العبرمناهجية

كتاب– دعوة

إلى توازن وتناغم بين الثقافات

أكرم قطريب

العبرمناهجية مصطلح ظهر منذ ثلاثة عقود ظهوراً يكاد يكون متزامناً في مؤلفات باحثين متعدِّدي المشارب، مثل جان بياجيه، إدغار موران، إريك ينتش، وسواهم.

والآن، مع بسراب نيكولسكو، الفيزيائي في المركز الوطني للبحث العلمي في فرنسا والفيلسوف المشتغل في فلسفة العلوم، يعاد اكتشاف المصطلح المذكور كسياق مضاد لفكرة موت الإنسان ونهاية التاريخ. والكتاب عبارة عن تأمل طويل في صيرورة الانحطاط الحضاري، يعزو فيه المؤلف هذا الانحطاط الذي سقطت فيه المدنيات إلى الافتراق المتزايد بين نضج العقلية الإنسانية التي تتعامل مع الواقع والكتلة المعرفية المتراكمة: ففي الفيزياء وعلم الوراثة وتطبيقات التكنولوجيا يتحول كل شيء بسرعة مذهلة، بينما العقليات التي تتعامل مع هذا التحول ماتزال تعبِّر عن العقل الجماعي الذي أفرز كلاً من أفلاطون وأرسطو وغيرهما؛ أي أننا مازلنا نحوِّم حول هذه المنظومة المعرفية.

فالمجانسة بين الثقافات والأديان والروحانيات المختلفة المطروحة في خطاب العولمة الآن مجانَسة رخيصة يمكن التعبير عنها بمصطلح "دين الاستهلاك". ثم إن بلوغ النزاعات الإثنية والدينية أعلى مراحل الفتك والوحشية والإلغاء تمثل استهلالاً احتفالياً يبرز الوضع المأساوي للإنسان المعاصر.

هذا التدمير الذاتي المثلَّث الممكن (المادي والبيولوجي والروحي) هو قطعاً نتاج علم أعمى، لكنه منتصر، لا ينصاع إلا لقسوة منطق المردودية effectiveness من أجل المردودية. ولكن كيف يُسأل الأعمى أن يبصر؟!

لقد ولد العلم الحديث من قطيعة فظة مع الرؤية القديمة إلى العالم. وهو يتأسس على فكرة مفاجئة وثورية آنذاك، على حد تعبير نيكولسكو، تقضي بالانفصال الكلِّي بين الذات العارفة والواقع الذي يُفترَض أنه مستقل استقلالاً تاماً عن الذات التي ترصده. وإبان القرن العشرين، توطد التعقيد في كل مكان، مروِّعاً، بذيئاً، فتاناً، ومتحدياً وجودنا نفسه ومعنى هذا الوجود.

فالنمو الذي لا سابقة له للمعارف في عصرنا يجعل مسألة تكيُّف العقليات مع هذه المعارف مسألة مشروعة. والرهان هو من الخطورة بمكان، لأن من شأن التوسع المستمر للمدنية ذات النمط الغربي أن يجعل سقوطها مساوياً لحريق كوكبي.

ويفترض نيكولسكو حلَّين في الفكر الكلاسي للخروج من هذا الوضع الانحطاطي هما: الثورة الاجتماعية أو العودة إلى "عصر ذهبي" مفترَض.

فأما الثورة الاجتماعية فقد تم اختبارها إبان القرن المنصرم، ونتائجها كانت كارثية؛ إذ لم يكن "الإنسان الجديد" غير إنسان أجوف بائس. وأياً كانت التدبيرات التجميلية التي لن تلبث أن تطرأ على تصور "الثورة الاجتماعية" في المستقبل فإنها لن تستطيع أن تمحو من ذاكرتنا ما تم اختباره. وأما العودة إلى العصر الذهبي فلم تجرَّب بعد، لسبب بسيط هو أن العصر الذهبي لم يعثَر عليه مجدداً. وحتى على افتراض أن هذا العصر وُجِد في أزمنة مغرقة في القِدَم، ينبغي على هذه العودة أن تترافق مع ثورة داخلية عقائدية، هي صورة الثورة الاجتماعية في المرآة.

يفترض بَسَراب نيكولسكو إمكان حصول تناغم بين العقليات والمعارف. فالبشرية مرغمة على تشييد جسمها الخاص. إن مجتمعاً قابلاً للحياة يمرُّ عبر الترافق المتعدد الأصوات polyphonic بين الذوات، بين مختلف مستويات إدراكها، وبين مختلف مستويات معرفتها.

في فصل "العبرثقافي ومرآة الآخر" يرى المؤلف أن مشاهد ثقافة القرن العشرين محيِّرة ومتناقضة وفتَّانة في آن واحد. ومع أخذ ملاحظة هنري كوربان: "هناك شرق في الغرب وغرب في الشرق" بعين الاعتبار، فإن أسلوب الحياة الغربي يكاد في الوقت الحالي ينتشر في كل الأصقاع مُخِلاً بتوازن الثقافات المنقولة traditional cultures.

يحمِّل نيكولسكو الغرب، المسلَّح باقتداره الاقتصادي، مسؤولية كبيرة: كيفية تجنب تحلل ثقافي ناجم عن تنميةٍ للعلم التقني لا كابح لها. وتبدو ثقافة اليوم، في نظره، أشبه بعربة غجر افتراضية ضخمة تتكدَّس فيها الدفاعات الملفَّقة ضد إرهاب اللامعنى nonsense.

كتاب العبرمناهجية يمثل بيان اللحظة الحاضرة وهي تحاول ابتكار صلات من نوع آخر بين مختلف المعارف والثقافات والأديان التي تعبِّر تعبيراً حقيقياً عن الكيان الإنساني وزمنه المفقود، كردٍّ على التيار الرسمي للثقافة الغربية، والإمساك بالمستويات المنتهَكَة لصورة العالم المجزَّأ، المختل التوازن في غالبيَّته الساحقة.

*** *** ***