|
الفيزياء
والميتافيزياء
فايز
فوق العادة
تحاول
الفيزياء وصف الحوادث والتنبؤ بها؛ وفي
مسلكها هذا تقدم الفيزياء أضحية كبيرة هي
الشيء بحدِّ ذاته. ما الذي تفعله الفيزياء،
إذن، على الصعيد المعرفي؟ الجواب هو: لا أحد
يعرف! أيُعقَل أن تكون الفيزياء لا لشيء البتة.
إن الأمر سرٌّ خفي؛ ولعل السر يكمن في علَّة
وجوب أن يقدر العقل الإنساني أن يفهم شيئاً عن
الكون، بينما تتفجر التساؤلات ضمنه بإيقاع
غير منتهٍ. لقد درج أينشتاين على القول: "إن
أكثر ما في الكون امتناعاً على الفهم هو أنه
قابل للفهم." نعرض أولاً، في عجالة، موقف
الفكر البشري من نشاطه المعرفي الخاص. نستطيع
تعريف الإنسان بأنه كائن المعرفة. فمنذ
فجر التاريخ والفكر البشري يبذل ما بوسعه
لاكتشاف العالم والحياة. يعني ذلك تحويل
العالم إلى نماذج تقطن في الذهن الفردي وتهبط
إلى عمق الوجدان الجمعي التاريخي. إن العلم هو
أحدث محاولة في هذا السياق؛ إنه آخر الأساطير
بحق. أما الأسطورة فليست إلا التفسير الذي
يرضي الساعي إلى المعرفة – ولو إلى حين. من
ذلك كان العلم أسطورة الحين المعاصر. من التجربة الدؤوب
المثابِرة للفكر البشري نشتق التصنيف التالي:
ندعو الظاهرة أسطورة من النوع الأول إن
استطاع الباحث تعريف الظاهرة، ومن بعدُ
تفسيرها. مثال ذلك قوس قزح: لقد بُهِر
الأقدمون بقوس قزح، وقدمت أساطيرهم تفسيراً
له؛ لكن التفسير كان مفتقراً إلى التعريف
والتحديد، وبالتالي لم يكن مرضياً على نحو
حاسم. وكان أن قدَّم نيوتن تفسيراً له. غير أن
تفسير نيوتن طرح إلى الساحة إشكالية جديدة،
ما برحت مستعصية، تتعلق بطبيعة الضوء. فعلى
الرغم من أننا نستطيع تعريف الضوء إلا أننا ما
زلنا عاجزين عن صياغة تفسير كامل له كظاهرة. أما الأساطير من النوع
الثاني، فتضم الظواهر المعرَّفة المفتقرة
إلى التفسير، كما تضم الظواهر المعرَّفة التي
تقبل أكثر من تفسير؛ وقد يفشل كل تفسير منها
في كشف النقاب عن حقيقة الظاهرة. ولنا في
الأطباق الطائرة خير مثال: الظاهرة معرَّفة،
لكن التفسيرات تتراوح بين بالونات الأرصاد
الجوية، والإشاعة البصرية، إلى احتمال زوار
قادمين من عوالم أخرى. يفرض علينا الوضع
المعرفي للأساطير من النوع الثاني تسميتها
بمصطلح آخر هو الخرافات من النوع الأول.
نقصد من هذه التسمية المزدوجة التأكيد على
ضرورة تحريك الأساطير من النوع الثاني ودفعها
إلى حيِّز الأساطير من النوع الأول، إن لم يكن
لسبب فلإزالة الصبغة الخرافية عنها. ما هو الفارق أصلاً بين
الأسطورة والخرافة؟ نتحدث هنا في نظرية
المعرفة. الأسطورة حلمٌ مبادر، دافع وخلاق.
تُشعِر الأسطورة الإنسان بوجوده، وتبرِّر له
تقدُّم السيالة الزمنية. على الرغم من أن
الخرافة هي، بدورها، حلم، إلا أنها حلم كابح
مذعِن، يفرض التوقف ويبرِّره بمصادرات
تتنافى مع تعريف الإنسان ككائن معرفة. تخلق
الخرافة نشوة ورهبة قاتلتين، بينما تؤجج
الأسطورة فعلاً خلاقاً، بسيطاً وصادقاً.
وبينما تشي الخرافة بعجز أصحابها عن تلمس
الحقيقة، تعكس الأسطورة مبادرة عميقة لإضفاء
المعنى حيث لا يوجد معنى. وإذا كانت الأسطورة
مصدر راحة عابرة فإن الخرافة ترضي بشكل مستمر.
من هنا ضرورة تصنيف التكنولوجيا في عداد
الخرافات. أما المعرفة العلمية فهي أسطورة
بحق. نكمل تصنيفنا بإضافة الأسطورة
من النوع الثالث، حين تفتقر الظاهرة إلى
التفسير والتعريف في آن معاً. ندعو الظاهرة في
هذه الحالة أيضاً الخرافة من النوع الثاني.
قد يبدو، للوهلة الأولى، أن الظاهرة في هذه
الحالة تقع أبعد من أن تطالها إمكاناتنا في
التفسير. إلا أن المثال التالي يدحض هذا الظن.
فقد رأى العلماء الفكتوريون المتأخرون في
إطلاق مركَّّبات الأورانيوم وهجاً غامضاً
لغزاً محيراً أقرب إلى السحر. وقعت الظاهرة
آنذاك، وفق تصنيفنا، في نوع الأسطورة الثالث (أو
نوع الخرافة الثاني). ولكن سرعان ما تحركت
الظاهرة إلى نوع الأسطورة الثاني (أو نوع
الخرافة الأول) بتعريف الإطلاق على أنه إصدار
للطاقة. وفي مرحلة تالية، اندفعت الظاهرة إلى
نوع الأسطورة الأول باكتشاف النشاط الإشعاعي
وتحميله مسؤولية الظاهرة. تفيدنا الحكمة القديمة
بضرورة الحفاظ على توازن بالغ الدقة بين
الإيقان الساذج وبين الشك القاتل. إن الكون
مكانٌ غريب، مبهج وفاتن على نحو لا يصدق، لا
بل ويتجاوز كل دهشة قد تولدها سرائر البشر.
فأنَّى لنا أن نحوِّل هذه البهجة والفتنة إلى
رهبة وإذعان، وأن نصادرها في النهاية؟ ألا
نخون بذلك دورنا الإنساني ككائنات معرفة؟ ارتكزت التجربة العقلية، في
جملة ما ارتكزت عليه، على تصور كينونة لا هيئة
لها، بالغة الكمال في بنيتها الداخلية، دعاها
الميتافيزيائيون المطلق. لقد ذهبوا إلى
أن المطلق يعني إجابة على كل تساؤل، بما في
ذلك التساؤلات المنبثقة عن الهمِّ الوجودي.
بكلمات أخرى، يجب أن ينطوي المطلق على كل
الحقائق. يُعلَّل ذلك بأن المقولات
الميتافيزيائية ليست منطقية ولا يمكن
اختبارها. إن التظاهرات من جبلَّة
المطلق، والمطلق من جبلَّة التظاهرات. فعلى
الرغم من التناقضات القائمة بين الدارونية
وبين نظرية المعلومات لا يتنافى أي منهما مع
المطلق. لا غرو فيما يحاوله الميتافيزيائي من
بناء عالم تخييلات خاص به، مسوِّغاً أن
الحقيقة التحتية أو الخلفية لا يمكن إدراكها
بالحواس. أشار الحلاج: "فقد تبين ذاتي حيث
لا أين." أما الهمُّ الوجودي، كما عبَّر عنه
دوستويفسكي، فيُختزل بلفظة واحدة: "لماذا؟" دعا الفيزيائيون تلك
الكينونة فراغاً. وفي ذلك الفراغ بنوا قوانين
الفيزياء، لا بل العالم بأسره. من هنا كان
توحيد أينشتاين لمفهوم الفراغ مع مبدأ تعذُّر
سرعة لانهائية في الكون. كان باسكال قد سبق
إلى طرح ذلك المفهوم، بينما أتى على ذكره
ليوناردو دافنشي: "من بين أعظم الأشياء
التي لا توجد فينا وجودُ الفراغ هو أعظمها."
وعن المنظور الفيزيائي لتلك الكينونة، أي عن
الفراغ، تحدث الحلاج قائلاً: "النقطة أصل
كل خط، والخط كله نقطة مجتمعة." لقد اغتربت الفيزياء عن
مفهوم الفراغ لفترة مديدة شهدت معالجات
وطروحات متباينة لبنية فيزيائية مختلفة هي
الأثير. لعل النسبية الخاصة هي التي أعادت
الفيزياء إلى الفراغ بعد طول ارتحال؛ وكان من
شأن النسبية العامة تعميق دور الفراغ في
الفيزياء. لقد برز أثر الفراغ بروزاً
بيِّناً في محاولة أينشتاين بناء نظرية
للمجال الموحَّد. أما ما أدهش الفيزيائيين
بحق فكان اكتشاف ديراك أن الفراغ ينطوي على
محيط من الإلكترونات السالبة الطاقة،
المرتبة وفق تناظرات تبلغ حد الكمال. يعجز
الباحث عن تحسُّس أحد هذه الإلكترونات ما لم
يقتلعه من سكونه المطلق عن طريق صدمه بفوتون
عالي الطاقة؛ عندئذٍ يجسد الإلكترون ذاته في
هيئة إلكترون موجب. وكما هي حال الإلكترون،
كذا هو شأن القسيمات الأخرى؛ فلكلِّ قسيم particle
محيطه الخاص. تتداخل المحيطات وتتراكب، ولا
قاع لأيٍّ منها. تتخلل هذا الموج المتلاطم
قسيمات طاقة يحمل كل منها طاقة مساوية للصفر
تماماً. خلص ديراك إلى اكتشافه بتطبيق
الموضوعة الأساسية للنسبية الخاصة على
معادلة شرودنغر الكوانتية. ألمح الحلاج إلى
أمثال هذه المحيطات بقوله: "وكل ما يقع عليه
بصر أحد فهو نقطة بين نقطتين." إنه عود إلى
الكون الساكن مطلقاً الذي تصوَّرته
الميتافيزياء. هنا لا بدَّ من أن نعرج على
مبدأ هايزنبرغ في الريبة: يحدد هذا المبدأ
أصول تعاملنا مع الطبيعة؛ وهو ينص على تعذُّر
المتابعة الفعلية للمتغيرات الفيزيائية في
نفس الوقت. فلو حاولنا حساب طاقة قسيم حساباً
دقيقاً لأضعنا دقة مقابلة في حصر الفترة
الزمنية التي تَعامَل القسيم في أثنائها مع
كمية الطاقة المشار إليها. على العكس، لو
نجحنا في تحديد الفترة الزمنية التي تفاعل
القسيم في أثنائها مع قدر من الطاقة لما
أمكننا تقييم ذلك القدر على نحو مُرْضٍ. يُدعى
صنف من أصناف القسيمات باللبتونات leptons؛
وتنتمي الإلكترونات لهذا الصنف. تتحسَّس هذه
القسيمات بعضها بعضاً بتبادل قسيمات وساطة
أكبر منها كتلة. لكن كيف يتأتى لقسيمات خفيفة
كاللبتونات أن تتبادل قسيمات الوساطة
المذكورة العظيمة الكتل؟ نستعين في سياق
التفسير بمعادلة أينشتاين التاريخية التي
تنصُّ على أن الطاقة تساوي جداء الكتلة في
مربع سرعة الضوء: E = m.c2. تستطيع قسيمات الوساطة أن
تقترض ما تشاء من الطاقة ما دامت عملية
الإقراض هذه تتم أثناء فترة زمنية بالغة
القصر، أقل مما يفرضه مبدأ هايزنبرغ في
الريبة Uncertainty principle.
يترجم قرض الطاقة إلى كتلة (وفق معادلة
أينشتاين المذكورة) هي كتلة القسيم الوسيط.
لكن لما كانت مدة القرض غاية في القصر فلا
بدَّ أن يسدِّد القسيم الوسيط ما اقترضه من
الطاقة. ولا يمكن حدوث ذلك إلا بامتصاص أحد
الليبتونات له. تدعى هذه المدة بـ"فترة
هايزنبرغ"، وتتميز بولادة الطاقة من لا شيء
في أثنائها. بكلمة أوضح، تُخرَق كل نواميس
الطبيعة أثناء الفترة المذكورة، أي يتم الخلق
من العدم والعودة إلى العدم. وعلى الرغم من
انتماء القسيمات الوسيطة للمحيطات الوهمية
إلا أن لها أثراً حقيقياً. من ذلك مثلاً
انخفاض شحنة الإلكترون بسبب القسيمات
الوهمية التي تحيط به والتي تحول بيننا وبين
جزء من شحنة الإلكترون. نقرأ هنا الحلاج مرة
أخرى: "وغيبتك بالاحتجاب لا بالارتحال." على الرغم من اعتماد
شِقَّيْ الفيزياء المعاصرة (النسبية
والميكانيكا الكوانتية) الرياضياتِ المجردة
فإن هذين الشقين يصوِّران عالمين مختلفين.
تذهب النسبية إلى أن العالم محكوم بسببية
صارمة؛ أما الميكانيكا الكوانتية فإنها ترسم
العالم في هيئة أحوال متباينة، لكلِّ حال
منها احتماله الخاص في التحقق. ما يهمنا هنا
هو المعين الذي يستمد منه الشقان التفاصيل
اللازمة لصياغتهما. نذكر، على سبيل المثال
وليس الحصر، توقُّف الميكانيكا الكوانتية
على فضاء هلبرت، والتصاق نسبية أينشتاين
بهندسة ريمن. نؤكد بأن الرياضيات اختراع عقلي
صرف. بذا تكون المقولات الفيزيائية بدورها
اختراع عقلي صرف. وعلى الرغم من تأكيد
أينشتاين على موضوعية العالم فقد أصر على
رأيه القائل بأن القانون الفيزيائي هو إبداع
عقلي صرف. إن للسببية وجهين: فإما أن
تكون سببية إحصائية منقطعة الجذور؛ وإذ ذاك
لا يمكن تفسير القوانين الفيزيائية السببية
إلا بكونها تخييلات فرضها عَسَفُ الفكر
البشري. وإما أن تكون سببية معرفية؛ عندها
نستطيع قبول القوانين المذكورة باعتبارها
مفسِّرة لذاتها. وهكذا نجد أنفسنا – دون
تحضير مسبق – في أروقة الميتافيزياء. نقلِّب، من ناحية أخرى،
دفاتر الميكانيكا الكوانتية. أضاعت التجارب
المتأخرة الهوية الحقيقية للإلكترون؛ فهو
ليس بقسيم كما أنه ليس بموجة. هل يعقل أن يكون
الإلكترون مفتقراً إلى السمات المكانية
والزمانية؟ كيف ذلك وتجمعات الإلكترونات
تبدو مالكة لتلك السمات؟! هل تتأتى الريبة
الكوانتية، في سياق تنفيذ القياسات الدقيقة،
عن حقيقة محبطة تفيد بعدم وجود أشياء دقيقة
يمكن قياسها؟ مرة أخرى، نكتشف أننا تحوَّلنا
إلى مصطلحات الميتافيزياء. لقد سُنَّت قوانين الفيزياء
بهدف إلغاء السمة الشمولية للمصطلحات. فعوضاً
عن الحديث عن الحرارة والبرودة، نقرر أن درجة
الحرارة تساوي عدداً معيناً. وبصورة مماثلة،
نصبُّ باقي المصطلحات في حقل الأعداد، ثم
نعمد، في مرحلة تالية، إلى تجريد مختلف
الأعداد وإقامة علاقات بين رموزها. تلكم هي
قوانين الفيزياء. أليست اختراعاً عقلياً
بالفعل؟ إننا نكمِّم العالم، بينما يعدم
العالم أي تكميم. يذهب بعض مفسِّري
الميكانيكا الكوانتية إلى أن المعالم معدومة
في الوجود، وأن العالم هيولي البنية. نجد في
آليات عمل الجهاز العصبي ما يؤيد ذلك؛
فالمعلومات التي تقدمها حواسنا ليست موجودة
في المحيط وفق التشكيلات التي ندركها. إن
عقولنا هي المسؤولة عن بناء الإشارات الواردة
فيما يُخيَّل إلينا أنه عالم موجود خارجنا،
ومستقل عن إرادتنا؛ وبالتالي، فالأسباب التي
نلمسها ليست إلا آثاراً. يحق لنا أن نتساءل إن
كانت الأسباب موجودة فعلاً، أم أنها مجرد
مصادرات نظرية. أما من يقول بالاحتكام للواقع
فنذكِّره بالتناظر القائم بين علاقة القانون
الفيزيائي بالواقع، من ناحية، وبين ارتباط
المقولة الأخلاقية بالفعل، من ناحية أخرى. على أية حال، يُطمْئِننا
القانون الفيزيائي بأن تفسير العالم أمر ممكن.
بكلمات أدق: إن خلق العالم أمر معقول، وهو خلق
مستمر يشارك الفكر الإنساني فيه مشاركة فعالة.
وتتم عملية الخلق هذه في حقل ميتافيزيائي لا
انفصال فيه. إذا قرر العقل أن العالم كان
موجوداً قبله وسيستمر من بعده، فإنما يقرر
ذلك على خلفية حقيقية مفادها أن هذه المقولات
وأمثالها إنما هي تشكيلات عقلية، وأن
تفسيرها، بدوره، تشكيل عقلي. لعمري ما الذي
سيحدث لكلِّ تلك التشكيلات لحظة الانهيار
الفيزيائي للدماغ؟ إن كان العقل مرجعاً على
هذا النحو فلنا في قول ابن عربي دليل: "لا
إله بلا مألوه"! يطفو القانون الفيزيائي على
السطح في خضم جَيَشان الخلق المستمر. يؤكد لنا
أحد القوانين انجذاب الأجسام المختلفة
الشحنة الكهربائية بعضها إلى بعض. لكن ما الذي
يحدث فعلاً عندما يتجاذب الجسمان أمام
أنظارنا؟ قرر نيوتن أن الأجسام كلها تتجاذب
بفعل القوة الثقالية. فلنتصور معاً الأرض
والشمس وقد تجاذبتا إثر اتفاق بينهما على
وجوب انطباق قانون نيوتن في حالتهما. هكذا
يبدأ التجاذب بينهما بُعيد تحقُّقهما من
اشتراطات القانون. إنه حديث يفتقر إلى
المعقولية، ويدفعنا إلى وضع لا نستطيع معه
إلا أن نقبل بأن القوانين الفيزيائية هي
ترجيعات وأصداء عقولنا. وكما نفعل عند إنشائنا بنى
رياضية جديدة، على الأخص عند تعريف عناصر
مستحدثة، كذلك ننهج في الفيزياء. فالكتلة،
والشحنة الكهربائية التناظرية، وشحنة
الغرابة، وسواها، إنما هي عناصر من هذا
القبيل. تتقدم الرياضيات بإضافة الموضوعات؛
وكذلك تفعل الفيزياء. تقوَّم نظرية فيزيائية
معينة، من حيث كونها مقررة أو احتمالية،
بالاحتكام إلى موضوعاتها الخاصة. وهكذا قد لا
يكون العالم سببياً أو احتمالياً أو أي شيء
آخر! علينا ألا نعتقد بإمكانية
التحقق التجريبي من الموضوعات. إن أحدث تجريب
على هذا الصعيد هو التجريب العقلي، من نحو
الإبحار ذهنياً بعكس التيار الزمني حتى
الهنيهات الأولى بعيد ولادة الكون، بغية
التحقق من بعض الموضوعات الفيزيائية الحديثة. الحق نقول، إن التطورات
الأخيرة في الفيزياء قلَّصت من القيود التي
ينبغي فرضها على منظومة موضوعاتية فيزيائية،
إلى حد أنها لم تُبقِ إلا على قيد واحد، ألا
وهو الاتساق الداخلي بين موضوعات المنظومة.
ولا غرو في ذلك؛ فالاتساق الداخلي هو القيد
الوحيد الذي يجب أخذه بعين الاعتبار عند بناء
أي هيكل رياضي. ما الذي يمنع من قبول موضوعة
الفراغ أو المطلق بُعيد إسقاط قيد الوضوح
الذي كان يُطلَب فيما مضى؟ إن محاولة دحض إحدى
الموضوعات في الفيزياء المعاصرة تؤدي في
نهاية المطاف إلى تأييد صحة الموضوعة. فإذا
قلنا باتصال العالم انتهينا إلى انفصال
مكوِّناته؛ والعكس بالعكس. فيا للعجب! هذا هو
شأن الميتافيزياء أيضاً. فصحة موضوعة
ميتافيزيائية ما هي إلا نفي لها؛ كذلك نفي
الموضوعة يعني صحتها. هذا ما دعا
الميتافيزيائيين إلى القول بضرورة تقدُّم
الميتافيزياء بلا موضوعات. ولعل ذلك هو ما دفع
الفيزيائيين إلى اتهام الميتافيزيائيين
بالعداء للعلم، على الرغم من أن العلوم
المعاصرة نبتت على جذور المحاولات
الميتافيزيائية الأولى. تُرَدُّ البنى
الرياضية، على سبيل المثال لا الحصر، إلى
أطروحات أفلاطون الجدلية. يجب ألا نعجب لأن هناك أكثر
من مدرسة في الفيزياء والعلم بصورة عامة.
فالميتافيزياء هي الأصل، وهي ليست نهجاً
وحيداً؛ إنها مطامح لمفكِّرين متباعدين. وكما
أن الفيزيائي طالب معرفة، كذا هو شأن
الميتافيزيائي. يتفق الفيزيائي
والميتافيزيائي على ضرورة هجر الإيمان
بالأشياء. ويعني هذا، فيما يعنيه، أن مبدأ التسامي
فوق مصادرة الشيئية هو حجر الزاوية لكل نشاط
فكري خلاق. إنما لا زال بعض التجريبيين
يمارون في رفض هذا المبدأ. يصادر الإيمان
بالأشياء المقدرة على المناقشة والتأمل؛
ناهيك أن ما نراه مباشرة يعدم أي تعريف إلا
التعريف الاصطلاحي، تماماً كالمفردات
اللغوية التي هي مجرد اصطلاحات. إن ادَّعت الفيزياء أنها
تكتفي بظاهر الأحوال فتلكم دعوى باطلة.
فالاستكمال المطَّرد والتدريجي للنموذج
الرياضي الذهني الممثل للقانون الفيزيائي ما
هو إلا اقتراب من معرفة الشيء لذاته، لا سيما
أن الشيء، أصلاً، هو هيئة عقلية باطنة.
تُحَلُّ إشكالية الإيمان بإضافة التمثل؛ وإذ
ذاك نعود إلى ثنائي نظرية المعرفة، أي
الاستنتاج والحدس. ما هو عدد العناصر الذي يمكن
أن يُقحَم في نظرية؟ يجيب الرياضيون بأن
الأمر ليس اختيارياً على الإطلاق؛ إذ إنه
يتوقف على ما يُعرَف بدرجات الحرية. تساوي هذه
الدرجات عدد العناصر المعتمَدة، مطروحاً منه
عدد المعادلات التي تربط بين تلك العناصر.
توصف هذه المعادلات بأنها معادلات مقيدة؛ أما
عددها فيتناسب عكساً مع درجة كمال التناظر
الذي يقبل العقل به كقالب للنظرية. نذكِّر
بالأصول التناظرية لقوانين الانحفاظ؛
فانحفاظ الطاقة انعكاس لتجانس الزمان، على
سبيل المثال وليس الحصر. وعن الحرية
الإنسانية نقول: إنها حرية بالغة التقييد؛
ونعزو ذلك إلى العدد الكبير من القيود
المفروضة على العناصر الداخلة في البنى
البيولوجية. انطلق الكون من تناظر أكمل،
واتَّسمت مسيرته بكسر التناظرات القائمة في
مراحل متتالية. هكذا ولدت القوى الكونية
المعروفة في سياق كسر تناظرات محددة. يحاول
الفيزيائيون الآن قراءة التاريخ الكوني في
محاولة للوصول إلى التناظر الأول فيما يدعونه
اصطلاحاً القوة الموحدة الفائقة. ليست
هذه القوة هي كل شيء؛ ببساطة لأنها تعجز عن
ترجمة الإنسان! هل يعني ذلك ضرورة الإبحار
وراء تلك القوة بحثاً عن الترجمة المنشودة؟
ما الذي سنلتقيه بُعيد إبحارنا يا ترى؟ أهو
مطلق لم ينجم عن أي تناظر، بل تجاوَز كل
التناظرات ولم ينلْ منه أيُّ انكسار؟ أيضم
ذلك المطلق، بالتالي، خفايا الإنسان؟ يتأيد
هذا التصور بالمدى الشاسع للعالم الداخلي
للذات وبرحابته بالقياس إلى ضآلة الكون
الفيزيائي، على اتساعه الهائل. ألا يضيق
المتأمل ذرعاً بكون متواتر الهيئات، مكرِّر
لنفسه في كل الاتجاهات؟! نقبل اليوم ما سبق للحكمة
القديمة أن أكدته من أن كل جسم هو كون مصغَّر،
وأن الجسم أسير المكان والزمان. حري بنا أن
نُنزِل عملية المعرفة إلى منزلتها اللائقة،
لا أن نقلِّصها في إطار تطبيقات مفتقرة
للمعنى. فكما أن الاحتواء الوجودي هو مبدأ
الكينونة، كذا أمر المعرفة؛ فهي أسيرة
الحقيقة. يتوقف الزمن، وفق النسبية،
إذا ارتحلنا بسرعة الضوء. أما في الميكانيكا
الكوانتية فإن تسلسل الأحداث غير معرَّف ولا
يمكن ملاحظته في العالم الميكروفيزيائي. يعني
ذلك، فيما يعنيه، أن الزمن غير خالد. ولما كان
من المتعذر وجود كينونة غير خالدة بدون
كينونة خالدة فقد انْوَجَد تعريف المطلق وكسر
التناظر المرتبط به، الذي يخلق مفارقة لا
تُحَلُّ إلا بالعودة إلى التناظر، أو بالمضي
قدماً في مسلسل كسر التناظر. تفيدنا نظرية
المعرفة بأن كل تعريف جديد إنْ هو إلا كسر
للتناظر. لذا كان التناظر غير متناظر؛ إذ إنه
ينكسر عند طرحه كتعريف. نعيد كتابة ما تقدم في
مفردات ميتافيزيائية فنقول: إن الخلق
المستمر هو حلٌّ للتناقض بين العدم وبين
اللانهاية. درج أينشتاين على التساؤل
فيما إذا كان لدى الإله أي خيار عند خلقه
العالم. بدورنا نفسر تساؤل أينشتاين بالقول
إن التناظر المطلق هو فوضى مطلقة. لذا كان لا
بدَّ من أن يُكسَر تحقيقاً لمبدأ كمال
التناظر. ولقد انبرى وجودنا، على هامش هذا
الكسر، لتمثل تكافؤ النظام والفوضى فينا
بثنائية: السبب–النتيجة. أجل، إنها لمعجزة أن
نكون موجودين، وأن يكون باستطاعتنا التنظير
لهذه الثنائية! لا مفرَّ من قبول الغائية.
فإذا قررنا أننا مخيَّرون خَلُصنا إلى أننا
لا نملك من خيار إلا أن نختار. ولعل المقصود
بذلك هو خلود الفكرة وخلود القيمة. تتخلل
القيمة كل أنماط الصيرورة وتأبى إلا أن تحقق
معاييرها. من ذلك العقوبات الأخلاقية التي قد
تبدو غائية، لكنها موجودة ومديدة. فالقيمة في
الصيرورة، مثلاً، تحكم بانقراض التجمعات
التي يتزوج فيها الذكور أخواتهم. لا تجد الفيزياء معنى لها
إلا في الميتافيزياء؛ بينما يبدو عالم
التطبيقات غريباً عنها. فالمبادئ الفيزيائية
النظرية تعني حيازتنا في نمط معين. فبسبب
الجاذبية تحوزنا الأرض، وبسبب النسبية
يحوزنا الآن–هنا. هل يمكن أن تحقق الفكرة
خلودها؟ إن التكاثر هو أدنى أشكال السعي إلى
الخلود؛ بينما التوحد مع الوجود أرفعها. إن
كانت القوانين الفيزيائية محكومة بالزمان
والمكان فلا خلاص لها، ولا ضمانة، إلا
بالخلود. نعرج هنا قليلاً على تعريف الحياة.
لا أحد يدري ما هي الحياة؛ لكن الجميع يتفقون
على سمة رئيسية لها هي أن الحياة لا تعدم
المأوى في أي ظرف. كيف سيكون مأوى الحياة بعد
اندثار المادة وتحولها إلى طاقة في المستقبل
البالغ البعد من حياة الكون؟ تتجزأ الحياة في
عصر المادة إلى تشخيصات منفصلة يلعب كل منها
دور كون بأكمله. تلكم هي السمة المميزة
للمادة، سمة الانفصام والتقوقع. إن تجاوز هذه
السمة عمل خلاق ولا شك. إلا أننا نشير إلى أن
ذرائعية المادة زيَّنت لآليات اندماج عابرة،
كالعلاقة الجنسية بين الذكر والأنثى. فبقدر
ما توفر تلك العلاقة مناخاً ملائماً لاستمرار
الحياة فقد تنقلب في فترة معينة إلى عامل
مُهلِك. إن انتشار الإيدز في عصرنا لهو أكبر
دليل على تحول العلاقة المذكورة عن المهمة
المنوطة بها إلى مهمة معاكسة هي محو الجنس
البشري. تحدونا الرغبة لأن نؤكد أن مستقبل
الحياة غير مرهون بهذا الجنس، وأن الحياة في
طريقها إلى الأسمى قد تتجاوزه. أما الأسمى فهو
المأوى النهائي للحياة حيث تنتهي المادة ولا
تبقى إلا الطاقة. وإذ ذاك يتحقق كائن كلِّي
موحَّد هو السعادة السرمدية بتحقيق "الفكرة"
ذاتها أخيراً. إن كان الإنسان كائن معرفة
فيُفترَض في ورثته أن يكونوا عارفين فعلاً. لن
يتم هذا التوريث إلا عبر ترشيح أخلاقي.
فالمعرفة والقيمة صنوان؛ ولن تحقق الفكرة
ذاتها إلا بتبني مبدأ الاصطفاء الأخلاقي،
كما هو شأن مبدأي الاصطفاء الطبيعي والاصطفاء
الصنعي. إن أي حديث عن الكلِّ الموحَّد لا
يستقيم إلا بإعلاء شأن الآلية المذكورة كنهج
ملزِم لسعي الفكرة إلى التحقق النهائي.
باختصار، لن نجد مخرجاً من مفارقة paradox
الاصطفائين الصنعي والطبيعي إلا بالسمو إلى
مبدأ الاصطفاء الأخلاقي؛ ففيه تذوب كل عناصر
العملية المعرفية وتندمج. تفيدنا نظرية رامزي
في الرياضيات بأن كل مجموعة، مهما انطوت على
عشوائية، فإنها – ولا شك – ستضم عناصر منتظمة.
ويفضي تضخيم المجموعة إلى توسيع الحيِّز
الخاص بتلك العناصر، بما يؤدي إلى احتلالها
كلَّ مساحة المجموعة فيما بعد. كذا هو شأن
الاصطفاء الأخلاقي الذي سيسهم، بالمثل، في
مدِّ آثار الفكر المعرفي الأخلاقي. إن جبلَّة
الكائن الكلِّي الموحَّد التالي هي من جبلَّة
أرباب هذا الفكر. اختزل الحلاج هذه الحقيقة
بقوله: "يا هو أنا وأنا هو؛ لا فرق بين أنيتي
وهويتك إلا الحدث والقدم." إن منح الموضوعية العلمية
مصداقية من درجة معينة يفرض، أولاً وأخيراً،
موقفاً ذاتياً جوهره الإخلاص للحقيقة.
فالمعرفة هي آلية الانعتاق من شوارد الصيرورة.
نستخدم هنا مصطلحات ميتافيزيائية فنقول: إن
السعي إلى الحقيقة مقدس؛ فلا غرو بأن نقبل
الولاء للحقيقة. ولنلاحظ نفي المناهج
المتضادة لهذه المقولة: فالفكر المادي والفكر
الغيبي يتفقان على وجود قاع صخري هو نهاية
المطاف – وإن يكن القاع مختلفاً في الحالين.
قد يقوِّي الموقف المذكور أو يُضعِف ارتباط
الأنا بالفكرة العاملة لتحقيق ذاتها، تلك
الفكرة التي يمكن أن ندعوها أيضاً الخافية
الكونية cosmic
unconscious. نضرب مثلاً الأطباء
المعاصرين الذين يرفضون تقارب الفيزياء
والميتاقيزياء ظناً منهم بأن الأجسام الحية
ليست إلا مجموعات من النسج وحسب. لقد أبعدوا
السمة الموضوعاتية عن الطب وأهملوا اعتبار
ظاهرة الحياة موضوعة من موضوعات الفكر
البشري، حاسبين بذلك أنهم وضعوا طبَّهم على
مسافة مأمونة من الميتافيزياء. إنهم ما دروا
أن ما فعلوه بذلك إنما هو زلق علمهم إلى قاع
صخري حيث كَشْف الشيفرة الوراثية هو ما يضمن
ألا نندفع، عفواً أو قصداً، ناحية قاع صخري.
من هنا يجدر بنا، ربما، أن نقلع عن تصور
التاريخ كسلسلة، وأن نعيد قراءته وفق معايير
لاتاريخية. لا يقل الحديث عن الفيزياء
باستخدام المفردات المتداولة أهمية عن العرض
المباشر لها. إن التزامنا برؤية وحيدة
الجانب، تتمثل بتحديد الاحتكام إلى القانون
الفيزيائي وحسب، سيقودنا، آجلاً أم عاجلاً،
إلى حالة من الشواش. أذكر هنا وجود ست نظريات
لتفسير الليزر وأكثر من مئة نظرية تتناول
الجاذبية. لقد دأب علماء كبار على اختبار
تلامذتهم بالطلب من هؤلاء التلامذة أن
يتحدثوا عن الفيزياء والرياضيات دون الدخول
في التفاصيل. إنها رغبة هؤلاء الكبار أن
يتفهَّم تلامذتهم الطبيعة الميتافيزيائية
للفيزياء. نسوِّغ ما تقدم بالتعليل
التالي: تُعزى التعددية الكبيرة في الأنماط
الفيزيائية التي تتناول ظاهرة واحدة إلى
اختلاف الموضوعات المستخدَمة في تلك الأنماط.
من ناحية أخرى، تتعذَّر مطابقة نمط فيزيائي
ما مع الواقعة المرتبطة به ما لم تُضَفْ
موضوعات تبسيطية، غالباً ما تصل بالنمط
الفيزيائي إلى حد تجريده عن أصوليَّته؛ فلا
يبقى من ضمانة للنمط إلا إمكانية الحديث عنه.
فالجاذبية هي حقل هندسي، ولعلها حقل سلمي، أو
مزيج من الاثنين، أو غير ذلك. أشرنا إلى أن تحديد الكميات
الفيزيائية هو مجرد اصطلاح. من هنا يفضي تغيير
المصطلحات إلى بروز قوانين فيزيائية مباينة.
ذلك أن الفيزياء تنطلق من فرض منظار معين في
رؤية العالم. وعادة ما يلجأ الفيزيائيون إلى
إهمال هذا العمل التعسفي عند اندراجهم في
تخليق التفاصيل النظرية. مرة أخرى نعود إلى
مقولة أن القانون الفيزيائي هو إبداع ذهني
محض. نستذكر مثلاً أحد قوانين نيوتن الذي
ينصُّ على أن الجسم المعزول يحافظ على حركة
منتظمة. أية عزلة تلك التي يتحدث عنها
القانون؟! إن شئنا تصوراً فيزيائياً للذهن،
كونه راصداً فيزيائياً مقرراً، فإن هذا
الذهن، لا شك، سيتبادل التأثير مع الجسم
المعزول، ويُفقِده بالتالي عزلته البهيجة!
إننا نبرِّر للميتافيزيائيين في هذا السياق
بحثهم الدؤوب عن منهج معرفي تسقط السمة
الموضوعاتية عنه. إن الواقعة في تحليلنا هذا
ليست بدورها إلا حالة طنينية خاصة بأجهزة
الحس وتعكس التوحُّد الكوني لهذه الأجهزة. سبق لأرسطو أن تحدث عن
ميتافيزياء الخبرات اليومية؛ ولعله خلص إلى
تعذُّر معرفة الأشياء لذاتها. ورثت المادية
هذا النهج؛ وبسبب ذلك هبطت إلى مستوى التعليل
المباشر المحدود بمواضيع الحواس، باعتبارها
المعلومات المتوفرة الوحيدة من نوعها. نجد
هنا مكاناً ملائماً لموضوعة مستحدَثة حاولتْ
رأب الصدع الذي أحدثه الفكر المادي: موضوعة
الوحدة–في–التنوع. يحاول أصحاب الموضوعة
تجاوز التأييد أو الدحض، معلِّلين أن الشرخ
الحاصل هو شرخ غير جوهري. لو كان الأمر كذلك
لما اقترن فعل المعرفة بمبدأ الاصطفاء
الأخلاقي، ولما لزمت لهذا المبدأ أية كمية من
الطاقة. لو عدنا إلى نظرية رامزي
لاكتشفنا على الفور أن الشرخ في بنية أية
مجموعة تتناولها النظرية هو شرخ فعلي. فكلُّ
حيِّز في المجموعة يُفصَل بحواجز واضحة عن
أيِّ حيِّز آخر؛ هذا بالإضافة إلى أن النظرية
تُنعِم على التكوين المنتظم بمكانة خاصة، على
الرغم من ضآلته النسبية. نتساءل هنا عن المعاناة
العظيمة لطالب المعرفة الذي هو كائن أخلاقي
في الجوهر. إنه يواجه تيار الفوضى الكونية،
يحدوه أمل واسع بتحقيق الفكرة لذاتها. إن في
تعاظم النماذج المعرفية ورنوها إلى الكمال
ضرباً من هذا التحقق ومحاولة من الفكرة لخطاب
ذاتها. لم نأتِ بجديد لدى حديثنا عن
مبدأ الاصطفاء الأخلاقي. ففي الإخوة
كارامازوف لدوستويفسكي يسجد الراهب زوسيما
أمام دميتري في مواجهة هذا الأخير للعذابات
الكبيرة التي تنتظره والتي سيلقاها بكل ما
فُطِر عليه من طيبة. وقبل دوستويفسكي، أطلعنا
الحلاج على مكنونات سريرته: "لو ألقي مما في
قلبي ذرة على جبال الأرض لذابت." على الرغم من جنوح
الفيزيائيين إلى التعامل مع الأجزاء فإنهم لا
يطيقون إلا الإبحار في تيار التوحيد. يتجسد
ذلك بنظريات فيزيائية معاصرة تتطلَّع إلى ما
قبل الحقبة التي بدأ فيها كسر التناظر. من
جانبهم، يسعى الميتافيزيائيون إلى القفز حتى
سوية الكلِّية. لقد أقر الفيزيائيون بإسقاط
التجربة كضرورة. فالحديث يدور اليوم عما جرى
في طفولة الكون – تلك الطفولة التي نستطيع
استبصارها لا رؤيتها. ويرى طالب المعرفة أن
انحباس الأنا في تشكيل فسيولوجي معين هو
اختبار لمقدرة الأنا على تمثيل دور الكون،
بما يسهل تحقيق الفكرة لذاتها؛ إنه يدرك
أزلية الفكرة. على العكس، يفضي الابتعاد عن
مبدأ الاصطفاء الأخلاقي إلى القبول بحقيقة
الذات المرميَّة في العالم بدون تعليل؛ الأمر
الذي سيدفع هذه الذات إلى استدراج أحوال من
الرضى البيولوجي المستمد من سويات دنيا من
الطنين، كالطعام والجنس. اختزل الحلاج
إشكالية الأزلية بقوله: "علم الألف في
النقطة، وعلم النقطة في المعرفة الأصلية،
وعلم المعرفة الأصلية في الأزل." إن التطبُّع الحسي هو من
أخطر الإرهاصات؛ فما هو إلا انحدار إلى قاع
صخري يحجب الركائز الأساسية للحقيقة. يفضي
ذلك التطبُّع إلى مسلسل مضنٍ من انعكاسات
الأنا على ذاتها، تمتد وتتعاظم حتى تفتِّت
عرى الذات وتدفعها إلى تعليق إشكالية وجودها
على مشجب وهمي يدعى "الظروف الموضوعية"
التي هي مشجب الآخر. لقد أوغل ديكارت بعيداً
في هذا النهج، وخلص إلى مصادرته الشهيرة: "أنا
أفكر، إذن أنا موجود." لقد غَرُب عن بال
ديكارت أن لفظة "أنا" لا تقبل المحمول؛
إنها حامل ومحمول. ولا نقصد هنا باللفظة مجرد
نطقها، وإنما نرغب بتأكيد طبيعتها
الميتافيزيائية. لا تقوم الأنا على موضوعات؛
إنها منبع الموضوعات ومصدر تخليقها. من هذه
الحقيقة بالذات اشتَقَّت الميتافيزياء
والفيزياء ومناهج أخرى مقياساً يعجز الجميع
عن تجاهله، يدعوه بعضهم إلهاماً، ويصفه آخرون
بأنه حدس مبدع. على أية حال، يتنافى هذا
المقياس مع كل قواعد المحمول. أما اختزال
المقياس إلى قفزة نوعية تتحقق إثر تغيرات
كمية فما هو إلا تلاعب بالألفاظ؛ ناهيك عما
ينطوي عليه من تقليص لحقيقة التجربة الخلاقة. إن التجربة الفيزيائية هي
تجربة ميتافيزيائية منطوقة. يعتمد النطق
فقرات سابقة؛ فإن لم تتوفر تلك الفقرات
نَحَتَ الفكر موضوعات معينة وألبسها سمة
الشمولية كيما تصلح قاعدة مشتركة لبدء أيِّ
تبادل للجمل المنطوقة. هل تعجز الكائنات
الصمَّاء عن تحقيق المعرفة يا ترى؟! نجد في
مثال بيتهوفن إجابة شافية على هذا السؤال. يخطئ الكثيرون من المنحازين
إلى منهج أو آخر في إغداق صفة الشمولية على
منهجهم، ويذهب بعضهم حتى تحميل المنهج ما لا
يطيقه. إن أي فعل أو تفاعل منهجي ما هو إلا
أطروحة تغطيها مفردات وتراكيب مستمَدة من لغة
معينة. أما اللغة فهي، بدورها، مجموعة من
مصطلحات ميتافيزيائية توظَّف في نطاق أبعاد
منتهية محدودة؛ بينما الفكرة أو الحقيقة أو
المطلق هي المتجاوِز لكل بنية اصطلاحية.
يزودنا العلم بتأكيد جزئي لهذه الفكرة؛ فهو
يفرض علينا أن ننحت مفردات مستحدَثة إزاء كل
كشف جديد. لا نستبعد أن نضطر إلى تعديل
اللغة إن تحولنا عن العيش على كوكب الأرض. ومن
يدري، فقد نتعلم معايشة النموذج، لا خطابه؛
وبكلمات أوضح، نستغني عن اللغة لصالح التخاطر
telepathy.
وعلى الرغم من عجز اللغة عن وصف ما ستؤول إليه
الأحوال بعد ذلك فإننا نهتدي في تصوير وميض
الفكرة بتأمل شهاب يهوي، أو تخيل الحياة
المضطرمة لنجم. نذهب بعيداً في تحليلاتنا،
مهتدين بقول الحلاج: "تتجلَّى عليَّ حتى
ظننتك الكل، وتُسلَب عني حتى أشهد بنفيك."
إنها تظاهرات الفكرة في الأنا، وإرهاصات
الأنا في الفكرة. أية تظاهرات وأية إرهاصات؟
يعتمد الخطاب الفكري المنطوق أبجديات
ومفردات ومصطلحات؛ وتودَع في هذه المجموعة من
الرموز كلُّ محصلات الفكر البشري. وكما يقرر
هذا الفكر في إحدى موضوعاته بأن المكان صنيعة
المادة، شأنه في ذلك شأن الزمان، كذا أمر
الحقيقة المنقولة؛ فهي من قدر عناصر تلك
المجموعة. لكن الحقيقة المطلقة تتجاوز أية
مجموعة، مهما كان نمطها. من هنا كان عجز أي
كتاب أو منهج أو جدل عن السمو إلى حيث الحقيقة
المطلقة؛ إذ يجب ألا يغرب عن بالنا أن
الحقيقة، كما أتى عليها أي كتاب أو منهج أو
جدل، إنما هي حقيقة منحوتة في أبجديات
ومفردات ومصطلحات محدودة. ينبغي أن نقوِّم المصادرات
المتباينة انطلاقاً مما تقدم، كقولنا إننا لن
نستطيع معرفة العالم. فعلى الرغم من إقرارنا
بانتفاء الحدود في الحياة العيانية، نرفض
مُثُل أفلاطون، ونقبل بوجود قسيم يعلَّل
كيانه الفيزيائي باستحالة كشفه، كقسيم
الكوارك quark
مثلاً. يتوِّج الفكر سلسلة من التساؤلات بطرح
مصادرة؛ وسرعان ما تقطع هذه جذورها الأصلية –
ويا لها من مفارقة! إن الحياة ليست مصادرة
بشكل من الأشكال؛ إلا أن المدنية المعاصرة
اختزلت الحياة إلى سمة اليومية، مستبدلة
بظاهرة الحياة كموضوعة الحياةَ اليومية
كمصادرة بالغة الضيق والمحدودية. أليست الوحدة والتعددية
مصادرات تزيِّنها الحواس؟ ألا تصنَّف الطقوس
الدنيوية، مهما كانت متضادة، في قائمة
المصادرات؟ تقصد تلك الطقوس الغائب أو
الحاضر؛ لكن ما تقصده فعلاً – وياللعجب! – هو
كلاهما. ليس من قبيل الصدفة أن يتمخض الاصطفاء
الأخلاقي عن التجاوز كطقس أسمى، وأن يقرر
الفيزيائيون انتفاء الحدود في الحياة
العيانية. هنا نلتقي التجاوز مرة أخرى؛ فما
يحدث في الحياة العيانية يتجاوز في حقيقته –
ولا شك – مشهد تلك الحياة. هذا ما يعترف
الفيزيائيون به الآن. يؤكد أئمة الميكانيكا
الكوانتية أن لا حدود لسلوك القسيمات، وأن
القسيمات تضرب عرض الحائط بنواميس الحياة
العيانية. فبعضها يتصرف، مثلاً، وكأنه يعرف
تصرفات بعضها الآخر عن بعد. أما في أحوال أخرى
فتلجأ القسيمات إلى الامتثال لرغبة الراصد،
مصوِّرة له السبب وفق ما يهوى؛ لا بل إنها قد
تعمد إلى وضع النتيجة في لحظة زمنية تسبق لحظة
السبب! وعلى الرغم من محاولة النسبية التمسك
بأهداب الموضوعية، إلا أنها تقرر تبعية
المادة لانحناءات الفراغ أو اللاشيء. وفق
النسبية، تساوي كتلة الفوتون السكونية
صفراً؛ ذلك أن الفوتون لا يسكن في أي مرجع. هنا
تتجاوز الفيزياء نفسها وتلج عالم
الميتافيزياء. لكن أليست قوانين الفيزياء
إضافات عقلية تابعة لتصورات الباحث؟ يتأكد
ذلك بنظريات التوحيد المعاصرة التي تنحت
كميات فيزيائية مصطنعة هي الثوابت المعيارية. لم يألُ الفيزيائيون جهداً
في استدراج الرياضيات إلى حلبة الفيزياء. لقد
تحولت الفيزياء إلى نظريات رياضية في بنيتها.
لكن أحداً لم يحاول نمذجة الميتافيزياء
بواسطة الرياضيات. فالميتافيزياء ليست نظرية
عن الأوليات؛ ناهيك عن أن نمذجتها رياضياً قد
تفضي إلى رجحان كفة أحد المذاهب
الميتافيزيائية وتقديمه على ما سواه. حتى في
الفيزياء لم ترجح كفة نظرية فيزيائية على
أخرى. نذكِّر إضافة بأن أياً من المذاهب
الميتافيزيائية لم يحقق سبقاً على المذاهب
الأخرى. يقدِّم العلمانيون الحقيقة الآنفة
الذكر كعلَّة في استحالة النمذجة الرياضية
للميتافيزياء. إننا نردُّ بمفردات بالغة
البساطة بأن شأن النظريات الفيزيائية أشبه
بحال المذاهب الميتافيزيائية؛ فبتطبيق
الرياضيات تعجز أية نظرية فيزيائية عن التقدم
على النظريات الأخرى. كذا فإن هذا العجز
سيستمر كما هو بتنحية الرياضيات جانباً. أما
قمة المفارقات فهي التقاء الجميع على تقويم
الرياضيات كأسمى حكم عقلي. لقد التقت الفيزياء
والميتافيزياء سابقاً في إطار تطوير
التفاصيل على مبدأي الاستقراء والاستنتاج.
توسع هذا اللقاء الآن حتى الأصول المنهجية،
فلم يعد الحديث عن الجمال والبساطة والاتساق
والانتظام غريباً عن الفيزيائيين، وتحولت
هموم الفيزياء إلى شجون ميتافيزيائية. ألم
يكن طرح مبدأي الاستقراء والاستنتاج فعالية
ميتافيزيائية من الأساس؟ إننا نشهد عودة اللحمة بين
الفيزياء والميتافيزياء. يترافق ذلك بتقديم
التعليلات الموجبة لإبقاء الرياضيات بعيداً
عن عالم الميتافيزياء. من ذلك، مثلاً، أن
الرياضيات تعجز عن الدخول إلى عالم التفاصيل
الواسعة للفيزياء. فالشحنات الكهربائية هي
كينونات مركَّزة، ولا توجد أنماط رياضية
تتناولها بشكل دقيق أو معروف؛ بينما تقدم
الرياضيات طيفاً واسعاً من الأدوات لصياغة
نموذج الحقل. لذا ثابر العلماء الكبار، منذ
ماكسويل، على تطوير ذلك النموذج، على الرغم
من الفشل الواضح الذي يؤول إليه نموذج الحقل
في جوار المصادر النقطية للحقل. لكن هذا الفشل
سرعان ما تحوَّل إلى نجاح باهر في أحوال
متفردة، كحالة الثقوب السوداء. امتد نموذج
الحقل فشمل الفكر الكوانتي؛ إذ ذهب بعض أتباع
المدرسة الكوانتية إلى القبول بحقل من
الاحتمالات الرياضية المجردة، مسؤول، أولاً
وأخيراً، عن حركات وتفاعلات القسيمات
الأولية. إن الانتقائية في سياق البنى
الرياضية الناظمة للنظريات الفيزياء لدليل
ساطع على الطابع الميتافيزيائي للفيزياء. من
ذلك، على سبيل المثال وليس الحصر، البنية
الرياضية للحقل التي تتخلل معظم نظريات
الفيزياء، كما أشرنا للتو. نذكر أيضاً نظرية
كالوزا لعالَم من خمسة أبعاد: فعلى الرغم من
افتقار البعد الخامس لنظير فيزيائي محدَّد،
نجح كالوزا حيث فشل الآخرون في توحيد الثقالة
والكهرطيسية. إلا أن نظريته لم تلقَ رواجاً في
أوساط العلماء لصعوبة التشكيلات الرياضية
الداخلة فيها. نذكر في نفس السياق تحويلات
لورنتس الرياضية الطابع التي استطاعت حل
إشكالية التأثير عن بعد. يَسِمُ التجريبيون
الميتافيزياء بالغرابة، كونها تُعنى بكل ما
هو غير مألوف؛ لكنهم ينسون (أو يتناسون) حقيقة
أن الفيزياء بدورها لا ترتقي إلا بنشدان غير
المألوف. هاكم بعض المقولات التي استجرتها
الفيزياء من عوالم غير مألوفة: -
سرعة
الضوء ثابتة لا تتغير بتغير سرعة الراصد؛ وهي
أكبر سرعة مسموحة في الكون. -
هناك
كمٌّ أدنى للطاقة تتعامل به الطبيعة. -
ينحني
الفراغ ويلتف بوجود المادة؛ وبدورها تلعب
الهندسة دور الموجِّه لسلوك المادة. -
العالم
هيولى متلاطمة عديدة المعالم، ويتحدد كل شيء
لحظة تدخل الوعي. -
ينتقل
العالم من حال إلى حال بقفزة كوانتية. -
تكميم
البنى ضرورة أزلية، وإلا عدم الكون مَن يتحدث
عنه؛ إذ تتكاثر نظائر العناصر بإيقاع غير
منتهٍ، حاجبة كل فعالية فكرية. -
تتصف
القوانين العيانية بالاختزال وبالمحدودية؛
ذلك أنها تتناول كيانات متباينة. أما
القوانين الباطنة فمتعددة وكثيرة لأنها تطال
عناصر متماثلة. إننا، إذا أبصرنا إلكتروناً،
فكأننا نشاهد كل الإلكترونات. -
تحكم
قوانين الفيزياء الكون وهي علة وجوده؛ أما
وضعه الراهن فيتوقف على شروطه الابتدائية. لا يخفى على أحد الطابعُ
الميتافيزيائي لهذه المقولات. وهاكم مثالان
آخران أيضاً: ماذا لو رصدنا سيارة منطلقة من
سيارة أخرى متحركة؟ تعلِّمنا الميكانيكا
الكلاسية أن سرعة السيارة الأولى تساوي مجموع
أو فرق السرعتين. أما في حال رصد شعاع ضوئي
شعاعاً ضوئياً آخر فسيراه منطلقاً بسرعة
الضوء. أيبدو هذا الأمر مألوفاً؟! يا للعجب!
ماذا لو استطاعت ذرة أن تقرأ وصفها الكوانتي.
سيكون الوصف أشبه بقراءة الطالع؛ وقراءة
الطالع بعيدة كلَّ البعد عن كل ما هو مألوف! انطلق الكون من شروطه
الابتدائية مطوراً ذاته وفق ما تمليه قوانين
الفيزياء. إن قوانين الفيزياء لم تكن فاعلة
قبيل ذلك؛ فالقوى الكونية لم تكن قد ولدت بعد.
لذا يتعذَّر تضمين الشروط الابتدائية في
سجلات الفيزياء. إنها من طبيعة ميتافيزيائية
ولا شك. نواجه هنا إشكالية معرفية: فالشروط
الابتدائية مصطلح فيزيائي، وقد رأينا للتو أن
الشروط الابتدائية للكون ذات طبيعة
ميتافيزيائية. لا يُحَلُّ هذا التناقض إلا
بافتراض الطبيعة الميتافيزيائية للقوانين
الفيزيائية. حسبنا من هذا الافتراض أن نقبل
بالسمة غير الموضوعاتية لتلك القوانين؛ وكل
ما لم يكن موضوعاتياً يصنَّف بالضرورة في
قائمة الإبداعات العقلية الصرفة. بذلك نعود،
مرة أخرى، إلى أينشتاين الذي أشار إلى أن
قوانين الفيزياء ما هي إلا إبداع عقلي صرف. إن
الضمانة الخاصة بمنطقية القوانين الفيزيائية
ترتكز على هذه الحقيقة – حقيقة أن هذه
القوانين منحوتات عقلية بحتة. ماذا لو أغمضنا الأعين عن كل
التظاهرات ومحونا كل المصطلحات؟ ماذا لو
حاولنا أن ندلف إلى الوجود بإمكاناتنا الحسية
الاستشعارية، تاركين كل القيود والاشتراطات،
مطلقين العنان لأذهاننا كي تنحت ما تشاء من
الصور والأخيلة؟ أن ننقطع عن الزمان
والمكان، وأن نطلَّ على الزمان والمكان من
حيِّز لازماني ولامكاني؛ أن ننعتق من ذواتنا
وأن نُحجِم عن تكرار الخطاب الخاص بما نريد،
متسامين إلى حيث الإرادة؛ أن "نزهد فيما
سيأتي، وننسى ما قد مضى"، على حدِّ قول
جبران... سنتحسَّس عندها سيمفونية
الكون الرائعة وندرك المعنى العميق لوجودنا
القائم على التسامي عن كل التظاهرات
والمصطلحات ومدلولاتها، التي هي، بدورها،
تظاهرات ومصطلحات، محققين المعرفة في ومضة
تخبو وتتخلَّى، لتتلوها أخرى تتأرجح
وتتجلَّى، كما ثبت في قول الحلاج: "المتجلِّي
عن كل جهة، المتخلِّي من كل جهة." ***
*** ***
|
|
|