التأثير الموسيقي عند العرب 1
مقاربة تاريخية - نظرية - فنية
أ. د. محمــود قـطَّـاط
مدخل:
ربط الموسيقى بمعتقدات روحانية وتنجيمية، توجه قديم موروث يركِّز على
علاقة الأصوات بالطبائع البشرية والعناصر الكونية، وعلى مبدأ التأثير
الموسيقي وقد اتبعه وتعمَّق في شرحه المنظرون العرب الأوائل، قبل أن
يصير من ركائز المدرسة المغاربية-الأندلسية؛ حيث أعطيت أهميَّة كبيرة
للقدرة التعبيريَّة والعلاجيَّة للموسيقى ولآثارها على النفس
الإنسانيَّة.
موضوع عميق، متعدد المشارب، تتداخل فيه الموسيقى مع مجالات عدة [فلسفية
– باطنية – صوفية – أخلاقية]، [طبيعية – رياضية - طبية –
خيميائية/الكيمياء القديمة]، [كوسمولوجيَّة/نشكوية - تنجيمية – فلكية –
العلاقة بالبروج، علم الكف...]. فالموسيقى - على رأي الفاربي - علم
مستخرج من علم الهيئة، وعلم الحكمة، وعلم الطب، وعلم النجوم، وعلم
الطبيعة، وأن له تعلقًا بجميع العلوم.
لذا، سوف أختصر مداخلتي على جوانب منها، مما له علاقة بالتأثير
الموسيقي. والبداية بوضعها في سياق التفكير الإسلامي العام.
في سياق التفكير الإسلامي العام
أ.
منحى عقائدي، أخلاقي، كوني (كوسمولوجي):
حسب التعاليم الصوفيَّة [راجع خصوصًا آثار ابن عربي، وأبي مدين، وجلال
الدين الرومي]، خلق الله الكون في كماله وروعته ثمَّ شاءت إرادته
الثابتة أن يملأ الأرض بساكنيها، وقبل أن يصوِّر الإنسان ويعدِّله، خلق
كلَّ الأرواح التي قرَّر لها أن تسكن مع توالي الأحقاب والأزمنة
المقدَّرة، أجساد الآدميين الفانية طيلة المدَّة التي سيستغرقها بقاء
الكون. بعد ذلك أمر الخالق الكواكب السبعة وأجسامًا أخرى سماويَّة أن
تتحرَّك، عندها سمعت الأرواح الألحان الرائعة الناتجة من حركاتها
الموقَّعة. لذا، فإن الانسجام الموسيقي في أرقى وأكمل أشكاله، يتجسد في
الأجواء السماوية وموسيقاها، وما الانسجام الأرضي، بما في ذلك انسجام
الموسيقى التي هي من صنع الإنسان سوى انعكاس باهت للانسجام الكوني
الرفيع.
ولأجل هذا السبب نرى الصوفية يؤسسون علاقة للموسيقى مع أصوات الأفلاك
تارة وتسابيح الملائكة ونغمات الجنة وصور إسرافيل تارة أخرى. فعلى صفة
الكلام الذي هو تجل من تجليات هذه الصفة ينبني المبدأ
الميتافيزيقي/التجريدي للموسيقى عند الصوفية، والذي يؤسس غايته
النهائية على وجوب تذكير الإنسان بالوجود المطلق مكتسبًا معناه في هذا
السياق الذي بدوره يندرج في سياق أعم متفرع عن نظرة الصوفية إلى
الوجود. فـ "السماع سر من أسرار الله تعالى، وهو ينقسم على ثلاثة
أقسام: سماع إلهي وسماع روحاني وسماع طبيعي" (ابن عربي: الفتوحات
1، ص 367).
كما تفيد نفس التعاليم، بأن الله عزَّ وجل، عندما خلق آدم، أمر الروح
بدخول جسده فأخذ نبضه في الخفقان، وكان لآدم أيضًا صوت حسن وبما أنَّ
الأزمنة الفاصلة بين النبضات كانت متساوية فإنَّه كان إذن يتوفر في
جسمه على الصوت والإيقاع [جنيد المتوفَّى عام 910] الذين هما أساس كلِّ
موسيقى.
هذا الطابع التيوقراطي/التربُّبيُّ للمجتمع العربي والمعتقدات السائدة
بينه حول نشأة الكون قد جعلت من الموسيقى سندًا للروح في بحثها عن
الكمال المطلق أي الخالق. ذلك أن الموسيقى تستوقف نظرة الوجود عمومًا
ونظرة الروح أو باصطلاح الفلاسفة نظرة النفس على وجه الخصوص... "ولما
خلق الله تعالى آدم عليه السلام وكونه وأظهر ذريته للدنيا ظهر ذلك السر
المصون المكنون فيهم فإذا سمعوا نغمة طيبة وقولاً حسنًا طارت هممهم إلى
الأصل الذي سمعوه من ذلك النداء". ولما كان الروح رغم جوهره الإلهي
محبوسًا ومستغرقًا في البدن الإنساني ومحتاجًا إلى مذكر له بجوهره
الإلهي وموجه له لمنبع هذا الجوهر... فتعين أن يكون بين الموسيقى وبين
النغمات الفلكية ونغمات الجنة ارتباط وجودي لأن كل نغمة من هذه النغمات
تجل من تجليات صفة الكلام ومُذكرة لهذه الصفة الفعلية.
[الموسيقى ما يسبق الكلام وما يتجاوزه عندما يعجز هذا الأخير عن
التعبير] لذا، فإنه إذا كانت للأصوات الموزونة والنغمات تأثيرها في
النفس؛ فذلك لأنها تذكرها بحياتها السابقة في عالم الذر قبل أن تتصل
بالبدن بقولهم:
أن تأثير الموسيقى والنغمات الموزونة لحركات السموات في عالم الذر عالم
ما قبل الولادة كنا قد اعتدنا عليه ومعنى ذلك أن أرواحنا كانت قبل أن
تنفصل عن الله تستمع إلى الألحان السماوية وكنا مؤتنسين وكانت الموسيقى
تثير فينا وجد الكون وتثير تلك الذكريات في خواطرنا. (تاريخ التصوف
الإسلامي، ص 560).
ونذكر هنا بالفرق بين النفس والروح، فلكل إنسان نفسان: نفس العقل الذي
به التمييز ونفس الروح الذي به الحياة، كقوله تعالى: "ونفخت فيه من
روحي"، ولم يقل من نفسي. وقوله تعالى: "تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في
نفسك" ولم يقل روحي. فالله عز وجل، خلق آدم وجعل فيه نفسًا وروحًا (فمن
الروح عفافه وفهمه وحلمه وسخاؤه ووفاؤه؛ ومن النفس شهوته وطيشه وسفهه
وغضبه، والله تعالى أعلى وأعلم).
وهذا الاعتقاد الذي استغلَّته المدرسة الصوفيَّة الإسلامية استغلالاً
واسعًا، يرفُض أن ينسب للموسيقى دور استهداف تشنيف الآذان فقط أو تسلية
الروح وإمتاعها. فالموسيقى عندهم، علم يرمي قبل كلِّ شيء إلى السموِّ
بالأرواح إلى عالم القدسيَّة، وهي واسطة بين الإنسان والعالم العلوي،
فقوَّتها السحريَّة والعاطفيَّة والعلاجيَّة عظيمة، وفيها ينبغي تلمُّس
أسباب العلاقة الدائمة الغموض القائمة بين الموسيقى والآداب
الإسلاميَّة. فالنغم - عند الفلاسفة – "فضلٌ بقي من المنطق لم يقدر
اللسان على استخراجه، فاستخرجته الطبيعة بالألحان" [الأبشيهي:
المستطرف...،
II،
ص 146]. والغرض من استخراج قواعد هذا الفنِّ في رأي بعض المنظِّرين مثل
عبد الحميد اللاذقي (التاسع الهجري/السادس عشر الميلادي):
تأنيس الأرواح والنفوس الناطقة إلى عالم القدس لا مجرَّد اللهو والطرب
فإنَّ النفس قد يظهُر فيها باستماع واسطة حسنة التأليف وتناسب النغمات
فتتذكَّر مصاحبة النفوس العالية ومجاورة العالم العلوي وتسمع نداء:
"أرجعي أيتها النفس الغريقة في الأجسام المدلهمَّة المنغمسة في فجور
الطبع إلى العقول الروحانية والذخائر النورانيَّة والأماكن القدسانيَّة
في مقعد صدْق عند مليك مقتدر"[1].
وفي نفس السياق، فإنّ الموسيقى تضطلع بدورين إيجابيين، فهي:
تعزِّي النفوس وتخفِّف ألم المصائب وبالتالي تجنِّب اليأس والقنوط –
أعظم خطايا الإنسان أمام الله – وهي عن طريق ألحانها "المحزنة" عند
الدُّعاء والتسبيح والقراءة، ترقق القلوب، وتُبكي العيون، وتُكسب
النفوس الندامة على سالف الذنوب، وإخلاص السَّرائر وإصلاح الضمائر،
والله سميع مجيب لمثل هذا الورع والخشوع[2].
ويلاحظ إخوان الصفاء:
أن كل صناعة تُعمل باليدين فإن الهيولى الموضوعة فيها إنما هي أجسام
طبيعية، وموضوعاتها كلها أشكال جسمانية، إلا الصناعة الموسيقية فإن
الهيولى الموضوعة فيها، كلها جواهر روحانية، وهي نفوس المستمعين،
وتأثيراتها فيها مظاهرٌ كلها روحانية أيضًا.
وبالتالي فكل صوت له نغمة وصفية وهيئة روحانية، خلاف صوت آخر [...]
ولكلِّ مزاج وكلِّ طبيعة نغمة تشاكلها، ولحن يلائمها لا يُحصي عددها
إلاَّ الله عزَّ وجلَّ. والدليل أنَّك تجد إذا تأمَّلت لكلِّ أمَّة من
الناس ألحانًا ونغمات يستلذُّونها ويفرحون بها، لا يستلذُّها غيرهم ولا
يفرح بها سواهم [...] ومن الألحان والنَّغمات ما ينقل النفوس من حال
إلى حال ويُغيِّر أخلاقها من ضدٍّ إلى ضدٍّ...[3]
ويرى الغزالي: "أن هذا التأثر موجود في الإنسان بالفطرة، وهو لا يجعل
في القلب ما ليس فيه، ولكن يحرك ويهيج ما هو فيه"[4].
"وقد يتوصل بالألحان الحسان – حسب ابن عبد ربه - إلى خير الدنيا
والآخرة. فمن ذلك أنها تبعث على مكارم الأخلاق واصطناع المعروف، وصلة
الأرحام، والدفاع عن الأعراض، والتَّجاوز عن الذنوب. وقد يَبكي بها
الرجل على خطيئته، ويُرقَق القلب من قسوته، ويتذكَّر نعيم الملكوت
ويُمثله في ضميره"[5].
لذا، بقيت الموسيقى تلك الصناعة التي هي: "مراد السَّمع، ومرتع النفس،
وربيع القلب، ومجال الهوى، ومسلات الكئيب، وأنس الوحيد، وزاد الراكب؛
لعظم موقع الصوت الحسن من القلب، وأخذه بمجامع النفس".
ب.
المنحى العلاجي (الموسيقى والطب):
توفرت مراجع عدة (راجع: حاجي خليفة، كشف الظنون) تضمنت تفاصيل
حول الاعتقاد في المعالجة بالموسيقى، وقد شمل نواح كثيرة من نظريات
الطب والموسيقى والعلاقات الرابطة بينهما. هذا ما يؤكده ابن هندو (ت.
1019) في موسوعته مفتاح الطب، والتي ورد في أحد فصولها بأن
الموسيقى: "من العلوم التي يجب على الطبيب أن يعرفها ليكون كاملاً في
صنعته". وهو يعترف بأن الأطباء يلجأون في علاج أمراض معينة إلى أساليب
موسيقية، تنسجم مع حالة المرض وتُسهم بذلك في شفائهم (يمكن أن يكون
الطبيب موسيقيًا، لكن ليس شرطًا، فيلجأ إلى خدمات خبراء ومساعدين
ومهنيين آخرين).
وورد في إحدى قصص ألف ليلة وليلة (II/
87): "الموسيقى لقوم كالغداء ولقوم كالدواء"، ويقول الأبشيهي: "زعم أهل
الطب أن الصوت الحسن يسري في الجسم ويجري في العروق، فيصفو له الدم،
ويرتاح له القلب، وتهش له النفس، وتهتز الجوارح، وتخف الحركات"[6].
هكذا، حظيت علاقة الموسيقى بالطب، والتداوي بالموسيقى، باهتمام كبير
(الرازي، وابن سينا، وابن الهيثم، وابن زهر، وابن رشد وغيرهم). تبعًا
لذلك، تم توسيع وتطوير النظرية التي يُعتقد بموجبها وجود أربعة أخلاط
في الجسم البشري (الدم – الصفراء – السوداء – البلغم)، مشابهة للعناصر
الكونية الأربعة (الأرض – الهواء – النار – الماء)، مع تصور وجود أربع
خصائص للمادة (الحرارة والجفاف والرطوبة والبرودة)، أي أنها مكونة من
زوجين من الأضداد. هذا مع التأكيد على أهمية عنصر البيئة، أي المناخ
والواقع الجغرافي، في تفسير نوعية الموسيقى والأنظمة الموسيقية، الخاصة
بالمجموعات والأمم المختلفة، وما بينها من الفوارق الطبيعية في الأمزجة
والسلوك والأذواق والعادات والتصورات، أسبابها جوية تنجيمية –
وبالتالي، فإن هذه العلامات الفارقة ليست نتيجة للوراثة، بل سببها
البيئة والمناخ. طبيًا، ملخص هذه النظرية أن جميع العلل التي تنتاب
الإنسان تنتُج عن فساد الأخلاط في جسمه [الدم والبلغم والسوداء
والصفراء]، أو تغير مقاديرها (وهي بمثابة اضطرابات كيمياوية تحدث داخل
الجسم)، وإن العلاج يكمن في عودة هذه الأخلاط إلى صفائها الأصلي، أو
إزالة الأسباب المخلة بتوازنها داخل الجسم.
[ويظهر أثر هذه النظرية – كما سنرى - فيما ينسب إلى الموسيقى من تأثير
على هذه الأخلاط]. لذا نرى الشيخ الرئيس ابن سينا (980-1037) في
موسوعته القانون في الطب، يبتدئ الفصل الأول من القسم الأول،
بتعريف علم الطب ثم بتحديد موضوعه وبعد ذلك ينتقل مباشرة إلى ذكر
الأركان وعند الانتهاء من ذلك، يتعرض إلى تعريف وتفصيل الأمزجة
والأخلاط. وبالرجوع إلى هذا العمل الضخم، نلاحظ أن ابن سينا، رغم دحضه
لنظريات ربط الموسيقى بالتنجيم والكونية، يعمِّق النظر في العلاقة
الخاصة بين الموسيقى والطب (والتي تواصلت وتكررت شرقًا وغربًا إلى حدود
القرن التاسع عشر)، وهي علاقة تجمع بين الإيقاع والأنغام الموسيقية
المتفقة والنبض باعتبارها مؤشرات أساسية للصحة الجيدة أو المرض... وفي
الطب النفسي انتبه الأطباء العرب إلى فائدة الموسيقى في الشفاء من بعض
الأمراض النفسية والعصبية والعقلية. الرازي (وكان موسيقيًا وعازفًا على
العود) درس فائدة الموسيقى في شفاء الأمراض وتسكين الألم، واعتمدها في
العلاج الطبي وأوصى بها أسلوبًا مهمًا من أساليب علاج الأمراض النفسية
والعصبية والعقلية. وقد حقق نتائج ملحوظة بفضل التجارب التي قام بها،
وقد ألف عدة كتب في الطب والسلوك والنفس الإنسانية فضلاً عن إنتاجه في
سائر العلوم الأخرى (نذكر منها، الحاوي في الطب، والجامع
الكبير). كما برع ابن سينا نظريًا وعمليًا، في هذا الشأن، وهو أول
من تكلم عن الطب النفسي الجسدي
psychosomatic
وطبق مبادئ هذا الطب وأساليبه في المعالجة، كما كان
أول من تحدث عن القلق والاكتئاب والميول الانتحارية والانفعالات
وتأثيرها في الجسد، وتحدث أيضًا عن تأثير البيئة في المرض العقلي
والنفسي، ورأى أن الموسيقى هي أسلوب علاجي مهم ومؤثر في الأمراض
العقلية. شرح ذلك في مصنفاته، خاصة كتابه القانون في الطب. كما
أن المعالجة النفسانية مثلت دورًا مهمًا في مداواة الآلام الجسدية،
ووُضعت كتب خاصة في شأنها ككتاب تأثير الموسيقى في الإنسان والحيوان
لابن الهيثم العالم الفيزيائي الموسوعي (965-1040) الذي يمْكن اعتباره
مؤسس علم النفس التجريبي. كتابه هذا، يُعد أقدم مخطوطة تتعامل مع تأثير
الموسيقى على الحيوانات أو تأثير الأنغام على أرواح الحيوانات، من جملة
ما جاء فيها: ان سرعة الجمل تزداد وتقل مع استخدام الحداء، وضرب
أمثلة أخرى حول كيفية تأثير الموسيقى على سلوك الحيوان وسيكولوجيته،
وقد أجرى تجاربه على الطيور والخيول والزواحف (علمًا وأنه حتى القرن
التاسع عشر، اعتقد معظم العلماء بأن الموسيقى لها تأثير واضح على ظاهر
الإنسان، ولكن التجارب أثبتت وجهة نظر ابن الهيثم بأن الموسيقى لها
تأثير على الحيوانات أيضًا).
في نفس السياق طالب الشيخ الرئيس ابن سينا الذي عرف بتقديره لقوة
الموسيقى العلاجية، بضم الوسائل النفسانية إلى التداوي بالعقاقير
لزيادة مفعولها وإزالة الخوف عن المريض قائلاً:
وعلينا أن نعلم أن أحسن العلاجات وأنجعها هي العلاجات التي تقوم على
تقوية قوى المريض النفسانية والروحية، وتشجيعه ليحن مكافحة المرض،
وتجميل محيطه وإسماعه ما عذُب من الموسيقى وجمعه بالناس الذين يحبهم.
جانب آخر حري بالإشادة هنا، مسألة "الترييض الموسيقي الذي يجمع ترييض
الجسم والنفس". ونشير هنا إلى كتاب طب المشائخ للطبيب أحمد بن
الجزار القيرواني (898-980) الذي جاء فيه: "وقد صح عندي أن الموسيقى
والرياضة ملائمان ومُربيان للطبيعة، والذي يمكنه استعمال هاتين
الصناعتين استعمالاً جيدًا فإنه يورث بدنه أدبًا، ونفسه حُسنًا
وسلامة"؛ أي هو يحرِّض على العناية بالموسيقى والرياضة البدنية معًا،
واعتبارهما من أصول المُقوِّمات لطبيعة بني الإنسان.
حافظت نظرية العلاج بالموسيقى على مكانة بارزة لها في الأدب الخاص
بالطب والموسيقى بعد القرن الخامس عشر، من ذلك الطبيب داوود الأنطاكي
(ت. 1599)، من خلال موسوعته تذكرة أولى الألباب والجامع للعجب
والعجاب. فهو إضافة إلى الأفكار العديدة التي نقلها عن رسالة إخوان
الصفا في الموسيقى، اعتنى بما جاء في التنظير الموسيقي في عصره القائم
على تعداد وتسميات للمقامات المختلفة وفق خصائصها وتوافقاتها الصحية
مشيرًا إلى تأثيراتها الرئيسية (مثلاً الراست ينفع في الشلل النصفي،
العراق يساعد على شفاء حالات الأخلاط الحادة، مثل أمراض المخ والدوار
وذات الجنب والاختناق وما إلى ذلك).
نختتم هذا القسم، بالتذكير أن مختلف هذه التوجهات لم تكن مجرد تنظير،
بل واكبتها تطبيقات وتجارب ملموسة، وصلت أخبارها حتى القرن التاسع عشر.
أذكر هنا مثالين تونسيين:
-
أولهما خاص بمعالجة الأمراض العقلية والعصبية: خلال الدولة المرادية
(1613-1702) حيث قامت الأميرة عزيزة عثمانة زوجة حمودة باشا، بجملة
تحبيسات خيرية شملت المارستان المحدث بحومة العزَّافين (القصبة اليوم)
بمدينة تونس، وكان له قسم خاص معد لإيواء المصابين باختلال الأعصاب،
وكان يسمَّى قديمًا بـ"دار الدراويش" بدلاً من لفظ "المجانين" – من
أوقافها على هذه الدار، ريع معتبر يعرف "بحُبُس العود والرباب" رتبته
لجراية مطربين ماهرين بالآلات المشار إليها يقومون صباح كل يوم – بدار
الدراويش – بعزف نوبة من الموسيقى التقليدية (المالوف) مدة ساعتين،
ترويضًا لأولئك المصابين وتهدية لأعصابهم المضطربة (ح. ح. عبد الوهاب:
ورقات...).
-
الثاني دور الموسيقى في تشخيص المرض: إذ كان حتى النصف الثاني من القرن
التاسع عشر (خلال العهد الحسيني) يوجد بسوق الخضارين (سوق الشواشين
الآن الواقع شرق جامع الزيتونة بمدينة تونس العتيقة)، ركن خاص
بالأطباء، وكان إذا ذهب مريض إلى طبيب منهم أدخله الطبيب إلى مقصورة في
عيادته وأسمعه "الطبوع الأصول" وهو ينظر إليه في حال السماع. فإذا ما
حركه طبع منها، عرف الطبيب طبيعته فعرف إذ ذاك كيف يدخله طبيًا"[7].
هذه قطرة من بحر مما ورد في المصادر العربية الإسلامية، حول أثر
الموسيقى وتأثيرها في النفس، وقد تم تناولها - كما أسلفنا - من أوجه
نظر مختلفة تداخل فيها الواقع بالأسطورة والعلم بالتخمين.
غير أن الصورة لا تكتمل دون معرفة الكيفية التي تفاعل بها المنظرون
والموسيقيون أنفسهم مع هذه الظاهرة. وكيف وقعت ترجمتها في نظرياتهم
ومؤلفاتهم الموسيقية. وهو المحور الثاني من هذه المداخلة.
الموسيقي ومبدأ التأثير
أ.
العود آلة مرجعية للموسيقى العربية
في إطار الحضارة العربية، يجد كل من التأثير الموسيقي والعلاج الموسيقي
تعبيرهما بوضوح في الخصائص التي ينسبها المنظِّرون لأوتار العود ومن
خلاله للمقامات والإيقاعات. في هذا المجال، شكلت آلة العود وسيلة
مرجعية أساسية، نظريًا وتطبيقيًا، باعتبارها "أتمّ وأحسن ما صنع من
الآلات"، وربطوا نغماتها بعوالم الأرواح والكون والأجساد.
أهمية الآلة
منذ الفترة الأموية، احتل العود لدى الموسيقيين العرب، مكانة مرموقة
واستخدمه المحترفون للمسايرة، واعتمده الروَّاد الأوائل لإرساء أسس
تنظير موسيقاهم باعتباره – كما يفيد الفارابي – "من الآلات الوترية
المألوفة منذ القدم، عند الأمم الشرقية، لا تضارعها آلة أخرى".
وقد تُوجت هذه المكانة مع الفترة العباسية الأولى (القرن الثالث
الهجري/التاسع الميلادي)، حيث بلغ الفن الموسيقي عصره الذهبي ليشكل أحد
أركان العلوم الرياضية وعنصرًا هامًا في الحكمة الرباعية (إلى جانب
الحساب والهندسة والفلك)، وجزءًا أساسيًا في الثقافة العربية
باتجاهيها:
-
التجريدي المعتمد على التأثير الموسيقي في علاقة مع نظريتي العناصر
الأربعة والأخلاط.
-
الطبيعي الرياضي والتجريبي في نفس الآن، والذي يركز أساسًا على
فيزيائية الصوت وتحديد النسب.
وسوف نكتفي في هنا، بالتركيز على التوجه الأول الخاص بالبعد التأثيري
للموسيقى، محور هذا المنتدى.
العلاقة مع مبدأ التأثير
في هذا الإطار، صار العود باعتراف الجميع، "أشهر الآلات وأثمنها"،
والمرجع الرئيسي دون سواه، في معالجة الصناعة الموسيقية وشرح نظرياتها
ودراسة أبعادها الفيزيائية والفلسفية والفلكية؛ حتى اعتبرت معرفة العود
ونسب دساتينه "من تمام علم الموسيقى" (الكندي). ومن هذا المنطلق، اعتنى
به الفلاسفة والمنظرون وجعلوه يحتل صفحات طويلة من مؤلفاتهم.
وفي سياق العناية بمعالجة تأثير الموسيقى في نفوس الكائنات الحية،
وكذلك في الجسم، والخوض في موضوع الموسيقى من ناحية علاقاتها بالفلك
والأجرام السماوية، يبيِّن المنظرون العرب، أمثال الكندي وإخوان الصفا
ومن نحى نحوهما: "كيف رُكبت على العود أربعة أوتار بعشر طاقات
(4+3+2+1)، ثم صُبغت بألوان النقوش السحابية التي تُرى قبالة الشمس،
والتي تُرينا ألوان العناصر الأربعة: "فالزير يشبه بالصفراء، والمثنى
بالحمرة والدم، والمثلث ببياض البلغم، والبم بسواد السوداء".
وانطلاقًا من أوتار العود والنغم المستخرجة من دساتينه، تُشرح العلل
النجومية التي وُضع عليها العود، ومشاكلة أوتاره الأربع لأرباع الفلك،
وأرباع البروج، وأرباع القمر، وأركان العناصر، ومهب الرياح، وفصول
السنة، وأرباع الشهر، وأرباع اليوم، وأركان البدن، وأرباع الأسنان،
وقوى النفس المنبعثة في الرأس، وقواها الكائنة في البدن، وأفعالها
الظاهرة في الحيوان... ذلك تماشيًا مع رمزية الأرقام (مثل أربعة وسبعة
واثنى عشر) وما يُنسب لها من معان ورموز - يقترن بمبدأ التأثير
الموسيقي. وهو مبدأ جذوره ضاربة في القدم، يرى بأنَّ كلَّ كائن أرضي
يكون "متأثِّرًا" بكائن آخر سماويٍّ. فنغمات الديوان السبعة تطابق
السماوات والكواكب السيَّارة السبع. وصور البروج الاثني عشر تقرن إلى
ملاوي العود الأربعة ودساتينه الأربعة وأوتاره الأربعة. وعلاقة أوتار
العود الأربعة بالطبائع والعناصر الكونيَّة والرياح والفصول، والأمزجة
وقوى النفس وأركان البدن، والألوان والعطور، وأرباع دائرة البروج
وأرباع الفلك والقمر، الخ.
وهم في إطار حكمة رباعيَّة الأبعاد، تطرقوا للموسيقى بأن أخضعوا لها
آلة العود في جميع عناصرها النغميَّة الصادرة من أوتارها الأربعة "لا
أقلَّ ولا أكثر" (يقول الكندي)، وربطها بالحركات الفلكيَّة والفصول
الزمنيَّة والأطوار المتتابعة في عمر الإنسان.. ومزجها مع عناصر
الطبيعة ومصادر قوى البدن ومعاني النفس في مشاعرها وعواطفها. وهم يرون
بأنَّ هذه النَّغمات إذا ما أُلِّفت في الألحان المشاكلة لها، ثمَّ
استعملت في أوقات الليل والنهار المُضادَّة طبيعتها طبيعة الأمراض
الغالبة والعلل العارضة، سكَّنتها وكسرت سوْرتها، وخفَّفت على المرضى
آلامها، لأنَّ "الأشياء المُشاكلة في الطباع إذا كثرت واجتمعت، قويت
أفعالها وظهرت تأثيراتها، وغلبت أضدادها"[8].
(شكل العود القديم)
العود الكامل عن "الأدوار" لصفي الدين الأرموي البغدادي
(مخ. بتاريخ: 1333-1334)
العود في مخطوط كشف الهموم
(القرن التاسع ه/الخامس عشر م)
البعد الدلالي للأوتار
حسب التوجه المذكور، فإنَّ الأوتار الأربعة المقابلة للطبائع الأربع
تقضي طبائعها بالاعتدال، فـ البمُّ حار يابس يقابل المثنى وهو حار رطب
وعليه تسويته، والزير حار يابس يقابل المثلث وهو حار رطب. قوبل كل طبع
بضدِّه حتى اعتدل واستوى كاستواء الجسم بأخلاطه. إلاَّ أنَّه عطل من
النفس، والنفس مقرونة بالدم، لتدارك ذلك، أضاف زرياب (789-857)، في
مرحلة وجوده بالأندلس، إلى الوتر الأوسط الدَّموي وترًا خامسًا، أحمر
داكن. وضعه تحت المثلث وفوق المثنى، فكمل في عوده قوى الطبائع الأربع،
وقام الخامس المزيد مقام النفس في الجسد.. واكتسب عوده بذلك - كما تقول
المصادر – "ألطف معنى وأكمل فائدة"[9].
واضح أنَّ مبادرة زرياب في إضافة وتر خامس لم تأت – كما ظنَّ البعض -
لتوسيع المساحة الصوتيَّة للآلة، بل لتلبية غرض تجريدي بحت، وهي
بالأساس، تتويج للنظرة الصوفيَّة-التجريدية التي ميَّزت توجُّهات
المدرسة العربيَّة التقليديَّة، وقد أستمرَّ أثرها متفشيًّا على مرِّ
العصور.
وعلى غرار الروَّاد الكبار، أعطى زرياب للموسيقى طابعًا سحريًا–روحيًا
مؤكِّدًا أكثر من مرَّة "أنَّ الجنَّ كانت تعلِّمه كلَّ ليلة ما بين
نوبة إلى صوت واحد، كان يهبُّ من نومه سريعًا فيدعو بجاريتيه غزلان
وهنيدة، فتأخذان عودهما، ويأخذ هو عوده، فيطارحهما ليلته ويكتب الشعر
ثمَّ يعود عاجلاً إلى مضجعه. وكان جمهوره المأسور بروعة أغانيه يدَّعي
"أنَّ الجنَّ يزور بيته ليلاً ويعلِّمه ألحانًا عجيبة".
وفيما يلي جدول يلخص هذه نظرية المتعلقة بمشاكلة أوتار العود لأركان
العناصر الكونية والطبائع البشرية:
جدول: في مشاكلة أوتار العود لأركان العناصر الكونية والطبائع البشرية
الأوتار |
اللون |
الأركان |
التناسب / الصفة |
الطبائع / الأخلاط |
المفعول |
المضادة |
الزير |
أصفر |
النار |
حرارة النار وحدتها |
تقوي خلط الصفراء |
تزيد في قوتها وتأثيرها |
تضاد خلط
البلغم وتلطفه |
المثنى |
أحمر |
الهواء |
رطوبة الهواء ولينه |
تقوي خلط الدم |
تزيد في قوتها وتأثيرها |
تضاد خلط
السوداء
وترققه وتلينه |
*
وتر
زرياب |
*أحمر
داكن |
*
الحياة |
------- |
*
الروح |
------- |
------- |
المثلث |
أبيض |
الماء |
رطوبة الماء وبرودته |
تقوي خلط البلغم |
تزيد في قوته وتأثيره |
تضاد خلط
الصفراء |
البم |
أسود |
التراب |
ثقل الأرض وغلظها |
تقوي خلط السوداء |
تزيد في قوتها وتأثيرها |
تضاد خلط الدم وتسكِّن فورانه |
خصوصية العود التقليدي المغاربي
احتلَّ هذا البعد السحري العقائدي للموسيقى مكانة مرموقة في المدرسة
الموسيقيَّة للغرب الإسلامي، حيث أعطيت أهميَّة كبيرة للقدرة
التعبيريَّة والعلاجيَّة للموسيقى ولآثارها على النفس الإنسانيَّة.
وبعد ما كان هذا التصوُّر للموسيقى قد وقع في مزايدات نظريَّة عميقة في
المشرق بعد الكندي وإخوان الصفا، فقد تجذَّر في الغرب الإسلامي حيث
أصبح الأساس الحقيقي لبناء موسيقي يقوم على رمزية عدد للطبوع
(والنوبات): أربع وعشرين طبعًا لكلٍّ منها نوبته الخاصة، وذلك باعتبار
أنه لكل طبع ونوبة ساعة محددة من الساعات الأربع وعشرين. وهذا يحيلنا
إلى الاعتقاد القائل بأن الموسيقى تعكس جمال التناغم للكون، وأن فهم
القوانين الأساسية للتأليف الموسيقي، هو السبيل إلى فهم أسرار الخليقة.
وبالتالي فإن الاستخدام المناسب للموسيقى في الوقت المناسب، له تأثير
شاف على الجسم.
غير أنه عمليًا، يبقى هذا العدد ذو أبعاد رمزية بحتة، ذلك لأن المصادر
تفند هذا العدد سواء بالنسبة للطبوع أو النوب [التيفاشي: متعة
الأسماع في علم السماع]: "يوجد من مغنِّي الأندلس رجالاً ونساء من
يغنِّي خمسمائة نوبة ونحوها، والنوبة عندهم: نشيد، وصوت، وموشح، وزجل".
وهو عدد يبعدنا تمامًا عن 24... وعلينا أن نذكر بأن هذا التوجه
المغاربي، يرتكز هو أيضًا بالأساس على آلة العود، لكنه عود رُباعي من
نوع خاص بالتقاليد الموسيقية المغاربية. يعرف بـالعود ["عربي"-"رمال"-
"صويري"-"كويترة"]. كما تتماشى تسميات أوتاره الأربعة مع المصطلحات
المألوفة في التراث الموسيقي المغاربي. وتعتمد تسوية تداخل الخامسات،
وهي من القرار إلى الجواب: [الذيل - الماية - الرمل – الحسين]، والتي
هي في نفس الوقت تسميات الطبوع الرئيسية الأربعة، التي تقوم عليها شجرة
طبوع النظام الموسيقي المغاربي. تختلف هذه التسميات عن الاصطلاح القديم
[بم - مثلث - مثنى – زير] أو المشرقي الحديث: [عشيران - دوكاه - نوا –
كردان]. وفيما يلي جدول يلخص النقاط المذكورة:
جدول 1: تسوية العود المغاربي
الأوتار (1)
(من القرار
إلى الجواب) |
الرمز
[ذمْرحْ] |
الأوتار (2)
(حسب تسلسلها
على الآلة) |
الرمز
[ذحْمرْ] |
مطلق |
سبابة
(شاهد) |
بنصر
(ضامن) |
الذيل |
الذال |
لذيل |
الذال |
أ (دو) |
|
|
الماية |
الميم |
حسين |
الحاء |
ب (ري) |
ج (مي) |
د (فا) |
الرمل |
الراء |
الماية |
الميم |
ه- (صول) |
|
|
حسين |
الحاء |
الرمل |
الراء |
و (لا) |
ز (سي) |
ح (دو) |
*استعمالنا
للنوتة الغربية نسبي، فالمهم – كما هو الحال في النظام المقامي –
مراعاة النسب الكائنة بين النغمات. وهو ما يمكن ترجمته بالرسمين
التاليين:
تسوية العود التقليدي المغاربي
جدول 2: مقارن للتسويتين المشرقية والمغاربية
أوتار العود وتسويته |
أسماء الأوتار |
التسلسل |
المسافة الصوتيَّة |
أ- المدرسة العربية القديمة - الحديثة |
ب- المدرسة
المغاربيّة-الأندلسية |
أ |
ب |
أ |
ب |
بم - عشيران
مثلث – دوكاه
مثنى – نوا
زير – كردان |
ذيل
ماية
رمل
حسين |
الأوّل
الثاني
الثالث
الرابع |
- الأول
رباعية تامة
- الثالث
رباعية تامة
الرابع
رباعية تامة
- الثاني |
ثنائيّة كبيرة
رباعية تامة
ثنائيَّة كبيرة |
ب.
المقامية نظريًا ودلاليًا
محاولات تصنيف المقامات والطبوع
المقام بالمشرق العربي
من الملاحظ أن مصطلح "مقام" (ج. مقامات) الذي حل محل الاصطلاحات [إصبع-
طنين - لحن - شد - جمع] و[طريقة - بحر - دور - برده - أواز]، لم يعمّ
استعماله إلا مع القرن الثامن الهجري/الرابع عشر ميلادي. ولمصطلح
"مقام" علاقة مؤكدة بالأدب الصوفي والمقامات الصوفية، وقد اقترن
استعماله بانتشار الحركة الصوفية.
أقدم من ذكر مصطلح المقام، قطب الدين الشيرازي (1236-1311): درة
التاج لغرة الديباج؛ وصلاح الدين الصفدي (1296-1362) رسالة في
علم الموسيقى - يبدو أنه منقول بتصرف عن الميزان في علم الأدوار
والأوزان، المنسوب لصفي الدين الحلي (1278-1349) وهو يقترب في
مضمونه إلى الشجرة ذات الأكمام.
ويفيد اللاذقي (ت. 1495) بأن المتأخرين سمّوا بعض الألحان المشهورة في
زمانهم "مقام" (12) وبعضها "أواز" (7) وبعضها "شعبة" (24) وبعضها
"تركيب" (30). ويوجد البعض الآخر منها لا اسم له عندهم. أما الآن
فيسمون تلك الألحان بـ مقام فقط.. وهي في عصره، إحدى وتسعون دائرة (على
غرار دوائر صفي الدين) حاصلة من إضافة أقسام الطبقة الثانية إلى أقسام
الطبقة الأولى[10].
توجد تصنيفات عدة للمقامات، وذلك حسب:
-
الأصول والفروع
-
درجات الاستقرار/الركوز
-
المقامات الأصلية وفصائلها
-
الأجناس الرئيسية
-
مبدأ التأثير
الأصول والفروع:
وهو امتداد لمذهب المتوسطين عند المتأخرين (بداية من العاشر ه- السادس
عشر م)، الذين توسعوا بدورهم في فروع الأصول واستخراج ما يتشعب منها.
وهذه القائمة كما وردت لدى قدماء المنهجيين (صفي الدين) والمتأخرين
منهم (ابن غيبي واللاذقي):
المقامات
[الأدوار سابقا = 12] |
الأوازات
[6] - [7] |
الشعب
[24] - [4] |
التراكيب
[--] - [30] |
راست |
كواشت - كواشت |
دوكاه - يكاه |
--- - سنبلة |
عراق |
نوروز - نوروز |
سيكاه - دوكاه |
--- - عزال |
أصفهان |
سلمك - سلمك |
جهاركاه - سيكاه |
--- - نهفت |
زيرافكند |
شهناز - شهناز |
بنجكاه - جهاركاه |
--- - نيريز صغير |
بزرك |
كردانية - حصار |
عشيران |
--- - نيريز كبير |
زنكولة |
ماية - كردانية |
نوروز عرب |
--- - هاوند صغير |
راهوي |
---- - ماية |
ماهور |
--- - قرجغار |
حسيني |
|
نوروز خارا |
--- - عجم |
حجازي |
|
نوروز بياتي |
--- - اصفهانك |
أبوسليك |
|
حصار |
--- - راحة الأرواح |
نوى |
|
نهفت |
--- - زوالي سه كاه |
عشاق |
|
عزال |
--- - زوالي اصفهان |
|
|
أوج |
--- - نمار |
|
|
نيريز |
--- - نيشابورك |
|
|
مبرقع |
--- - خوذي |
|
|
ركب |
--- - حجست |
|
|
صبا |
--- - زمزم |
|
|
همايون |
--- - همايون |
|
|
اصفهانك |
--- - مستعار |
|
|
زاولي |
--- - نكانيك |
|
|
بستة نكار |
--- - بنجكاه أصل |
|
|
نهاوند |
--- - بنجكاه زايد |
|
|
خوذي |
--- - محيّر |
|
|
محيّر |
--- - أوج |
|
|
|
--- - ماهور كبير |
|
|
|
--- - ماهور صغير |
|
|
|
--- - بستة نكار |
|
|
|
--- - عشيران |
مذاهب هذه القسمة من أصول وفروع ومركبة توسعت وتنوعت على مر العصور، مع
اختلاف في هيئات الشعب والأوازات. وتوجد روايات تبلغ فيها المقامات
الأساسية والفرعية ستة وثمانين (86) مقامًا، تم اختيارها من مائتين
وخمسة وثلاثين (235) مقامًا. ويصل المجموع حوالي 360 مقامًا عند العرب
والأتراك والفرس، بين أساسية وفرعية وفرعية مركبة (341) [مؤتمر 1932
وسليم الحلو، ص 88-133]؛ المشهور منها 32 عند عرب المشرق والأتراك، دون
احتساب الطبوع المغاربية. إن توليد المقامات ليس له نهاية، لكنها
عمليًا تنحصر في خمسة وتسعين مقامًا، استعمل منها زمنًا طويلاً لدى
الممارسين، من الثلاثين إلى الأربعين مقامًا[11].
حسب درجة الارتكاز الأصلية
وتنظيمًا لهذا الكم الهائل من المقامات، اجتهد بعضهم في تصنيفها بطريقة
تبسط سبل التعامل معها، من ذلك ترتيبها بحسب درجات استقرارها الأصلية؛
أو بحسب المقامات الأصلية وفصائلها، على النحو التالي[12]:
درجة الارتكاز |
المقامات |
درجة الارتكاز |
المقامات |
- اليكاه
- العشيران
- عجم عشيران
- العراق
- الراست |
اليكاه – شد عربان – فرحفزا –
سلطان يكاه
– طرز جديد –
نهوفت العرب.
(حسيني عشيران) – سوزدل –
شوق طرب.
عجم عشيران
–
شوق آور –
شوق أفزا -
عجم مرصع .
العراق
– (أوج) – بستة نكار -
راحة الأرواح
– فرحناك – أويج آرا.
الراست
– ماهور – ( كردان) -
رهاوي –
سوزدلارا
– زاويل – سازكار – (زنكلاه) -
دلنشين – بسنديدة - سوزناك – نهاوند –
نهاوند كردي – نهاوند كبير –
نهاوند مرصع – نوأثر – نكريز –
بسنديدة - حجاز كار – حجاز كار كرد –
زنجران –
سوزناك جديد – طرزنوين. |
-
الدوكاه
- السيكاه
- الجهاركاه
- نوى |
بياتي
–
عشاق تركي – حسيني-
طاهر - عرضبار – (حسيني) –محير- (قارجغار
/ شوري) - كلعزار – بياتين – صبا- صبا
زمزمة – صبا بوسليك – قارجغار – كرد – شاهناز كردي
– حجاز – حجاز عجمي – شاهناز –
(بوسليك)
– بوسليك جديد –
(عشاق مصري) –
نيشابورك –
أصفهان - حصار.
السيكاه
–
ماية – شعار –
مستعار – هزام.
جهاركاه
– جهاركاه تركي.
نوى – نوى كرد –
نوى عجم – نوى بوسليك
– حجاز نوى |
المقامات بحسب فصائلها[13]
مقام |
الفصائل |
المقام |
الفصائل |
- عجم
- راست
- سيكاه
- هزام
- عراق
- نهاوند
|
عجم عشيران - شوق أفزا –
عجم مرصع – جهاركاه .
راست كردان – رهاوي – ماهور –
سوزدل آرا – زاويل – سازكار –
دلنشين – سوزناك – يكاه – نوى
– نيرز راست –
نيشابورك – أصفهان.
ماية – شعار- أويج – مستعار – فرحناك.
راحة الأرواح.
بسته نكار.
نهاوند كرذي – نهاوند كبير –
نهاوند مرصع – فرحفزا –
سلطاني يكاه – طرز جديد –
نوى عجم – بوسليك – بوسليك جديد –
عشاق مصري – شوق آور. |
- نوأثر
- حجاز
- كرد
- بياتي
- صبا |
حصار – نكريز – بسنديدة –
حجاز كار – شد عربان – سوزدل –
أويج آرا – شاهناز- جهاركاه تركي -
نهوفت العرب – حجاز النوى –
حجاز عجمي – زنجران –
سوزناك جديد.
حجاز كار كرد – شوق طرب – طرزنوين – شاهناز كردي –
حصار كردي .
حسيني – محير – طاهر – عرضبار – عشاق تركي – حسيني عشيران
–
بياتين – قارجغار.
صبا زمزمة – صبا بوس |
تبسيط المقامات واختصارها في 11 جنسا رئيسية (بحجة تماثلها)
الجنس الأساسي |
الارتكاز الأصلي |
النسب (تقريبية) |
الجنس المماثل |
الارتكاز |
العجم عشيران |
عجم عشيران |
(1) (1) (½) |
الجهاركاه |
جهاركاه |
الراست |
راست |
(1) (¾) (¾) |
اليكاه |
يكاه |
نهاوند |
راست |
(1) (½) (1) |
البوسلك - العشاق |
دوكاه |
نوأثر |
راست |
(1) (½) (1½) |
الحصار |
دوكاه |
بياتي |
دوكاه |
(¾) (¾) (1) |
|
|
حجاز |
دوكاه |
(½) (1½) (½) |
الحجاز كار
السوزدل
الشاهناز
الشدعربان
الأوج آرا |
راست
عشيران
دوكاه
يكاه
كوشت |
الصبا |
دوكاه |
(¾) (¾) (½) |
|
|
الكرد |
دوكاه |
(½) (1) (1) |
العجم كرد |
دوكاه |
السيكاه |
سيكاه |
(¾) (1) |
الفرحناك |
عراق |
العراق |
عراق |
(¾) (1) (¾) |
|
|
الهزام |
سيكاه |
(¾) (1) (½) |
راحة الأرواح |
عراق |
الطبع بالمغرب العربي
ظهر مصطلح "طبع" (ج. طبوع) بالمغرب العربي، مع القرن العاشر
الهجري/السادس عشر ميلادي. وهو دليل يؤكد على المنحى التجريدي الصوفي
لهذه المدرسة. أقدم وثيقة وصلتنا تتعلَّق بالطبوع، تعود إلى العهد
الحفصي من خلال قصيد في 56 بيت من بحر البسيط، في ذكر الرسول (صلعم)
للشاعر الصوفي محمد الظريف (ت. 1385) مطلعه: "من سفك دمعي ومن تحبير
أجفاني". ست أبيات منه [15-20] تتضمَّن مجموعة تسميات، دون ذكر مصطلح
الطبع. وهي على التوالي: [الرهاوي – الذيل – الرمل – الإصبهان – الصيكة
– المحير – المزموم – العراق – الحسين – النوى – (رصد الذيل) – الماية
– الرصد – الأصبعين]. كما ورد مصطلح الطبع مع أربع تسميات: [ذيل - عراق
عرب - رمل ماية- رمل] في هامش لمقطوعة زجلية لـ لسان الدين ابن الخطيب[14]
(1313- 1374). ولا ندري بالتحديد إذا كان هذا التعليق هو من إضافة أحد
ناسخي المخطوط، أو يعود إلى المؤلِّف نفسه الذي وضع مصنَّفه بعد صرفه
عن الأندلس واستقراره بالمغرب.
عدد الطبوع وكيفية تصنيفها:
لم تتوضح مسألة الطبوع إلا مع أوائل القرن العاشر الهجري/السادس عشر
الميلادي، وذلك من خلال قصيد في إحدى عشر بيتًا من بحر الطويل للقاضي
عبد الواحد الونشريسي (1478-1548)، أواخر عهد الوطاسيين بالمغرب
الأقصى، مطلعه: "طبائع ما في الكون أربعة"، يذكر فيه مصطلح الطبع مع 17
تسمية: 5 أصول (ذيل - ماية - زيدان – مزموم)، و12 فروع (أصل: الغريبة
المحررة، وهو دون فرع). علمًا وأن تسميات الطبوع تحاكي أسماء الأوتار
الأربعة للعود التقليدي وكذلك بالنغمات الأصول السبعة للسلم التي تتلخص
في الجمل التالية:
ذ |
م |
ســـ |
ــــمـــ |
ـــر |
حـــ |
ــــس |
ذيل |
ماية |
سيكة |
مزموم |
رمل |
حسين |
سيكة حسين |
توسع عدد الطبوع فيما بعد، مع كل من (الوجدي
XVII
= 23) - (البوعصامي والحائك (XVIII
= شجرة بها 26 طبعًا: 5 أساسية و21 فرعية، غير أن
الصيكة والمشرقي خارجان عن الشجرة:
طبع أساسي |
طبوع فرعية |
- ذيل |
رصد الذيل - رمل الذيل عراق [العرب/العجم - مجنب الذيل –
استهلال الذيل]. |
- ماية |
رصد – حسين – رمل [الماية – انقلاب الرمل] |
- زيدان |
أصبهان – عشاق– حصار - زوركند – حجاز[الكبير/المشرقي] |
- مزموم |
غريبة الحسين [حمدان] |
- غريبة المحرّرة |
أصل دون فرع.. |
- خارج الشجرة |
الصيكة (تابع الماية) - المشرقي (تابع المزموم) |
هكذا تزايد عدد الطبوع من 13 (الظريف ت. 1385) إلى 17 (الونشريسي ت.
1549)، 23 (الوجدي
XVII)،
ثم مع البوعصامي والحائك (XVIII)
شجرة بها 26 طبعًا: 5 أساسية و21 فرعية. يوجد نفس الشيء لدى إبراهيم
التادلي (ت. 1894) في كتابه أغاني الصكا في علم الموسيقى.
عمليًا، تتخذ الطبوع خاصيات تختلف باختلاف الأرصدة المغاربية، نحوصلها
في الجدولين التاليين (علمًا وأن تماثل التسميات لا يعني تماثل خاصيات
الطبوع أو الأجناس المكونة لها). وفيما يلي نورد جدولين[15]:
- جدول مقارن للطبوع المغاربية بحسب الاصطلاحات المتداولة
- جدول الأجناس المستعملة
[عادة ما يرتبط طبع بالنوبة التي تسمى باسمه؛ والنوبات المعروفة، هي 11
في رصيد الآلة المغربية – 12 بالغرناطي ، الصنعة أو المالوف بالجزائر –
13 بالمالوف التونسي – وعدد موزع على 24 مجموعة تقريبا بليبيا. راجع
محمود قطاط: التراث الموسيقي العربي / المدرسة المغاربية الأندلسية،
المجمع العربي للموسيقى – جامعة الدول العربية، عمان / بغداد 2002.
Mahmoud Guettat: La musique arabo-andalouse / L'empreinte du
Maghreb, Montréal-Paris, 2000
- جدول مقارن للطبوع المغاربية بحسب الاصطلاحات المتداولة
ع |
ليبيا |
تونس |
الجزائر |
المغرب |
|
الطبوع |
ليبيا |
تونس |
الجزائر |
المغرب |
ـ ذيل |
+ |
+ |
+ |
+ |
|
- رمل الكبير |
|
+ |
|
|
مجنب الذيل |
|
+ |
|
+ |
|
- رمل الماية |
+ |
+ |
+ |
+ |
- رصد الذيل |
+ |
+ |
+ |
+ |
|
- الماية |
+ |
+ |
+ |
+ |
- رمل الذيل |
|
|
|
+ |
|
- انقلاب الرمل |
|
|
|
+ |
- استهلال الذيل |
|
|
|
+ |
|
- صيكة |
+ |
+ |
+ |
+ |
- ذيل قسنطيني |
|
|
+ |
|
|
- صيكة حسين |
|
|
+ |
|
- ذيل براني |
|
|
+ |
|
|
- أصبهان |
+ |
+ |
+ |
+ |
ـ ماية |
+ |
+ |
+ |
+ |
|
- عشاق |
|
|
|
+ |
ـ زيدان |
|
|
+ |
+ |
|
- حصار |
|
|
|
+ |
ـ مزموم |
|
+ |
+ |
|
|
- زوركند |
|
|
|
+ |
- مزموم محير |
+ |
|
|
|
|
- حجاز الكبير |
|
|
|
+ |
- مزموم صنعة |
|
|
|
+ |
|
- حجاز المشرقي |
|
|
|
+ |
- مزموم مُوال |
|
|
|
+ |
|
- مشرقي |
|
|
|
+ |
ـ غريبة المحرّرة |
|
|
|
+ |
|
- مشرقي صغير |
|
|
|
+ |
- غريبة الحسين |
|
|
+ |
+ |
|
- نوى |
+ |
+ |
+ |
|
- عراق |
+ |
+ |
+ |
|
|
- أصبعين |
+ |
+ |
|
|
- عراق العرب |
|
|
|
+ |
|
- انقلاب أصبعين |
|
+ |
|
|
- عراق العجم |
|
|
|
+ |
|
- محير |
|
|
+ |
|
- رصد |
+ |
+ |
+ |
+ |
|
- محير عراق |
|
+ |
|
|
- رصد قناوي |
|
|
|
+ |
|
- محير صيكة |
|
+ |
|
|
- رصد عبيدي |
|
+ |
|
|
|
- رهاوي |
|
+ |
+ |
|
- حسين |
+ |
+ |
+ |
+ |
|
- ساحلي |
|
|
+ |
|
- حسين عجم |
+ |
+ |
|
|
|
- جاركه |
|
|
+ |
|
- حسين صبا |
+ |
+ |
|
|
|
- مُوال |
|
|
+ |
|
- حسين نيرز |
|
+ |
|
|
|
- غريب |
|
|
+ |
|
- حسين عشيران |
|
+ |
|
|
|
- مجنبة |
|
|
+ |
|
- رمل |
+ |
+ |
+ |
|
|
- حمدان |
|
|
|
+ |
- رمل العشية |
|
+ |
+ |
|
|
|
|
|
|
|
الأجناس المستعملة
الأجناس المستعملة |
المصطلحات المحلية |
(1) (1) (½) |
غريبة الحسين (المغرب) |
(1) (½) (1) |
حسين (المغرب) |
(½) (1) (1) (1) |
صيكة (المغرب- الجزائر) |
(1)
*
(¾)*
(¾) (1) |
ذيل (تونس – ليبيا) |
*
(¾)*
(¾) (1) |
حسين (تونس-ليبيا) |
*(¾)
(1) |
صيكة (تونس – ليبيا) |
(1)
*
(¾)*
(1 4/1) (½) |
رصد الذيل (تونس – ليبيا) |
(1)
*
(¾)(1)
*
(¾) |
رصد الذيل (تونس) |
(½) (1½) (½) |
مجنبة، رمل، زيدان (الجزائر)
زيدان، حجاز كبير، حجاز مشرقي، رمل الذيل (المغرب) |
(1) (1½)(1) |
رصد (المغرب – تونس) |
(1) (½)(½)(½) |
الرصيد الشعبي |
*** *** ***
[15]
عادة
ما يرتبط الطبع بالنوبة التي تسمى باسمه؛ والنوبات المعروفة،
هي 11 في رصيد الآلة المغربية – 12 بالغرناطي، الصنعة أو
المالوف بالجزائر – 13 بالمالوف التونسي – وعدد موزع على 24
مجموعة تقريبا بليبيا. راجع محمود قطاط: التراث الموسيقي
العربي/المدرسة المغاربية الأندلسية، المجمع العربي للموسيقى –
جامعة الدول العربية، عمان/بغداد 2002.
Mahmoud Guettat: La musique arabo-andalouse / L'empreinte
du Maghreb, Montréal-Paris, 2000.