|
العصيان
المدني
(2 من 2)
هنري
د. ثورو
كلما
تحادثت مع أكثر جيراني تحرراً، أدركت أنه أياً كان ما قد يقولون في سعة المسألة
وجدِّيتها، ومهما كان مبلغ اعتبارهم للأمان
العام، فإن لبَّ المسألة هو أنهم لا يستطيعون
أن يستغنوا عن حماية الحكومة الحالية، وهم
يخشون عواقب عصيانها على أملاكهم وعائلاتهم.
من جانبي لا أحبذ فكرة الاتكال أصلاً على
حماية الدولة. لكني إذا تنكَّرت لسلطة
الولاية عندما تقدِّم لي كشفها الضريبي فإنها
سرعان ما سوف تستولي على أملاكي كلها
وتبدِّدها، وبذلك تتحرش بي وبأولادي بغير حد.
وهذا يشق عليَّ. إن هذا ما يجعل من المتعذر على
المرء أن يحيا حياة شريفة، وفي الوقت نفسه
مريحة، من حيث الأمور الخارجية. ولن يكون من
المجدي كنز الأملاك، إذ لا بدَّ للأمر من أن
يتكرر. ينبغي عليك أن تستأجر أو تستحلَّ مكاناً، ولا تزرع إلا
محصولاً قليلاً تأكله سريعاً. ينبغي عليك أن تحيا في دخيلة
نفسك،
وتتكل على نفسك دوماً، مشمِّراً عن ساعديك،
مستعداً للانطلاق، ولا تملك الكثير من
الأغراض. بوسع امرئ أن يصير غنياً حتى في
تركيا، إذا حرص أن يكون من كلِّ وجهٍ من
الرعايا الصالحين للحكومة التركية. لقد قال
كونفوشيوس: "إذا حُكِمَت الدولةُ وفق مبادئ
العقل فإن الفقر والبؤس يكونان وصمتي عار؛
أما إذا لم تُحكَم الدولةُ وفق مبادئ العقل
فإن الثروة والمفاخر يكونان وصمتي عار."
أقول لا: فإلى أن أحتاج أن تشملني حماية
ماساتشوستس وأنا في ثغر جنوبي بعيد، حيث
تتعرض حريتي للخطر، أو إلى أن أصمِّم فقط على
تعمير ضيعة لي في موطني بالمساعي السلمية،
يجوز لي أن أرفض البيعة لماساتشوستس ولحقِّها
على مُلكي وحياتي. وإنه ليكلِّفني أقل من كلِّ
الوجوه أن يُنزَل بي عقابُ عصيان الدولة من أن
أنصاع. الأحرى بي عند ذاك أن أشعر وكأن قيمتي
تضاءلت. منذ
بضع سنوات استدعتْني الدولة لمصلحة الكنيسة
وأمرتني بدفع مبلغ معيَّن مقابل إعالة رجل
دين كان أبي مواظباً على حضور مواعظه، ولم أكن
قط. قالت لي: "ادفع، أو دونك الحبس في السجن."
فرفضت أن أدفع. لكن، لسوء الحظ، وجد رجل آخر أن
من اللائق أن يدفعه. ما كنت لأفهم لماذا ينبغي
على ناظر المدرسة أن يؤدي الضريبة لإعالة
الكاهن، وليس العكس؛ ذلك أني لم أكن ناظر
مدرسة الدولة، بل كنت أقوم بأودي من الهبات
الطوعية. ما كنت لأفهم لماذا لا تقوم المدرسة
الثانوية بتقديم كشفها الضريبي وتكلف الدولة
بدعم طلبها، وكذلك الكنيسة. غير أني، نزولاً
عند طلب اللجنة الناظرة في القضية، تنازلت
وصرحت كتابة بما مفاده: "أنا، هنري ثورو،
أعلن على رؤوس الأشهاد أنني لا أود أن أُعتبَرَ
عضواً في أية هيئة اجتماعية لم
أنتسب إليها." وهذا التصريح سلَّمتُه إلى
كاتب البلدة، وهو في حوزته. عندئذٍ فإن الدولة، إذ تنامى إليها أنني لم أكن أود
اعتباري عضواً في تلك الكنيسة، كفَّتْ منذئذٍ
عن مطالبتي بشيء مثل هذا – وإن تكن قالت إنه
ينبغي عليها أن تتقيد بإجرائها الأصلي في تلك
المرة. ولو كنت أستطيع أن أحصي كافة الجمعيات
التي لم أنتسب إليها قط لاستقلتُ منها جميعاً
على التفصيل؛ لكني لم أعرف أين كنت أستطيع أن
أجد قائمة مستوفية بها. امتنعتُ
عن تأدية ضريبة الخِراج مدة ست سنوات. ولقد
أودِعتُ السجن مرة من جراء ذلك مدة ليلة واحدة؛
ثم، وأنا واقف شاخصاً في جدران الحجر الصلب، ذات القدمين أو الثلاثة
سماكةً، وباب
الخشب والحديد، ذا القدم سماكةً، وقضبان
النافذة الحديدية التي كانت تصفِّي الضوء
كالمخلاة، لم يسعني إلا أن أنصعق بجنون تلك
المؤسَّسة التي كانت تعاملني وكأني مجرد لحم
ودم وعظام، لا أصلح إلا للحبس. تفكَّرتُ في
أنها قطعاً خَلُصَتْ أخيراً أن هذه أحسن
معاملة كان في وسعها أن تخصَّني بها، ولم
تفكِّر قط في أن تنتفع بخدماتي في صورة أو في
أخرى. تبيَّن لي أنه لئن كان هناك جدار من
الحجر بيني وبين سكان بلدتي هناك جدار أشد
عصياناً على التسلق أو الاختراق دونهم وبلوغ
مقام الحرية الذي أنا فيه. لم أشعر ولا للحظة
أنني محتجَز، وبدت لي الجدران مضيعة هائلة
للحجر والملاط. شعرت وكأني وحدي من بين سكان
بلدتي قد سدَّدتُ ضريبتي. لقد أُسقِط في يدهم
صراحةً في كيفية معاملتي، لكنهم تصرفوا
كأشخاص سيئي التربية. فكلُّ تهديد وكلُّ
إطراء من جانبهم انطوى على حماقة؛ إذ إنهم
ظنوا بأني أتحرق رغبة في الوقوف على الجانب
الآخر من ذلك الجدار الحجري. لم أملك إلا أن
أبتسم لرؤية مبلغ اجتهادهم في إغلاق الباب
على تأملاتي، التي كانت تتبعهم من جديد خارجاً بدون عارض أو
عائق، وكأن مكمن الخطر
كلِّه كان فيها. ولما لم يقدروا على الوصول
إليَّ، عزموا على معاقبة جسمي؛ مثل الصبية،
إذا لم يتمكنوا من شخص يكيدون له فإنهم يؤذون
كلبه. تبيَّن لي أن الدولة معتوهة، وأنها
كالمرأة العزباء المتخوفة على ملاعقها
الفضية، وأنها لم تكن تميِّز أصدقاءها من
أعدائها، وهكذا فقدتْ كلَّ احترام متبقٍّ فيَّ
حيالها، فأشفقتُ عليها. بذلك
فإن الدولة لا تواجه أبداً حسَّ المرء،
العقلي أو الأخلاقي، بل جسمه وحواسه فحسب. فهي
ليست مسلحة بالفطنة وبالصدق الرفيعين، بل
بالقوة الجسمانية المتفوقة. لم أولد لكي
أُكرَه على شيء. ولسوف أتنفس على سجيتي. ولنرَ
من منَّا الأقوى. أية قوة يتصف بها الجمع
الغفير؟ وحدهم يستطيعون إكراهي مَن يمتثلون
لقانون أعلى من القانون الذي أمتثل له. إنهم
يُكرهونني على أن أصير مثلهم. لم أسمع برجال
أكرهَهم جمهورُ الناس على اتخاذ هذه الطريق
أو تلك. فأي ضرب من الحياة كان هذا سيكون؟
عندما أقابل حكومة تقول لي: "مالك أو حياتك"،
لماذا أتعجل الدفع إليها بمالي؟ قد تكون
واقعةً في ضائقة عظيمة وليست تعرف ما ينبغي
عمله: وهذا لا حيلة لي فيه. فعليها أن تساعد
نفسها، فتفعل كما أفعل. والأمر لا يستحق
التباكي عليه. لست مسؤولاً عن الدوران الناجح
لآلة المجتمع؛ إذ لست من أبناء المهندس. أدرك
أنه عندما تسقط بلوطة وكستناءة جنباً إلى جنب
فما من واحدة منهما تبقى ساكنة لكي تفسح
المجال للأخرى، بل كلتاهما تنصاع لقوانينهما، فتنبتان وتنموان وتزدهران بأحسن
ما تستطيعان، إلى أن يتفق لإحداهما أن تلقي
بظلها على الأخرى وتدمرها. إذا لم تستطع نبتة
أن تحيا بحسب طبيعتها فإنها تموت – وكذلك
الإنسان. كانت
الليلة في السجن جديدة وممتعة إلى حدٍّ كبير.
كان السجناء في قمصانهم يتمتعون بتجاذب أطراف
الحديث وبهواء المساء في المدخل عندما دخلت.
غير أن السجان قال: "هيا، يا شباب، حان وقت
الإغلاق"؛ وهكذا تفرَّقوا، وسمعت صوت
خطواتهم تؤوب إلى مقصوراتهم المجوفة. قدَّم
السجانُ لي رفيقَ سكني بوصفه "صاحباً من
الدرجة الأولى ورجلاً ذكياً". وعندما أوصِدَ
البابُ أرشدني الرجلُ إلى مكان تعليق
قبعتي وكيفية تدبُّره الأمورَ هناك. كانت
الحجرات تُطلى ببياض الكلس مرة كلَّ شهر؛
وهذه، على الأقل، كانت أشدها بياضاً، مؤثثة
على أبسط ما يمكن، ولعلها أنظف مقصورات
البلدة وأكثرها ترتيباً. كان بالطبع يريد أن
يعرف من أين أتيت وماذا جاء بي إلى هناك؛
وعندما أخبرته سألته بدوري كيف جاء إلى هناك،
مفترضاً أنه رجل مستقيم، بالطبع؛ وعلى مرِّ
الأيام، أعتقد أنه كان كذلك. قال: "عجباً
لهم يتهمونني بإحراق مخزن للتبن – وأنا لم
أفعل ذلك قط." لعل أقرب ما استطعت اكتشافه
إلى الواقع، أنه، أغلب الظن، ذهب إلى فراشه في
المخزن مخموراً، ودخَّن غليونه هناك؛ وهكذا
احترق المخزن. لقد ذاع صيتُه كرجل ذكي، وكان
ينتظر هناك منذ حوالى ثلاثة أشهر منتظراً
أوان محاكمته، وربما كان عليه أن ينتظر مدة
أطول بكثير؛ لكنه ألِفَ الحياة هناك ورضي بها
تماماً، بما أنه يحصل على الطعام والمأوى
مجاناً، ويعتقد بأنهم يُحسِنون معاملته. خصَّ
نفسه بنافذة وخصصت نفسي بالأخرى؛ وقد رأيت
أنه لو قُيِّض للمرء أن يمكث هناك طويلاً لوجد
أن عمله الرئيسي يقتصر على النظر من النافذة.
سرعان ما قرأت كلَّ الكراريس المتروكة هناك،
وعاينت المكان الذي فرَّ منه سجناء سابقون،
وأين جرى نشر قضبان إحدى النوافذ، واستمعت
إلى قصص عن مختلف شاغلي تلك الحجرة؛ إذ إنني
وجدت أنه حتى هنا كان ثمة تاريخ وثرثرة لا
تسري أبداً خارج جدران السجن. فلعل هذا هو
البيت الوحيد في البلدة الذي تُقرَض فيه
أبياتُ شعر، لا تلبث فيما بعد أن تُطبَع على
شكل تعميم، لكنها لا تُنشَر. ولقد اطلعت على
قائمة طويلة فعلاً من الأبيات التي ألَّفها
بعض الشبان ممَّن ضُبِطوا في محاولة للفرار،
فثأروا لأنفسهم بغنائها. استخلصتُ
من رفيقي السجين كلَّ ما استطعت، مخافة ألا
أحظى برؤيته ثانية؛ لكنه أخيراً دلَّني على
فراشي وتركني أطفئ المصباح. كان
مبيتُ ليلة هناك أشبه بالسفر في بلاد بعيدة،
بلاد ما كنت لأتوقع أبداً أن أشاهدها. لاح لي
أنني لم أسمع قط صوت ساعة البلدة تطرق من قبل،
ولا أصوات المساء في القرية؛ ذلك أننا نمنا
تاركين النوافذ التي كانت داخل القضبان
مفتوحة. كان الأمر أشبه برؤية القرية التي
شهدتْ مولدي في ضوء العصور الوسطى، فتحول نهر
كونكورد فيها إلى مجرى الراين، وتتابعت رؤى
الفرسان والحصون أمام ناظري. تلك كان أصوات
الأهالي التي كنت أسمعها في الشوارع. كنت
رغماً عني مشاهداً ومستمعاً لكل ما كان يحصل
ويقال في مطبخ فندق البلدة المجاورة – وتلك
كانت تجربة جديدة ونادرة تماماً لي. كانت
نظرةً إلى مسقط رأسي أقرب. كنت في داخله نوعاً
ما. لم أكن قد رأيت مؤسَّساته من قبل قط. وهذه
واحدة من مؤسَّساته غير المألوفة؛ ذلك أنها
مركز ناحية. وبدأت أفهم ما كان عليه سكانها. في
الصباح كان إفطارنا يمرَّر لنا من الفتحة في
الباب، في صينيات صغيرة مستطيلة مربعة،
جُعِلَتْ لتناسب الفتحة، وعليها مكيال من
الشوكولاتة، مع خبز أسمر، وملعقة حديدية.
وعندما نادوا علينا لاسترداد الأوعية من
جديد، كنت غشيماً إلى حدِّ أني أعدت ما تركته
من الخبز؛ لكن رفيقي قبض عليه على عجل وقال
إنني يجب أن أستبقيه للغداء أو للعشاء.
وبعيدئذٍ سُرِّح للعمل في جمع التبن في حقل
مجاور، كان يذهب إليه كل يوم ولا يؤوب منه إلا
ظهراً؛ لذا فقد تمنى لي يوماً طيباً، قائلاً
إنه يشك أنه سيراني من جديد. عندما
خرجت من السجن – ذلك لأن أحدهم تدخل ودفع تلك
الضريبة – لم ألحظ تغيرات عظيمة حصلت على
العموم،، كالتي يلحظها من يدخل شاباً ثم يخرج
رجلاً شابَ شعرُه وترنحت مشيتُه؛ ومع ذلك فإن
تغيراً ما طرأ على المشهد في نظري – البلدة،
والولاية، والإنسان – أعظم من أيِّ تغيُّر
يمكن لمجرَّدِ الزمن أن يُحدِثَه. رأيت
الولاية التي أعيش فيها بوضوح أكبر أيضاً.
رأيت إلى أيِّ حدٍّ يمكن للناس الذين أحيا بين
ظهرانيهم أن يؤتَمَنوا كجيران وأصدقاء
طيبين؛ أن صداقتهم تقتصر على فصل الصيف وحسب؛
أنهم لا يبالون كثيراً بعمل الحق؛ أنهم سلالة
مختلفة عني بسبب من تحاملاتهم وخرافاتهم،
شأنهم شأن الصينيين والملاويين سواء بسواء؛
أنهم في تضحياتهم من أجل الإنسانية لا
يخاطرون بشيء، ولا حتى بممتلكاتهم؛ أنهم في
المآل ليسوا بهذا النبل، بل يعامِلون السارق
كما عاملهم، ويأملون، بفضل تديُّن خارجي وبضع
صلوات، وبفضل السير، من حين لآخر، على درب
مستقيم معين لكنه عقيم، أن يخلِّصوا نفوسهم.
قد يكون في هذا تحاملٌ في الحكم على جيراني؛
فإني أعتقد أن الكثيرين منهم لا يدرون أن
لديهم في قريتهم مؤسَّسة كالسجن. لقد
جرت العادة في قريتنا سابقاً، أنه عندما يخرج
مدين مسكين من السجن، يقوم معارفه لتحيته،
ناظرين من خلال أصابعهم المتقاطعة بما يشبه
قضبان نافذة السجن: "كيف حالك؟" غير أن
جيراني لم يحيُّوني هكذا، بل نظروا إليَّ
أولاً، ثم إلى بعضهم بعضاً، وكأني عدت من رحلة
طويلة. لقد أودِعتُ السجن وأنا ذاهب إلى
الإسكافي لاسترداد حذاء لي كان يصلحه. وعندما
أخلي سبيلي في صباح اليوم التالي، مضيت
لإنهاء مأموريتي، ثم، وقد احتذيت حذائي
المتعافي، انضممت إلى فريق من جامعي
العنَّبية كانوا يتحرقون إلى وضع أنفسهم تحت
قيادتي؛ وفي غضون نصف ساعة – ذلك أن الجواد
سرعان ما لُجِمَ – وجدت نفسي وسط حقل من
العنَّبية، على واحد من أعلى التلال، على
مسافة ميلين، وهناك توارت الولاية عن الأنظار. تلكم
هي قصة سجوني برمَّتها. ***
|
|
|