|
العولمة
فرص
التلاقي بين الواقع والمثال
نبيل
محسن
إني، وإن كنت
أؤمن أن التاريخ في تقدُّمه مفتوح على عدد غير
متناهٍ من الاحتمالات، إلا أني أؤمن أيضاً
أنه، في تقدُّمه، يمثل روح الإنسان والبشرية
في تطورها وتفتحها –
على الأقل في أوجهه الروحية والحضارية
والثقافية. لذلك أحب أن أقرأ ظاهرة
العَوْلَمَة Globalization من هذا المنظور،
خاصة وأن الذين يتناولونها اليوم يشددون على
اعتبارها ظاهرة طارئة في تطور البشرية،
مركِّزين في وصفهم لها على الجانب الاقتصادي
والتجاري. وضعني هذا الموقف
أمام الأسئلة التالية: هل يمكن اعتبار
العولمة تحولاً طارئاً في تاريخ البشرية،
منقطعاً عما قبله، أم أنها ظاهرة تاريخية
ديناميّة تعبِّر عن ميل إنساني طبيعي؟
هل هي ظاهرة تختص
بجانب واحد من جوانب النشاط الإنساني، أم
أنها تشمل كل القطاعات والفعاليات البشرية؟
كيف تتفاعل
المجتمعات مع هذه الظاهرة؟ وهل
تسير بنا حقاً صوب حالة عليا من الوعي
والمشاركة؟ يُجمع الكثير من
المفكرين على أن العولمة، في مفهومها النظري،
ولدت على أيدي مفكري الثورة الفرنسية في
القرن الثامن عشر، لكنها بقيت في ذلك الوقت
مجرد مثال ينتظر القوة الدافعة التي تطبقه.
ويرى الذين يقرؤون العولمة اليوم قراءة
اقتصادية أنها بدأت في القرن الخامس عشر، أو
يربطونها بالثورة الصناعية، أو بانهيار
المنظومة الاشتراكية،
أو بثورة
الاتصالات والمعلومات. وهناك من يرفض القراءة
التاريخية لهذه الظاهرة جملة وتفصيلاً
باعتبارها ظاهرة طارئة وفريدة. الحق أن ما يولد
في الزمان يموت في لحظة منه. لذلك لا أعتقد أن
من الحكمة تحديد لحظة لولادة ظاهرة على هذا
القدر من الأهمية، ولا رفض قراءتها قراءة
تاريخية. إذ إن تتبُّع محاولات الإنسان
الخروج من تجمُّعه العائلي والقبائلي
والقومي يقودنا بعيداً في التاريخ. وإني لأرى
في فتوح الإسكندر المقدوني وتعامله مع ثقافات
وديانات الشعوب الأخرى تعبيراً عن ميل من هذا
النوع. كما يمكن القول إن الإمبراطورية
الرومانية كانت أول دولة تتجاوز حدود
القوميات لتؤسس هيكلية شاملة اقتصادية
وسياسية. وأجد أيضاً أنه من الضروري تناول أثر
الأديان على هذه الحركة، وبشكل خاص البوذية
والمسيحية والإسلام. قد يقول قائل
بأني أخلط بين "العالمية" Universality
والعولمة (جعل الشيء عالمياً)، وبأن الأديان
عالمية بطبيعتها. لذلك أحب أن أوضح أن الأديان، كونها عالمية في
دعوتها، تحاول
تعميم بشارتها وشريعتها، وتسعى للانتقال من
الرسالة إلى الواقع
من خلال تطبيقها
بشكل شمولي. ألا يمكن، استناداً إلى ذلك،
القول بأنها تقوم بعملية "عولمة"؟ قد يكون في
الإسلام مثال واضح على تجربة من هذا النوع.
فقد حمل العرب رسالة الإسلام وبشّروا به في كل
الأقاليم التي فتحوها. لكن هذه الرسالة
اشتملت على قيم ومعايير ثقافية واجتماعية
وسياسية واقتصادية جعلت من العقيدة رابطة
المجتمع الإسلامي، وليس الانتماء القومي،
بحيث أصبحت العقيدة هي "الجنسية" التي
تجمع كل الشعوب والأعراق، فارضة شريعة عالمية
في حدودها، شرَّعها الله وليس الإنسان. يمكن لنا أيضاً
أن نشير إلى التجربة الماركسية الأممية
الغنية بمحتواها العالمي. وهو يتأتى أولاً من
كون الأنظمة الرأسمالية متشابهة في كل الدول،
ومن أن مصالح الطبقة العاملة هي هي في كل
الأمم. لذلك فهي تسعى لأن تلغي الفروق بين
الطبقات في كل دولة من الدول، مع تعميم جملة
من المبادئ والمفاهيم الثقافية والاقتصادية
والسياسية، ثم إلغاء الفروق بين القوميات،
الأمر الذي سيؤدي حتمياً إلى ذوبانها في أمة
واحدة. هناك الكثير مما
نستخلصه من هذا العرض الموجز. لكنه يسمح لي
بأن أستنتج أولاً أن العولمة ليست ظاهرة
طارئة أو مرحلية، بل هي حالة تاريخية تتطور مع
تطور البشرية وتتخذ تبدِّياتُها أشكالاً
وأبعاداً مختلفة. وهي، في سياق تطورها
وحاجتها لأن تتحول من مثال إلى واقع ملموس،
تتحالف مع قوة دافعة تؤدي هذا الدور وتصبغ
المرحلة بصبغتها. وقد تكون هذه القوة هي
الحاجة إلى الغذاء والأراضي المزروعة (كما في
المراحل القديمة من التاريخ)، وقد تكون
العقيدة الدينية، أو العلم (العالمي أيضاً
بطبيعته) أو الإيديولوجيا السياسية، أو تطور
التجارة والصناعة، أو تكنولوجيا المعلومات
والاتصالات. هذه كلها قوى فاعلة تلعب دوراً
رئيسياً في بلورة الميل الإنساني الطبيعي صوب
العالمية. وما يُتَّفق
اليوم على وصفه بالعولمة هو تلك الحركة
النشطة الحرة المتسارعة للتبادل المالي
والتجاري والمعلوماتي بين الدول. أي أن ما
يصبح عالمياً هو رأس المال، ونمط الإنتاج،
وقوانين التبادل التجاري المتجاوزة للحدود،
والسلعة بحد ذاتها. إننا نشهد تجمع رؤوس
الأموال في كتل نقدية ضخمة عابرة للقارات،
قادرة على فرض نمط الإنتاج الذي يناسبها وخلق
سلعة عالمية في مقاييسها ومعاييرها، قادرة
على المنافسة لتكون أكثر قابلية للنقل
والترويج. وهذا ما يدعوه الماركسيون عولمة
الإنتاج الرأسمالي، الذي
صار ممكناً – بل واقعاً –
بعد انهيار الكتلة الاشتراكية. هكذا تتحالف
العولمة اليوم مع قوى رأس المال ومع القدرة
المعلوماتية لتُعَوْلِم الاقتصاد –
الجانب الأبرز في حياة المجتمعات الكبرى – وليس
الإنسان ونشاطه الثقافي والمعرفي والروحي.
فالمؤسسات العلمية والتربوية تُعِدُّ
الإنسان ليأخذ مكانه في الجسم الاقتصادي. وقد
بات الهدف من العلم تطوير التكنولوجيا ووسائل
الإنتاج، وليس الكشف عن أسرار الطبيعة وفهم
معنى الوجود ومكانة الإنسان فيه. كما أصبحت
الثقافة، بكل أسف، ثقافة الاستهلاك. لذلك أقول إن
العولمة اليوم تركز على البعد الاقتصادي
للإنسان، ثم تُلْحِق بهذا البعد كافة مناحي
الحياة الأخرى، الأمر الذي لن يساهم أبداً في
إغناء البشرية وجعلها أكثر هناء وسعادة، إن
لم أقل إنه سوف يجعلها أكثر فقراً وتعاسة. ذكرتُ
أن العولمة تتحالف مع القوة الاقتصادية وهي
الجانب الأبرز في المجتمعات المتقدمة. ولكن
ماذا عن المجتمعات الأقل تطوراً؟ وكيف تتم
عميلة التلقي؟
أعتقد أن عملية
التلقي تشتمل على احتمالات رئيسية ثلاث: -
الرفض والمواجهة -
الخضوع والتلقي
السلبي -
المشاركة
الإيجابية أو السعي للمشاركة إن تسارع عملية
العولمة اليوم يضع الشعوب والمجتمعات الأقل
تقدماً في مواجهة استحقاقات لمّا تستعد لها
بعد، ويعرِّضها أحياناً لاجتياح اقتصادي
وثقافي، وربما عسكري، من جانب الدول الأقوى.
فإذا شعرت تلك الشعوب أن هناك من يحاول
إقصائها عن المشاركة، وأن خصوصيتها القومية
أو الحضارية مهدَّدة، فقد تبدي ردود فعل
عنيفة. وستجد، في كثير من الأحيان، في
التشدُّد الديني ملجأً لها، لأنها، من خلال
هذا "الانتماء"، تحاول استعادة وممارسة
عالميَّتها المسلوبة (يوضح مثالنا عن الإسلام
هذه الآلية). أما إذا استسلمت
هذه الشعوب لإغواء العولمة، متحوِّلة إلى
متلقٍّ نموذجي منفعل وحسب – وهو
ما قد يحدث بسبب حالة كمون ناجمة عن ظرف
تاريخي ما، أو بسبب الموقع الجغرافي،
وأحياناً بسبب القلة العددية أو قلة الموارد
المادية –
فإن هذه الشعوب ستتعرض لفقدان كل
خصوصية قومية وثقافية، وربما لغوية. وكثير من
الشعوب والمجتمعات معرضة اليوم لمثل هذا
الخطر، الأمر الذي يهدِّد بالوصول إلى حالة
من التجانس القاتل. لقد فشلت التجربة
الاشتراكية عندما حاولت إلغاء الفروق بين
الطبقات وبين القوميات وتكريس ديكتاتورية
البروليتاريا؛ وكانت النتيجة حدوث تعارض بين
مفهومي المساواة والديمقراطية. أما العولمة
المتسارعة اليوم فتسير بنا صوب حدوث مواجهة
بين مفهومي "المجانسة" homogenization
و"العالمية". إذ إنها تهدِّد، بسبب
تسارعها الكاسح، بالوصول إلى حالة حرية ورخاء
وهميين في إطار من التجانس القهري والقسري،
في ظل عالمية شكلية سرعان ما تنتهي إلى التفتت
أمام الخصوصيات القومية والثقافية بمثل ما
انتهت إليه التجربة الشيوعية في بعض الدول.
على أية حال،
لا أتوقع أن
بالإمكان الوصول إلى عالم تسود فيه ثقافة
واحدة، أو لغة واحدة، أو عقيدة واحدة، أو نمط
اقتصادي واحد. العالم حينذاك أشبه ما يكون
ببستان يثمر عن نوع واحد من الفاكهة في ظل
مناخ واحد! –
أفضِّل ألا أفتح عيني على عالم
كهذا. الاحتمال الأخير
المتبقي هو إمكانية المشاركة. وأعتقد أنه
يتعين على المجتمعات عموماً أن تخرج من
قوقعتها لتشارك في عملية التطور اليومية
المتسارعة، كلٌّ منها بحسب إمكاناته، وأن لا
ترى في العولمة مؤامرة تستهدفها أو حتمية
تبتلعها. يفترض ذلك من جانبها امتلاك أدوات
العولمة التي يتيحها عصر المعلوماتية
والاتصالات، وعدم احتكار هذه الأدوات من جانب
الأطراف الأقوى، كما يفترض أن يكون لدى هذه
المجتمعات ما تقوله – وهي
حالة المجتمعات الحية – واستعداد
المجتمعات الأقوى لقبول مشاركة هذه
المجتمعات وإتاحة الفرصة أمامها للتعبير عن
خصوصيتها وشخصيتها الحضارية... إن تحالف العولمة
اليوم مع القوى الاقتصادية يَحْرِف مثال
العالمية عن مضمونه وغائيَّته، ربما لخدمة
مصالح أنانية وظرفية. لذلك فهي تكاد تكون حركة
شكلية لا تمسّ جوهر المسائل الحيوية للبشرية
ولا تحقق المثال بشكل صادق. لكن المسألة بعيدة
عن أن تكون قد شارفت على نهايتها. فقوى الوعي
لا تنفك تدفع صوب الالتقاء الحقيقي. وهي تنطلق
من إيمانها بعالمية الإنسان؛ أي إيمانها أن
له الحقوق ذاتها بغض النظر عن انتمائه القومي
أو العرقي أو الديني أو الإيديولوجي، وبأنه،
في مآل الأمر، مواطن كوني يحق له المساهمة
والمشاركة والتعبير عن نفسه في العملية
الكونية، وبأن المجتمع لا يحق له التضحية
بخصوصية الأفراد، مثلما أن العالمية لا يحق
لها التضحية بخصوصية المجتمعات.
يمكن أن نخْلُص
في النهاية إلى أن العولمة ظاهرة تاريخية
وطبيعية تعبِّر عن ميل إنساني جوهري. وهي، إن
انحرفت عن مثالها المجرد في مرحلة من مراحل
التاريخ، إلا أنها لمّا تتبلور بعد بشكل كامل
ولمّا تنضج بعد كافة تبدِّياتها. إنها عملية
متواصلة، يشكِّل الإنسان محورها الأساسي،
ويجب أن تشمل كافة مناحي حياته وفعالياته
بحيث تساهم في إغناء التجربة الإنسانية ككل.
وهي، وإن تمركزت في مجتمعات دون أخرى في مرحلة
من مراحل التطور، إلا أن مآلها المشاركة
الشاملة، وحفظ التنوُّع في إطار الوحدة،
وانتصار قوى التلاقي على قوى التباعد، من أجل
السير قدماً في عملية الارتقاء الإنساني. ***
*** ***
|
|
|