|
الذكورة
في تراثنا
جورج
فرح
لقيتُ
منذ أمد قريب بعض الأشخاص ممَّن تربطني بهم
صلة نسب بعيدة. لم يكن في اسمهم ما يدل على هذه
الصلة؛ ولهذا وددت معرفة طبيعتها على وجه
التحقيق. ورغبة مني في استكمال حلقات
النَّسَب وحفظها، عملت على إنشاء شجيرة أسرة
محدودة الأبعاد؛ وكان لا بد من إقحام أسماء
الإناث في هذه الشجيرة. وبدخول العنصر
الأنثوي تحوَّل الشكل إلى شجيرة ثلاثية
الأبعاد، شجيرة حقيقية معبِّرة، لا تشبه في
شيء تلك الشجرة التقليدية المسطَّحة
المصطنعة ذات البعدين، التي لا تُظهِر من
الحقيقة إلا نصفها أو أقل بسبب تغييب العنصر
الأنثوي منها. أثارت تلك الشجيرة كَوامِن
تساؤلات لطالما ألحَّت علي: ما الذي غيَّر
المجتمع البدائي من مجتمع أموي (نسبة إلى الأم)،
يتميز بسلطة الأم وعبادة الأنثى، إلى مجتمع
أبوي – لا بل ذكوري – تُحرَم فيه المرأة من
المساواة ومن بعض الحقوق أو كلِّها؟ ولماذا
استمرت هذه السلطة إلى يومنا هذا؟ وما دامت
عملية الإنجاب، من الناحية الموضوعية
والبيولوجية الصرف، عملية مشتركة بين الذكر
والأنثى، تسهم فيها الأنثى بنقل المورِّثات
إلى الطفل بقدر ما يسهم الرجل، لماذا إذن يحمل
الأولاد – حكماً – لقب الأب دون الأم؟ لا أريد أن أتطاول على علم
الاجتماع بالإجابة على الشق الأول، المتعلق
بانتقال المجتمع من مجتمع أموي إلى مجتمع
أبوي، حيث إن هذا الأمر لا يُغْني البحث الذي
نحن بصدده. لكن من المفيد أن نذكر أن انتقال
السلطة إلى الرجل حدث في مرحلة من مراحل تطور
المجتمعات البشرية، تميزت باستقرار الإنسان
ونشوء المجتمع الزراعي الذي اعتمد على قدرة
الرجل البدنية. ومن بعدُ، بدأت سلطة المرأة
تتقلص، لا سيما عندما انتقلت الملكية
الزراعية من أسلوب المشاعية إلى الملكية
الخاصة التي شعر الرجل فيها أنه صاحب الحق
الوحيد في التصرف بالملكية، استغلالاً
وتوريثاً. من جانب آخر، ثمة نمط آخر من أنماط
الاجتماع البشري، على الرغم من عدم استقراره،
بقيت السلطة فيه محصورة بالرجل – وأعني به
الشكل القبلي. المجتمع القبلي مجتمع دائم
الحركة والتنقل؛ وقد كان هذا المجتمع، حتى
زمن غير بعيد، مدفوعاً، بحكم التنازع على
البقاء، إلى القتال، إنْ غزواً أو رداً لغزو.
والقتال يعني القدرة البدنية التي يتفوق فيها
الرجل على المرأة، وبالتالي يكتسب حقَّه في
السلطة. إن نشوء الدولة من جهة،
ودخول الآلة ميادين الإنتاج من جهة أخرى، قد
سَحَبا البساط من تحت قدمي الرجل – نظرياً
على الأقل. ولكننا نجد أن الرجل ما زال متشبثاً بمواقعه التي اكتسبها في عصور وظروف
سابقة. وقد تجلَّى هذا التشبث على شكل أطُر
وصور تجذَّرت في أسس تنظيم المجتمع، على
اختلاف مصادرها؛ وهذه الأطُر والصور هي موضوع
حديثنا هذا. ولعل أخطر أشكال هذه الأطُر هي
تلك التي وضعها الرجل للمرأة ولدورها في
الحياة الاجتماعية؛ وهى الأطُر التي عزَّزت
تهميش دور المرأة عن طريق الدين والقوانين
الوضعية والتقاليد. ويأتي بعد هذه الأطُر في
درجة الخطورة تلك الصور التي رسمها الذكر
للمرأة، تلك الصور التي، وإن لم تكن لها قوة
الدين أو القانون، ولكنها كانت قادرة على
التأثير المطَّرد من حيث دعم فوقية الرجل، أو
قُلْ دونية المرأة، في رسم العلاقات
الاجتماعية. قبل أن أتبسَّط في الحديث،
أود الوقوف عند نقطة هامة تتعلق بما سوف يأتي
من استشهادات بالكتب السماوية المقدسة
والأحاديث الشريفة. إذ يجب ألا يغيب عن ذكرنا
أن ثمة ارتباطاً وثيقاً بين النصوص الدينية
وبين الواقع الاجتماعي والثقافي السائد؛
فثمة جدلية بينهما. المسيح، مثلاً، كان يُسأل
فيجيب، والسؤال كان ينطلق من الواقع الإنساني
السائد آنئذ؛ وكذلك الأمر بالنسبة لموسى
وبولس ومحمد. فعندما أشير إلى أحد النصوص أو
الأحاديث يجب أن لا يغرب عن البال أنني لا
أنتقد النص من حيث مضمونه في الزمن الذي قيل
فيه، بل من حيث إطلاقُ هذا المضمون واستمرار
العمل أو الاعتقاد به، على الرغم من بعد الشقة
بين تلك الظروف وبين ما نحن عليه في مستهل
القرن الواحد والعشرين. إطلاق النص واستمرار
العمل به ليس من فعل الأنبياء والرسل، بل من
فعل الإنسان–الذكر الذي وجد فيه حجة لدعم
سيطرته على الإنسان–الأنثى. تهميش
المرأة وحرمانها من حقوقها
تجلَّى تهميش دور المرأة
وتحجيم إرادتها، لا بل والتصرف بها حسب أهواء
الرجل، في ظواهر كثيرة، وفي جميع المجتمعات
تقريباً؛ والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى.
ولنبدأ بشجرة الأسرة (أو شجرة العائلة كما
اصطلح على تسميتها) التي كانت منطلقَنا في
البحث. ففيها يمكنك أن تتقصى النسب العصبي بين
ذَكَرين إلي أقصى درجة تسمح بها تلك الشجرة؛
ولكنك لست واجداً فيها ابن الخال أو ابن
الخالة اللذين تجمعك بهما أواصر من القرابة
والتماثل الوراثي (وربما الفكري) أكثر من
القريب العصبي البعيد الذي قد لا تعرف عنه
شيئاً. ما قيمة هذه الشجرة إذن؟ الواقع أنه لا
قيمة موضوعية لها البتة من حيث فرزها الناس
إلى قريب وبعيد. إلا أن الفكر الذي ابتدعها –
فكر حصر القرابة الهامة بسلسلة الذكور، فكر
هيمنة الذكورة – ترك آثاراً بعيدة في النظم
الاجتماعية، يمكن أن نعثر عليها في كثير من
التقاليد التي سادت المجتمعات، وما زالت. تقوم هيكلية هذه الشجرة على
مقولة خالصة الذَكرية، وهي أن الذكر هو
المصدر الحقيقي والثابت للقرابة. هذه المقولة، التي جاءت نتيجة نظام اجتماعي
تاريخي معين، تغلغلت على صورة شواهد كثيرة في
التراث والدين. فمنها، مثلاً، نسب المسيح،
كما كان سائداً بين أهل بلدته الناصرة، وكما
ورد في إنجيلي متى ولوقا؛ إذ كان نسباً ذكرياً
خالصاً. ومنها حديث الرسول الكريم حين تخاصم
عتبة بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن زَمعَة حول
نسب ابن جارية زمعة هذا، وكلٌّ منهما ادَّعى
نَسَبَ الابن إليه؛ فما كان من الرسول إلا أن
أفتى بأن الولد للفراش، أي للرجل الذي يملك
الجارية، أو الذي كانت المرأة على عصمته عند
الولادة. ولو أخذت هذه الفتوى في محتواها
التاريخي لكان لها ما يسوِّغها نظراً لانتشار
الرِّق آنذاك من جهة، واستحالة تحديد أبوة
الولد علمياً من جهة أخرى. وقد استغل الذكر
هذه الفتوى، والآراء الأخرى المماثلة، ليحرم
الأم من حق إلحاق الولد بها، بغض النظر عن
المتغيرات التاريخية والاجتماعية. انطلاقاً من هذه النظرة
الذكورية ذاتها فَقَدَتْ المرأة هويَّتها. إذ
تُنسَب، في الغرب بشكل خاص، إلي زوجها، وتبقى
محتفظة بهذا النسب في مجتمعها حتى بعد وفاة
الزوج، ولا تفقده إلا بزواج آخر لتحمل نسب
الزوج الآخر. فهي دوماً مدام س. أو مدام ع. أما
إذا بقيت عزباء فهي تُنسَب إلي أبيها. من خلال الفكر الذكري أيضاً، المتمثل في هذه الشجرة التي تغيِّب
الأنثى تغييباً تاماً، يُنظَر إلى الأنثى على
أنها سوف تكون من حصة أسرة ذكرية أخرى. ومن ثم
فقد درجت الأعراف والتقاليد، وحتى بعض
الشرائع الدينية، على حرمان البنت، بدرجات
متفاوتة، من حقِّها في الإرث، على اعتبار أن
هذا المال صائر إلي الغير بحكم انتماء المرأة
اسماً إلى هذا الغير دون أي اعتبار آخر. وقد
يعترض معترض أن الولد ملزَم شرعاً بالإنفاق
على والديه، وبالتالي فليس ثمة إجحاف بحق
البنت. قد يصح هذا الاعتراض من الناحية
النظرية، في مجتمع معين وفي زمن معين، ولكنه
مردود من الناحية العملية؛ إذ إن هذا الإلزام
إما فقد قيمته كلياً بوجود تشريعات التأمين
الاجتماعي، أو جزئياً بدخول المرأة ميدان
العمل وبإسهامها الطوعي في إعالة والديها.
والتشريعات الاجتماعية التي حررت الولد
بصورة ما من التزامه بإعالة والديه ليست
حديثة العهد؛ ولعل أقدمها كان الزكاة التي
فرضها الإسلام على القادرين ليُصرَف جزء منها
على الفقير والمحروم وابن السبيل. لم يكن الدين براءً من إعلاء
شأن الذكورة وتهميش دور المرأة. لا بل الأصح
أن نقول إن الرجل لم يتورَّع عن تسخير الدين
لدعم فوقيَّته. لقد جاءت بعض تعاليم الأديان
تعالج وضعاً قائماً وحالات خاصة، في زمن معين
وفي مجتمع معين، فجعل الرجل هذه التعاليم
أبدية مطلقة، على اعتبارها جزءاً لا يتجزأ من
الإيمان. ولأضرب مثالاً على ذلك مستمَداً من
التوراة: لقد فرض الدين اليهودي على الرجل
الذي يموت أخوه أن يدخل على أرملة أخيه ويقيم
نسلاً لأخيه. في هذا الفرْض نجد تهميشاً
مضاعفاً لدور المرأة: الأول، مخالف للعلم
وللطبيعة من حيث اعتبار أن الولد للنطفة، ولا
علاقة للبويضة في توريثه أية صفات؛ أما
التهميش الثاني – وهو الأقبح – فهو حرمان
المرأة من حق رفض أو قبول معاشرة أخي زوجها
المتوفى. وقد طرح سؤالُ الصدوقيين للمسيح ما
يمكن أن نسميه كاريكاتوراً للمشكلة، وهي أنهم
حاولوا تعجيزه بحالة افتراضية مفادها أن ستة
إخوة عاشروا، على التوالي، زوج الأخ المتوفى،
ثم ماتوا واحداً بعد الآخر؛ فلمن منهم تكون
المرأة في الآخرة؟ المهم هنا ليس جواب
المسيح، بل مدى ما في هذا السؤال، أي في هذه
الحالة الافتراضية، من تحقير للمرأة من خلال
إرغامها دينياً على معاشرة ستة من الإخوة
وحرمانها من أبسط حقوقها في الخيار. قد يقول
قائل إن الديانات اللاحقة قد تجاوزت هذا
التشريع. لكني لست هنا في معرض مناقشة الفعل
بالذات، بل النظرة الفوقية إلى المرأة
التي تضمَّنها هذا التشريع الديني واستمرت (أعني
الفوقية الذكرية) في الأديان اللاحقة، وإلى
أي حد تخلَّص مجتمعُنا الحالي من هذه النظرة
الذكرية إلى المرأة. ترى لماذا لم يفرض
الناموس على أخوات المرأة المتوفاة أن يعاشرن
أرمل أختهن لإنجاب نسل لأختهن؟ الجواب واضح.
فالمرأة ليس لها نسل أساساً! النسل للرجل وحده. في موضوع الزواج، ما زالت
الفتاة محرومة إلى حد بعيد من حق الخيار، بحجة
أنها لا تعرف مصلحتها. فزواجها مرهون برأي
الأب وقراره؛ وهذا بدوره مرهون باعتبارات ليس
بينها غالباً مصلحة الفتاة. طبعاً ما زالت
الأكثرية العظمى من شعبنا تزوِّج بناتها.
وفعل "زوَّج" (خلافاً لفعل "تزوَّج")
فعل متعدٍّ يتطلب إضافة مفعول به – وهو هنا
الفتاة التي عليها أن تقبل صاغرة بالزوج الذي
اختاره الأب. وهاكم مثال آخر من الإنجيل:
ففي موعظة المسيح على الجبل – تلك الموعظة
التي كان يطوِّر فيها مفاهيم الناموس التي
تحجَّرت – قال: "قيل لكم: من طلَّق امرأته
فليعطِها كتاب طلاق. أما أنا فأقول لكم: إن من
طلَّق امرأته، إلا لعلَّة الزنا، فقد جعلها
تزني." في هذه العبارة لم يكن المسيح مهتماً
بالكلام عن حق المرأة في الطلاق، بل كان
يصحِّح مفهوماً عن الطلاق كما ورد في الناموس.
كيف فهم الرجل هذا الكلام؟ لقد فهمه على أنه
لا يحق للمرأة طلاق زوجها في حال قيامه هو
بفعل الزنا، وكأن زنا الرجل مغفور له، وأن على
المرأة أن تتغاضى عن زنا رجلها وتتحمله لأنها
أدنى منه مرتبة؛ فدورها أن تتحمل نزواته، أما
هو فدوره أن يعاقِب بالطلاق. لم يتوقف الذكر عن استعلائه
وتأكيد فوقيَّته على المرأة وإلزامها
بالطاعة المطلقة. فبعد المسيح بأكثر من
ستمائة عام، يحدِّث الرسول نقلاً عن أبي
هريرة: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه
فأبتْ، فبات غضباناً عليها، لعنَتْها
الملائكة حتى تُصبِح." المرأة ملزمة
بالطاعة المطلقة وبالمجيء إلي فراش الرجل متى
شاء ذلك، وإلا عرَّضت نفسها للعنات الملائكة
حتى الصباح. أما رغبة المرأة في الرجل وحقُّها
باستدعائه إلي فراشها، فهذا ليس موضوع بحث،
على الرغم من كونها رغبة طبيعية مشروعة
بالمفهوم العلمي. تمييز جنسي واضح، إذن، من
وضع ذكري خالص؛ إذ لم يكتفِ الذكر بحرمانها من
هذا الحق، الذي قد يفضح عنانة مؤقتة أو دائمة،
بل تمادى فغلَّفه بمفاهيم أخلاقية تضمن شلَّ
رغبة المرأة، كمفهوم الحياء والخفر والعيب.
وعلى الرغم من أن بولس الرسول في رسالته إلى
أهل كورنثوس قد سلَّط المرأة على جسد الرجل
كما سلط الرجل على جسد المرأة، إلا أن هذا
التسليط المتكافئ كان تسليطاً ذا محتوى سلبي،
لا يدخل في مفهوم مباشرة الفعل، بل يحول فقط
دون تصرف الإنسان المتزوج بجسده. المرأة
مخلوق قاصر
ربما تبدأ فكرة "قصور"
المرأة من قصة آدم وحواء التوراتية. فمنذ
البدء كان التمييز الجنسي: الله خلق آدم،
الذكرَ المقدَّمَ في كل شيء، ومن "ضلعه"
خلق المرأة. ثم تمادى الذكر، فبسط مفهوم دونية
المرأة إلى حد اعتبارها مخلوقاً قاصراً، لا
يحق له أن ينفرد برأي، بل لا يؤخذ برأيه؛
فالرأي السديد والحكم النهائي للذكر، وعلى
الأنثى أن تطيع. إن تفاوت القوى بين جهتين
مرتبطتين بعلاقة ما يفرض طاعة أحدهما للآخر.
فهي إما طاعة القاصر للبالغ، وإما طاعة العبد
للسيد، وإما طاعة الضعيف للقوي، وإما طاعة
الفرد للقانون. وقد اجتمعت في فرض طاعة الأنثى
للذكر جميع أشكال هذا التفاوت، ومن جميع
المصادر، سواء الديني منها، أو القانوني، أو
التقليدي. وبولس الرسول، الذي حرَّر
الأمم من الناموس اليهودي، لم يتحرَّر هو
ذاته من فكرة دونية المرأة التي ربما كانت قد
تجذَّرت فيه نتيجة ثقافته الناموسية من جهة (وهو،
كما نعلم، كان تلميذاً لجمالائيل، الحَبر
اليهودي)، ونتيجة لوضع المرأة الاجتماعي
ومستواها الثقافي السائدين آنذاك من جهة أخرى.
فنراه، في رسالته إلى أهل كورنثوس، يقول: "لتصمت
نساؤكم في الكنائس لأنه ليس مأذوناً لهن أن
يتكلمن." كما يأمر النساء بالخضوع المطلق:
"أيها النساء اخضعن لرجالكن كخضوعكن للرب."
ويسوغ هذا الأمر بقوله: "لأن الرجل هو رأس
المرأة." كلام لا يحتمل التأويل، وما زلنا
نتلوه حتى الآن، على الرغم من كل المتغيرات
الاجتماعية التي طرأت خلال ألفي سنة انقضت،
وعلى الرغم من المكانة التي تشغلها المرأة
اليوم كعنصر منتج في المجتمع. ورأي بولس في
المرأة هذا يتردد في كثير من رسائله، حيث يميز
بين صفات المرأة الفاضلة وصفات المرأة السيئة.
فهو يوصي تيموثاوس بان يرفض الأرامل الحدثات
"لأنهن، متى بَطَرْنَ على المسيح، يُرِدن
أن يتزوجن، ومع ذلك يتعلَّمن أن يكن بطالات
ومهذارات وفضوليات". وعلى العكس من ذلك،
يصف النساء الفاضلات في رسالته إلى تيتس بـ"ملازمات
لبيوتهن، خاضعات لرجالهن". لعل الرسول بولس
لم يكن مخطئاً في وصاياه التي كانت تنطبق على
مرحلة اجتماعية تاريخية معينة، اتصفت بأمية
المرأة وجهلها وانحصار نشاطها في الإنجاب
والعمل المنزلي؛ ولكن ترداد هذه الوصايا إلى
يومنا هذا أدخلها في لاوعينا، وانعكست على
آرائنا وسلوكنا. فما زال الكثير منا يصف امرأة
فاضلة بقوله (بالعامية الشامية) مثلاً: "ما
بتطلع من بيتها" أو "ما بتطلع إلا أجرها [جنازتها]
وأجر جوزها"! والمرأة – هذا المخلوق
القاصر! – لا يصلُح لإدارة أي عمل؛ فما بالك
بإدارة دولة أو بالقضاء مثلاً. فحين بلغ
الرسول أن أهل فارس قد ملَّكوا عليهم بنت كسرى
قال: "لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة."
وأتساءل بكل بساطة: هل كان الفَلاح حليف كل
قوم ولَّوا عليهم ذكراً؟ أعود للتذكير بأن كل
ما جاء في التوراة أو في الإنجيل أو في القرآن
أو ما نُقِل عن الرسول من أحكام تتعلق بالمرأة
يجب أن يُفهَم من خلال السياق التاريخي
والوضع الاجتماعي السائد آنذاك؛ فهو صحيح
نسبياً في الظرف الذي قيل فيه. ولكن الذكَر
استغل قدسية مصادر تلك المقولات ليجعل منها
مقولات أبدية وجزءاً من الإيمان. المرأة
أداة إنجاب
عندما أوجب الناموس على
الرجل أن يدخل على أرملة أخيه لينجب له نسلاً
اعتبر الأنثى أداة إنجاب خاصة برجلها لا
أكثر؛ أي أنها وعاء إنجاب سلبي. شجرة العائلة
ذاتها تقوم على هذا المفهوم؛ ففيها تنحصر
مهمة المرأة بإنجاب الذكور، ثمار شجرة
العائلة. ونتساءل أمام كل هذه الاعتبارات
السلبية للمرأة: ألم تكن ثمة بعض الحقوق لوعاء
الإنجاب هذا؟ لحسن حظها نقول: نعم. فمن خلال
كونها أداة إنجاب أدهشت الرجل في العصور
الغابرة. فقد أحلَّها محلَّ الآلهة وعبدها،
ثم أوْلاها اهتمامه لاحقاً ليضمن لنفسه نسلاً.
فقد أوصى الإنجيل بمحبة النساء، وأوصى القرآن
برعايتهن: "الرجال قوامون على النساء."
إذ لا بد لمن تكون عنده آلة إنتاجية أن يرعاها
ويهتم بصيانتها والحفاظ عليها! وقد امتدَّ
هذا المفهوم إلى تقاليدنا الشعبية التي
تشبِّه المرأة بالكوارة التي تُملأ وتُفرَغ.
أما عندما يتقدم العمرُ بالرجل ويصبح عاجزاً
عن الإنجاب، لا بل يغدو هو بالذات بحاجة لبعض
الرعاية، فليس أصلح من المرأة لتقوم برعايته
وخدمته! المرأة
مصدر الشرور
لم يكتفِ الذكَر بالحطِّ من
قيمة الأنثى، بل نَسَبَ إليها شروراً ما أنزل
الله بها من سلطان! ففي قصة الخلق التوراتية
حُمِّلت حواء المسؤولية الكاملة عن الخطيئة
وشرور العالم. الحية أغوت حواء بتناول
التفاحة، ولكن الحية حيوان لا يمكن أن
نحمِّله مسؤولية ما. إذن حواء – ذلك المخلوق
الإنساني الشرير! – هي التي أغوت آدم وأدَّت
به إلى السقوط في الخطيئة وإلى الحرمان من
الجنة. أرأيتم إلى هذا السيناريو الذي أقحم
حواء – الإنسان المسؤول – بين الحية غير
العاقل وآدم العاقل ليجعلها كبش المحرقة!
وعلى الرغم من أن تلك القصة تُسبِغ على آدم
صفة البراءة، لكنها، في الوقت ذاته، وبصورة
غير مباشرة، تنعته بالسذاجة، إن لم نقل
بالغباء؛ إذ إن وصية عدم الأكل من شجرة
المعرفة كانت موجَّهة له ولحواء معاً؛ فإن
كانت حواء شريرة – وليس ذنبها أن خلقها الله
هكذا! – فإن آدم كان غبياً. وجاء في حديث عن
الرسول، استناداً إلى هذه القصة، قوله: "ولولا
حواء، لم تَخُنْ أنثى زوجَها الدهرَ"، وذلك
لأنها رغَّبت آدم في الأكل من الشجرة بعد
إبليس، فسرى في أولادهما مثل ذلك. نعتهنَّ الرسول العربي
بالكفر في أكثر من حديث، ورأى أن أكثر أهل
النار النساء، لا بل رأى أن عامة من دخل النار
من النساء (صحيح البخاري) لأنهن "يكفرن
العشير، ويكفرن الإحسان". مرة أخرى عَزَلَ
الذكَر هذه الأحاديث عن سياقها التاريخي،
واحتفظ بفكرتها المطلقة، وهي أن المرأة كائن
شرير كافر. وقد أدخَل المؤمنُ هذه الفكرة في
إيمانه وتراثه، وتقبَّلتها المؤمنة على أنها
قدرها، دون النظر إلى ما طرأ على المجتمع،
وعلى وضع المرأة بالذات، من حيث إنها لم تعد
عالة على الرجل لتحتاج إلى إحسانه؛ هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فإنه قد يكون صحيحاً أن المرأة
أسرع انفعالاً من الرجل، وأكثر مبالغة في
ردِّ فعلها؛ ولكن هذه الصفة بالذات يجب أن
تجعلها أقرب محلاً إلى الجنة منها إلى النار؛
إذ ما أسرع أن تسامح المرأةُ العشيرَ المذنب
وتنسى الإساءة. إن ما اصطُلِح على تسميته
بالخيانة الزوجية تكاد التقاليدُ تحصر
مسؤوليتَه بالمرأة دون الرجل، علماً بأن
الرجل ليس بريئاً منها؛ ولكنها بالنسبة للرجل
هفوة، أما بالنسبة للمرأة فهي خطيئة كبرى
وعار مؤبد! ويحق لنا أن نتساءل عن السرِّ وراء
هذا التمييز الذي لا يُقرُّه منطق سليم. لكن
التفسير بسيط: فالرجل يريد أن يتأكد من أن
أولاده الذين سوف يرثونه هم جميعاً من صلبه.
ولتحقيق ذلك كان لا بد له من تضخيم الذنب
عندما ترتكبه المرأة، ومن تحميلها المسؤولية
الأكبر، والعقاب الأقسى، والعار الأدْوَم
بين الخائنَين حتى يُخيفَها، وبالتالي يضمن
سلامة نسله. دخل مفهوم عَزْوِ الشرور
إلى المرأة في تراثنا المنقول والمتداول
بأقوال من مثل: "فتِّش عن المرأة" (مثل
فرنسي)، و"المرأة شرٌّ كلُّها، وشرُّ ما
فيها أنه لا بد منها"، و"خضراء الدمن"،
وغيرها من الأقوال التي ما أسرع ما يُستشهَد
بها حين تعوز الحجة وتدعو الحاجة. المرأة قينة للرجل
لقد ولَّى عهد اقتناء
الإماء والجواري، أي عهد اعتبار المرأة قينة،
تباع وتُشرى ويُتاجَر بها. ولكن نظرة محيطة
بما يحدث في عالمنا الحاضر يؤكد أن الذي ولَّى
من تلك العهود أو تغير لم يكن إلا القوانين
والأعراف الناظمة لملكية النساء، وليس
المفهوم الذكري. بماذا يمكن أن نَصِف البغاء،
منظَّماً كان أو غير منظَّم؟ وماذا يمكن أن
نطلق على المتاجرة بالقاصرات في بعض دول جنوب
شرق آسيا، أو حتى في أوروبا، حيث انفجرت فضيحة
استخدام القاصرات في إحدى دولها مؤخراً؟ في الإصحاح الخامس من سفر
العدد من التوراة تخضع المرأة لطقوس ما أنزل
الله بها من سلطان إذا ما شكَّ الرجل في أن
امرأته قد زَنَتْ، وذلك من أجل تبرئتها أو
تجريمها. ولكن لا ذِكْر لأية إجراءات تتعلق
بالرجل الذي شاركها فعل الزنا. المرأة دون الرجل
قدراً
وبسبب من دونية وضع المرأة
ضمن الأوضاع الاجتماعية التي كانت سائدة في
عصور الأنبياء والمرسَلين لم يكن غريباً أن
يكون جميع أولئك الأنبياء والمرسلين،
وتلاميذهم، وصحابتهم، والرسل من بعدهم،
وكتبة النصوص الدينية، ذكوراً، في حين نرى أن
الأديان الوثنية السابقة للأديان السماوية
قد احتفظت للأنثى ببعض المكانة، حيث منحت بعض
الآلهة صفات أنثوية. في رسالته الأولى إلى
كورنثوس يورِد بولس الرسول عدداً من العبارات
التي تميز بين الرجل والمرأة من حيث القدْر: -
وأما رأس المرأة فهو الرجل. -
وأما كل امرأة تصلي، ورأسها
غير مغطى فهي تشين رأسها، لأنها والمحلوقة
شيء واحد. -
لا ينبغي أن يغطي الرجل رأسه
لكونه صورة الله ومجده. -
لأن الرجل لم يُخلَق من أجل
المرأة، بل المرأة من أجل الرجل (لعلها إشارة
إلى قصة آدم وحواء). هذه العبارات، وما ماثلها،
دخلت في صميم لاوعينا، رجالاً ونساءً، وأصبح
كلٌّ من الجنسين يتصرف أحدهما تجاه الآخر من
هذه المنطلقات نفسها: الرجل صورة الله،
والمرأة خُلِقَت من أجله. ولو
عُدنا قليلاً إلى الوراء، لوجدنا في التوراة
تقويما مالياً مختلفاً للرجل والمرأة. ففي
الإصحاح 27 من سفر اللاويين يقوم نذر الذكَر
بخمسين شاقلاً، ونذر الأنثى بثلاثين شاقلاً. قد يخطر لبعضهم أن هذه
الصورة قد تغيرت كثيراً، بدليل آداب السلوك
التي يتَّبعها الكثيرون حالياً نقلاً عن
الغرب، كظاهرة تقديم المرأة في الدخول إلى
مكان ما أو الخروج منه مثلاً، وظاهرة تقبيل يد
المرأة، وظاهرة عدم إزعاجها بالوقوف للرجل.
هذه السلوكية التي تبدو، للوهلة الأولى،
احتراماً للمرأة ليست في الواقع إلا من
مخلَّفات النظرة الرومانسية التي تخفي في
ثناياها تكريس شعور الفوقية عند الرجل. وإلا
فكيف نفسر تصرف هذا الرجل ذاته الذي يقبِّل يد
المرأة، ثم لا يتورَّع عن استخدامها أداة
إغراء لتمرير صفقاته السياسية والتجارية،
وأداة لعرض مفاتنها في الإعلانات التجارية –
وكأن المشروب أو المأكول يصبح أكثر جودة إذا
اقترن الإعلان عنه بساق فاتنة تبديها المرأة،
أو بوركين مكوَّرين يهتزان كجنحي فراشة
تحتضر، أو برقبة تتلوَّى حتى تكاد تنخلع؟! إن
تلك السلوكيات التي ابتدعها الرجل إنما تحجب
في الواقع نظرته إلى المرأة على أنها مخلوق
قاصر. وقد ابتلعت المرأة الطعم، لا بل وأجادت
الدور الذي أوكل لها. أما في الشرق العربي، فما
زال بعضهم يتحرَّج من تسمية الزوج باسمها، بل
يكنِّي عنها بـ"حرمتي" أو "عيالي" و"أم
الأولاد"، وفي أحسن الأحوال، ينسبها إلى
ابنها البكر، أم فلان. ومن طريف الأمر أن عرب
الجاهلية وصدر الإسلام لم يكنُّوا امرأة حرة
باسم ولدها، بل أشاروا إليها باسمها
المجرَّد، واستخدموا الكنية باسم الولد
للمرأة غير العربية، على اعتبارها مجهولة
النسب، فأطلقوا عليها تعبير "أم ولد".
فأم الخليفة المأمون، مثلاً، كانت أم ولد. فلننظر في أدبياتنا الشعبية:
كم تتردد عبارة "قالوا في المرأة" في
الصحف والمجلات؛ فهل قرأتم عبارة "قلن في
الرجل"؟ وحتى لا نبتعد كثيراً، كم نقرأ في
ملصقات النعي أو بطاقات الدعوة "أرملة
المرحوم فلان"؛ فهل قرأنا مرة واحدة "أرمل
المرحومة فلانة"؟ وقد رأيت مؤخراً بعض
بطاقات الدعوة إلى عرس لم يُذكَر فيها اسم
العروس، بل "أخت لأخيها فلان أو بنت علان"!
نستنكر أن يقول الرجل لأحد أولاده "تقبرني"،
لا سيما إذا كان الولد بنتاً؛ أما المرأة فلا
بأس من أن "يقبرها" الجميع، بمن فيهم
الزوج. إن كل ما يحمله هذا الدعاء من معنى هو
الكناية عن تمنِّي طول العمر للولد بحيث
يتجاوز عمر المتمني. فهل من أب يتمنَّى غير
ذلك؟ إذن لماذا نستنكر أن يتفوَّه الأب بهذه
العبارة (علماً بأني أستنكر هذا النوع من
البلاغة الذي لا يجد سوى الموت وعملية الدفن
تعبيراً عن التمني بطول العمر!)؟ المرأة مصدر عار
للأسرة
ما زلنا، وما زالت مجتمعات
كثيرة تنظر إلى الأنثى وكأنها مصدر محتمل من
مصادر إلحاق العار بالأسرة، إن لم تكن أكثر
المصادر احتمالاً. وأقدم ما نعرف عن هذه
النظرة هو عادة وأد البنات التي كانت سائدة في
جاهلية العرب، والتي لم تكن خشية إملاق، بل
خشية العار المحتمَل؛ وإلا لاستوى الولد
والبنت في عملية الوأد. يغشُّ الذكر، ويسرق،
ويجمع المال الحرام، ويقتل، ويُحكَم عليه
بالسجن أو بالإعدام، ولا تعاني أسرته من عقدة
العار أو عقدة العِرض؛ أما أن تخطئ الأنثى،
فالويل – كل الويل – والعار – كل العار! فهي
قد دنَّست شرف الأسرة، واستحقت الموت من أجل
غسل العار والحفاظ على العِرض؛ والفخر – كل
الفخر – لمن ينتخي ويقتلها، وكأن عِرض الأسرة
كله يقبع بين فخذي إناثها، لا في سيرة ذكورها
وأخلاقهم! العِرض – وما أدراك ما
العِرض! لقد استفتيت معاجم العربية، فما وجدت
للمرأة صلة مباشرة بالعِرض. فالعِرض هو حَسَب
الرجل، وهو نفسه، وهو خليقته المحمودة، وهو
ما يُمدَح به ويُذمُّ، وهو رائحة الجسد، وهو
جانب الرجل الذي يصونه من نفسه وحَسَبه، سواء
كان في نفسه، أو سلفه، أو من يلزمه أمره؛ وشتم
فلان عِرض فلان، أي ذكر أسلافه وآباءه
بالقبيح. ولا نجد ذكراً مباشراً للمرأة،
اللهم إلا إذا اعتبرناها جزءاً من عبارة "من
يلزمه أمره". والشواهد على شمولية كلمة
العِرض كثيرة: ففي الحديث الشريف: "إن
أعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا."
وفسَّر ابن الأثير "الأعراض" على أنها
جمع العِرض، وهو كل ما قيل فيه، أي المعاني
التي تقدَّم إيرادُها. وفي حديث آخر: "من
اتَّقى الشبهاتِ استبرأ [أي احتاط] لدينه
وعِرضه." وهذا الحديث غير مخصَّص بسلوك
الأنثى؛ فاتِّقاء الشبهات يتناول بصورة
رئيسية أخلاق الإنسان وسلوكه، ذكراً كان أم
أنثى. في كل تلك المعاني والشواهد لا نجد
إشارة لكبوة الأنثى في مفهوم العِرض إلا أقل
من القليل، وبشيء من الاجتهاد. ولكن الذكَر
نحَّى جانباً كل تلك المعاني التي تضمَّنتها
كلمة العِرض، والتي تُلزِمه بحسن السيرة،
وأطلق لنفسه حق التأويل وحق الحكم والتنفيذ
على أساس من تأويله هذا. أرجو ألا يؤوَّل كلامي هذا
على أني أدعو إلى الإباحية. فكل ما أدعو إليه
هو شيء من الموضوعية وشيء من العدل في الحكم
على الأنثى والبعد عن الكيل بمكيالين: واحد
نحاسب به الأنثى، وآخر للذكر. نخاف على العِرض
فقط من خلال علاقته بالأنثى؛ وهذا يجرُّنا
إلى الخوف عليها، وانعدام الثقة بها، والحدِّ
من حريتها؛ نضيِّق عليها، فنضيِّق أفقَها،
ونحرم تفكيرها من النضج، وشخصيتها من
الاكتمال، ونجعلها أكثر عرضة للأخطاء عندما
تتعرض للعلاقات الاجتماعية التي يفرضها
العصر. وحتى لا نبتعد كثيراً،
لننظر إلى أنفسنا، كيف نميز في المعاملة
والتربية بين البنت والصبي. ما هو نوع الألعاب
التي نقدمها لكلٍّ منهما؟ للولد نقدم الألعاب
التي تنمِّي جسمه وملكاته الفكرية؛ أما
الفتاة فتكاد تنحصر الألعاب التي نقدمها لها
بالدمية وما يتبعها من متاع. إلى أي حدٍّ نسمح
للفتاة بحرية الحركة في اختيار أصدقائها، أو
حضور الحفلات، أو التأخر في العودة إلى
المنزل بمفردها، وكل ذلك لسبب بسيط هو أننا لا
نثق بالفتاة، وبمعنى أبعد، لا نثق بقدرتنا
على تزويدها بالتربية التي تعلِّمها
الاعتمادَ على النفس وحسن التصرف. ما زلنا
ننظر إليها نظرتنا إلى ذاك العنصر الذي إذا ما
أخلَّ بتصرفه يجلب العار لأسرته، ذاك العنصر
الضعيف الذي لا يُحسِن التصرف ويحتاج دوماً
إلى الضبط الخارجي الذي يضع قواعدَه الذكرُ. الخاتمة
إذا كان للقوة البدنية من
مكان خاص في الزمن الذي سبق عصر الآلة
والتكنولوجيا الحديثة، فقد فقدت تلك القوة
قيمتها الآن – وإن بقيت لها قيمة في بعض
مجالات الأعمال الشاقة، كالمناجم والتعدين
والأحمال الثقيلة مثلاً؛ ومع ذلك فإن هذا
الاستثناء لا يسوِّغ حرمان المرأة من حقوقها،
من حيث إنه يتناول شريحة صغيرة من المجتمع،
ونساء هذه الشريحة تكون عادة منصرفة للعمل
المنزلي والحمل والإرضاع ورعاية الطفل – وهي
أعمال لا تقل تفرداً ولا مشقة عن الأعمال التي
يقوم بها الرجل، ولا تقل قيمة إنتاجية عنها. لقد ذكرت أن الذكَر استغل
دوماً قدسية مصادر المقولات الدينية ليجعل
منها مقولات أبدية تنطبق على كل زمان وكل مكان.
استغلال الذكر هذا بدأت تلوح نهايته في
الأفق، حيث إن نظرة سريعة إلى تطور القوانين
في المجتمعات المعاصرة، لا سيما الصناعية
منها، تكفي لإقناعنا بأن تلك الأحكام التي
يستند إليها الذكَر لتثبيت دعائم سلطته
وديمومتها إنما هي أحكام زمنية كانت تصلح
لعصرها. هل نذكِّر بإنديرا غاندي، ومارغريت
تاتشر، وتانصوه تشيلِّر، وبنظير بوتو،
وغيرهن من الوزيرات، والسفيرات، والممثلات
لحكوماتهن في الأمم المتحدة. والسؤال الذي ما يفتأ يطرح
نفسه في هذا الموضوع هو التالي: هل الاختلاف
بين الرجل والمرأة في الملكات الفكرية
والقدرة على العطاء اختلاف بيولوجي قدري، أم
أنه من صنع الرجل؟ أسارع قبل الإجابة على هذا
السؤال، فأحذِّر من النظر إلى من حولنا من
النساء بغرض تصور الإجابة عليه؛ فهؤلاء
النسوة قد تلقَّين تربية تقوم على التمييز
الجنسي، وحُرِمن من ممارسة حرية التفكير
والعمل، إلا ضمن الحدود التي رسمها الرجل؛
لذا فهن لا يصلحن موضوعاً للجواب على السؤال
المطروح. ولكن لننظر إلى ما يجري على أرض
الواقع. فمجرد دخول المرأة ميدان العلم
والعمل والثقافة والرياضة، وتفوقها في بعض
المجالات وتبوُّؤها المناصب يجيب على أن
الإيحاء بقصور المرأة فكرياً إن هو إلا من
اختراع الرجل، وإن وُجِد فعلاً فهو من صنعه.
وعلى الرغم من ملاحظة بعض التطور على صعيد
الاعتراف بالحقوق المشروعة للمرأة، لكن بعض
المفاهيم التي تجذَّرت في لاوعينا ما تلبث أن
تبرز إلى السطح عند أول احتكاك مع واقع ترفضه
الذكورة. وليس أدل على ذلك من مظاهر الأصولية
الدينية التي نراها تطل برأسها في أنحاء
كثيرة من العالم، وتحتل فيها قواعد سلوك
المرأة ومظهرها حيزاً أساسياً. إن ما دفعني إلى هذا البحث
لم يكن إلا شعوري المتزايد بالظلم الذي
نوقِعه بالمرأة، وتوقِعه المرأة بنفسها من
خلال اعتبارها إنساناً قاصراً، دونياً،
ومصدراً للشر والعار، لا يحق له ما يحق للرجل،
وما يجرُّه هذا الاعتبار علينا، وعلى الأجيال
المقبلة، من معاناة نتيجة تناقضه المتزايد مع
معطيات العصر. قد يسأل سائل: وما الحل؟ لست
أدَّعي حيازة الحلول الجاهزة؛ وإنما هي بذرة
حاولت أن أرميها في حقل، على أمل أن تنبت
وتثمر. هي مراجعة للذات، ونموذج في وضع
معتقداتنا وتقاليدنا على المشرحة، لا نستثني
منها شيئاً. أتوجَّه بهذه الأفكار إلى
الجيل الجديد، جيل الثمانينات من القرن
الماضي وما بعدها، الذين هم على مشارف تكوين
أسرة، ولم تتجذَّر بعدُ فيهم عقدة الخوف
الموهومة على البنات ومحرَّمات التقاليد
التي غدت تتنافى مع الواقع. ***
*** ***
|
|
|