أسطورة
نعود الآن
من هذه الجولة التي استعرضنا خلالها عدداً من نماذج التاريخ
المقدس، لنقول
بأن كل ما سقناه أعلاه، يشير إلى رغبة الإنسان القديم في الاحتفاظ بنوع من
الذاكرة الجمعية التي تعطي وجوده في هذا العالم
امتلاءً ومعنى. فهذه الفترة
القصيرة التي يحياها الفرد أو الجيل ليست معلقة في
الفراغ، بل هي نقطة في
سياق طويل ذي مغزى حفظته الأساطير.
فالأسطورة تزود
الإنسان بذاكرة تاريخية تعطيه إحساساً بأن لحياته
وجوداً مبرراً. بدون هذه
الذاكرة يصير الإنسان إلى حالة أشبه بالموت – لأن نسيان الماضي نوع من أنواع
الموت. فالموت نسيان. والموتى الهابطون إلى العالم
الأسفل، في الميثولوجيا الإغريقية، يشربون في طريقهم من نبع النسيان لكي يقضوا حياة الآخرة بدون
ذاكرة، أي بدون تاريخ. غير أن ما يفرق الذاكرة الجمعية الأسطورية عن الذاكرة
الجمعية الأخرى التي يصنعها علم التاريخ هو محتوى كل منهما (كما ألمحنا إلى
ذلك في الجزء الأول). فالتاريخ الأسطوري لا يحفل بغير الأحداث الناجمة عن
تداخل عالم الآلهة بعالم البشر، وهو يُغفِل الأحداث الدنيوية
العادية، ولا
يرى فيها ما يستحق العناية بجمعها وحفظها وتذكُّرها. فإذا ما قُيِّض لحادثة
ما، أو شخصية ما، أن تخلَّد في الذاكرة فإن ذلك لن يتأتى إلا عن طريق
أسْطَرَتها ورفعها من مستوى الواقع إلى مستوى الحدث الميثولوجي. فملوك المدن
الإغريقية القدماء، من أمثال عوليس وأغاممنون
ومينيلاوس، وأبطالها الخالدون،
من أمثال أخيلياس وباتروكلوس، لم تصل أخبارهم سماع الإغريق إلا بعد إلباسهم
حلَّة ميثولوجية أصيلة. ومن بين جميع ملوك سومر
القدماء، لم تحتفظ الذاكرة
الشعبية إلا بسيرة جلجامش، ملك مدينة
أوروك، الذي خُلِّد بواسطة الأسطورة، لا
بواسطة التاريخ. ومثله الملك سيف بن ذي يزن عند عرب ما قبل
الإسلام، والملك
آرثر وفرسان المائدة المستديرة لدى الأنكلوساكسون.
تتجلَّى لنا
حقيقة التاريخ من خلال وجهين اثنين – هما وجها الزمن بشكل عام: الصيرورة
المستمرة والمتطورة من خلال العلاقات الناشئة والمنحلَّة على
الدوام؛ والحضور الآني، الكلِّي، لكلِّ تجربة على صعيد حقيقة الزمن. وتتم هذه التجربة بدورها
وفق مسارين متسايرين: تجربة جماعية طبيعية، وأخرى فردية ذات طابع روحي بحت.
ونحن، في دراستنا للتاريخ، نهمل دائماً هذا الحضور الآني لصالح الصيرورة
التطورية. ذلك أننا نفهم التاريخ من خلال تتابع
الأحداث، ومحاولة تدقيق
المعلومات المتسلسلة وترتيبها، ولسنا نتنبَّه للحقيقة اللامتبدِّلة بتبدُّل
الحدث، وللتجربة الواحدة، الكلِّية، التي لا تخضع لسياق
الزمن، كيف وأنَّى
تحققت. في الحالة الأولى، ننظر للتاريخ من
الخارج، ولا نستطيع أن نتفاعل معه،
ولا أن نفهم الأسباب الحقيقية لأحداثه. وفي الحالة الثانية
يمكننا، إذا ما
نظرنا إلى التاريخ من الداخل، أن نرنو إلى جوهر التجربة المشتركة للإنسان مع
الطبيعة، بل وإلى تجربة الإنسان الفردية التي تميز مقدرته الكلِّية على
التطور. في الحالة الأولى، تكون معرفتُنا معرفة جزئية وسطحية للحدث – ولهذا
نحاول بلا جدوى سدَّ الثغرات في المعلومات المتوفرة لدينا عن
الماضي؛ بينما نحن، في الحالة الثانية، لا نبني معرفتنا على المعلومات
فقط، بل وعلى مشاركة
حقيقية في صيرورة الماضي.
| |
|
Front Page
|
|
Spiritual Traditions
|
Mythology
|
Perennial Ethics
|
Spotlights
|
Epistemology
|
Alternative Medicine
|
Deep Ecology
|
Depth Psychology
|
Nonviolence &
Resistance
|
Literature
|
Books & Readings
|
Art
|
On the Lookout
|
|
|