|
عدوّ
الرأسمالية هو الرأسمالية!
قراءة
في نص لجورج سوروس
تلخيص
ومناقشة: أحمد تمّوز
يُصنَّف
جورج سوروس في وقتنا الحالي كواحد من "سادة
العالم" الخمسين، ويعتبره محلِّلون عديدون
نموذجاً للمضارِب الدولي، باعتباره جَمَع من
اللعب في البورصة ثروة تتجاوز 12 مليار دولار،
ويحمِّلونه المسؤولية المباشرة عن انهيار
الجنيه السترليني عام 1992، وكذلك عن الانهيار
الاقتصادي الأخير الذي حصل في دول جنوب شرق
آسيا. ومع ذلك فقد وقعت بيدنا مقالة له يرى
فيها أن شطط الرأسمالية النهمة لا يقل خطراً
على المجتمعات الديمقراطية من
الإيديولوجيتين الفاشية والشيوعية. ولقد بدا
لنا من قبيل المفارقة أن يدلي شخص لديه هذا
الباع في الميدان الرأسمالي بمثل هذه
التصريحات التي تصيب "الإيديولوجيا"
الرأسمالية في الصميم. لقد شخَّص هيغل نموذجاً
تاريخياً مقلِقاً يتمثل في تآكل المدنيات
وسقوطها من جراء تفسخ المبادئ الأصلية
المؤسِّسة لها التي اصطلح على تسميتها بـ"الفكرة"
أو "الكلِّية". يقول جورج سوروس بصراحة،
ومن وجهة نظر تندرج في سياق هذا التصوُّر
الهيغلي: "لقد أثريتُ في الأسواق المالية
العالمية، ومع ذلك فإني أخشى الآن أن يعرِّض
الاشتداد المحموم للرأسمالية الليبرالية
وانسحاب القيم التجارية على مجالات الحياة
كافة مستقبلَ مجتمعنا الديمقراطي المفتوح
للتهلكة." إنه يرى بأن العدوّ الرئيسي لهذا
المجتمع لم يعد الخطر الشيوعي، ولاسيما بعد
انهيار الكتلة الاشتراكية، بل الرأسمالية
نفسها حصراً! يعيدنا هذا الطرح إلى
أطروحة الفيلسوف النمساوي كارل بوبِّر في
كتابه المجتمع المفتوح وأعداؤه (ط1 1945)،
حيث يبيِّن أن ثمة قاسماً مشتركاً أساسياً
بين الإيديولوجيات التوتاليتارية، من نحو
الشيوعية والنازية: إنها تطرح نفسها كمحتكرة
لملكية الحقيقة المطلقة. فلما كانت الحقيقة
المطلقة أبعد من متناول البشرية فإن هذه
الإديولوجيات تلجأ بالضرورة إلى الاستبداد
لكي تفرض رؤيتها الخاصة للمجتمع المثالي. لقد
عرَّف بوبِّر، أمام هذه الإيديولوجيات
التوتاليتارية، برؤية أخرى للمجتمع، رؤية
ليست الحقيقة وفقاً لها حكراً على أحد؛ إذ
تختلف الآراء والمصالح باختلاف الأفراد،
الأمر الذي يحتِّم ضرورة وجود مؤسسات تمكِّن
هؤلاء الأفراد من أن يتعايشوا بسلام. إن من
شأن هذه المؤسسات أن تصون حقوق المواطنين
وتضمن حرية الاختيار وإبداء الرأي. ولقد أطلق
بوبِّر على هذا الشكل من التنظيم الاجتماعي
بعد أن أشبعه تحليلاً اسم "المجتمع المفتوح". يلاحظ سوروس أن المجتمعات
المفتوحة الغربية لم تتعجَّل الترويج لنموذج
المجتمع المفتوح في دول الإمبراطورية
السوفييتية السابقة، بل، على العكس من ذلك،
سادت في الواقع فكرة أن من الخير ترك تلك
الدول تهتم بشؤونها. لقد حرض إنهاء الحرب
الباردة ردَّة فعل مختلفة كل الاختلاف عن
ردَّة الفعل التي تلت الحرب العالمية
الثانية، إذ لم يُطرَح ما يشبه، حتى من بعيد،
خطة مارشال جديدة للنهوض بدول الكتلة
الاشتراكية السابقة. ويذكر سوروس أنه حين طرح
فكرة من هذا القبيل في ربيع عام 1989، في مؤتمر
في بوتسدام (ألمانيا الشرقية)، قوبل اقتراحه
بالسخرية. لقد كان من شأن انهيار
النظام الشيوعي أن يمهِّد الطريق لبناء مجتمع
عالمي مفتوح، لكن الديموقراطيات الغربية لم
تنتهز هذه الفرصة. أما مواطنو الدول الشيوعية
السابقة فقد كانوا، يوم كانوا يعانون من
الاستبداد، يتشوقون بكل تأكيد إلى مجتمع
مفتوح. لكنهم اليوم، وقد انهارت المنظومة
الاشتراكية، منشغلون
قبل كل شيء بمشكلات البقاء. لقد أدى إفلاس
الشيوعية كنظام إلى تبخُّر
جماعي للأوهام فيما يخص
المفاهيم العالمية – ومن بينها مفهوم
المجتمع المفتوح. إذا كان ثمة من اعتقاد مسيطر
في مجتمعنا الراهن، فهو قطعاً الإيمان بسحر
السوق. تؤكد عقيدة الرأسمالية الليبرالية أن
ما من شيء يخدم الخير العام أفضل من السعي
المحموم إلى المصلحة الشخصية. ومع ذلك، يقول
سوروس محذِّراً، "إذا لم يلطِّف الاعترافُ
بمصلحة عامة تتخطى المصالح الفردية من نظرتنا
هذه، فإن منظومتنا الحالية – التي يمكن، على
علاتها، أن يعرَّف بها بوصفها مجتمعاً
مفتوحاً – مهدَّدة
بالانهيار." لقد بيّن بوبِّر أن النظامين
الفاشي والشيوعي يشتركان في أن كليهما يقوم
على امتلاك الدولة لسلطة قمع الحرية الفردية.
أما سوروس فيحاول من جانبه أن يوسِّع
التحليل، متوصِّلاً إلى أن المجتمع المفتوح
يمكن، على العكس، أن يتعرَّض لخطر الإغراق في
الفردانية individualism
من جراء الإمعان في التنافس التناحري
والتقصير في التعاون. ومع أنه، حتى يدرأ عن
نفسه كل التهم المحتملة، يسارع إلى القول
بأنه "لا [يـ]ـزجّ باليُسْر الرأسمالي في
زمرة النازية والشيوعية"، فإنه يعترف بأنه
في حين "تسعى الإيديولوجيات التوتاليتارية
إلى تدمير المجتمع المفتوح عمداً"، "تتهدد
[هذا المجتمع] سياسات اليُسْر عينها بالخطر،
لكنْ غفلةً". لقد كان فريدريك حايك، وهو
واحد من دعاة اليُسْر let
do،
أحد المنافحين الأشداء عن المجتمع المفتوح.
ولكن بمقدار ما فقدت الشيوعية، وحتى
الاشتراكية، من مصداقيَّتهما برأيه، فإن
سوروس يقرّ بأن "خطر اليُسْر بات اليوم
أكبر من خطر الإيديولوجيات التوتاليتارية". وحتى لا يبقى في حيِّز
التجريد، يحاول سوروس أن يستند إلى وصف حالات
محدَّدة لكي يبرهن أن اليُسْر وأفكار
الدارونية الاجتماعية التي تنظِّر له تشكل
خطراً ينبغي عدم الاستهانة به على المجتمع
المفتوح نفسه. واختصاراً، يقتصر سوروس من هذه
الحالات على أهمِّها: الاستقرار الاقتصادي،
العدالة الاجتماعية، والعلاقات الدولية. الاستقرار الاقتصادي لقد
أوجدت النظرية الاقتصادية عالماً مصطنعاً
تستقل فيه طلبات المشاركين [= المستهلكين]
والعروض التي تقدَّم لهم بعضها عن بعض، وتنحو
فيها الأسعار نحو التوازن بين القوَّتين. بيد
أن الأسعار في الأسواق المالية لا تكتفي
بكونها مرآة تعكس العرض والطلب، المستقلَّين
أحدهما عن الآخر كما أسلفنا، بل تلعب أيضاً
دوراً فعالاً في صياغة هذه الطلبات وتينك
العروض. وهذا التفاعل يجعل عدم الاستقرار
ظاهرة ملازمة للأسواق المالية. لكن
إيديولوجيا اليُسْر تنكر وجود عدم الاستقرار
هذا وتعارض بشراسة كل أشكال التدخل الحكومي
الهادف إلى مقاومته. على
أن التاريخ يبين أنه قد يحدث فعلاً أن تنهار
الأسواق المالية، بما يؤدي إلى هبوط في
الاقتصاد وإلى اضطرابات اجتماعية مأساوية.
لقد أدت هذه الانهيارات إلى تطوير المنظومات
المصرفية المركزية وغيرها من أشكال الضبط.
وفي مواجهة هذا الوضع يزعم إيديولوجيو
اليُسْر أن الأزمات تنجم عن سوء الضبط
والقوْنَنَة غير الفعالة، وليس عن عدم
استقرار الأسواق. إن هذه "الحجة ليست خاطئة
تماماً،" كما يعلِّق سوروس، "لأن فهمنا
القاصر حتماً يجعل الضبط قاصراً بالضرورة".
غير أنها – كما يضيف – "غير متماسكة"،
من حيث إن المُحاجِج بها "يتجاهل ببساطة
ذكر الأسباب التي تجعل الضبط ضرورياً". إن
من شأن عدم الاستقرار أن يتوسع فيما يتخطى
الأسواق المالية، ويصيب القيم التي تقود
الناس وتوجِّههم في سلوكهم اليومي. تعتبر
النظرية الاقتصادية القيم شأناً معطى
ملازماً للحياة الاجتماعية. ففي الفترة التي
نشأت فيها، أيام آدم سميث ودافيد ريكاردو
وألفرد مارشال، كانت هذه النظرية فرضية
معقولة لأن الناس كانوا على اعتقاد أخلاقي
شديد الرسوخ، حتى إن آدم سميث نفسه ربط نظريته
الاقتصادية بفلسفة أخلاقية. إن تجذُّر هذه
المبادئ تجذُّراً عميقاً في الموروث والدين
والثقافة إجمالاً جعلها تتورع عن الأخذ
بمبادرة الاختيار الواعي لإمكانات بديلة. أما
في الواقع، أي في السوق، كان توفُّر البدائل
يقلل من حظوظ المبادئ الأخلاقية في الثبات
مختزلاً إياها إلى الصفر. والسوق، إذ أجاز هذه
البدائل، أسهم في نسف القيم الموروثة. ومع
توسُّع هيمنة السوق على الاقتصاد، صار "من
الصعوبة بمكان الاستمرار في الوهم القائل بأن
سلوكاتنا توجِّهها جملة معطاة من القيم
الغريبة عن السوق،" كما يعترف سوروس. فمهمة
الإعلان والتسويق، وحتى التغليف، هي تطويع
الطلب وإشراطه conditioning،
وليس، كما تزعم نظرية اليُسْر، مجرَّد
الاستجابة له. وبما أن الناس لم يعد لديهم ما
يعوِّلون عليه فإنهم يتَّكلون أكثر فأكثر على
المال وعلى النجاح كمعيارين للقيمة: "الأغلى
يُعتبَر الأفضل. وحِرَف الماضي أمست من قبيل
الأعمال business."
هكذا فإن الأفراد الذين ينافحون عن مبادئ
سياسية، واضعين نصب أعينهم مناقبية معينة،
تحُول هذه المبادئ نفسها بينهم وبين انتخاب
الناس لهم، بوصفهم هواة فاشلين لا دراية لهم
في عالم الأعمال. والشيء الذي كان مجرَّد
واسطة للتبادل انتزع منزلة القيم الأساسية،
قالباً بذلك العلاقات التي تسلِّم بها
النظرية الاقتصادية، فحلّ السعي المحموم
للنجاح محلّ الإيمان بالمبادئ. وبذلك فقد
المجتمع مرساته. العدالة
الاجتماعية نتيجة
أخذ شروط العرض والطلب بوصفها معطاة وجعل
تدخل الدولة من قبيل الشر المطلق، أدانت
إيديولوجيا اليُسْر بفعالية مذهلة إعادة
توزيع الموارد أو الثروات. يقرّ هنا سوروس بأن
محاولات إعادة التوزيع تعرقل فعالية آليات
السوق، لكنه لا يجد مسوغاً على الإطلاق
للامتناع عن المحاولة في هذا المجال. يقول:
"إن الحجَّة لصالح اليُسْر وضد إعادة توزيع
الدخول تقوم على عقيدة بقاء الأكفأ [الدارونية
الاجتماعية مرة أخرى!]، لكنها تفقد قوَّتها
حالما تنتقل الثروة بالتوريث، ولاسيما أن
الجيل الثاني قلما يماثل الجيل الأول في
الصلاحية. مهما يكن من أمر، ليس من المنطق في
شيء جعل بقاء الأكفأ المبدأ الذي يتأسس عليه
سلوك مجتمع متحضِّر." العلاقات
الدولية إن
قصور الدارونية الكاذبة يتجلَّى، برأي
سوروس، أكثر ما يتجلَّى في "علم مزيَّف
آخر، ألا وهو الجيوبوليتيكا" (العلم الذي
يزعم دراسة العلاقة بين الموقع الجغرافي
للدول وسياستها الخارجية)، من حيث إن الدول،
كما يؤكد الجيوبوليتيكيون، ليست لديها
مبادئ، بل مصالح وحسب. وهذه المصالح يحددها
الموقع الجغرافي والثروات الطبيعية كما
ومفاهيم أساسية أخرى. ويدفع سوروس بالتحليل
إلى أبعد من ذلك مبيِّناً أن هذه المقاربة
الحتموية متجذِّرة في رؤية تعود إلى القرن
التاسع عشر وتعاني من عيبين واضحين: العيب
الأول هو قبول الدولة كواحدة تحليل غير قابلة
للتقسيم، وبالتالي العجز عن التنبُّؤ بما قد
يحدث في حالة تفسُّخ الدولة، كما جرى في
الاتحاد السوفييتي وفي يوغوسلافيا. والعيب
الثاني هو عدم الاعتراف بأية مصلحة مشتركة
تتعدى المصلحة القومية الضيقة. لقد
بقي عيبا الجيوبوليتيكا هذان عديمي الأهمية
ما ظل الاتحاد السوفييتي يمثل تهديداً صريحاً
لمجتمعات الغرب المفتوحة. إنما مع موت
الشيوعية كنظام، بدأ مجتمع مفتوح عالمي
بالتكوُّن، بصرف النظر عن نواقصه. لكن سوروس
يرى أن مثل هذا المجتمع "شديد الهشاشة"،
بما أنه "لم يأتِ أي نظام عالمي جديد ليحلّ
محلّ القديم، ودخلنا في فترة من الفوضى". إن
"الواقعية الجيوبوليتيكية"، كما يبيِّن
سوروس، "لا تؤهِّلنا لمواجهة هذا التحدي".
فهي لا تعترف بضرورة نظام عالمي، إذ يفترض
معتمدوها بسذاجة أن نظاماً سوف ينبثق من
مجرَّد سعي الدول المختلفة إلى مصالحها
الخاصة. لكن هذه الدول عينها، إذ يقودها مبدأ
بقاء الأكفأ (= بقاء الأقوى)، تزداد انشغالاً
بتنافسيَّتها competitiveness،
وهي أبعد ما تكون عن بذل التضحيات من أجل
الخير العام. لا
حاجة، برأي سوروس، للقيام بأية تنبُّؤات
رهيبة عن الانهيار الممكن لمنظومة التجارة
العالمية لبيان أن الجيوبوليتيكا تتعارض
جذرياً مع مفهوم المجتمع المفتوح. حسبنا من
أجل ذلك أن نتخيَّل عواقب عجز "العالم
الحرّ" عن مدّ يد العون لروسيا ومساعدتها
اقتصادياً بعد انهيار الشيوعية. لقد كانت
منظومة "الرأسمالية-السارقة" (التعبير
لسوروس!) التي نهبت هذا البلد الغني "من
النذالة بحيث إن الشعب يمكن فعلاً أن يعوِّل
على قائد محبوب يعد بتجديد الأمَّة ولو على
حساب الحريات المدنية". ومن نافلة القول إن
الخطر الذي ينوء على العالم في حال دارت
الأمور على هذه الشاكلة هو خطر جسيم فعلاً. إن
العبرة التي ينبغي استخلاصها مما يجري في
روسيا، كما يرى سوروس، هو أن انهيار نظام
استبدادي لا يفضي حتماً إلى توطيد مجتمع
مفتوح وآمِن. فالمجتمع المفتوح ليس مجرَّد
غياب تدخل الدولة والطغيان. إنه بنيان
معقَّد، مركَّب من عوامل عديدة، ولا يمكن
توطيده إلا ببذل مجهود مقصود. فلما كان
المجتمع المفتوح أشد تعقيداً من المنظومة
التي يحلُّ محلَّها ويتطلب بالتالي مؤسَّسات
معقَّدة تكفل استمراره، يجب الاعتماد، من أجل
تحقيق انتقال سريع نسبياً، على معونة خارجية.
بيد أن اجتماع أفكار الليبرالية والدارونية
الاجتماعية والواقعية الجيوبوليتيكية
السائد في الولايات المتحدة والمملكة
المتحدة أحبط كل أمل في مثل هذه المعونة في
دول الكتلة الشرقية. ويصل سوروس بتحليله هذا
إلى أقصاه عندما يقول: "عند النقطة التي
بلغتها الأمور لا حاجة إلى الكثير من
التخيُّل لفهم أن المجتمع المفتوح العالمي
السائد حالياً سوف يتكشف، أغلب الظن، عن كونه
ظاهرةً وقتية." فلنتعلَّم
أننا غير معصومين! تستمد
المجتمعات تماسكها من القيم التي يتقاسمها
أفرادها. وهذه القيم متجذِّرة في الثقافة
والدين والتاريخ والتراث النقلي traditions.
أما المجتمع المفتوح فهو، على العكس من ذلك،
ولاسيما إذا كان عالمياً، ليس أمَّة بالمعنى
المنقول للكلمة، بل فكرة مجرَّدة، مفهوم نظري
يحاول أن يكون شاملاً. بالطبع توجد مصالح
مشتركة على الصعيد العالمي، من نحو الحفاظ
على البيئة ودرء الحروب، كما يستدرك سوروس،
لكن هذه المصالح العامة "ضعيفة نسبياً إذا
ما قيست إلى المصالح الخاصة". إذ إنها زهيدة
الوزن في عالم مكوَّن من دول ذات سيادة.
توخياً للدقة، لا نرى هنا بداً من تصويب رأي
سوروس: إنها زهيدة الوزن في عالم يحكمه قطب
واحد، لا نقول إنه الولايات المتحدة، بل رأس
المال، ولا شيء غير رأس المال مجسداً في شركات
متعدِّية الجنسية. ويرى
سوروس أن هناك سبباً آخر يبقي المجتمع
المفتوح فكرة مجرَّدة، ألاوهو أنه "ليس غير
إطار يمكن ضمنه التأليف بين رؤى سياسية
واجتماعية مختلفة". إنه، مثله كمثل
الديمقراطية، "وسيلة للتعايش، وليس
مشروعاً لحلّ مشكلات معيَّنة. وهو لا معنى له
إلا عندما تأتي أفكار أخرى حول المسائل
الاجتماعية والسياسية لتنضاف إليه". إذ لا
يكفي المرء أن يكون ديمقراطياً، بل عليه أن
يكون ديمقراطياً ليبرالياً ، ديمقراطياً
اجتماعياً، ديمقراطياً مسيحياً، أو أي شكل
آخر من أشكال الديمقراطية. ويعاود
سوروس الاستدراك هنا ليقول إن ما تقدَّم لا
يعني أن مفهوم المجتمع المفتوح مفهوم فارغ،
وهو يرى أن الوقت قد حان لإعادة التعريف به من
أجل تطويره إلى شيء آخر غير مجردَّ معارضة
أورثوذكسية، مقبولة سياسياً politically correct،
ومفروضة رسمياً باسم الحرية. فبدلاً من إبقاء
الشقة بين المجتمع المفتوح والمجتمع المغلق،
يرى سوروس البديل في مجتمع مفتوح "يجب أن
يشغل وسط الحلبة، حيث تكون حقوق الفرد مصونة،
قطعاً، لكنْ حيث الاشتراك في بعض القيم يكفل
وحدة المجتمع". ووسط الحلبة هذا مهدد من كل
صوب. ففي أحد الأطراف، تقف العقائد
التوتاليتارية التي تقود إلى سيطرة الدولة
سيطرة مطلقة؛ وفي الطرف الآخر، الرأسمالية
الليبرالية النهمة التي من شأنها أن تحرض
خللاً ضخماً وربما انهياراً اجتماعياً. إن
المفهوم الرائس الذي لاغنى عنه، برأي سوروس،
من أجل فهم ماهية المجتمعات المفتوحة هو
مفهوم "عدم العصمة" infallibility
الذي يمتد ليشمل "ليس بنات أفكارنا وحسب،
بل ومؤسَّساتنا الاجتماعية أيضاً". إن
اعتراف المنافحين عن المجتمع المفتوح (وسوروس
بالطبع يعتبر نفسه منهم) بعدم عصمة البشر عن
الخطأ هو الذي مازال يغذي اعتقادهم بإمكان
التحسين. وبما أن التحسين لابد أن يمرّ
باختبارات وأغلاط، فإن المجتمع المفتوح
يشدِّد على حرية التعبير ويحرص على حماية
المعارضة والرأي الآخر، حتى فيما يخص موضوعات
مثل المعايير الحقيقية للحقّ والعدل. ويتساءل
سوروس أخيراً: "كيف يمكن للاعتراف بعدم
عصمتنا [عن الخطأ] أن يصير قاعدة لنظام عالمي؟"
لا يقدم سوروس إجابة نهائية على تساؤله، لكنه
يؤكد بأن الإجابة تمرّ حتماً من خلال التحلِّي
بالتواضع وإجراء تحوُّل عميق في الدور الذي
نعقده على معتقداتنا. ذلكم أن اعترافنا
الصادق بأنها (أي معتقداتنا) "ليست تعبيراً
عن الحقيقة الأساسية، بل عن خياراتنا، يجعل
حظَّنا أكبر بكثير في قبول حقائق الآخرين وفي
مراجعة حقائقنا في ضوء خبراتنا". ثمة،
برأي سوروس، سابقة تاريخية للتغيير العميق في
المواقف الذي ينبغي على المجتمع الرأسمالي أن
يقوم به، وهذه السابقة تتمثَّل بالأفكار التي
سرت في عصر الأنوار الأوروبي. لقد كان بزوغ
الأنوار في القرن الثامن عشر احتفالاً بسلطان
العقل، وقد ألهم وضع "إعلان الاستقلال
الأمريكي" و"إعلان حقوق الإنسان
والمواطن". هنا لا يستطيع سوروس التملُّص
من مركزيته الغربية في التفكير ويتجاهل
تماماً سوابق تاريخية أهم بكثير، كالبوذية
والمسيحية والإسلام (ليس ههنا مجال الوقوف
عندها). ومع أنه يعترف أن الإيمان بسلطان
العقل وحده وعصمته هو الذي أدى إلى شطط الثورة
الفرنسية، إلا أنه يرى، مُحِقاً، أنه حدد
بداية طريقة جديدة في الحياة ونظرة جديدة إلى
العالم والإنسان (لسنا ههنا بصدد تبيان نقاط
الضعف فيها). و"ها نحن [يقصد الغرب] نحيا في
عصر العقل هذا منذ قرنين، فينبغي علينا أن
نكون من العقلانية بما يكفي للاعتراف بأن
للعقل حدوده". وعلى الرغم من كل التناقضات
التي وقع فيها سوروس في تحليله الأخير فهو
يتوصل إلى فكرة صائبة مفادها إن الأوان قد آن
لصياغة إطار مفهومي جديد مؤسَّس على عدم
العصمة. فحيث أخفق العقل لعله يمكن لهذا
الاعتراف بعدم العصمة أن يفلح. ***
|
|
|