|
قصة ذاكرة حذاء أبيض
أميرة
سلامة
مدينتي شمس تشكّ
منقارها في
زوايا الأزقة في
كل مكان مدينتي خشب لا ينام واقفاً
مائلاً ينخره سوس
الضجر والحلم خاتم يسبح تحت
الماء طالعاً يرنّ
لنحاس الوجوه أجراس
المساء والقمر
ياقوتة يختم الجبين ينسال على
نهود يتكوَّم البغض
فيها يتكوَّر الحنين متقوِّساً
على خصور طرية قاسية يطوِّف
فوق أرداف قوية مرخية تموج مثل
كواكب غامضة واضحة مدينتي أيتها
العاهرة الطاهرة أعشقك كما
أنت بوشاحك
الرمادي المنهمر على أكتاف
حقول الإسمنت المرتفعة
الواطئة تتخاصرين
مع الصليب وقامة
المئذنة تتحولين
تتحولين تخرجين
من تحت إبط القباب المحنية تدخلين
الثلج النار تتغيّرين
تتغيرين إلى الأقبح إلى الأجمل من قاسيون
الأسمر تنهال عليك
القبل يقع فستان
عرسي الأبيض جوعي إليك
لا ينتهي فيكِ براءةُ
خبثِ طفولتي كوكبةُ حرير
شبابي كتانُ صقيعي والموقد أعيريني
صوري أتنزّه فيها ألعب أرتحل منكِ إليكِ مربوطة
بحبلك السُّرِّي عطر الحبق
الأخضر كلما راودني
طيفك أحسست حموضة
الليمون تحرق شفتي
أكثر وداعاً
أيها الحذاء الأبيض
المنقّط عندما
تصيرالذاكرة ضوءاً
يتقوس في المرآة،
أو
على عتبة الباب، أو
نقطة زيت تطفو
على وجه الماء. لم تراها تبرق
الآن؟ لا أدري، ولكني
أشعر بنعومتها تداهمني، تلوِّن
بياض نسياني الشاسع، تحملني إلى غرفتي العتيقة
الرطبة، تعيدني إلى رائحة الصعتر، تنبعث من
يدي أمي، تهيِّء
لي زوَّادة
المدرسة، تضعها في كيس طويل، أذكر أني كنت
أفرد طياته الكثيرة لتغوص يدي
في العمق، تنتشل تلك السندويشة. وأسأل
نفسي دائماً: هل فُقِدت
الأكياس الصغيرة من هذه الدنيا؟ أم أن الطويلة
أرخص ثمناً من الصغيرة؟ وها
أنذي أتذكرها تُلبِسُني،
رغماً عني، حذاءً كبيراً،
لا يتناسب مع قياس قدمي. كم
كان مضحكاً، أسير به وأصابع قدمي ممطوطة حتى
أقصاها، لتملأ المسافة المتبقِّية. من دون فخر، لقد
ورثته عن أخي الأكبر، حذاء أبيض، له ثقوب
كثيرة ناعمة، تبدأ من منقاره لتنتحر عند كعبه.
صحيح أنني كنت
أملك حذاءً جيداً لونه أسود، لكن أمي خصَّصته
لقداس الأحد المبجَّل.
فقد كانت تصطحبنا معها كل
أحد، أنا وأخي الصغير،
لنتقاتل في المقعد الخلفي من الكنيسة،
يقرصني، أقرصه، نتبارى
بكتم الأصوات وفيمن يصمد أكثر. وعند
انتهاء المعركة، نرتاح لنتأمل النساء التي لا
تنهض إلا لتجلس. فكنا نتحزر قائلين: "هه،
ماذا تقول الآن؟ سيقفن أم سيبقين جالسات؟"
وهكذا إن ربح أحدنا نقول: "واحد/صفر،
أو واحد
للكل،
حتى ينتهي القداس بالسلامة. وفي عزِّ
الظهيرة، وبعد عراك طويل مع أمي، انتعلت حذاء
أخي المقيت، لأذهب إلى المدرسة. ولكني
بدلاً من أن أذهب، تواريت عن الأنظار داخل
المبنى، وكنت عاقدة العزم على أن أبقى هناك حتى
انتهاء الوقت المخصص للمدرسة. لكني لم أنجح
حتى في ذلك.
فقد باغتني باب يُفتَح، وإذا بشاب يخرج من
الشقة، ليفاجىء حذائي الأبيض، مستغرباً
وجودي متسائلاً: - أنتِ،
ماذا تفعلين هنا؟ ولما كنت أجيد
الكذب كثيراً، أجبت بسرعة: - إني
صاعدة إلى بيت جيراننا لأن أمي غائبة. - آ، هكذا إذاً. ونزل الدرج دون
أن يرى حذائي، أو
ربما رآه ولكنه حسن
الخلق، لم
يظهر أي اهتمام بذلك. كم هو
مهذب حتى إنه لم يضحك!
والآن ما العمل؟ ماذا لو
خرج أحد آخر، من باب
آخر؟
وصلت بالتفكير إلى أن
التخفِّي
لن يجدي. فما علي
إلا الرضوخ والذهاب إلى المدرسة. فنزلت
إلى الطريق غضبى، أفكر:
لو أخلعه
الآن وأرميه في الحاوية، لو أمشي
حافية، لو أغطيه
بورق الجرائد المرمية هناك، لو
أخفيه بيدي الصغيرتين هاتين؟ وإن كان لابد أن
يراني أحد فسأخفي فردة بوضع الواحدة فوق الأخرى،
ليهون علي الأمر.
لو تسقط
الأمطار والثلوج بشدة ليركض
المارة ولا يروا
حذائي الأبيض. ثم سرت كالمنوَّمة
مغناطيسياً، موجوعة في قلبي، أرصد المارة من
على بعد، لأحتاط
وأتريث خلف سيارة، ريثما يمضي. وبهذه
الطريقة نجحت في إخفاء حذائي الأبيض عن بعض
الأعين. وعند وصولي إلى
باحة المدرسة، ضيَّعت
نفسي في زحام الأحذية والحقائب المتروكة
على الحائط ريثما يرنّ الجرس. وعند
اصطفافنا في الباحة ظللت أنظر يمنة ويسرة
وإلى الخلف لأجذب رفيقاتي إلى الاتجاه نفسه،
فيتناسين النظر إلى أسفل. وعندما صعدنا
الدرج ودخلنا الصف، طلبت من رفيقتيّ بالمقعد
أن أجلس في الوسط، وقد استغربتا الأمر لأني
كنت أفتعل مشاكل كثيرة كي أجلس على الطرف، وقد
كذبت عليهما قائلة: "إني
لم أحفظ دروسي اليوم.
ولكي
لا يقع
اختيار الآنسة في التسميع عليّ. فهي
تختار الجالسة دائماً على الطرف من أجل
سهولة الحركة."
وكم كنت سعيدة وممتنّة لهما لجلوسي
في الوسط مخفية حذائي الظريف عن الأنظار، حتى
إني تمتعت بطيبة وانتباه فائق لوقوع أي شيء
على الأرض يخص إحداهن، فقد كنت السبّاقة
دوماً للنزول إلى الأرض ولمّ الأغراض
الساقطة، كقلم أوممحاة
إلخ.
وقد كنّ يشكرنني مستغربات.
وشاءت الظروف أن يدخل الصف
أستاذ جديد للموسيقى لا يزال تحت التدريب. كم كان وسيماً،
طويلاً، رشيق
الحركة، شعره أسود ناعم، خصله ملساء
كالحرير مسترسلة على جبينه، كيفما استدار،
تهف علينا رائحة الكولونيا. أما عيناه، فيا
لجمالهما!
تفصل بينهما مسافة بعيدة، واسعتان
وسع الأرض، خضراوان، تغار لشدة خضرتهما
الحقول. أما تقاسيم
وجهه، فهي تميل إلى الطفولة. وعندما
يبتسم، يلتمع شيء ما في الداخل. أهذه
هي الأسنان التي يأكل بها؟ أم أنه يستعملها
فقط للزينة! وقفنا جميعاً لدى
دخوله، وساد صمت رهيب، كسره بقوله: "مرحبا، اجلسن
من فضلكن. أنا الأستاذ حبيب، مدرِّس الموسيقى
الجديد." في البداية أود لو
أتعرف على أسمائكن. بعد
التعريف، طلب أن نفتح دفاترنا لنرسم
السلم الموسيقي، ولنقرأ معاً العلامات الموسيقية.
وكم كنت سعيدة بهذا الأستاذ! اعتقدت أنه نزل
من السماء، وتجسد على الأرض، لا يأكل مثلنا،
لا يشخر أثناء
النوم أو
ربما لا
ينام، لا يدخل الحمام اللهم إلا
ليستحم، لا يلعن أحداً، منزَّه عن كل عيب. سرت الرعشة في
جسدي عندما سأل:
"من لها صوت جميل؟" فأشارت رفيقاتي
بأصابعهن إليّ وبأصواتهن قائلات معاً: "زُعَيْلة
يا أستاذ، زعيلة كرم تغني لنا دائماً وصوتها
جميل." فضحك عندما أدرك
خجلي، وقال: "تعالي
يا زعيلة إلى هنا كي تستطيعي
الغناء أفضل." ومن قال أني سمعت
النداء؟! تسمّر
حذائي بالأرض، أو التصق
بشيء ما وشدني معه،
أو أن هذا الحذاء –
بأصابعه نفسها – وضع القطن في أذني. وكرر السؤال:
"أليس
اسمك زعيلة؟" أدركت وضعي فأجبت:
"ن... نعم
يا أستاذ." - لم
أنت خائفة؟ - وممَّ
أخاف؟ - أنا من يسأل! - وأنا
أجيب. - إذاً
تعالي إلى هنا لتغني لنا ما تريدين. حاولت أن أجيب –
وكلي ثقة أنه يستمع الآن إلى دقّات قلبي، وأن
قلبي سيغادر الآن مكانه من كل بد، إلى أين لا أدري.
لقد شلّني الخوف وصار
يقطر من جسمي –،
ثم استدركت خوفي
قائلة بلهجة استجداء:
"أغني يا أستاذ ولكن
أرجوك أن تسمح لي أن أبقى في مكاني." فأذعن لطلبي،
قائلاً: "هيا،
أسمعينا." فأجبته بثقة
وراحة وقد تلاشى كل خوفي: "سأغني
لك بالفرنسية." فتعجب قائلاً: "أو
تعرفين؟" فقلت بفخر مبالغ
فيه:
"أوه…
إني أعرف الكثير الكثير!" -
ومن
علَّمك؟ اختلط الأمر عليَّ
وكدت ألفظها كاملة،
لولا أني استدركت نفسي في الجزء الأول من
الجواب وذلك عندما قلت: "صاحب
الحذ…" ثم
بلعت الباقي، وقلت: "أخي، يا
أستاذ، أخي الكبير. فهو
يدرس اللاهوت ويريد أن يصبح راهباً (ذاك
الراهب
الصغير أصبح أكبر ملحد الآن! وأذكر
أيضاً أنه كان يلقنني طريقة اللفظ ويسخر مني
كثيراً، عندما أزمّ شفتيَّ
لأتقن اللفظ.
وعندما لمس إصراري في التعلُّم
راح يلعب معي لعبة القط والفأر قائلاً لي:
"هل تريدين حقاً أن
تتعلمي اللفظ؟" - نعم. - إذاً لابد أن
تطيعيني طاعة
كاملة. - حاضر. - إذاً
Va là-bas
- أي
"اذهبي
إلى هناك". قالها
مشيراً إلى آخر المدخل الطويل للبناء. فأذهب ثم يضحك
ليعيدني بالفرنسية قائلاً: Viens-ici
- أي
"تعالي
إلى هنا". وهكذا نحو
المئة مرة، وأنا أذهب
ثم أعود.
وكان الجو حاراً
عند منتصف النهار. وبعد أن أنهكني
التعب، غضبت عليه بشدة، وبكيت. هذا ما علمني. ومع
ذلك أردت الغناء بالفرنسية. لكنه كان يضع في
المسجلة أغاني فرنسية والتقطت راداراتي
اللحن وجملة وحيدة وطريقة اللفظ، وكانت
الجملة
Une
maman c’est la tendresse, Une maman quelle richesse !أي "أمي،
أي حنان أنت، أمي أي غنى".
وألفت الباقي من عقلي محتفظة باللحن كنزي
الثمين. وعند انتهائي
صفقوا لي بناءً
على طلب من الأستاذ،
وجلست وكلِّي رضى
عن نفسي. وهكذا مضى ذلك
النهار بسلام وعدت إلى البيت دون أن يسخر من حذائي أحد،
إلا أنا طبعاً.
|
|
|