|
ما هي الفلسفة
الإيكولوجية؟
بعض
المبادئ المؤسِّسة
هنريك سكوليموفسكي
الفلسفة
الإيكولوجية "إيكولوجية" بالمعنى
الأوسع للكلمة: إنها ترى البشرية بوصفها
واحدة مع الطبيعة، وكجزء لا يتجزأ من سيرورة
التطور التي تمضي بالكون قُدُماً من المادة
الجامدة إلى الحياة، إلى الوعي، وفي المآل...
إلى الإلهي. إن
المفهوم الذي يشغل من الفلسفة الإيكولوجية
مركزَها هو "العالَم كحَرَم". وهذا
المفهوم بمثابة بديل عن الرؤية النيوتنية "للعالم
كآلة". هذه النظرة الجديدة إلى العالم
تشدِّد على الطبيعة الفريدة، النفيسة،
والقدسية لكوكبنا. وجميع المبادئ الأخرى
للفلسفة الإيكولوجية مشتقة من هذا المبدأ. المبادئ
الأساسية الخمسة للفلسفة الإيكولوجية هي
الآتية: 1.
العالَم حَرَم. 2.
إجلال الحياة هو قيمتنا
المرشدة. 3.
الوَفْر شرط مسبق للسعادة
الداخلية. 4.
الروحانية والعقلانية لا
يستبعد أيٌّ منهما الأخرى، بل تتكاملان. 5.
من أجل أن نشفي الكوكب يجب
أن نشفي أنفسنا. انبثقت
الفلسفة الإيكولوجية استجابةً لإخفاقات كلا
الرؤيتين الآلتية والفلسفية اللسانية/التحليلية
العاجزة التي أتت منها. وهذه الإخفاقات
بيِّنة في مواقفنا الأنانية العنيفة حيال
رفاقنا البشر، وفي إساءتنا المتفشية إلى
البيئة. الفلسفة
الإيكولوجية هي الفلسفة كما يجب أن تكون –
فلسفة ذات معنى، لازمة، وتشاركية. إنها ليست
فحوى كتب المكتبات التي تَراكَم عليها
الغبار، بل بالأصح مُقترَبٌ متفكِّرٌ،
معاصرٌ لفهم العالم، ولفهمنا نحن. المذهب
الإنساني الإيكولوجي
لقد
كتب أوزفالد سبنغلر أن "التقنيات تكتيكات
للعيش". وهذه جملة مفيدة للغاية فعلاً؛
وسوف أستفيد منها بينما أشخِّص مأزقنا وأفتش
عن حلول ممكنة. لقد
خذلتنا التكنولوجيا الحديثة، أو التكنولوجيا
الغربية بالأصح، لأنها غير منتِجة على المدى
الطويل؛ وهذا ليس لأنها صارت مخرِّبة
إيكولوجياً، ولكنْ لأنها في المقام الأول
تناست وظيفتها الأساسية، ألا وهي أن كل
التقنيات هي، في المآل الأخير، تكتيكات للعيش.
وبما أن التكنولوجيا الحديثة قد خذلتنا كجملة
من خطط العيش فقد برهنت أيضاً بذلك أنها غير
منتِجة اقتصادياً ومدمِّرة إيكولوجياً. لكن
هذه التهمة تنسحب أيضاً على التكنولوجيا
البديلة. لقد عرفت هذه التكنولوجيا انطلاقة
قوية نوعاً ما، وأسَرَتْ مخيِّلات الكثيرين،
وها هي ذي الآن تنتهي إلى الخيبة. لماذا؟
لأنها لم تأخذ نفسها بما يكفي على محمل الجد،
وأعني كجملة جديدة من تكتيكات العيش. عندما
دُفِعَ بالتكنولوجيا البديلة إلى حدِّها
الأقصى، صارت إما عبادة وثنية لأنواع جديدة
من الأوَيْلات، وإما، على غير ذلك،
إيديولوجيا غليظة لليسار الجديد: سيرورة
محمومة تستديم، رغم كونها، ربما، خلواً من
المعنى. لقد أخذت التكنولوجيا البديلة في
الأفول لأنها لم تمضِ حتى جذورها؛ لم تواجه
نفسها بالمهمة النهائية لكل التقنيات: أن
تصير جملة تكتيكات للعيش. أما
تكتيكات العيش فليست مجرد استخدامات جديدة
لأدوات قديمة. فالثقافة جزء أساسي من تكتيكات
العيش، وهي، مزدهرةً وصحيحةً، تزوِّد بجملة
من البنى الديناميَّة للعيش. وضمن العالم
الغربي، ولاسيما إبان القرن ونصف القرن
الأخيرين، وبخاصة إبان نصف القرن الأخير،
أسيء فهم الثقافة (والدين أيضاً) إساءة
متكررة، غُمِّضَتْ، أسيئت قراءتُها،
شُوِّهَت، واعتُبِرَت إما نتاجاً مرضياً
لأذهان منحطَّة، وإما شيئاً بالياً من مخلفات
العصر القبلتكنولوجي. وفي كلا الحالين
اعتُبِرَت الثقافة، نوعاً ما، تدليساً. بيد
أن الثقافة والدين هما جزء لا يتجزأ من
الاستراتيجيات البشرية للبقاء ولحسن الحال. مهما
يكن من أمر، ليس بوسع ثقافة العصر البعدصناعي
أن تكون مجرد إحياء لبعض الثقافات النقلية؛
إذ إن عليها أن تلبي كلَّ ما يطرأ من جديد على
الحياة؛ مما يعني أن عليها أن تعيد النظر في
نتاجات الذهن والروح البشريين ضمن عالمٍ
متصوَّرٍ تصوراً مختلفاً. ولقد
اخترت أن أطلق على هذه الجملة الجديدة من
تكتيكات العيش، التي تحيط بالتكنولوجيا
والثقافة والإيديولوجيا الجديدة، تسمية
المذهب الإنساني الإيكولوجي. وهذا المذهب ليس
تسمية جديدة لأشياء قديمة، ليس مجرد سكب خمرة
عتيقة في زقاق جديدة. إذ يجب عليَّ أن أشير،
بصفة خاصة، إلى أن المذهب الإنساني
الإيكولوجي لا يمت بصلة تُذكَر إلى المذاهب
الإنسانية التقليدية، وهو يفترق افتراقاً
حاداً عن الماركسية أو عن المذهب الإنساني
الاشتراكي، اللذين يدعوان (مع مذاهب إنسانية
أخرى) إلى تسخير الإنسان للطبيعة. لقد
شدَّد المذهب الإنساني التقليدي على نبل
الإنسان، واستقلاله، وبالفعل على عظمة
الإنسان المصنوع في القالب البروتيوسي[1].
وهذا التصور عن الإنسان سار يداً بيد مع فكرة
تسخير الطبيعة لأهداف الإنسان وحاجاته. ولقد
قبل ماركس بهذا التصور عن الإنسان وبفكرة
تسخير الطبيعة (أو استعمالها ببساطة) لفائدة
الإنسان، أو، بالفعل، لإرضائه. يقوم
المذهب الإنساني الإيكولوجي على المصادرة
المعكوسة؛ إذ يدعو إلى تسخير الإنسان للطبيعة.
فعلينا أن نرى الإنسان كجزء من مخطط أوسع
للأشياء: كجزء من الطبيعة ومن الكوسموس. علينا
أن نتجاوز ونلغي فكرة الإنسان البروتيوسي (والفاوستي).
ونتائج هذا العكس بعيدة المدى فعلاً، ولسوف
أكتفي بتناول بعضها. على
مستوى أكثر عملية، يعني المذهب الإنساني
الإيكولوجي، في جملة ما يعنيه، الوَفْر،
وإعادة التدوير، وإجلال الطبيعة، التي هي في
الواقع مظاهر ثلاثة مختلفة للشيء نفسه. عليَّ
هنا أن أشدِّد أن المذهب الإنساني الإيكولوجي
ليس مجرد اسم طريف مفاده أننا يجب أن نكون أقل
تبذيراً؛ إذ إنه يعني إعادة توجيه أساسية
لجملة أشياء عديدة. ليس ثمة أناس كثر،
ماركسيون بخاصة، يدرون أن المذهب الإنساني
التقليدي، القائم على مثال الإنسان
البروتيوسي وعلى فكرة تسخير الطبيعة (مع
القبول الضمني بكلا العلم والتكنولوجيا
الحاليين)، ببساطة غير متوافق مع مثال
التناغم بين النوع البشري وبقية الطبيعة. دعوني،
الآن، أبْسُط بعض ما يترتب على المذهب
الإنساني الإيكولوجي. على المستوى العملي،
كما سبق لي أن ذكرت، يفرز المذهب الإنساني
الإيكولوجي نوعاً جديداً من التكنولوجيا
يقوم على فكرة الوَفْر، وإعادة التدوير،
وإجلال الطبيعة، والاقتصاد الجديد؛ وفيه ليس
إجلال الطبيعة زينة مدلِّسة، بل جزءٌ جوهريٌّ
من تصميم جديد. على
مستوى الفرد، يعني المذهب الإنساني
الإيكولوجي (أي بعد أن نكفَّ عن محاكاة
الخنازير في استهلاكنا) النضارةَ الداخلية
بدلاً من النشاط الخارجي الذي لا يكلُّ؛
التعاطفَ والتراحم بدلاً من التنافس الذي لا
يعرف الرحمة؛ الفهمَ المعمَّق بدلاً من مجرد
تداول المعلومات. على
مستوى الثقافة بأسرها، يعني المذهب الإنساني
الإيكولوجي انتقالاً أساسياً من الاصطلاح
الذي يؤكِّد الإنسان بمقتضاه على نفسه ضد
الأشياء "في الخارج"، ويحاول أن يفرض
نفسه على العالم، إلى الاصطلاح الذي يندغم
فيه الإنسان بـ"الأشياء" "في الخارج". آمل
أنه قد اتضح لكم الآن أنه ما من تكنولوجيا
جديدة بمقدورها أن تأتي بحلٍّ بمفردها، وأن
ما من ثقافة جديدة تستطيع أن تبتكر حلاً
وحدها، وأن ما من إيديولوجيا جديدة بوسعها أن
تجيء بحلٍّ من تلقاء ذاتها، بل إن كلاً منها
يجب أن يصير مظهراً من مظاهر أنموذج أوسع،
وبعبارة أخرى، مظهراً من مظاهر جملة من
تكتيكات العيش. وفي
عالم الإيديولوجيا، يشيد المذهب الإيكولوجي
بعلاقات اجتماعية قائمة على فكرة التشارُك
والقَوَّامية، بدلاً من امتلاك الأشياء وخوض
معارك شرسة متوالية في حروب اجتماعية جهرية
ومموَّهة. وباختصار، يقوم المذهب الإنساني
الإيكولوجي على إفصاح جديد عن العالم بعامة: -
إنه يرى العالم ليس كمكان
للسلب والنهب، وكحلبة للمتقاتلين، بل كحَرَم
نقيم فيه بصفة مؤقتة ويجب علينا أن نعتني به
أقصى العناية؛ -
إنه يرى الإنسان ليس
كمستحوِذ وكفاتح، بل كمستأمَن وقَوَّام؛ -
إنه يرى المعرفة ليس كأداة
للسيطرة على الطبيعة، بل في المآل كفنون
لتشذيب النفس؛ -
إنه يرى القيم ليس كمكافئات
نقدية، لكنْ، بعبارة جوهرية، كمَرْكَبة
تساهم في فهم الناسِ الناسَ فهماً أعمق،
وتعاضد أعمق بين الناس وبقية الخليقة؛ -
وهو يرى كل ما سبق من عناصر
قاطبة كجزء من تكتيكات جيدة للعيش. الكوسموس
السخي
الكوسموس
كائن سخيٌّ انْوَجَدَ لكي يولِّد الحياة (المبدأ
الأنثروبي)؛ ثم لكي يوجِدَ الحياة البشرية.
الكائنات البشرية ليست مجرَّد حادث في
الكوسموس، بل نتيجة من نتائج طبيعته،
والإبداع مظهر جوهري من مظاهر طبيعة الكوسموس.
فلماذا الكوسموس مبدع؟ لأنه في طريقه إلى
تحقيق ذاته؛ ونحن جزء من تحقيق الكوسموس
لذاته. الكوسموس
فيزيائي وعبرفيزيائي، تحكمه قوانين فيزيائية
وقوانين عبرفيزيائية. وبين هذه القوانين
العبرفيزيائية يضطلع قانونا الإبداع
والتجاوز بأهمية فائقة. بعضهم دعاها قوانين
روحية مقابل القوانين الفيزيائية. الإنسان
الكوسمي
انبثقت
الكائنات البشرية من حساء الخليقة اللزج، ثم
طوَّرت قدرات مذهلة على التخيل، والإبداع،
والفن. وعبر هذه القدرات استطاعت أن تعيد صنع
أشكال الكون وأشكالها، وبذلك أصبحت شريكة
للتطور معاونةً في الإبداع. نحن
البشر كائنات كوسمية؛ ولو لم نكن كذلك ماذا
تُرانا نكون غيره؟ نحن الصخور والنجوم،
الأوراق والأشجار. إننا نتمثل كل أشواط تطور
الكوسموس في أوردتنا وفي أدمغتنا، فضلاً عن
كوننا لواقط الكوسموس. فحتى يستطيع الكوسموس
التفكيرَ تعيَّن عليه أن يخلق كائنات مفكِّرة.
نحن عيون الكوسموس، عقول الكوسموس، الأذرع
المُحِبة لمشاركي الكوسموس الفعليين في
وليمة الكوسموس الخلاقة. علينا
أن نشعر بالراحة في هذا الكوسموس لأنه مسكننا. العالم
كحَرَم
لقد
آن الأوان لكي نتخلَّى عن الاستعارة التي
هيمنتْ كلَّ هذه المدة على العالم وننبذ
الافتراض المؤذي بأن العالم آلية أشبه
بالساعة لسنا فيها إلا مسنَّنات وتروساً
صغيرة. لقد أدَّت هذه الاستعارة إلى اختزال كل
شيء، بما في ذلك الحياة الإنسانية، إلى منزلة
مركِّبات هذه الآلة الضخمة، فكانت العواقب
كارثية. ولكن فقط عندما نجد استعارة جديدة
ونبتكر تصوراً جديداً عن العالم سنتمكَّن من
التصدي للقوى الحمقاء المدمِّرة التي اكتسحت
حياتنا. العالم،
بحسب أحد مبادئ الفكر الإيكولوجي، حَرَمٌ،
وعلينا أن نعامله بوصفه كذلك. وهذا الافتراض
هو الأساس لنظرة مختلفة تماماً إلى الكون
وإلى منزلتنا فيه. فإذا كنَّا نحيا في حَرَم
يجب علينا أن نعامله بإجلال وحرص؛ علينا أن
نكون المؤتَمنين على الأرض ورعاتها. إن فكرة
القَوَّامية تتبع بشكل طبيعي من افتراض
العالم حَرَماً. تلكم
هي المكوِّنات الأساسية لما أدعوه الانقلاب
الروحي: تغيير استعارتنا عن العالم،
وموقفنا منه، وتفكيرنا فيه، في آنٍ معاً؛
وهذا ممكن الحدوث وجارٍ حالياً. إنه بالطبع
مشروع هائل وصعب، ولهذا فإننا نتقدم ببطء،
بتعثُّر، وأحياناً بإحجام. إننا، لأسباب
نفسانية وتاريخية، مترددون في التغيير،
لكننا، في سرائرنا، نعلم أننا يجب أن نخطو هذه
الخطوة. غير أن القصة لا تنتهي هنا؛ إذ يجب أن
تتم تغييرات هامة أخرى قبل أن نصل إلى عالم
راشد، مستديم، وناجز. هذا
السعي إلى المعنى يقودنا إلى مسألة الغاية من
الحياة الإنسانية وإلى تلك الهموم النهائية
التي تتأسَّس عليها إنسانيتنا. من
خاصيَّات زماننا ضمور المعنى. المتديِّنون
والدهريون جميعاً متنبِّهون إلى أن ثمة بحثاً
يائساً عن المعنى في المجتمع الحديث. فنحن لا
نجد معنى في الاستهلاك والتسلية والمهن
العادية. إننا نتوق إلى غاية أوسع ولا نجدها؛
إذ إن هذه الغاية الأوسع تتطلب أن يكون في
حياتنا بُعدٌ متعالٍ. ههنا
تجد النشوريات مكانها. النشوريات هي فلك
التفكير الإنساني الذي يتناول الغايات
النهائية للحياة الإنسانية، ويتناول،
بالتالي، معنى الحياة الإنسانية، كما ومسألة
ما يضفي المعنى على المعنى. لقد ظلت
النشوريات، تقليدياً، المنهاج الذي ينظر في
الأهداف المتعالية كغاية لحياتنا. وهذه
الأهداف غالباً – ولكن ليس دائماً – أهدافٌ
دينية. من هنا يجب ألا تلتبس الأهداف والغايات
المتعالية ببرنامج ديني أو بمعتقدات دينية. لماذا
نحن بحاجة إلى نشوريات جديدة؟ لماذا نحن
بحاجة إلى غاية متعالية جديدة تضفي المعنى
على حياتنا الإنسانية؟ الجواب هو أن
النشوريات الدهرية، الواعدة بالتحقيق هنا
على الأرض، بشروط مادية ودهرية فقط، قد
خذلتنا خذلاناً موحشاً. فبدلاً من أن تجلب لنا
السعادة والامتلاء سلبتْنا أعمق أبعاد
الحياة الإنسانية. بعض أصحاب المذهب الإنساني
الدهري واعون لهذا وقد حاولوا أن يبتكروا
مخططاً جديداً، تنزرع فيه غاية متعالية جديدة
على المذهب الدهري، وهم يسلِّمون بمهمة تحسين
ذاتي متواصل سعياً إلى الكمالية والحرية. لكن
هذه ليست سوى كلمات؛ إذ إن اتصاف الكمالية
والتحسين الذاتي بالمعنى يشترط فيهما أن
يتجذَّرا في معنى أعمق للتعالي يتخطَّى
الدهرية. دعونا
نبين باختصار شديد بعض أركان النظرة
الإيكولوجية الجديدة إلى العالم التي هي، في
الوقت نفسه، مكوِّنات للنشوريات الجديدة.
الكون مسافرٌ في رحلة للتحقق الذاتي حافلة
بالمعنى؛ ونحن جزء من هذه الرحلة. الكون ليس
ركاماً اعتباطياً من المادة، ونحن لسنا
قسيمات شاردة بلا معنى فيه. الأستروفيزياء
الجديدة، والفيزياء الجديدة، والمبدأ
الأنثروبي[2]، تتلاقى
جميعاً لتُعْلِمنا بأننا نحيا في كون عاقل،
يفعِّل ذاته. هناك اتساق في سيرورة التعالي
الذاتي المتواصلة هذه، والعلم يؤيِّد هذه
الرؤية تأييداً قوياً. وأنا لا أقول إن العلم
"برهن" عليها؛ إذ ليس من شأن العلم أن
يبرهن على مثل هذه الأمور. لقد قال الفيزيائي
المعاصر المرموق فريمان دايسون: "إننا، إذ
ننظر إلى كل "المصادفات" التي حدثت في
تطور الكوسموس، لا نستطيع أن نتهرب من الخلوص
إلى أن الكوسموس يتصرف وكأنه كان على علم
بأننا آتون." ويقول فيزيائي أمريكي معاصر،
مرموق هو الآخر، هو جون أرشيبالد ويلر،
بأننا، عندما ننظر إلى الكون، فإن الكون نفسه
هو الذي ينظر إلى ذاته، عبر عيوننا وعقولنا.
ذلك أننا نحيا في كون غريب التشاركية، ونحن
منْتَسِجون بعمق في هذه السيرورة التشاركية
الهائلة. نحن
العيون التي ينظر الكون إلى ذاته من خلالها؛
نحن العقول التي يشاهد الكون ذاته من خلالها؛
نحن دافع لا بَرْء منه للتعالي لأن إرادة
الكون في التعالي على ذاته أبداً مزروعة
فينا؛ نحن كائنات كونية. ونحن نشترك مع الكون
بأسره في بُعْد التعالي والدافع إلى التحقق
الذاتي. وهذا كان دوماً من كلِّ الأشكال
العريقة من الروحانية لبَّها. إن
رحلة رائعة تنتظرنا ونحن نسعى إلى تفعيل
المعنى الكوسمي الساكن فينا، وإلى مساعدة
الكون وكل مخلوقاته في رحلة التفعيل الذاتي،
وفي سيرورة شفاء الأرض وجعلها تزهر من جديد. *** *** *** |
|
|