|
البحث
عن زمن ضائع
سومر إجليقين توقف أزيز
حفّارته فجأة بعد نصف ساعة مجهدة من الوقوف
أمام كرسيّه القديم، وقد جلس عليه رجل مترهل
الهيئة فاتحا فمه بعجز وتوسّل، وعينان تغبّان
جرعات من ألم صامت، تدمعان فلا يأبه لهما
الطبيب، بل يزيد من سرعة حفّارته تلك، لعلها
تأكل صوت صمته المزعج حقاً؟! توقف ونزع قطع
القطن المصطبغة باحمرار قانٍ من فم المريض
ومضى إلى وراء مكتبه، بينما راح
الرجل يبصق دمار
آلة الحرب تلك من فمه، غير واثق من أسلوب
طبيبه العلاجي هذا، بل كثيراً ما اعتقد أنه في
طريقه إلى سلامه الأخير. اهتزت حالة
الهمود في المكان بصوت الباب منطبقاً بخفوت
لدى مغادرة المريض. لم يبقَ في المكان إلا
حفيف هادئ لمضخة الهواء وبقايا قدرته على
التقاط الارتعاشات الأخيرة لحالة السكون تلك. لم يكن يدري ما
يفعل، فألقى رأسه على مكتبه يحاول أن يستفز
خياله في مسألة تغير من غبائه الراهن، فلم
ينجح إلا في استفزاز آلامه وجراحه. كانت آلاماً قصية
مختفية في كل الأصوات التي تصطخب حوله. في صمت
كهذا يكفي أن يستمع إلى أنينه وبَوْحه حتى
تتغير ملامح الحياة والأشياء. آلامه تلك تغوص
في زمن بحث مضنٍ عن فكرة واحدة تنتشله من
حياته الأرضية إلى حياة الكثيرين ممن فتَّتوا
دماغه إلى شظايا، وراح كلٌ يستأثر بنصيبه
محاولاً أن يجعله سيداً على الكل. أمسك قلمه وراح
يكتب بصوت ذاك الزمن المفقود: "... عشرون سنة
وأنا ألهث وراء أشباح ماركيز!؟
تطاردني وجودية سارتر، فأخنق نفسي حتى
تحتقن عروق وجهي لأدرك تماماً أني مازلت
قادراً على امتصاص الحياة من الآخرين حولي،
مقتنعاً بأن كافكا وكل حشراته تخترق الواقع
بطنينها وبشاعتها، لنرى ببساطة تامة كيف
أخفينا كل مظهرنا "الحشري" تحت جلد بشري
متفسخ أمام الشمس. وماذا عن بروست؟ هه.. أكان
حقاً نخبوياً؟! ألم يكن الانتخاب من طبيعة
الفكر التافهة أصلاً؟!! ثم أين هذا من اقترابه
الحثيث من النفوس الظمأى إلى الحقيقة
وانغماسه في التلاطم المستمر للوجدان
الإنساني…
عشرون سنة لاحقني فيها شتراوس بمحاولات جاهدة
لفلسفة الموسيقى، متواطئاً مع فلاسفة عصره في
صراعه ذلك. ولا أدري كم رحلتُ وراء ألوهية
فاغنر لأخترق غوامض عالمه الأسطوري الفذّ،
معتبراً بيتهوفن زماناً يمجِّد كل ما فيه، لا
فرداً نغرقه انتقاداً وإسفافاً أبله…
عشرون سنة ونقد العقل الخالص يكاد يذهب بي
إلى الثلث الآخر من الكون. ثم أقفز إلى العالم
كإرادة وتصور لأجد أن شوبنهاور يجعلني أشد
قدرة على الارتخاء في تهويمة وجودي وإيماني
بالحياة. وآخرون…
آخرون كثيرون يزدحمون في كل ابتداء وانتهاء.
ثم…
ماذا بعد؟! أزيز مقيت لحفّارة صدئة، وكرسي
وبضعة أدوات وبقايا إنسان تجمعه أشلاء حياته،
لا رغبة له بالمضيّ، سوى أن الحياة تتشبث به
في كل صورة تعبث بمشاعره!! ماذا يعني أن أكتب
مسرحيتين، الأولى منهما انتهيت من التفكير
بها، والثانية تكاد تومض شخوصها في أحلامي.
وبعض القصائد التي تشبه كل القصائد لأنها
كتبت لتكون كذلك!؟ أفٍّ من أوزانها المتراقصة!
كم دافعت عن تراقصها الذي يشبه دبيب الأقدام
في بهو دائرة للموظفين؟! وتجربة فاشلة للحب،
حاولت مراراً أن أجعلها عملاً ساحراً، فتأبى
أن تستحق الاهتمام. وماذا عن زواجي المقدس
وأولادي الطاهرين وانسحاقي المتوقع والطبيعي
ليتحولوا، قليلاً قليلاً، إلى شكل أتفه مما
أنا عليه الآن!! حتى البيت الذي أثور بين
جدرانه، أصبح نصفه عيادة ونصفه زبائن! وزبائن
نصفهم فقراء ونصفهم يستجدي منك لقمة يومه
علاوة على علاجه! الرتابة التي أعيشها تشبه
الطريقة التي تتم بها أعضائي حياتها اليومية.
أفكر كثيراً بالعودة. يجب أن أترك غربتي هذه
وأعود إلى بيتي القديم. ربما هذا ما سيجعلني
أبحث عن أشياء لا أعرفها لكي لا أعرفها أكثر.
لابد من وجود زمن تركت فيه منزلي وهربت…
ومن حينها وأنا لا أعرف لم هربت... مع من أو إلى
أين؟!! كم أستحي أن أسأل المبعثرين من حولي.
فحياتهم لا تبدو لي كالهروب!" - أحس أني جائع.
سأذهب إلى زوجتي. لابد أنها أنجزت شيئا يسدّ
رمقي. لم يكد ينتهي من
كتابة أعاجيبه تلك حتى قام متجهاً إلى الطابق
السفلي من منزله، منساقاً بتكاسل واعتياد إلى
حيث يتوقع زوجته دائماً. كانت تجلس متكئة على
ساعدها وقد التفت معالمُها بتعب مزمن على شكل
سحابة ليلية غائمة تحت عينيها... بادرها،
مسترخياً بطوفان أفكاره السابق، هائماً تجول
عيناه في أركان المكان بلا هوادة: - آه... أتدرين
زوجتي الحبيبة؟ ربما تحتاجين أنت أيضا إلى من
يعيدك
لمنزلك القديم.
ستحتاجين إلى مال لكي تستطيعي المضيّ في
رحلتك. والأولاد كذلك، ربما لم يعد هناك من
داعٍ لأن يخافوا من أقوال جدهم وغضبه.
قولي لهم إنه يصطنع ذلك ولا يعنيه، بل إنه
طيب إلى حد البلاهة. تحركت يده
المسترخية على جانبه لتبحث ببطء وشرود في
جيبه. أخرج رزمة من الأوراق المالية بغير
ترتيب. امتدت يده إلى زوجته وكأنها تمتد للمرة
الأولى بطريقة كهذه. - هذه لك. أتمنى أن
تكفي لفكرة ما، أو حتى لخيال ملحٍّ. دعيني فقط
أتناول شيئاً.
إلهي كم يرهقني جوعي! جائع أنا من عشرين سنة. جلس يلتهم
صحن المجدَّرة
واللبن. انسربت لقمه السريعة إلى جوفه لتطفئ
الاشتهاء المضطرب في كل خلية من خلاياه.
استشعر فيها لزوجة وكثافة لا تنتهي، بل طعم
يولد من جديد كأول طعم لها في فمه. بدت زوجته حائرة
دهشة، وأصابعها قابضة على الأوراق بشدة، تبحث
فيها عن
الإحساس القديم
بالحرية والتوجُّس من الارتحال وراء ظلالها. انتهى من تناول
طعامه. مسح أطراف فمه بفوطته، ونظر إليها
شارداً.
اقترب منها
مرتعشاً على نحو غريب يشبه بداية أولى لوعي
قديم اجتاحها عندما طاف حول خوفها الأول. أمسك
بخصرها، أحاط به، وجذبه بسكون وارتياح إلى
جسمه. التصقت أفكاره بثيابها، وانسكبت
رائحتها على اشتعاله لتستجيب شفتاه لفمها
المرتجف وتبدآن طوافهما الأخير في معبد منفي متلاشٍ
في ذاكرته وذاكرتها. ارتعدت عندما
أحست بارتحاله محلقاً بها في عالمه البعيد
غير المفهوم، هارباً بها عن مطبخها الصغير،
عن أولادها، عن صوتها المغادر في كل ركن من
أركان هذا المنزل. بكت وصرخت دموعُها في وجهه،
وارتجفت دوامة مشاعرها أمام حقيقته وصدقه
الملائكي، لتتركه وحيداً في انتهائه هذا وتفر
إلى صخب اعتادته وحدها. مشت قدماه بتثاقل
وخطوات بطيئة. تناول معطفه وخرج صامتاً لا
يلوي على شيء. بدأت الحركة تدبّ
في الشوارع للتو. في تلك اللحظة لم يستطع أن
يجد معنى ما لحركة كهذي. حاول أن يجد مبرراً
لها، فارتأى أن هؤلاء الناس حوله قد اتفقوا
جميعاً على الخروج معاً في نزهة ما والشمس في
طريقها إلى المغيب. كان يسير في الشارع الذي
ينطلق من أمام بيته مخترقا الثلث الجنوبي من
المدينة إلى القرب من مركزها حيث كان النهر
القديم يشطرها نصفين. رأى الكثيرين
يشرعون بفتح دكاكينهم ورش الماء لترطيب ما
حولها، مستجلبين بذلك اهتمام المارة. اندفع
بينهم وقد تراقصت أجسامهم في شعوره على نحو
مليء بالرضى والهدوء. بدأ يردد تحيته الجديدة
بحياء طفل: "استمتع بوقتك حبيب! فالنزهة لم
تنتهِ بعد. ستمطر الليلة بغزارة بولك الصباحي."
ضحك كثيرون بعمق واحتياج شديد لبدء النهار
بارتياح كهذا. نظر بعضهم إلى السماء، بينما
تابع الباقون عملهم بصمت صوت الماء المنسفح
على البلاط. سار على حالته
تلك طويلاً. تشتتت كل تصوراته عن الأشياء،
وشعر بالكلمات ترتدي إحساساً مختلفاً، تضيء
ببهاء أكثر، ليّنة كطريقته بالصراخ دون
اكتراث، وقد تفلّتت من كل شكل للاختناق،
فيضحك طويلاً طويلاً لأتفه العبارات التي
تنسكب كلعابه المتجمع في فمه. تغيرت تفاصيل
الأمكنة حوله ليشعر وكأنه يدور في ذاكرة
واحدة، تحيط به أربعة جدران رمادية تقريباً،
وأريكة مستندة إلى إحداها، وسرير متوسط الطول
واطئ قريب من أرض الغرفة تمدد عليه شاب في
العشرين من عمره بنصفه السفلي بينما استند
بنصفه الآخر على الجدار المجاور، زارعاً بصره
أمامه، ساهماً يفكر بطريقة بدت مألوفة له.
اهتز فضولُه بغرابة فبادره: - غرفتي، أليس
كذلك؟! يا صاحبي هذه غرفتي، يا جنّ الأرض! هذه
غرفتي القديمة. يبدو أنك لا تدرك ذلك! تنحنح الشاب من
مكانه ورد بكسل: -
أعرف،
أعرف جيداً هذا. أتعلم؟ لا أريد الخروج منها.
لي حقٌّ ما بالبقاء هنا! - ها! هه…
من سألك الخروج أصلاً؟! لقد تركتها أنا، ولا
داعي لمكوثي متشبثاً بها. ثم إنها عشرون سنة
يا صاحبي تكفي أن تجعل للهواء المتجدد فيها
حقاً أكثر مني في امتلاكها! - يا للأسف! لا
جديد في هواء أو غيره. ربما أردت مشاركتي في
غرفتي، أو غرفتك. ما الفرق أصلاً؟! لست أنا سوى
أنت، ولو بعد عشرين سنة! الزمن لا يقلب
الحقائق، بل يغير من مدى اقتناعنا بها. - مازلت تتحدث عن
الحقائق؟! بل مازلت تمتلكها! لقد أضعتها من
زمن سحيق، تماماً مثل الأوراق التي أكتبها،
لا أدري أين مكانها أيضا. - غريب! أضعتها
وتعرف أين توجد تماماً، بل تحاول أن تدّعي
نسيانها. أتنسى للحظة بريق قصصك الأولى، وقد
غمرت المتعة أجزائك كلها وأنت تكتبها؟! حاولت
جاهداً أن تبحث لها عن متنفَّس خارج جدران
دماغك وغرفتك. هه… ثم يأست من
اقتناعك بها، لا من الهوام الذين حالوا دون
نشرها! تذكر جيداً كيف ابتدعت كوناً ساحراً
يدور في فضاءات حبك القديم، لم يكن لكاتب أن
يقف على مثله لرهافته وطهره. فقدت إيمانك
بالأشياء، بالبهاءات القديمة، فأهملتها في
مساحة قصية من ذاكرتك. ثم ماذا عن ذاك الفيض
الموسيقي الذي كان يطوف في كمانك وأنت مستغرق
في إنتاج لحنك الضائع الذي ظل يلاحقك لكي تصبح
موسيقياً ألمعياً سابحاً في تكوين ساحر من
الجمال، بعيد عن حيوات الآخرين الأرضية التي
لا تملك سوى خيال مجدب في تطلُّعها إلى تكوينك
أنت؟! - اسمع يا صاحبي.
ببساطة جداً أنت مخطئ! بل بوقاحة ما، يا
لتفاهتك!! أنا طبيب. لي مكان عملي، أطفالي
وزوجتي وبيتي، وحتى الكثير من مشاعر الاحترام
التي يكنُّها الآخرون لي. أم أنك ترى أن أبقى
أسير ذاك الخيال المقفر حيث يدور الموت دورته
الألف ليلتقطك؟! وربما سيمر الآخرون بك دون أن
يشعروا بظلك يسقط على أطراف ثيابهم حتى! -آه... حقاً. هل
سيسحقني لسان خبرتك الخرقاء في الحياة؟!
ستبدأ مرافعتك الآن هزائمك العنيدة أمام موتك
وإعلانك الأخير للانتحار؟! ثم كيف ترى وصولك
المترهل إلى الأربعين وبقائي متشبثاً عند
العشرين، وكل يمتلك هواءً تدور فيه حياته
بطريقتها؟! - حقاً ما معنى
ذلك؟ ربما هناك ما يقلق شعورك بالجوار. أحس
أني مررت بالأمكنة والأشياء. صادفت الأشخاص،
بل وانزلقت الكلماتُ من هوائهم إلى مسامعي،
وتطاير لعاب كلامي في وجوههم أكثر من مرة!
غرابة تحكم كل هذا! أستشعر الحياة بزمنين
يمران في مكان واحد، وكأن للأشياء صورتين
تعبثان بسكوني! ترى أي فكر يحملنا لنذوب في
حقيقة واحدة؟؟ آه... تلك الحقائق التي حدثتني
عنها حولتني إلى فتات تقذفه حركة الأشياء
حوله بلامبالاة. أنت، يا صاحبي، لست سوى زمن
يقذفني الآن إلى انتباه آخر. ربما كانت هذه
حركة الأزمان الأخيرة في شتاتي. - أتدري؟ إن ما
أحبه حقاً هو أنك تدرك وجودي في المكان! إنك
تراني ببساطة وطفولة. دع الآخرين يشيرون
بأصابعهم إليّ. - إنهم يمرون بك
ويشيرون إليك.هه... إن شعورك يلقي ظلال أصابعهم
على جسمك! تستطيع... - تستطيع أن توقف
حركة أحدهم وتؤكد لي أنه يراني؟! - مسألة مزعجة أن
تبرهن على تفاهة ما. لكن... لا بأس من المحاولة. - اسألهم يا صاحبي.
اقترب منهم وراقب تغضن وجوههم المشمئزة يلوح
سريعاً لمجرد مثولك أمامهم! ستكتشف أنك بخار
يموت على برودة جدرانهم. - مسكين أنت! لستَ
واثقاً من قدرتك على نفث الهواء. يا لضعفك!
تموت في ظلمة كل واحد منهم. تلفّك عباءتك
الليلية كل يوم لتصبح امتداداً سرمدياً بين
احتراق نجمتين في سمائك. لن أدخر جهداً لذلك.
سترى بنفسك. كان صاحب محل
الملابس على مقربة منه جالساً يحتسي كوب شاي
على كرسيه الصغير خارجاً. أحس به وكأنه يرمقه
ببؤبؤي عينيه المختفيين تحت جفنين سميكين.
كانت معالمُه كلها تتوثب تحت جلد وجهه الثخين.
وما إن اقترب منه حتى قام من مكانه متحفزاً،
أشبه بنبات بحري مشعث الأوراق. - مساء الخير يا
سيد! الحقيقة... يبدو أن المسألة سخيفة تماماً.
بل لا تستأهل أن تقوم جميعك من أجلها. أرجوك،
تفضل اجلس. أرجوك. جلس الرجل تحت
وطأة اندهاشه، وقد انفرجت ساقاه البدينتان،
وتنبهت أساريره بذهول. - لن تكلفك
المسألة أكثر من إشارة بسيطة بإصبعك إلى... إلى
هذا المخبول. صاحبي. أرأيته؟ يقف هناك إلى
جوار الإشارة الضوئية. ليس هناك مبررات لكل
هذا. اعذرني لكن… - عفواً! لم أفهم
جيداً. من تعني بذلك؟ - سأقف بجواره. ركض إلى مكان
الإشارة الضوئية، ووقف تحصده البلاهة حتى آخر
جزء من أجزائه. رمقه صاحب المحل
بنظرة ذات مغزى، وجلس يتعوذ بصمت رشفاته من
كوب الشاي، وقد طافت ابتسامة ساخرة مختبئة
على شفتيه الغليظتين. لم يستطع الطبيب احتمال
ذلك، فعاود الاقتراب منه، إلا أنه، قبل مسافة
قصيرة، قام صاحب المحل وقد وضع كوب الشاي
بعصبية هائلة وانتفض مزمجرا في وجهه: -اذهب! اذهب من
هنا!! ما كان ينقصنا إلا أنت! يشهد الله حسبتك
عاقلاً!! لا ردّك أنت وأمثالك!!! ركض طويلاً. بدا
الشارع لا ينتهي معيداً نفسه في كل منعطف.
تناهى إلى سمعه كثير من تلك العبارات التي
شتمه بها صاحب المحل. دخل في إحدى الحارات
الضيقة والتجأ إلى مدخل قديم. جلس متكوماً على
نفسه، يهتز جميعه مثل محرك سيارة. ابتدأت
دموعه تأكل عينيه مثلما يفعل عرقه البارد
الذي يكتسح جبهته، وتدفقت كلماته ولعناته
مرغية مزبدة، وبصاقه يتطاير: - أيها الحقير!
دنيء!! أردت أن تجعلني مهزلتك أمام قذارة مثلك!!
تُضحِك هؤلاء التافهين، وتتخلى عن إحساسك بي؟! تراءى له الشاب
مرة أخرى في غرفته ذاتها، مستلقياً على رأسه
ومفكراً بعمق. ثم ما لبث أن رفع رأسه متثاقلاً
ونظر إلى صاحبه بشيء من الحسرة: - يبدو أنك لم
تستطع أن تقول لهم ما أردت قوله ببساطة. - ببساطة؟؟! عندما
كنت في سنك لم أكن لأقدر على فعل ذلك. تذكِّرني
بصاحب المجلة الأدبية عندما ذهبت إليه لأنشر
مسرحيتي. استقبلني بحفاوة مشجّع، ورفضني
بعدها بفوقية محترف أساء إليه مظهري الحشري
بكامل تجلِّيه. لم يكن الموضوع ليحتاج إلى
أكثر من لقب واحد يضاف إلى جانب اسمي لتصبح
الأمور مشروعة في عرف أدمغتنا المهترئة. - ما الفرق الآن؟
ها أنت تحمل اللقب! - لم يعد من
الممكن تقديم أي عمل. سيبدو تافهاً أمام حشد
المهتمين. سيقولون: "يحشر أنفه في كذا وكذا." - مثلما أعلنوا
الجهاد على أحدهم. كان مهندساً. أذكر هذا
جيداً. ابتدأ يطرح رأياً ما لفهم جديد في
الإسلام. - ذلك قديم جداً.
يومها كان نشر كتاباً عن قراءة معاصرة لفهم
القرآن. - أتدري؟ كنت أول
من نادى بأنه يحشر أنفه في كذا وكذا! ربما كنت
ناقماً على انسحاقي المبكر في الحياة. صمت لفترة قصيرة،
وأخذ يمسح عن وجهه المتسخ دموعه. بدا ساهماً،
يقلقه هاجس ما يجعله يركز نظره في بقعة ما، لا
يحيد عنها. أخذ يخاطب شبحه بشروده السابق: - يبدو أن الجميع
يهابني. هناك خوف ما تشعّه العيون. كلما مشيت
في الشارع رأيتهم يطرفون بريبة: "عادت تلك
الحشرة إلى الطواف في المكان." اعتدل شبح الشاب
أمامه في جلسته، متخذاً هيئة خطابية، وقد
انتفخت أوداجه وملأت ريح الغرور أنفاسه،
ليقول له أخيراً: - هذه حال العظماء
تماماً! هذه حال العظماء يا صاحبي. لقد أصبحت
عظيماً جداً! الكل يعرف الكثير عن مسرحيتك
وروايتك و... يا إلهي! سوف تبلغ ما بلغه يوسف
إدريس في رغيفه وطابوره! - كم أنت مخطئ! بل
ربما هذه سخريتك من جديد! إن رغيف إدريس لا
تأكله إلا العامة، وطابوره يقف وراء ذاك
الرغيف، ولن تنتهي المشكلة. لقد جئت لأبدع
حلولاً لأسئلتي وحدي، لا لكي أقلد المشاكل. لم
أكتشف شيئاً بعد. ربما حان الوقت لأعلن بعض
عبقريتي للخلق. ولست أعرف طريقة لذلك. كيف
سيستمع إليك من يخشاك ويكره رفيف أجنحتك في
هوائه؟! - ورقة وقلم!
صدقني، لن تحتاج لشيء غيرهما. اكتب ما يحلو لك.
فأنت من فيض إلهي. اكتب عن الجميع، واقرأ لهم.
سيتبعك المجد أينما ذهبت... سيتبعك حيث... لم يستطع إلا أن
يقاطعه، إذ شعر بزهو ما بعده زهو، بانتشاء
وصعود لأنفاسه نحو ارتحال يشفّ وراء جدران
غرفته الرمادية. ابتدأ يخرج من ضياعه. من
دورانه الباهت عالقاً في مساحة قضبان حديدية
لزمن كثيف في نهاياته. -آه... آه... من سماء
تشدني إليها! أحس نفسي محلقاً في أثير يهيم
بين صمت الآلهة وارتجاف الحياة على الأرض.
بعيداً بعيداً عنك وعني. خرجتْ في تلك
اللحظة سيدة من أحد المنازل القريبة، في
مقتبل عمرها تقريباً، وقد حملت في يدها بعض
الكتب والأوراق، وسارت حثيثة الخطو إلى مدخل
الحارة. لحق بها وكأن أنسام ريح تحمله. انتفضت
مذعورة لمّا رأته وراءها يهمس مختنقاً بخفوت
صوته: - لا أملك وقتاً
لأشرح لك. اعذريني. إني بحاجة ماسّة إلى ورقة
وقلم. لم تستوعب جيداً
غايته. كانت كلماته مفككة كحالته، إلا أنه بدا
هادئاً كبحر ساكن. أشفقت لإلحاحه وسألته بلين: - ورقة وقلم؟! أجابها بوضوح
صارم متركزاً في إجابته: - نعم. لاشيء
غيرهما. وسط دهشة لم
يفهمها هو، ولم تجد تفسيراً لها هي، مدت يدها
إلى محفظتها وناولته قلماً، وانتزعت ورقة من
أوراقها، فأمسكها بشراهة طفل وجلس أمامها
القرفصاء يكتب ويكتب. حاولت جاهدة أن تنظر إلى
ما يكتب، فلم تلتقط سوى كلمات مرتجفة وخط
متعثر. وقف عند انتهائه متنفساً الصعداء، وقد
شاعت أسارير وجهه ببهجة ورضى عميق، والتمعت
عيناه ببريق الماء في ظلمة. حاولت أن تسأله
عما يدور في خلده، فقاطعها بثقة مطلقة: - سأقرأ لك أعظم
عمل تسمعينه مني. أعلم أنك خائفة من ظهوري
بغباء شديد. سينفر الجميع من وحشيتي. لكنك
ستستمعين إليّ. شيء يقول لي ألاّ تخافي. بل
مجِّديني وحدي، فأنا أستحق المجد! سأقرأ. أصغي
بصمتك الدافئ لي. "نحن نصعد إلى الوجود
المطلق وفي صعودنا هذا يزدهر الفكر ويفرّ
اهتياج السماء عن بلادة الأرض. في مكان هنا
أستطيع أن أكتب مسرحية وأكمل روايتي. هنا
أستطيع أن أكون في كل لحظاتي. لن يحتكرني زمن
ما، بل لن تطوف ذاكرتي بالصور. سأتجول بعينين
تأكلان الجلد والخجل، تسطِّران الحقائق في
ارتعاش العيون الأخرى، وتبكيان لتغتسل
الذكرى من جديد ويعود لهما طهر قديم..." لن
ترحلي! لن تهربي أنت الأخرى!! سأقرأ لك بجدية
أكثر. لن يزول طنيني عن سمعك. سأقرأ لك. دمعت عيناها
بغزارة صلاة مستغرقة كل حواسها. ارتعشت أمام
قدسيَّته، لكنها رأت الرصيف. لفحتها أنفاس
السيارات وضجيج الحياة. ارتدّت إلى زيفها،
ولبست قناعها بسرعة، وغذّت خطواتها متنقِّلة
من حارة إلى أخرى وهو يلاحقها بصوت عال لا
يأبه بقناعه الممزق. حتى اقترب أحدهم منه
وأبعده عن الفتاة بقسوة. ووسط اختناقه سقط على
الأرض إثر ضربة مفاجأة جعلته يحس بطعم التراب
وحرارة الأرض. نهض ببطء،
متلفِّتاً يمنة ويسرة، والخوف يأكل نبضات
قلبه، وأنفاسه المتلاحقة تلتهم عباراته
المتتالية، صارخاً كل اندفاع للحياة به في
وجه المتدافعين حوله: - لن تخشوني
مطلقاً! س... س... ستبذلون طاقاتكم مثلي. هه... لن
تهابوا دوراني في المكان. ستسحبون ذيولكم
لأضع ذيلي. أين أنت؟ أين أنت؟؟ دنيء، كما
عهدتك. سخرت مني مرة ثانية. لقد أضعتك. لم يبقَ
شيء في المكان. لقد أضعتك... بكى بمرارة عشرين
سنة من زمن ضائع. بمرارة انتحار أخير مؤجَّل.
بمرارة ورقة أخيرة كتبها وفشلت، فأغلقت
وراءها زماناً كاملاً من الأوراق. صادف بعدها
الكثيرين. مرّ بشوارع لا تنتهي، والعيون
تحدِّثه عن كاتب عظيم فقد هويَّته. أصبح يلاحق
ظلّه كلما غادرت الشمس مساحة جسده. ارتفع
الضجيج حوله مخترعاً مئات القصص عن طهره
وقداسته. ارتفع الضجيج بصوت أكثر حتى ضاعت
ملامحه هو، وبقي ضجيج الآخرين يدورون في ألف
قصة، متناسين عشرين سنة من جنون صامت ألفوه في
صمته... وقدَّروه حق التقدير.
|
|
|