثقافية الحديثة وحسب، بل يرفض كذلك المسؤولية عن الأجيال القادمة. الانكفاء هو أحد وجهَيْ الأصولية، أو هو الداء الثقافي الذي ينشأ عندما تتخذ جماعةٌ جملةً من الأركان الأساسية لثقافة معينة وتستعملها، إما لتعتزل الآخرين وإما للحفاظ على سيطرتها، إما تحت ضغط عامل انعدام الأمان (كما هي الحال بالنسبة لمسلمي اليوم) وإما من خلال السعي إلى الهيمنة والأمن المطلق (كما في حالة الغرب).

اليوم لم تعد علاقاتٌ كهذه والصورُ التي انبنتْ عليها قابلةً للحياة والاستمرار. بدلاً من ذلك، وفي حين يسعى كلٌّ منَّا إلى إيجاد مكانه وهويته في عالم مُعَوْلَم، نكتشف أن لدى كلٍّ منَّا أجوبةً على المسائل التي يطرحها الآخر منذ وقت طويل. الحوار هو المفتاح لاكتشاف هذه "الكنوز المكنونة". وحالما نتمكن من كشف أسرار التواصل الفعال ونخترق جدران سوء الفهم وانعدام الثقة، يصير بوسعنا أن نجمع هذه التبصُّرات القيِّمة والدروس والفرص التي تغنينا معًا.

إن الإسلام والغرب اليوم منعزلان واحدهما عن الآخر بشكل ينذر بالخطر، وقد أدى سوء الفهم وانعدام الثقة إلى فرقة تتعمَّق. ولقد تدهورت هذه العلاقة منذ أن نادى الرئيس محمد خاتمي في العام 1998 إلى حوار بين الحضارات، أساسًا لأننا لم نتعلم بعدُ كيف نتحاور وماذا نأمل في إنجازه من خلال الحوار. لقد أعلنت الأمم المتحدة العام 2001 عام الحوار الحضاراتي، والمآسي الراهنة المتفاقمة التي تعاني منها كلا الحضارتين تشدد على الحاجة الملحَّة إلى تذهُّن وسائل التواصل الفعال بين الثقافات وبين الأديان.

الأنموذج القديم

في كل حالات الصراع، يقوم الأفراد المتوترون برد فعل يتمثل في اختزال معتقداتهم إلى نظام عملي صغير ليتمكنوا من القتال ومن حماية أنفسهم، متخذين جمودًا وموقفًا دفاعيًّا يوصد ضمنيًّا إمكانية سماع الآخرين والتواصل معهم. أما إذا توفرت النية، فإن الصراعات يمكن أن تفسح مجالاً للتفاهم والتعاون أو للاحترام المتبادل على أقل تقدير. والأهم هو أن الغرب والإسلام يجب أن ينأيا بنفسيهما عن المواقف الانفعالية والمناورات الاستراتيجية بعضهما تجاه بعض؛ وهذا يمكن أن يبدأ فقط عند التوصل إلى الالتزام بحوار مستمر وذي معنى.

الإسلام ليس عدو الغرب

الإسلام ليس عدو الغرب. ثمة اعتقاد يتلكأ ساريًا في الغرب بأن القيم الإسلامية هي بطبيعتها غير متساوقة مع المثل والغايات الغربية. بيد أن الغرب لا يسمع إلا الأصوات الأصخب، وهي الأصوات التي ترفضهم وتحتقرهم صراحة. إنهم يرون الغضب فقط في العالم الإسلامي والعربي، مما يدفعهم إلى الانكفاء إلى حالة دفاعية، متجاهلين الأسباب التي تؤجج هذه المشاعر. ويصير من الأيسر تصديق أن المعتقدات غير قابلة للتصالُح أو لاعقلانية عندما تتعزز بصور السخط هذه التي تنشرها وسائل إعلام تفتش عن الإثارة وتزدهر على صور كهذه. لقد دأبت وسائل الإعلام الأمريكية على تصوير العالم الإسلامي (والجماعات المختلفة فيه) من خلال عدسة التطرف والإرهاب – إلى حدِّ أن أولئك الذين يحاولون نفي فكرة "التهديد الإسلامي" يسهمون دون قصد بتعزيز متعارِضَة "المسلم الجيد (أو العلماني، المعتدل، والمؤيد للغرب)" مقابل "المسلم السيئ (أو المتشدد)". وبدلاً من أخذهم الانتقادات التي يبديها باحثون عرب ومسلمون لموقف الغرب حيال الشرق الأوسط على محمل الجد، فضَّل العديد من الكتَّاب الغربيين فرز خيوط الكراهية واللاعقلانية والخوف التي يتم التعبير عنها من خلال الخطاب الديني، معززين بذلك مفاهيم "الآخرية" والدونية والحاجة إلى السيطرة العدوانية. وحتى حكومات العديد من الدول الإسلامية تقع في شراك هذه المتعارِضَة، خصوصًا عندما تحاول الحصول على دعم اقتصادي أو عسكري من الولايات المتحدة.

وهكذا يتم اختزال العالم الإسلامي إلى شكل، إلى صورة – صورة تبدو في جوهرها مناوئة للغرب. وهكذا فإن الغرب ينفر من "كل شيء إسلامي"، ويُسقِط صورةً عن نفسه تتمثل في المَنَعَة والتفوق، ويضخِّم قوته المادية بالسلطة الأخلاقية. يصبح الحوار وسيلة لكمِّ صوت "الآخر" المستاء، لـ"إدارة" الصراع بدلاً من حلِّه، ولإقناع "الآخر" بصحَّة مواقفه الحالية. وهذه، على أية حال، منازعات تفجيرية تهدف إلى انتزاع الشرعية من الآخرين، وليست حوارات تهدف إلى الفهم والاحترام المتبادل.

بدلاً من ذلك، فإن الإطار لحوار ديناميٍّ يعم بالفائدة على الطرفين يتمثل في أن نجلب إلى الطاولة أفضل شيء يمكن لحضارتينا أن تقدماه للعالم، وكيف تساعد هذه الإسهامات في تحقيق ازدهار أكبر لمجتمعينا اللذين ينظر واحدهما إلى الآخر كشريك معنوي مساوٍ في بناء المجتمع الدولي. حينئذٍ فقط يمكننا أن نتنافس في فعل الخير وفي خدمتنا للإنسانية. وهنا فقط نُظهِر حقيقتنا، جوهرنا، جمالنا، وعظمتنا، وبفعل هذا نجد مكاننا في الخطة التي رسمها الخالق للإنسانية.

الغرب ليس عدو الإسلام

وبالمثل فإن الغرب ليس عدو الإسلام. ففي حين قد يعاني الغرب من شعور بالانتصار الثقافي في الداخل والخارج فإن منجزات الحضارة الغربية التي تحققت بعد لأيٍ ليست منسجمة مع القيم الإسلامية وحسب، بل يمكن أن تدعم المجتمع الإسلامي وتعززه. إن احترام الغرب للفردية والحرية السياسية، والتزامه بالمسؤولية السياسية والتعددية الديموقراطية، يمثل بعض أفضل ما يمكن للغرب أن يقدمه للعالم. ينبغي على المسلمين ألا يشعروا بانعدام الثقة والأمان إلى درجة أن يعتقدوا أنهم إما أن يعكسوا الغرب أو أن يرفضوه، أو أن من شأن منجزات حضارة معينة أن تُبرِز إخفاقات الآخرين، ليس إلا.

قد يكون الفضول الحقيقي لاستكشاف التجربة الغربية والتفكير الجاد في أسباب قوة الغرب ضروريًا للانتقال بالمجتمع الإسلامي من حال الانطواء والعزلة المؤلمة إلى مرحلة جديدة من البناء الواثق والشامل لنظام اجتماعي عادل ومسالم.

لقد ولَّدت تجربة الحروب الدينية والاستعمار تشكيكًا عميقًا في دوافع الغرب وأهدافه، في حين أن الصور التي يتلقاها العرب والمسلمون عن الغرب، من خلال التلفزيون وأفلام السينما، وكذلك من الصور التي تصف المعاناة الرهيبة التي يلقاها العرب والمسلمون على أيدي غير المسلمين، ولَّدت ردَّ فعل مركَّب يشتمل على الدفاعية والسخط الأخلاقي. إن العجز عن تحدي السياسات الجائرة تحدِّيًا ناجحًا، والخوف من أن القيم الأجنبية ستحرض المسلمين على الانحراف عن عقيدتهم قد أوصدت إمكانية الاستماع إلى ما يحاول الغرب قوله.

ماذا نجني من الحوار؟

بدلاً من ذلك، يمكن لكلا الطرفين أن يبتعد عن الصور والرموز واتخاذ المواقف العدائية. إن الارتباط والالتزام بهذه الأشكال يقوِّض القصد من الحوار ويبقينا غرباء جاهلين بعضنا بعضًا.

إن تطوير سيرورة التواصل هو مفتاح تجاوز هذه الذاتية العميقة، وهو ما ينطوي على الاستماع الفعَّال والالتزام بالحوار الدائم، وليس الاندفاع لحصد المكافآت المباشرة والتحول والفهم الآنيين، بل بالأحرى تعلُّم كيفية تبليغ كلٍّ من الطرفين اهتماماتهما المشتركة. بهذه الطريقة يمكن أن نكتشف، كما يمكن أن نخلق، معاني مشتركة وأن نجد أرضية واحدة، إضافة إلى تحقيق فهم أفضل لقيمنا ونحن نتعرض لتحدي المشاركة بها بطريقة جديدة.

وخصوصًا عندما يتعلق الأمر بتقاليد المعتقدات، هناك نزعة قوية لأن تتم مقارنة مُثل دين معين بوقائع دين آخر. رغم ذلك يمكن لهذا أن يشكل نقطة إنارة وتوضيح هامة وأن ينتج معاني جديدة. فحيث تؤمن المسيحية إيمانًا قويًّا بفضائل السلام وأهميته، على سبيل المثال، تصوَّر الإسلامُ مفهومًا مختلفًا عن السلام: في الإسلام نعرِّف السلام بأنه "حضور" – حضور العدل، الرفاه، الاندماج الاجتماعي، والتناغم؛ في حين أن الغرب يفهم السلام على أنه "غياب": غياب الانتهاكات الفظة لحقوق الإنسان، غياب العنف أو التشدد. وبفهم المعاني التي نربطها إلى قيمنا يمكن أن نوسِّعها لتشمل حكمتنا بطرق يمكن أن تضيف وأن تطوِّر الآخر في اتجاهات إيجابية. يمكن عندئذٍ أن نفهم معًا بأن السلام لا ينفصل عن العدالة وعن مجتمع معافى ونابض بالحياة. ومن خلال الحساسية والثقة في نوايا الآخرين وفي مساواتهم الأخلاقي لنا يمكن للحوار أن يحوِّل علاقاتنا وإدراكنا بعضنا بعضًا، بطريقة تدريجية تنطوي على الاحترام، وفي غضون ذلك، أن يعيد تأسيس الصلة بين أكثر مثلنا نفاسة. أما الدفاعية التي تصرُّ على أن أحد الطرفين على باطل والآخر على حق فلا يمكن إلا أن توسع المسافة وتعمِّق شقة الخلاف فيما بيننا. بدلاً من ذلك يمكننا أن نبدأ قريبًا برؤية أن قيمنا ومثلنا يكمِّل بعضها بعضًا ويغنيه، ويمكن أن تدفع كلاً منا قُدُمًا إلى الأمام. هذه علة الاختلاف: أن يعرف أحدنا الآخر، وأن نتحسَّن من خلال هذه العملية.

وهكذا فإن الحوار يتضمن إزاحة افتراضاتنا المسبقة بما يسمح لنا بإدراك أن إنجازات حضارة معينة لا تعني أن حضارة أخرى أقل شأنًا، بل أن علينا أن نواجه تحدي تكييف هذه الدروس مع ظروفنا الخاصة. يمكن للغرب أن يقدم الكثير للعالم الإسلامي في مجال تعزيز البناء المؤسَّسي للديموقراطية والتربية والتنمية. كما يمكن للإسلام، بالمقابل، أن يقدم للغرب إنجازاته وتبصُّراته في مجال "الأمة" والروحانية والتنوع.

الديموقراطية

خرج الغرب، بعد سنوات من التفكير العميق والقلق والصراع الوجودي حول نظام معتقداته، بدروس وإنجازات حققها بعد عناء كبير في مجال التعايش السياسي. وبصمِّ آذاننا عن هذه الإنجازات فإننا نضيِّع فرصة للتصدي لواحد من أهم تحديات الحداثة طبقًا لظروفنا الخاصة. ليس المطلوب من المسلمين التوصل إلى نفس الاستنتاجات التي تبناها المسيحيون فيما يتعلق بمعتقداتهم، ولا يحتاجون لفعل ذلك لكي يطوروا استجابة إسلامية أصيلة للتمكين السياسي. ثمة حاجة ماسَّة في العالمين الإسلامي والعربي لاستدماج واعٍ لمفاهيم الشخص والمواطن والمسلم. وهذا يتطلب البحث عن الحقيقة في التراث والسياقات الإسلامية انطلاقًا من مستوى الفرد. لقد خرجت المسيحية بربط قوي للسلوك الشخصي إلى المواطَنة والقيم الاجتماعية، في حين يقف المسلمون اليوم على عتبة اكتشاف الالتزامات والمعاني التي ينطوي عليها مفهوم المواطَنة في الإسلام.

الإسلام والديموقراطية ليسا مفهومين غير قابلين للتساوق. فالمؤسَّسات الاجتماعية الإسلامية أكثر ديناميَّة وتنوعًا مما يُظَنُّ، وهي تقدم الأساس لمساهمة أصيلة على المستويين الاجتماعي والسياسي. يجب على المجتمع الإسلامي نفسه اكتشاف كيف يمكن لهذا الاندماج أن ينطبق على الحياة المعاصرة، ومن خلال هذه العملية استنباط طرق أصيلة لتطبيق الوصايا الإسلامية في ظل ظروف اجتماعية متغيرة. للمسلمين الحق في المشاركة في تفتح مجتمعهم وتوجيهه، في نفس الوقت الذي يستنبطون فيه قيمهم وشروطهم ضمن استمراريَّة سياق الإسلام. الديموقراطية ليست مبنية على نوع معين من المؤسسات الانتخابية، بل على المشاركة الحقيقية. وفي هذا الصدد هناك وصايا ديموقراطية في الإسلام، كما في الأديان الأخرى، تشتمل على الحفاظ على المجتمع وتنميته في آنٍ معًا، إضافة إلى آليات العدالة الاجتماعية والشورى. الديموقراطية ليست منتجًا غربيًا، بل هي عملية عالمية لتنظيم الحاجات السياسية على أساس من المساواة؛ وهي، في نفس الوقت، زهرة محلية رقيقة يمكن أن تزدهر فقط عندما تكون متجذرة عميقًا في أحلام الغالبية العظمى من الأمة وآمالهم.

على المسلمين أن يسألوا، على سبيل المثال، أيَّ نوع من المواطنين يمكن للإسلام أن يخلق في ظل القيم والسياقات الإسلامية؟ وأيَّ نوع من الحلول يمكن للإسلام أن يقدم لصناعة القرار المبنية على المشاركة في غياب التوجيه السلطوي في المسائل الاجتماعية؟ وأيَّ القيم الإسلامية والآليات الاجتماعية يمكن استجلابها من أجل تخفيف الظروف الصعبة للحياة المدينية الحديثة؟ إن ازدهار الفرد كمواطن في المجتمع الإسلامي يمكن أن يوحي بسبل جديدة للمعنى والمؤسَّسات من شأنها أن تؤكد على الثوابت الإسلامية وتقوِّيها.

يمكن للحوار أن ينأى بنا عن التمسك المتزمت بالشكل وعن اتخاذ المواقع الدفاعية وأن يقرِّبنا من تشجيع تبادل الأفكار حول كيفية استيعاب حضارة معينة للدروس المستقاة من حضارة أخرى على الوجه السليم. وبالقيام بذلك يمكن إجراء تحسينات عندما يُسمَح للإبداع بأن يزدهر من خلال تفاعل دينامي. وفي هذه الأثناء فإن الغرب يبدي المزيد من التعطش للروحانية والمعنى المطلق، وقد التفت إلى إنسانيين مسلمين وعرب من أمثال محي الدين بن عربي، وجلال الدين الرومي، وجبران خليل جبران، وأمين الريحاني، ممَّن أصبحت كتبهم من أكثر الكتب مبيعًا في أمريكا. وفي حين يصارع الأمريكيون، على وجه الخصوص، لحلِّ معضلة التنوع الثقافي، ثمة فرص للتعلُّم من الجانب المؤكِّد على الحياة في الوصايا الإسلامية ومن تجربته الهامة في التعايش الثقافي. وثمة مساحة لإعادة اكتشاف الإسهامات الإسلامية الواسعة في الفلسفة والعلوم الغربية والفحوى الروحية والترابط، وهي مفاهيم أضعف قيمتَها اللهاثُ وراء التقدم المادي.

ثمة فرصة حقيقية هنا لقيادة تنشأ من الحوار. التحدي الذي يواجه الغربَ اليوم هو أن يكون في مستوى تراثه الليبرالي، الذي يتطلب الانفتاح الدائم على تجلِّيات جديدة للحقيقة. والتحدي الذي يواجه المسلمين اليوم يكمن في توسيع الأفكار الأصيلة للإسلام، وفي إظهار رغبة في استكشاف التجارب والمنجزات التاريخية للغرب. أين هم في العالم الإسلامي أمثال "لورانس العرب" ممَّن ينشدون اكتشاف الرؤية الغربية المسيحية للعالم ومعرفتها؟ ما هو سبب ندرة البحوث التي يقوم بها الباحثون المسلمون في مجال المنظور المسيحي للتجربة الغربية أو في أدبيات الكنيسة الكاثوليكية، أو في الاجتهادات المسيحية لإيجاد معنى ديني في السياسة؟ يمكن للمسلمين أن يكتسبوا في هذه المرحلة الكثير من التبصُّرات من التجارب السياسية التاريخية للمسيحية، لأنها ظهرت في وقت ساد فيه الاضطهاد والظلم والاحتلال. كيف أمكن لهذه الدرب أن تتلاءم مع مثل تلك الظروف، أن تنظم مجتمعهم، وأن تتخطاهم؟

التربية

أصبح يُنظَر إلى "التربية" بشكل متزايد على أنها تمرين مجتمعي حواري في "البراكسيولوجيا" – وهو الفن (العلم) الذي يركِّز على العيش في حالة التوتر بين التفكُّر والممارسة. في تمرين كهذا يتم، من خلال الحوار، اختبارُ فكر كلِّ شخص وخبرته ويُنظَر إلى كلِّ شخص على أنه متعلِّم وأنه في مرحلة "تفتح". مفهوم كهذا للتربية ينزع السلطة الزائفة عن المعلِّم لكنه يعيد إليه إنسانيته.

إن نوع التربية الذي يحتاجه العالم المعاصر هو ذاك الذي يخترع ويبدع باستمرار حلولاً جديدة لمشاكل العالم الكبيرة والمتفاقمة. وهذا لا يمكن القيام به إلا بتوسيع العملية التربوية التي يجب أن تصبح أكثر حوارية وانفتاحًا وأقل أبوية وتركيزًا على الماضي. لا بدَّ من تجاوز النظام الطائفي في التربية إذا كان لأيِّ حوار حقيقي أن ينشأ، وإذا كان لأيِّ ديالكتيك مبني على التساوي وتراكم التجارب أن يتم. فكما في التراث الصوفي، من الضروري تذكير أنفسنا، وتذكير بعضنا بعضًا، على الدوام، بأن الحياة هي مسيرة تعلُّم، وأننا مطالبون بشكل دائم بأن نوقظ أنفسنا وبعضنا بعضًا على البحث عن الحرية، عن الحقيقة، عن الجمال، وعن الإبداع.

التنمية

إن كلمة "تنمية"، شأنها شأن كلمة "تربية"، قد تطورت استجابة للوعي الصاعد في الجنوب العالمي، لكنها، حتى الآن، لم تستطع مواكبة تطلعات أغلبية الناس ووعيهم. وأيضًا، كحال كلمة "تربية"، فإن كلمة "تنمية" ما تزال تُستعمَل دومًا طبقًا لرغبات "المؤسَّسة" (افهم: الجهات التي تتحكم بالنظام الغربي) في محاولة "للقيام بالثورة قبل أن يقوم بها الناس"، على حدِّ عبارة مشهورة لسياسي برازيلي من الجيل السابق.

لقد اتسع تعريف التنمية بشكل متزايد ليشمل أشياء أكثر بكثير من مجرد النمو الاقتصادي. هناك في الواقع إقرار عام بأنه بدلاً من أن تكون التنمية عملية حيادية وغير مرئية أصبحت التنمية تُفهَم على أنها نتيجة لخيارات واعية من أجل الارتقاء بالإنسان. وبدلاً من التركيز الضيق على النمو الاقتصادي، أصبحت "التنمية" تتضمن مكونات سياسية، وثقافية، واجتماعية، يتم دمجها مؤخرًا في سلسلة مترابطة من حقوق الإنسان الأساسية، كتلك التي يعرِّف بها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ولقد بدأت الأمم المتحدة بالتحدث مؤخرًا عن "الحق في التنمية" الذي يتضمن حقوقًا سياسية واجتماعية وثقافية.

خلاصة

الأمر الأهم بالنسبة للمجتمعَيْن في هذا الوقت هو الحاجة إلى الانخراط الفعَّال. وحيث إن الرموز الثقافية تكتسب أهمية متعاظمة في علاقة الغرب بالإسلام، فإن الانخراط الفعَّال للطرفين، من خلال الحوار المستمر، يسمح لكلِّ طرف بفهم المعاني والتداعيات والمضامين الأعمق لـ"صراع الرموز" الناجم هذا. وهذا أمر جوهري إذا أريد لهذه الرموز ألا يستعملها أحد الطرفين لنزع صفة الإنسانية عن الطرف الآخر.

تاريخيًّا, اعتمد كلٌّ من الإسلام والغرب، أكثر من اللازم، على الأدلة البديهية لمعتقداتهما ومنجزاتهما بدلاً من الحوار البينشخصي والبينحضاري وبناء الجسور. يمكن لعلاقة جديدة، مثمرة للطرفين، أن تنشأ بين الإسلام والغرب، يقدم فيه تراكمُ الحكمة والتبصُّرات لضرورة التقدم الأساسَ لتعايش قيِّم. ولن تكون مثل هذه العلاقة مبنية على أفكار التفوق الثقافي، بل على الاحترام المتبادل والانفتاح على الانتقائية الثقافية. يمكن للمسلمين والغربيين أن يتعلموا بعضهم من بعض وأن يتعاونوا في السعي لتحقيق القيم الإنسانية. وفي المحصلة، فإننا، بإعادة اتصالنا بأسمى قيمنا وتوسيع فهمنا للحقيقة، نحوِّل علاقة طويلة وعنيفة التنافس إلى شكل جديد من التنافس: بإمكاننا التنافس على فعل الخير، على خدمة الإنسانية، وعلى تبيان صواب قيمنا وإسهامنا في الحضارة للعالم.

يعتمد هذا المستقبل على تلاقي الأفضل من الشرق والغرب، من الشمال والجنوب، وعلى نشوء وعي عبرقومي جديد. وهذا الوعي الجديد لا يتم تشكيله بوسائل الإعلام، ولا هو من صنع النخب والمفكِّرين: إنه صرخة الكرامة الإنسانية. إنه تعبير إنساني فطري. ليس مقدَّرًا على الغرب والإسلام أن يلتقيا كخصمين. فبمعرفة واحدهما الآخر من خلال الحوار الدائم، يمكن للغرب أن يعطي الإسلام أفضل ما لديه مقابل أفضل ما في الإسلام. تذكِّرنا أحداث الحادي عشر من أيلول قطعًا بأن العالم بأسره يحتاج إلى العالم بأسره.

*** *** ***

تنضيد: لوسي خير بك


* أستاذ العلاقات الدولية، شاغل كرسي محمد سعيد فارسي الأكاديمي للسلام الإسلامي، مدير مركز السلام العالمي.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود