|
السندباد البحري
عبد
القادر الحصني
لم
أفاجأ ليل أمس بزيارة السندباد البحري لي، في
بيتي، بين كتبي وأوراقي. فقد طالما استقبلت
أمثاله من رجال القرون الخيالية، على قهوة
الهزيع الأخير من الليل، وطالما تبادلنا
الودّ، وتجاذبنا أطراف الأحاديث. رحبت، بدايةً،
بضيفي، وآنسته بما أذكر من عجيب مغامراته،
وأخبرته أن قصصه وحكاياته صارت جزءاً من نسيج
روح الشعب، وصبغاً من أصباغ وجدانه. ثم استفاض
بنا البوح على موضوعات شتى، أبدى في أثنائها
ارتياحه لطرح ابن عربي في قوله: "ثم دع
العالم على ما هو علي"، لكنه تحفظ على رؤية
اشبنغلر "أن من طبائع القوى أن تتداحر"،
ورأى فيها تمويهاً على الصراع بين الخير
والشرّ، وندّ عنه اعتراف –
لم أستغربه –
حين قال إنه لو لم يكن السندباد البحري لأحب
أن يكون شاعراً، الأمر الذي جعلني أقرأ له من مواقف
النفّري "موقف البحر": أوقفني
في البحر، فرأيت المراكب تغرق والألواح تسلم،
ثم غرقت الألواح، وقال لي: لا يسلم من ركب. وقال
لي: خاطر من ألقى نفسه، ولم يركب. وقال
لي: هلك من ركب وما خاطر. وقال
لي: المخاطرة جزء من النجاة. وجاء الموج فرفع
ما تحته، وساح على الساحل. وقال
لي: ظاهر البحر ضوء لا
يُبلَغ،
وقعره ظلمة لا
تمكن، وبينهما حيتان
لا
تُستأمَن. وقال
لي: لا
تركب
البحر فأحجبك بالآلة، ولا
تلق نفسك فيه فأحجبك
به. وقال لي:
في البحر حدود، فأيُّها يقلُّكَ؟ وقال
لي: إذا وهبت نفسك للبحر فغرقت فيه كنتَ كدابَّة من
دوابه. وقال
لي: غششتك إن دللتك على سواي. وقال
لي: إن هلكت في سواي كنت لما هلكت فيه. وقال
لي: الدنيا لمن صرفته عنها وصرفتها عنه،
والآخرة لمن
أقبلت بها إليه وأقبلت به عليّ. أخذ الدهش
السندبادَ البحري، فسجل هذا "الموقف" في
مفكرته قائلاً: "إنه ينطوي على رؤيا لا
تنفد، لا كأشعار سان جون برس في البحر التي
هي، على الرغم من غزارة تفاصيلها، قابلة
للنفاد، لأن صاحبها تلقّط كثيراً من معلوماته
من بطون الموسوعات العلمية، وسلّكها في سلاسل
من خيوط الفن الشعري الجميل التي كلما أمعنا
النظر في جماليات صياغتها اكتشفنا أن صاحبها
يغرق في شبر ماء. ألا ترى ذلك؟" لم أغامر
بموافقته. قلت: "أنظرني لأعيد قراءة سان جون
برس." قال مداعباً: "إنك
لمن المنظّرين." شعرتُ بثقل هذه
المداعبة المحمولة على إشارة من القرآن
الكريم، فنحّيت هذا الشعور برأي من يرون وجه
اشتقاق بين إبليس و"الالتباس"، وخفّفت
استيحاشي بتذكر مسرحية الشهيد لتوفيق
الحكيم، ثم أقبلت على ضيفي بما ينبغي للضيف
على مضيفه من أنس، فقلت: "أنت صاحب
المغامرات الباهرة والحكايات الساحرة،
فاجأتني بأذواقك الثقافية وميولك الشعرية،
وذكّرتني بصديقي سندباد اليمن الخال محمد عبد
الواسع حميد الأصبحي، الأديب والشاعر
والسفير والوزير، الذي يروي أشعار العرب
وأيامهم عن ظهر قلب، بالإضافة إلى رحلاته في
أصقاع البرّ والبحر من الصين إلى جزر
الكناري، ويصدح في جلسات الصفاء بالرائق من
أغاني اللهجات المحلّية في جيبوتي والصومال.
هلا رويت لي أنت واحدة من حكاياتك التي لم
تروِها للناس، وهلا حدّثتني عما رأيت من
عجائب البحر وكنوزه، ليصدِّق الناس أنك زرتني." قال: "ما زرتك
إلا من أجل هذا. ولكن كان ما لابد منه لنتعارف
ونتباسط. فعِدْ مَنْ تريد بواحدة من حكاياتي
التي لم أروها من قبل. *** جزيرة
الحب
قال السندباد:
أقلعت بنا ميمونة من البصرة في ضحى يوم ربيعي
جميل، سماؤه صافية زرقاء، وريحه ناعمة رُخاء،
محمولين على أجنحة من أحلام الغنى والثراء،
ننام في كِلَّةٍ من قمر منير، ونفيق على شمس
أهدب ثوبها من الحرير. فجزنا الخليج كما لو
أننا نأكل غزل البنات في سنة من السنات،
ودخلنا ماء البحر الكبير، متوقعين وصولنا إلى
الهند في أربعين يوماً على أبعد تقدير. أعقب خروجنا من
الخليج عشرة من الأيام، كانت على ما يرام.
تلاها يوم معتكر مكفهر، علت أمواجه، وانتفخت
أوداجه. شهق، فأدخلنا في غار دوّار، وزفر،
فلفظنا على لسان إعصار، ثم اختلط بعد ذلك
الليل بالنهار. فرأيت رأي العين ما أسماه
اللغوي ابن السرّاج بالاشتقاق الكُبار في
ردِّه فعل بعثر إلى فعلين، هما "بعث" و"أثار"،
فغبت عن الوجود، لأجد نفسي على قيد الحياة في
جزيرة معزولة موحشة، فحمدت الله على النجاة. تجولت في تلك
الجزيرة، فإذا هي فيحاء غنّاء، فيها الأشجار
المثمرة، والطيور المغردة، والينابيع
الثرّة، وما شاء الله من أصناف الحيوان. فأكلت
وشربت، ومشيت، وقعدت، ونمت، وأفقت، فتشابهت
عليّ الحال، فمللت، وضجرت وافتقدت أنس الناس
وحياة الاجتماع، لكنني صبّرت نفسي بأن خلطت
مرَّ الإقامة بحلاوة السلامة، وقلت: هذا شأن
الزمان والله المستعان. في تلك الجزيرة
رأيت أمراً محيِّراً عجباً، لم أره في جزيرة
من قبل، شغل بالي، وأثار بلبالي، ودعاني إلى
تقصّي ما وراءه من سر. ملخص ذلك الأمر هو أن
الأشجار في تلك الجزيرة كانت منتظمة على نحو
غريب، شجرتين شجرتين، في انسجام ظاهر وائتلاف
باهر، مثنى مثنى، وفي كل مثنى من تلك الأشجار
تقاربت الساقان، وتشابكت الأغصان، حتى صارتا
كأنهما شجرة واحدة. صورة والله عجيبة،
أذكرتني بصورة شعرية لزميل لكم جديد في جمعية
الشعر، يسكن في بلدة نائية اسمها هجين، هو
الشاعر إبراهيم عبد الحميد الأسود، وهو شاعر
مجيد، يقول في تهنئة عروسين: يا
للعروسين والحب الذي
ابتدعا وبالوفا
والصفا قد عبّدا سككهْ يا غرستين على شط
السَّمَا نبتا
فعرّشا
فيه حتى استغرقا فلكهْ جِذْماهما
في الثرى كل لناحية -
يا روعة الحب –
والأغصان مشتبكهْ قلت: "كنت أحسب
أن صورة أخرى في القصيدة تشدّك، هي من صور
البحر، حين يقول: لله
درّك قناصاً، طريدته تجيء
طائعةً كي تدخل الشبكهْ خبطت
بحر الهوى كيما تكدّره عمداً لتبتلع
السنّارة والسمكهْ
فكنت
أبرع هدّاف رمى غرضاً وأبرأ
الناس كفاً من دم سفكهْ بالسعي
قد يدرك المأمول مجتهد إلا
النصيب، فلا تأتي به الحركهْ فاهنأ
بها ليلةً غرّاء ساعتُها عن ألف
شهر، إلى أن
تصقع الديكهْ" قال: "وهذه
صورة جميلة أيضاً، ولكن سرّ الأشجار المؤتلفة
في اثنتين اثنتين ظل لغزاً محيِّراً، لا أجد
له حلاً، ولا أعرف له تفسيراً، حتى إن التفكير
فيه قد أذهلني عن طلب الخلاص من تلك العزلة
الموحشة، فصرت أدعو الله ألاّ يخرجني من تلك
الجزيرة قبل معرفة ذلك السرّ العجيب. سمع الله دعائي،
فأفقت ذات صباح على رجل شيخ مهيب أبيض اللحية،
بهيّ الطلعة، يرمقني بنظرات ملؤها الإشفاق
والحبّ، ويحييني بتحية طيبة مباركة. قلت: "من أنت؟
وما سرُّ هذه الجزيرة؟ وكيف الخلاص؟" قال: "أبدأ من
الأخير: أما الخلاص فسهل، وأما سرّ الجزيرة
فأمر فظيع، وما أنا إلا رجل، أرجو أن أكون
صالحاً إن شاء الله." قلت: "فصِّل ما
أجملت." قال: "على
مقربة من هذه الجزيرة، على مسافة إبحار يوم،
جزيرة أخرى كبيرة، فيها أسباب العيش
والاجتماع، وأنت شاب فاصطنع لنفسك قارباً،
وابحث عن خلاصك." قلت: "وسرّ
الجزيرة؟" تنهّد الشيخ في
حسرة وأسى، وقال: "سرّ هذه الجزيرة الصغيرة
مرتبط بمأساة تلك الجزيرة الكبيرة. فقد ظهر
هناك ملك ظالم حاقد، تعددت مظالمه، وتكاثرت
جوائحه، وسحقت سطوته البلاد والعباد. وأبشع
ما فيه أنه يكره الحق والحب والجمال. وقد أصدر
قوانين جائرة، ورسم مرسومات وحشية غادرة، كان
أفظعها أنه منع الحب بين الناس ورأى في تآلفهم
عدواناً عليه. وقد أسس لهذا مؤسسات، ونظم
عيوناً وحملات، وارتكب مجازر في الأنقياء
والأبرياء، ومازال هذا دأبه منذ خمسين عاماً." قلت: "وهذه
المثاني من الأشجار، ما وراءها من الأسرار؟" قال الشيخ: "كل
شجرتين تراهما هنا إنما هما نباتان لروحين
محبتين. فكلما تحابَّ فتى وفتاة في تلك
الجزيرة، وألقي القبض عليهما متلبِّسين
بجريمة الحب، يحاكَمان، ويقتلان. وما إن تصعد
روحاهما إلى بارئهما حتى تنبت في هذه الجزيرة
شجرتان تنموان، وتكبران، وتتعانقان، كما ترى." قلت: "ولكن
لماذا لا يثور الناس عليه هناك؟" قال الشيخ: "لقد
أنسى الملك الظالم الناسَ حليبَ أمهاتهم، إذ
قتل من قتل، واشترى من اشترى، وأزال معالم
الخير من النفوس، ولم تبق إلا نسمة الحب التي
تخفق بين نفسين محببتين تتمرد عليه بين حين
وآخر، فتنبت هذه الأشجار." قلت: "كيف عرفت
هذا السرّ، ومن تكون؟" قال الشيخ: "أنا
ملك العدل والحب الذي أطاح به ذلك الطاغية.
نفاني إلى هذه الجزيرة، ووضع عليّ حراساً
غلاظاً أشداء، إلى أن بلغت من الكبر عتياً،
فاستيقنوا من ضعفي ووهني، وتركوني لأواجه
مصيري البائس." قلت: "وكيف ترى
الخلاص أيها الملك الحكيم؟" قال الشيخ: "قلت
لك إن الخلاص سهل، فانجُ بنفسك." قلت: "لم أقصد
خلاصي، بل خلاص البلاد والعباد من ذلك
الطاغية السفاح." أطرق الشيخ. وأدرك السندباد
الصباح، فسكت عن الكلام المباح. *** قال السندباد:
لما علم الشيخ الحكيم بما أنا عازم عليه،
وتيقّن أن مرادي ليس خلاصي الشخصي، بل خلاص
البلاد والعباد، انتابته حال سرّحت طائفاً من
الغيم على شمس وجهه الطيب، وافترّت روحه
المتعبة عن سؤال: "وماذا أنت فاعل؟" قلت: "أصنع
قارباً، وأصل إلى تلك البلاد المنكوبة." قال: "طيب.
وماذا بعد؟" قلت: "أبحث عن
طريقة أهزّ بها عرش ذلك الملك الظالم، وأبدد
ظلام عهده الأسود." قال الشيخ الحكيم:
"أرى فيك العزم والصدق، وأرى فيك رجلاً
يستحق أن ألقي بين يديه بجوهرة السرّ التي
أطبقتْ عليها صدفةُ قلبي خمسين عاماً، فاستمع
يا ولدي: إن جوهرة السر هذه هي من معدن الشعر،
تنزَّلت عليّ كما الوحي في سبحاتي وتأملاتي،
واستقرت في أعماقي، تنتظر من أبوح له بها.
خلاصة رؤياي هي أن ظلام الكراهية الذي أحاق
بالبلاد والعباد لا يشقّه إلا فجر حب صادق،
وأن حالة حب واحدة كبيرة وصادقة كفيلة إذا ما
تحققت بهزّ عرش الظلم والظلام. فاذهب إلى
هناك، وحقِّق معجزتك إن استطعت بعلاقة حب
حقيقية ناجحة في معقل الزيف والنفاق والفساد.
فلا أرى الأمل معقوداً إلا على الحب." قال السندباد:
فعمدت إلى خشب ملقى على الشاطئ من حطام السفن،
فصنعت منه قارباً، ثم استأذنت الشيخ بالرحيل،
طالباً منه الدعاء. رمقني الشيخ
بحنوٍّ غامر، وشدّ بوهن يده على شباب يدي، ثم
استلّ من تحت قميصه قصبة سوَّاها ناياً، ودفع
بها إليّ قائلاً: "أنت تعرف حنين القصب،
فاستعن بها في مهمّتك. قرِّب شفتيك من شفتيها
وتنهَّد، تتنهَّد معك فتذكِّرك، أول ما
تذكرك، بأن من وصفوك بأنك قصبة مفكِّرة هم على
حق، ولكنك في الأصالة قصبة عاشقة، يعطف حرُّ
أنفاسك هذه القصبة على غابر عهدها، على ضفة
النهر، فيصدر عنها ما يبعث الشجن والشجى في
نفوس الناس، فيتذكرون خضرة أرواحهم وطراء
عواطفهم. وأظنُّ أنها تكفيك في مهمّتك، فأنت
مبعوث بالحب فحسب. قلت: "والقوة؟" قال: "الظالم
أقوى منك بجيوشه وزبانيته، وقوّتك في روحك." قلت: "والعقل
والمنطق والفكر؟" قال: "مما يؤسف
له أن الملك الظالم قد اخترق كل هذه المفاهيم،
فصار له "مفكروه" الذين ضلّلوا الناس.
فبعد خمسين سنة من الزيف، خلطوا الحقّ
بالباطل، وخلطوا الباطل بالحقّ، فاستوى لهم
نهج ظالم، حجَّتهم فيه بالغة. أما المعقل ما
قبل الأخير لحرية الإنسان –
عنيت الحبَّ –
فمازال عصياً على الاختراق، فتحصّن به. تحصّن
بما لا يزيَّف، ولا يزوَّر، ولا يُخرَج، ولا
يُمثَّل." قلت: "ندّت عنك
كلمة غريبة أيها الشيخ. إذا جعلتُ الحبَّ
معقلاً قبل أخير للحرية، فما آخر معاقلها
إذاً؟" قال: "آخر
معاقل الحرية "الخيال"، وهو أرحب
المعاقلِ على الإطلاق. أُرجِئ المقال فيه إلى
مقام آخر." ثم صمت الشيخ،
وأبحرت... * نزلت على شاطئ
مدينة الظلم والظلام، فإذا هي محاطة بسور
ضخم، عليه حراس أشداء. وإذا على بوابات السور
إجراءات مشددة وتعليمات صارمة، لا تسمح
بالدخول والخروج إلا بعد تفتيش واستعلام
واستجواب وأختام. لم يكن في حوزتي غير تلك
القصبة الهيفاء التي كان قلبها فارغاً كفؤاد
أمّ موسى، وكان معي كيس نقود أيضاً، فيه حفنة
دراهم، حطّت عليه عيون الحراس، فزهدت به،
فانتهبوه، واقتسموه. فإذا هم مرتشون صغار،
يُدخِلون ويُخرِجون ما يشاؤون ومن يشاؤون
بالدراهم والدينار. فعلمت أن تلك المنعة
المتمثلة بالحراس والأسوار إنما هي منعة
زائفة. إذ ما جدوى كل هذه القوى المرابطة إذا
كانت المدينة من داخلها ساقطة؟ * تجولت في أحياء
هذه المدينة وأسواقها، وعاينت صروحها
ومنشآتها، فإذا الهياكل باذخة عامرة، يسعى
فيها بشر نفوسهم داثرة بائرة، ينهشون بعضهم
بعضاً، وينهبون بعضهم بعضاً، في ظل حالة أشبه
ما تكون بالجنون، لا يحدُّها نظام، ولا
يضبطها قانون. دخل الغمُّ قلبي،
وأحسستُ بقطع من الليل الأسود تغزو أعماقي،
فغرقت في حزن، لم أجد ما يعينني عليه غير تلك
الناي التي أعطانيها الشيخ الحكيم. انتحَيت
ركناً هادئاً وأرسلت أنغامي المجرَّحة في ذلك
الفضاء الكتيم، مستنزلاً الرحمة من السماء،
ومستجدياً اللطف من نسمات الهواء، ومقتبساً
البراءة مما تبقى في عيون الأطفال. وصار هذا
دأبي في كل مكان أحل فيه، إلى أن قادتني قدماي
إلى جوار حديقة غناء يتوسطها قصر كأنه القلعة
المكتفية بنفسها عما حولها. على سور تلك
الحديقة أسندت جسدي المتعب، وانحنيت على
نايي، أبثُّها ما أجد من صنوف البلاء، وأرسل
من خلالها ما تبقى في روحي من أحلام الخلاص
وأطياف الرجاء. وبينما أنا على هذه الحال من
تمزُّق الروح واعتلال القلب واعتلاج
الوجدان، أستحضر في أنغامي قول أمير الشعراء
امرئ القيس: ولو
أنها نفس تموت جميعة ولكنها
نفس تقاطرُ أنفساً
إذا بصوت رفيق
لطيف، يرسل آهاته، ويبوح بهمساته من وراء سور
تلك الحديقة كأنه يعاني ما أعاني، ويجد شيئاً
من السلوى في ألحاني، فاستغربت صوت هذا
الإنسان. وتساءلت من يكون، وكيف بقي في هذه
المدينة الظالمة مثل هذه الروح الهائمة التي
تهزُّها أنغام الموسيقى وعواطف الحب. فتسلقت
سور الحديقة. وقبل أن يرى
السندبادُ صاحبَ الصوت أدرك السندباد
الصباح، فسكت عن الكلام المباح... *
* * قال السندباد:
أطللت من فوق ذلك السور، فوقعت عيناي على
صبيّة حسناء فاتنة هيفاء، الشمس على صورتها،
والكوكب من بعض ما اشتمل عليه قميصها
وتنورتها. طرفها فاتر، ولكنه ليس بالسقيم،
وقدُّها ناحل، ولم تعمل ريجيم. فسبحت الله على
جميل ما خلق، وأجَلْت طرفي في حديقتها
المونقة وجنَّتها المغدقة المورقة، وعجبت
كيف تقوم هذه الحديقة الغناء في هذه المدينة
السوداء. قلت: "من أنت
أيتها الأنسيّة؟ ما خطبك؟ وما سرّ آهاتك التي
مازجت ألحاني، فزادت من أشجاني وأحزاني؟" قالت الفتاة: "سألتك
الله أيها الغريب إلا نزلت عن السور قبل أن
تراك العيون، وتغيِّبك السجون، وأنا أجيبك
عما سألت. فمثلك والله جدير بأن أكشف له سرّي
وأوضح له أمري. عد إلى نايك
وألحانك، وأنا إلى بثِّي وبوحي، فيأتلف من
ذلك قصة غربتينا. فأنا غريبة مثلك أيها الغريب." * من وراء ذلك
السور روت لي تلك الصبيّة قصتها المؤسية. قالت: "أنا بنت
ملك هذه المدينة السوداء، ولدتني أمي منذ
عشرين عاماً، وأرادت أن تسميني لطيفة، فغضب
أبي، وأبى إلا أن يسميني ماردة، متمنياً أن
أكون سكيناً حادة شرسة تمزِّق، أو مفرقعة
تصعق وتحرق. ولكني رُبِّيت على غير ما يريد من
التربية في كنف والدتي، فأحببت الطيور
الملونة المغردة، وملت إلى الموسيقى الناعمة
الهادئة، وحفظت الأشعار الوجدانية العاطفية،
ورسمت المناظر الطبيعية الساحرة. فلما اكتشف
الملك ما فيَّ من الطبائع الإنسانية الحانية
والمشاعر الرقيقة الصافية، غضب على أمي غضباً
شديداً، ونفاها إلى جزيرة نائية. أما أنا فرمى
بي في هذا المكان الذي يلائم طباعي، كما أشار
عليه كبير وزرائه، وحرَّم عليّ رؤية أي
إنسان، لاسيما إذا كان من لداتي، خشية أن
تتسرّب إليهم أمراضي." قلت: "إذا كان
هذا مصيرك لأنك أحببت الفن والجمال، فماذا
حلّ، إذاً، بالفنانين في هذه المدينة
السوداء؟" قالت لطيفة: "الفنانون
الحقيقيون الصادقون مع أنفسهم يعانون في
المدينة السوداء العزلة والجوع. أما
المزيَّفون منهم فقد قرَّبهم الملك وأغدق
عليهم عطاياه، فألَّفوا له الكتب التي تمجِّد
ظلمه، ورسموا له اللوحات التي تضخِّم شخصه،
ووضعوا له الموسيقى التي تصور ملاحمه الوهمية
وبطولاته الخلَّبية، وزخرفوا له شعاراته
الوحشية، ودبَّجوا الخطب عما في ترَّهاته من
بلاغة وعبقرية." قلت: "ولكن هذا
أمر لابد أن تكون له غاية ينتهي إليها." قالت: "النفاق
ليست له غاية ينتهي إليها. فهو يتناسل بعضه من
بعضه الآخر كما يتكاثر الجراد." قلت: "وماذا
تنتظرين أنت يا لطيفة وراء هذا السور؟ كيف
تمضين ساعاتك وأيامك؟ وهل من سبيل إلى أن
نلتقي فيأنس أحدنا بالآخر." قالت لطيفة: "في
بلاد الظلم والظلام هذه أنا ألوذ بآخر معاقل
الحرية، فأعيش في مملكة "الخيال" التي لا
سلطان للملك الظالم عليها؛ حتى إني لأحلم
بحبيب يجيء على هيئة طائر أبيض كبير، يضمُّني
بجناحيه، ويمضي بي إلى بلاد تعرف الحب والصدق
والوفاء في ظل ملك عادل." قلت: "لن يطول
انتظارك أيتها الصبيّة، إن شاء الله. فأنا
ذاهب لأبحث لك عن حلمك. استعيني بالصبر،
واخرجي كل صباح مبكرة مع شروق الشمس، وقلِّبي
بصرك في السماء حتى تري حلمك حقيقة." فرحت لطيفة
وغرَّد جرس فمها الذهبي بأنغام الودّ والشكر
وأمل اللقاء. * على جبل مشرف على
المدينة السوداء مكثت شهراً كاملاً، وأنا
أمزج الحلم بالواقع والواقع بالحلم، حتى صنعت
جناحين كبيرين وذيلاً من سعف النخل وأغصان
الآس وريش الطيور البيضاء وقطع القماش الأبيض
الناعم المتين. ومع انبثاقة صباح
مشرق امتلأت روحي بإيمان ذلك الشيخ الحكيم
بالحب، وخفق قلبي إلى لقاء لطيفة بأشواق آلاف
القلوب التي حرَمَها الملك الظالم نعمة الحب،
وانتفض جسمي بقوة عشرين رجلاً من أبناء
الحرية والشمس، وانطلقت محلِّقاً فوق
المدينة السوداء، حتى جئت تلك الحديقة السجن،
فإذا لطيفة نبعة من نور، وشمس تطلع على الشمس،
في ثوب زفاف أبيض طويل، أمضت هي الأخرى شهراً
كاملاً في تفصيله وخياطته –
فقد كانت تصنع لي حلمي كما كنت أصنع لها حلمها.
وفي لحظة عجيبة التقت الأرض بالسماء، وحقق
الحلمان رغبتهما في أن يكونا حلماً واحداً.
فإذا لطيفة بين جناحي طائرها الأبيض، وإذا
أنا في غيمة بيضاء من ثوب زفاف لطيفة الذي
كانت تمحو أذياله ليل المدينة السوداء. ***
*** ***
|
|
|