|
الشمس
النازفة
أميمة الخشّ منحشر
أنا بين الجموع. أرقب صامتاً النعش المستقر في
الحفرة العميقة. النعش المرصوص، الذي لم
يُسمح بفتحه! تصلني وشوشات القريبين مني: "لم
تسمح السلطات بالكشف عن الجثة، حتى لأهل
الفقيد نفسه!" أرفع
نظري إلى كومة من السادة الملتمِّين في الجهة
المقابلة. أركزه برهة على واحد ضخم الجثة،
تغوص رقبته العريضة بين كتفيه، ليظهر منها
الرأس بوجه كالح المعالم. يمسك بين أصابعه
الرخوة صفحات يبدأ يقرأ سطورها. ينخطف
بصري عنه إلى جهة الغرب. يحط على خط الأفق
الأرجواني البعيد. الغزالة تغرق وراء الخط
المرئي وقد تحول جسمها الذي كان منذ ساعات
يسطع بالنور إلى قلب ينزف وهو يركض لاهثاً إلى
عالم الظلمة، مخلفاً وراءه لطخاً حمراء فوق
رداء السماء الرمادي الشفيف. الوداع! وقلب
الشمس المنفطر. مشاركة كونية يلتحم فيها
الحزن العميق لهذا النجم الهائل مع أعمق
أعماق دواخلي، فأحس، وأنا أرقب المشهد، بأني
عاجز عن النطق بكلام أبلغ مما ترسمه الريشة
الإلهية أمام ناظريّ. اللاهون
عن مظاهر الكون لا ينصتون إلى الحوارات
الخفية المنبعثة من عمق السكينة، ولا
يستوقفهم مشهد وداع، ولا مشهد عودة. الوجيه
يعطي ظهره لصورة القلب المنفطر، ولاتصل أذنيه
حكايات الكون السحرية. فصوته القوي يعلو على
كل صوت، وعلى أصوات الجموع المحتشدة أمام
الحفرة المفتوحة، تلفظ وتهمهم مجامِلة، أو
تندب متفجّعة بصوت مكتوم، أو تندّ عنها، من
هنا وهناك، بعض عبارات الشماتة الملغومة،
الخافتة النبرات. يستمر
الوجيه صائحاً فوق رأس النعش المركون في
الأسفل، كأنما يحدس أن صوته لا يصل أذن أحد من
المتجمهرين! تصل أذني بعض عباراته المطاطة
الجوفاء، تطري بإسهاب ممل صفات الفقيد،
أعماله، خصاله الحميدة، لتصل إلى غدر القدر
الذي اغتاله في لمحة بصر خاطفة، ومن غير
استئذان! غرور عجيب! ومتى كان القدر يستأذن
الناس عندما يقرر أن يخضعهم لتجربة من تجاربه
الكثيرة. أم أن الوجهاء لهم معاهداتهم السرية، حتى مع
الأقدار؟! مايزال
قرص الشمس الغارب يلوّح بردائه الملطخ، وقد
امتص خط الأفق قسمه السفلي. وحبل سُرِّي رقيق
يعلق بقلبي المنخطف صوبه تاركاً جسمي المنتصب
بين الحشد من غير روح. كانت أمي تشاركني
دائماً روعة المشهد. تجلس قربي على مصطبة
بيتنا القروي، ويغرق بصرها وراء خط الأفق
اللامتناهي. -
في لحظة الوداع يا أماه تتحرك الأحزان في
دواخلنا. تجيب، وهي تتأمل
آخر خيط أرجواني يتلاشى تاركاً للمدى الغسقي
فرحة الانصهار بالصفحة الرمادية البديعة. -
فرحة انتظارنا لحظات العودة، يا علي، تبدد
الشعور بالحزن. قلب الشمس ينفطر يا ولدي، لكنه
لا يموت. ومن الألم تنبعث السكينة. وفي العودة
ولادة وألق جديد. كانت
كلماتها الحكيمة تبدد أحزان قلبي في تلك
اللحظات، ليحل محلها هدوء عميق. ألتفت
إليها بعد لحظات لأرى سحابة حزن رقيقة تزحف
فوق ملامح الوجه المتغضن. يدهشني التغير
المفاجىء، رغم أني أحدس السبب المباشر. تتابع
بنبرة أسى واضحة: -
أنت يا علي عمود البيت بعد وفاة أبيك. تصمت
قليلاً، وهي ترنو إلى الأفق البعيد. تتابع: -
سامح الله أخاك. شدّته بيارق المدينة عن قلب
الأرض المعطاء. فضّل أن يصير كلب حراسة أمام
قلاع الوجهاء. وما درى أنه خسرنا وخسر نفسه! تعود
إلى الصمت، وينكسر بصرها ليلامس الأرض. ثم
تعود إلى التحديق بعيداً كأنها تترك عالمنا
لتعيش مع الكون لحظات حوارات لا تنتهي. بغتة
تشرئبُّ بعنقها منفلتة من تأملاتها الطويلة،
وتنده بصوت يسمعه المار على الطريق الأمامي. -
سنيّة! أين أنت يا سنيّة؟ لقد حان الوقت
لتعودي بحمزة إلى البيت. ويقفز
حمزة تقوده أمه، وقد ملأت عينيها الفرحة. تتابع
أمي من مكانها، وهي ترقبهما بشغف كبير: -
سنيّة مهرة أصيلة، تأخرت بغلّتها قليلاً،
لكنها جاءتنا في النهاية بخيل ولا كل الخيول! تبتعد
يدي عن جانبي بحركة غير إرادية، وأنا بين
الجموع. ترتطم بكف صغيرة ممدودة! أشهق
شهقة مكبوتة: -
حمزة! منذ متى أنت هنا يا بني؟ -
منذ بداية الاحتفال يا أبي. -
لكني.. لكني دفنتك بيدي هاتين، فكيف جئت؟ أهتف
بلهفة جاهداً لخفض طبقة صوتي. يصلني
صوته الخافت قادماً من كهف عميق: -
أستطيع أن أجيء متى أردت. لا
أدعه يتم كلامه. أتابع مبهوتاً: -
ألا تذكر؟ -
بلى. -
كنتُ على المصطبة، كعادتي كل يوم، أودع الشمس
الغاربة مع جدتك الحنون، وقد انطلقت أمك
لتعود بك كعادتها في مثل ذلك الوقت. كان قرص
الشمس يغرق ملوّحاً بيده الملتهبة. شدني
المنظر حتى نسيتُ كل ما حولي. ونسيت نفسي أيضاً وفجأة ارتسمت على بقايا صفحة القرص
الغارب الذي يغرق فيه نظري حروف بدت لي للوهلة
الأولى بعيدة وغير مرئية. رحت
أركز نظري بعمق، مستخدماً طاقتي الداخلية
كلها. وفي اللحظة التي استطعت فيها فك الرمز،
في تلك اللحظة بالذات، انفلت أمام باب البيت
صوت سنيّة مختلطاً بصوت ارتطام قوي. أحسست بيد
خفية تدفعني فإذا بي على الطريق. -
ومن غير ما ضجة أو حركة جثوتَ أمام جثتي، ورحتَ تتأملني كما كنت تتأمل قرص الشمس
الغارب. -
وخرج الوجيه من سيارته السوداء، صائحاً في
وجه أمك الملتاعة: "لماذا تلقون بقاذوراتكم
وسط الحارات أيها الأوغاد؟" -
ولم تسمع أنت كلمة واحدة مما قال. حملتني برفق
فوق ساعديك، ونظرت إلى وجه الوجيه مليّاً.
كانت اللوعة تقطر من عينيك ثم اندرت ونظرت إلى
قرص الشمس الغارب، وغرقت هناك لحظات. لم تقل
يومها إلا عبارة واحدة ارتفعت فوق أصوات
الصخب العارم كله. قلتها وأنت ماتزال تنظر
باتجاه الغرب: "شكوتك لرب هذا الكون الكبير!"
ومشيت بي من غير أن تندّ عنك آهة تفجّع. لحقت
بك صرخات أمي وجدتي ومن سار خلفك من أهالي
الضيعة المهزومين. لم تتوقف، كأنك كنت تسير
إلى هدف تعرفه. كانت صرخات جدتي تملأ أرجاء
الفضاء المترامي: -
أخوك يا علي من قتله. أخوك يا علي، وليس غيره.
أخوك الذي فضّل أن يلتحق بركب الظالمين،
ينصرهم علينا. كنت
أراها تركض خلفك بخطوات متسارعة، كأنما الحزن
أعطاها قوة الحياة كلها دفعة واحدة. لكنك لم
تكن يا أبي واعياً لما يدور حولك! -
وصعدتُ الهضبة حيث مدفن القرية. وضعتك تحت ظل
زيتونة قديمة. ورحتُ أحفر الأرض بقوة أحزاني
كلها. وأهل القرية ينظرون مذهولين بعيون تحجر
فيها الدمع. وقد جمّد المنظر حركتهم تماماً. -
وحملتني مرة أخرى، وأنزلتني الحفرة. مدّدتني
بهدوء، وسوّيت ملابسي. كانت لطخ الدم فيها
قليلة، فقد جاءت الصدمة القاتلة على الرأس
مباشرة. -
لم أشأ أن ألفّك بالأقماط يا حمزة، كما يفعل
الناس مع موتاهم. لم أحب يوماً تلك العادة،
وكثيراً ما تساءلتُ لماذا يأسر الناس جسد
الميت بتلك الأقماط المحكمة من أعلى الرأس
حتى أخمص القدمين؟ لماذا لا يدعون جسد الميت
حراً؟ وكثيراً ما منيّت نفسي وأنا أمشي في
جنازة ميت لو تعود إليه روحه في غفلة عن عيون
المشيعين، فيترك نعشه، ويهب منتصباً، ممزقاً
أقماطه! -
ولهذا تركت جسدي حراً يا أبي؟ -
لكن روحك لم تعد يا حمزة، وظلّت أحلامي سراباً! -
وإذن، فما الذي يحدث الآن؟ ها أنا ذا إلى
جانبك يا أبي. أكلمك، وتكلمني، بينما الجميع
مشغول باحتفالات الدفن! ولكن هل يحتاج الحزن
إلى احتفال أيضاً؟! -
لا أدري يا حمزة، فأنا لا أفهم طقوس السادة! هل
تعلم يا بني أن النعش مقفل على الجثة المحترقة؟! -
أجل يا أبي. -
وأن الجثة احترقت في حادث مروّع في السيارة
السوداء ذاتها التي دهستك قبل أسبوع مضى؟! -
أجل يا أبي. -
وأن أهل الفقيد لم يحظوا حتى بنعمة تكفينه
التي تساوي في أعرافهم الشيء الكثير؟ -
أجل يا أبي. لاشك أنهم يتذكرون الآن عبارتك
التي قلتها عندما حملني حنانك أمام عيون
الظالم المتحجرة. -
إذن فقد جئت شامتاً يا حمزة، وأنا لم أعلّمك
الشماتة يوما! -
لا يا أبي، لا يذهب ظنك بعيداً. بل جئت أسألك
سؤالاً واحداً استعصت إجابته على عقلي الصغير.
لقد قتلني ظلماً هذا الوجيه المسجّى في نعشه
المرصوص. وأذكر أن قلب الشمس يومها كان ينزف
لوعة وحزناً، وكنت أظنها تحزن من أجلي فقط.
واليوم أنظر المشهد نفسه. فهل ينزف قلب الشمس
لحظة وداع الكون على الناس جميعاً، مظلومين،
وظالمين؟! يرتفع
نظري إلى خط الأفق. الدم قد أهرِق حتى آخر
قطرة، وغيوم رمادية داكنة تغطيه حتى لا يعود
له أثر يذكر. أجيب
بهدوء وسكينة: -
أجل يا حمزة. حزن الشمس كلي يابني، لاتفرِّق
فيه بين مظلوم وظالم لأن قلبها واسع سعة الكون.
يدمى من أجل المظلومين حباً ومشاركة، ومن أجل
الظالمين ألماً لما سينزل بهم من عقاب في
أعمارهم التالية. *** *** *** *
هذه القصة واحدة من قصص مجموعة لأميمة الخش
بعنوان الرُّشيم، صادرة عن دار مكتبة
إيزيس، دمشق، 1999. للحصول على الكتاب يرجى
الاتصال بدار مكتبة إيزيس: شارع العابد، جادة
الجزائر، دمشق، ص ب 33226، تلفاكس 2322603، بريد
إلكتروني isisbookstore@yahoo.com
|
|
|