|
العنف
واللاعنف
في
الطبيعة والإنسان
ندره
اليازجي
إن
دراستنا لنزعة العنف وانفعال الأنا تجعلنا
نتَّجه إلى الإنسان، إلى دراسة ماضيه وحاضره
ومستقبله. ففي ماضيه نجد آثار العنف، وفي
حاضره نجد هذه الآثار أيضاً. وأما مستقبله
فإنه يشير إلى العنف القائم في الماضي عبر
الحاضر. هكذا، نرى أن دراسة العنف في النطاق
الإنساني تطرح الأسئلة التالية: 1.
هل العنف فطري في الإنسان أم هو مكتسب في
الحياة الاجتماعية والنفسية؟ 2. ما الأسباب
الاجتماعية أو النفسية أو الفطرية لعنف
الإنسان؟ 3. هل بإمكان
الإنسان أن يتغلب على هذا العنف في أنواعه
الثلاثة؟ 4. ما
المبادئ التي لابد من توافرها في الإنسان حتى
ينتصر على نزعة العنف وانفعال الأنا؟ 5. كيف نفسر نزعة
العنف في الإنسان، أو انفعاله باتجاه العنف،
وهو الكائن الذي يدَّعي أنه يتميز بالعقل
والوعي؟ ترينا دراسة
التاريخ الإنساني امتلاء الأزمنة البشرية
بالعنف الذي بدأ على نحو صراع فردي وانتهى على
نحو صراع اجتماعي،
بين فرد ونفسه، بين أفراد وأفراد، وبين بعضهم
بعض كفئات أو طوائف أو طبقات، بين حكومات ودول.
وترينا هذه الدراسة أن التاريخ لم يكن إلا
الأحقاب التي نتجت عن توسُّع ملك أو حاكم
متسلِّط أو إطاحة بهما، أو ثورة مجموعة من
الأفراد، أو صدور قانون ظالم، أو بناء معبد أو
قصر على حساب شقاء الآخرين وعوزهم، أو تسخير
الكثرة العديدة في مشروع، أو سيادة الإنسان
على الإنسان في صيغة السيطرة والتحكم والقسوة
والاستعباد والاستغلال. يمكننا أن نستنتج
ما يلي: 1. يشير التاريخ
العلني للإنسان إلى أعمال العنف، والظلم،
والملكية غير العادلة، وسيطرة طبقة على طبقة
أو فئة على فئة، واعتداء معتقد على معتقد.
ويشير أيضاً إلى ظهور ثورات عديدة عمَّت
البشرية وانتشرت في أرجاء المعمورة،
واستعمار دول لدول أخرى تجني مكاسبها منها،
والقتل الفردي والاعتداء الشخصي، كأن يعتدي
القوي، بالمفهوم المادي، على الضعيف. 2. يشير هذا
التاريخ العلني إلى امتلائه بمفاهيم السلب
المسيطرة على الإنسان، كالكراهية والبغض،
والتناحر، والسعي إلى تحقيق القيم
التجمُّعية السائدة، كالسيطرة، والجاه
والغطرسة، وحب الظهور، وإشباع الرغبات
والشهوات التي كانت، وماتزال، دلائل
عنف وشر. يمكنني أن أقول:
إن الرسم الذي أبيِّنه ليس صورة مشوهة أو
مبالغاً بها. فالحقيقة يجب أن تُقال؛ وليست هي
دليل شؤم أو تشاؤم. وعلى غير ذلك، أعتبرها
حصيلة خبرة إنسانية مؤلمة تعاني من واقعها،
ونتاج محبة تعمقت في القلب والعقل. فقد
أُطفِئت شعلة الحقيقة والروح في كل الأحقاب
والأزمنة تقريباً: الفلاسفة عُذِّبوا،
والحكماء
أُهينوا وتحملوا
المصائب والويلات، والعلماء رُذِلوا أو
اضطُّهدوا، والأبرياء
نُبِذوا،
والمصلحون
سُجِنوا
واضطُّهدوا. وقد تم ذلك كله باسم الحق
والعدالة والفضيلة والعقائدية والقومية
أحياناً، أو باسم الطغيان
والهيمنة أحياناً أخرى. وأما الحق، في مجال من
هذا النوع، فإنه لم يكن أكثر من الظلم المختبئ
برداء الباطل. وهكذا، كانت ومضات الإصلاح
والازدهار تنير لفترة قصيرة لتخبو وتنطفئ؛
كانت، كما يذكر هيغل، هدنة بين حربين. ولم تكن
هذه المظاهر غير صورة واضحة للعنف. فقد بدأ
العنف، وتجلَّى في مظهره القاتم عندما كان
الإنسان، الحاكم أو غيره، يطفئ شعلة بدأت
تنير طريق الإنسانية لتُؤسِّس قاعدة لعالم
المحبة، والسلام، والعدل، والمساواة،
والمعرفة والفضيلة.
في هذا المنظور،
نشاهد واقعتين للتاريخ: إحداهما صادقة
تشير إلى
الإيجاب، وأخرى باطلة تشير إلى السلب؛ الأولى
تعمل لإرساء قاعدة
الحقيقة
بأنواعها العديدة، والأخرى تعمل لتهديمها؛
الأولى تلحُّ على بناء صرح المحبة والوعي
والفضيلة، والأخرى تشيد للذاتية والأنانية
صرحاً شامخاً؛ الأولى تنير بأشعة متألقة
جميلة، والأخرى تحيل هذا الشعاع ظلاماً. في
التاريخ نجد تيارين يسيران جنباً إلى جنب:
تيار الإيجاب وتيار السلب، تيار النور وتيار
الظلام. أولهما يشير إلى فعل العقل الفوقي
والوعي، وإلى تأسيس مملكة النور، وثانيهما
يشير إلى فعل المادة المنفعلة برغباتها وإلى
توطيد مملكة الظلام. إذ نواجه هذه
الحقيقة أو الواقع، نسأل: هل عبَّر التياران
عن مبدأ واحد أو عن مبدأين؟ وهل أنهما يصدران
من جوهر الوجود ومن انبثاق الكون من ثنائية
متناقضة؟ وهل أن الصراع القائم بينهما ملازم
لطبيعة الحياة وضرورتها؟ تؤكد دراستنا
لفلاسفة الأخلاق والحكمة والمعرفة وجود
الخير، ووجود الخير المسلوب الذي ندعوه الشر.
ويشير بعضهم إلى شر الطبيعة كما يشير بعضهم
الآخر إلى خيرها. ويعتقد العلماء الذين درسوا
الإنسان واختصوا بعلم الباليونتولوجيا أن
الإنسان مازال يميل إلى الحرب والاعتداء لأن
الفترة الزمنية التي تفصله عن مملكة الحيوان
ليست كافية لإزالة آثار الحيوانية كلها من
متعضِّيته. ويشدد بعض علماء النفس على أن
لاوعي الإنسان ما زال يحمل من اللاوعي الجمعي
الذي خلَّفته له عصور الخوف والظلام الأولى،
والرعب في الكهوف، ومكافحة الحيوان والهروب
من عنف الطبيعة الأثر الكبير، الأمر الذي لم
يساعده على التخلص منه حتى يومنا هذا. ومالا
شك فيه أن هذه النظريات لا تُنكِر أن الإنسان
ميّال إلى الخير المسلوب، المدعو بالشر، لأن
بذرته وُجِدت فيه منذ القديم، ولأنه ما زال
يعاني من نقص في تركيبه الداخلي والخارجي،
الواعي واللاواعي، الذي يتمثل في صراع أو
تناقض لا يقبل التوفيق أو التكامل. نستطيع، بعد أن
عرضنا هذا الوضع المؤلم للواقع الإنساني، أن
نطرح التساؤلات التالية: متى يتجاوز الإنسان
لاوعيه الماضي المتراكم والمكبوت، ويتخلص من
رواسبه وإرهاصاته؟ هل أن الأحوال والظروف
الاجتماعية وتربية الجنس البشري تساعده على
الانعتاق أو على البقاء في ظلام الماضي؟ يجعلنا سؤال من
هذا النوع نفهم أن القضية لم تُطرَح على نحو
كافٍ وضروري لإزالة ما علق من لاوعي الإنسان
من ماضٍ مظلم أو قاتم، أو للسير به إلى عالم
الحقيقة والوعي. وإذا كان حقاً أن الوعي قد
وُجِد في الإنسان منذ البدء، فكيف يكون
صحيحاً أنه لم يتخلص من آثار حيوانيَّته أو من
لاوعيه القديم؟ وكيف نقرُّ ونعترف بوجود
الوعي وننكر فعله وقوته؟ من أين أتت آثار
اللاوعي وآثار الحيوانية، والإنسان قد تخلص
من الماضي ودخل طوره الجديد، طور العقل
والوعي؟ وإذا لم يكن الإنسان قد تخلص من آثار
ماضيه، فهذا يعني أنه مازال موجوداً في طور
الحيوانية واللاوعي، ولم يَصِر إنساناً حتى
الآن. هذا مع العلم أن الإنسان يدّعي أنه
يمتاز عن سائر الكائنات بالعقل والوعي
والروح؟ وإن كانت حقيقة اللاوعي[1]
وآثار الحيوانية قائمة فيه، فكيف استطاع
نبلاء الفكر القدامى وحكماؤه وعلماؤه وذوو
المعرفة أن ينتصروا على لاوعيهم وينعتقوا من
آثار حيوانيتهم؟ ألم يكونوا إلى آثار الماضي
أقرب زمنياً من أناس هذا العصر؟ ألم يكن أحدهم
يحيا ويعيش في المكان والزمان قبل الميلاد
بآلاف أو بمئات السنين؟ ألم يستطع أحدهم أن
يبشر بمبادئ الوعي، والمحبة، والتآخي
والسلام، ويرفض كل ما يتعلق بآثاره اللاواعية
المزعومة بسبب
أو بعلَّة، وينتصر عليها؟ وكيف استطاع أولئك
الحكماء تحقيق إنسانيتهم تلك؟ لم يكونوا
افتجاءً حدث في مجرى التطور أو طفرة غير
متوقعة، ولم يحدث لهم هذا التبدل السريع لو لم
يكونوا أناساً إنسانيين في كيانهم، وجوهرهم
وطبيعتهم الفطرية. وإن كانوا تبدلاً أو
تحولاً في وجهة سير التطور، فإنه كان لزاماً
على الجنس البشري أن يتبدل أو يتحول عن مسيرته
الحيوانية أو اللاواعية. تشير الحقيقة إلى
أن هذه القضية لم تُطرَح في أبعادها الصحيحة.
لذا، لا نستطيع أن نقيم علاقة بين العنف في
الحقل الحيواني وبين النزعة الانفعالية في
الحقل الإنساني. وإضافة إلى ذلك، لا نستطيع أن
نُنكِر وجود الخير، وقابلية هذا الخير
للانعدام في الوجود الإنساني. وفي الوقت
ذاته، نُنكِر أن يكون الشر قائماً في صلب
الوجود، أو في ظاهرة عيانية ومشخصة في هذا
العالم بالذات. ولما كان حديثنا عن الشر
مقتصراً على حدوده الظاهرية، فإننا نعبر عن
تفكيرنا قائلين:
إن الشر نقص في
الوعي أو الخير، أو هو سلب للإيجاب، هو جهل
ناجم عن انعدام الوعي والحكمة. هكذا، يكون
الشر موجوداً في حال عدم اكتمال الوعي أو عدم
تحقيقه. ولهذا نقول إن حكماء الماضي والحاضر
انتصروا على الشر لأن وعيهم ممتلئ ومحقَّق. تقودنا هذه
المقدمة البسيطة والوجيزة إلى دراسة العنف في
مستوياته أو أبعاده الثلاثة: المستوى
الطبيعي، المستوى الإنساني، والمستوى
الاجتماعي والدولي. أولاً: العنف
على مستوى الطبيعة المادية عندما نبحث موضوع
العنف في الطبيعة المادية، تجابهنا الحقيقة
التالية: كيف يوجد عنف في
الطبيعة المادية وهي منظمة تنظيماً رائعاً،
تسودها القوانين السرمدية والأبدية
والكونية؟ نجيب عن هذا
التساؤل الذي يشير إلى الحقيقة بذاتها كما
يلي: الطبيعة المادية طبيعتان: إحداهما مادية
ترتبط بالكثافة التي هي، في جوهرها، طاقة،
وثانيتهما، مادية ترتبط بعالم الحيوان
والطير. في العالم المادي
الكثيف تتحقق القوانين لما فيه خير الوجود
الأرضي ذاته. وتدل هذه القوانين على أن الحكمة
الكونية لم تترك موضوع المادة الكثيفة تسير
وفق تلقائية ذاتية فحسب بل وجَّهتها، ذلك لأن
الفوضى، لولا هذا التوجيه، تعمُّ الوجود في
النهاية. فالعنف غير موجود في الطبيعة
المادية إلا في صيغة السلب. وعندما يخرج هذا
العالم عن قانون نظامه، ينقلب إلى في العالم المادي
الكثيف، تتحقق القوانين لما فيه خير الوجود
الأرضي ذاته. وتدل هذه القوانين على أن الحكمة
الكونية لم تترك موضوع المادة الكثيفة تسير
وفق تلقائية ذاتية بل وجَّهتها، ذلك لأن
الفوضى، لولا هذا التوجيه، تعمّ الوجود في
النهاية. فالعنف غير موجود في الطبيعة
المادية إلا في صيغة السلب. وعندما يخرج هذا
العالم عن قانون نظامه، ينقلب إلى فوضى، أي
إلى عنف. ومع ذلك، نجد العنف في الطبيعة
المادية:
في البراكين
والزلازل والأعاصير والعواصف، وفي غيرها من
الظاهرات. وكما يبدو أن هذا العنف يساير
المادة التي لا تستطيع أن تتحدد، أو تتقيد، أو
تتعيًّن بقوانينها، فتتمرد عليها بفعل
مقاومة سلبية تتمثل في حالة الإفلات – قوة
النبذ –
من عالم النظام والوعي والمحبة –
قوة الجذب –
والعصيان عليه. وهذا ما سنراه أيضاً في عالمي
الإنسان والحيوان. ومع ذلك، تشير الدراسة
العلمية إلى أن الطبيعة المادية تسير إلى
الهدوء والنظام سيراً حثيثاً وبطيئاً. ولا شك
أن الكتلة النارية والغازية الأولى تبترد
أكثر فأكثر، مما يشير إلى زيادة في الهدوء
والسكينة، وإلى نقص في التمرٌّد والسلب
والعنف. ومن جانبنا، نعتقد أن الطبيعة
المادية تسير إلى شيخوختها، ونقصد أنها تحقق
سلامها وسكينتها. ولن تعاني من آثار غليانها
الداخلي وإعلان السلب و"التحرر" التي
نسميها "مقاومة" المادة لحقيقتها، لفكرة
النظام فيها. وفي هذا المجال نقول:
إن تمرُّد المادة
الكثيفة، الذي يظهر على نحو مقاومة سلبية،
يعود إلى ظهور العناصر الثائرة التي تتصف
بالحرارة والغليان والتكاثف في الوجود، وذلك
بفعل تمرُّد لوسيفر على الحقيقة السامية.
لوسيفر، النور الساقط إلى كثافة، هو المقاومة
السالبة القائمة في المادة التي تعيق تقدم
الطاقة الواعية. وقد تشكلت هذه المقاومة
السالبة عندما تجمَّعت الطاقة الكونية
وانغلقت وانطوت في كتلة. ولقد أدَّى تمرُّد
لوسيفر إلى تفاعل هذه العناصر التي كانت في
جوهر الحقيقة السامية ذاتها، وانطوت في عالم
المادة الكثيفة وأدَّت إلى تكوينه. ولهذا،
يمكننا أن نتغاضى عن موضوع العنف في الطبيعة
المادية لأسباب ثلاثة: أ. إن العنف
الطبيعي يتضاءل أثناء التطور في عملية ابتراد
وتقلص. ب. لأن العنف
الذي نبغي دراسته هو العنف في العالم
الإنساني بالدرجة الأولى، وفي العالم
الحيواني بالدرجة الثانية. ج. لأن العالم
المادي يتجرد من الوعي الذاتي كما نفهمه، أو
كما ندعي. ثانياً : العنف في
الطبيعة الحيوانية تفرض مسألة العنف
في الطبيعة الحيوانية ذاتها كما يلي: وجود
حيوانات مفترسة شرسة تغتذي على حساب حيوانات
أخرى أقل افتراساً وشراسة منها، وأقل قوة من
الوجهة المادية؛ وجود طيور جارحة تعيش وتقتات
على حساب طيور هانئة، وديعة ومسالمة. هكذا،
نجد في الطبيعة الحيوانية حيوانات وطيوراً
شريرة وعنيفة، وحيوانات وطيوراً أقل شراً
وعنفاً: الأولى منها قاسية وعنيفة، والثانية
منها مسالمة ومتعاطفة. تتصف الطيور
الجارحة بأصوات بشعة لا يستحسنها الإنسان،
أولا يرتاح لها. وتتميز الحيوانات المفترسة،
آكلة اللحوم، بأصوات مُقلِقة تُدِب الذعر في
الإنسان والحيوان معاً. ومن جهة ثانية، تمتاز
الطيور الأليفة بأصوات جميلة، أنغامها حلوة،
تنسجم مع محبة الجمال عند الإنسان، ويرتاح
لها الإنسان لتناسق أنغامها وألحانها التي
تعبر عن عواطف ومشاعر يشارك فيها الإنسان
ذاته. وقد دلت التجارب العلمية على أن الطيور
تعبر عن أفراحها وأتراحها، وعن أشواقها
وعواطفها، بألحان وأنغام عديدة تختلف من طير
إلى طير. والحق أن الإنسان يطرب لها، ويسعد
ويرتاح. أما الحيوانات الأليفة فإنها، وإن لم
تكن تمتاز بأصوات جميلة، تمتاز بأصوات عطوفة
تعبر عن الحنو والشوق والعطف. وعلى غير ذلك،
تتجرد الحيوانات المفترسة والطيور الجارحة
من أنواع الشفقة والعطف كلها، ولا تتميز بأي
نوع منها. وتعبر أصواتها عن الغضب الانفعالي
والقسوة التي تثير الاشمئزاز. يشير
ما تقدم إلى أننا نحاول دراسة الموضوع من
وجهتيه: الواقعية والفكرية. فإذا كنا قد صنفنا
الحيوانات والطيور إلى فئتين: عنيفة شريرة،
وغير عنيفة صالحة، فهل هذا يعني أن الطيور
والحيوانات الأليفة تتجرد من العنف أولا تتصف
به، وأن الحيوانات المفترسة والطيور الجارحة
تختص بالعنف؟ يمكننا أن نقول:
إن الحيوانات والطيور العنيفة طيور وحيوانات
شريرة، تتصف بالعنف، وتختص به ولا تخرج عن
دائرته. وإنْ هي خرجت، فنسبة خروجها ضئيلة لا
تتعدى حدود العنف. أما الطيور والحيوانات
الأليفة فإن عنفها يتدرج. فعند بعضها، توجد
نزعة العنف، لكنها نزعة عنف تقل كثيراً عن
نزعة العنف التي
تتصف بها الحيوانات المفترسة والطيور
الجارحة، آكلة اللحوم. لذا، لا يكون العنف
خاصاً بطبيعتها أو ملازماً لها، ويظهر العنف
المقلَّص فيها لأنها لا تدرك ما تفعل، ولا
تعرف كيف تحل مشاكلها. فالعنف فيها ضئيل لطيف
يمكن السيطرة عليه بصورة عامة. فهي لا تعتمد
العنف كالحيوانات المفترسة والطيور الجارحة
الأخرى، الأمر الذي لا يسمح لعنفها أن يكون
متأصلاً في طبيعتها. لذا، لم يسجل تاريخ دراسة
الحيوانات والطيور الأليفة أن ثوراً قد افترس
ثوراً آخر أو غيره من أنواع الحيوان، أو أن
حمامة قد افترست حمامة أخرى أو غيرها من أنواع
الطيور، أو أن حملاً قد افترس حملاً آخر أو
غيره من أنواع الحيوانات. وعلى الرغم من أن
نوعاً من الانفعال أو التناحر والنزاع ينشأ
فيما بينها، لكنه لا يعبر عن نزعة عنف أصيلة،
وذلك لأن العنف هو كل ما هو أصيل أو متأصل في
الكائن، في طريقة معيشته وتصرفه وسلوكه. إن
كيفية عيش الحيوان المفترس أو الطير الجارح
والطريقة التي يتصرف بها تشيران إلى غريزة
العنف المتأصلة فيه. ولذا، لا نستطيع أن نسمي
عملية اقتناص الطير الجميل لدودة الأرض
عنفاً، لأن الطير لم يكتمل من ناحية الوجود.
وعنفه، إن سُمِّي عنفاً، يقل بكثير عن عنف
النسر الذي لا يستطيع أن يعيش بدونه أو يتخلص
منه أو يتجاوزه. على هذا الأساس، يستطيع
البلبل أن يستغني عن الدودة، لكن النسر لا
يستغني عن الافتراس. يواجهنا السؤال
التالي: لماذا تشكل الوجود على هذا النحو؟
وكيف تتصرف الحيوانات والطيور الأليفة لكي
تتفادى شر الحيوانات والطيور المفترسة
وعنفها؟ تتضمن الإجابة عن
السؤال الأول في مفهوم ميتافيزيائي. وتشير
الإجابة إلى وجود إرادة سلبية
شريرة بمظهرها
في الكون،
مردُّها إلى سقوط لوسيفر ذاته. لقد تدخل
لوسيفر في عملية خلق العالم المادي الذي هو
طيف لعالم المُثُل، وأقصد أنه أدخل عناصر
الخير المسلوب واللاوعي، شديدة النفور،
كالحيوانات المفترسة والطيور الجارحة وغيرها.
ودليلنا إلى هذا ما نجده من سلب،وعنف ولاوعي،
أي شر، في طبيعة هذه الحيوانات والطيور. ولما
كانت هذه الحيوانات والطيور تقتات من
الحيوانات والطيور الجيدة، فإنما برهاننا
يقوم على استحالة قيام الشر بذاته. ولما كان
كل ما في الكون يهدف لغاية ويعمل لنفع قريب أو
بعيد، فإننا نجد أن هذه الحيوانات والطيور
تتجرد من الغاية والنفع. لقد استفاد الإنسان
من الحيوانات الأليفة العديدة، كالفيل
والثور وغيرهما، لكنه لم يستفد، ولن يستفيد،
من الأسد والفهد والنمر. واستفاد الإنسان من
الطيور العديدة، كالبلبل والحمام وغيرهما،
ولكنه لم يستفد من النسر والغراب. وهكذا، نرى
أن تجرُّد هذه الحيوانات والطيور من أقل نسبة
من الخير دليل على سلبها، أي شرها الكامل.
ولما كانت الطبيعة تخلو من الشر الكامل
لأن الشر الكامل
يعني بطلان الخير ونفيه وعدم وجوده، فإننا
نرى أن هذه الحيوانات والطيور لم تصدر عن خلق
نبيل صالح. إنها تشير إلى الوجود الكثيف
اللاواعي، الذي هوالدرجة القصوى للسلب والشر.
لذا، كان العنف متناسباً مع الشر. فكلما زاد
الشر زاد العنف معه. وكلما تناقص السلب، أي
الخير المسلوب الذي ندعوه شراً، تناقص العنف.
ونتيجة لذلك، نرى أن عنف الحيوانات الأليفة،
أو غير المفترسة، والطيور الأليفة، أو غير
الجارحة، يتضاءل لسبب هو أن سلبها الفطري، أو
شرَّها، ضئيل. فالعنف غير موجود في طبيعتها
لأن شرها، أي كثافتها أو سلبها، لا يصل إلى
أقصاه. ولهذا السبب، نرى كيف أن الحيوانات
والطيور الأليفة تتجنب تلك المفترسة
والجارحة
وتلتجئ إلى
الإنسان طالبة الحماية والعون – الإنسان الذي
يحتاج إلى حماية وعون مماثلين في كثير من
الأحيان... الإنسان الذي يعتدي عليها بعنفه! تتضمن الإجابة عن
السؤال الثاني في مفهوم افتراضي يتلخص في
سببين: أولهما هو أن عدد الحيوانات والطيور
الشريرة يقل يوماً بعد يوم، فيقل شرها في
نهاية المطاف. وثانيهما، هو أن الحيوانات
الأليفة والطيور لا تفكر، ولا تعرف كيف تجد
حلاً لموضوعها. ولهذا السبب، نفترض إجابة لا
نعرف كيف نعالجها. وها نحن نبدأ بمعالجة
الافتراض الثاني. لو كانت
الحيوانات والطيور الأليفة تتميز بالوعي
والعقل، كما نفهمهما، لتجنبت الحيوانات
المفترسة والطيور الجارحة، ولانتقلت إلى
أماكن أخرى تخلو من عنف تلك الحيوانات
والطيور، ولأوقعتها في مآزق عديدة بحيث إنها
تجد نهايتها وحتفها في تعاضد الحيوانات
والطيور الأليفة بعضها مع بعض، أو في رحيلها
وهجرتها عن أماكنها. لكن المسألة، كما
طرحناها، ترتبط بانعدام التفكير والوعي
الكافي لدى تلك الحيوانات والطيور الجيدة
أولاً، وعدم قدرتها على مغادرة بيئتها
الطبيعية إلى بيئات أخرى، ثانياً. ومع ذلك،
تتفادى هذه الحيوانات والطيور الصالحة
الحيوانات والطيور الشريرة. وهذا يعني أن
عالم اللاعنف يسعى إلى التخلص من عالم العنف.
ولكن اللاعنف لا يتحقق في عالم إنساني أو
حيواني يتضاءل فيه العقل والوعي ومثالية
الحياة. ينتهي الافتراض
الأول إلى نتيجة جيدة. نحن نعلم أن الحضارة أو
المدنية أخذت تمتد إلى أصقاع تقطنها
الحيوانات العنيفة. ويشير هذا الامتداد إلى
انقراض عاجل أو آجل.
ولولا رغبة
الإنسان في الاحتفاظ بها، لانقرضت وانتهت.
ونحن نعلم أيضاً أن الحيوانات والطيور
الصالحة تجد ملاذها وملجأها عند الإنسان.
ولهذا، تتقبل العيش معه، ويستفيد الإنسان
منها –
ولو تحول الإنسان، في بعض الأحيان، إلى جزار
يقتلها ويذبحها؛ وإن تسخيره لها وتعذيبه لها
يساويان، أحياناً، ما تقاسيه من الحيوانات
والطيور الشريرة – ويتعاطف معها
وتسود الصداقة بينهما. ولقد برهنت الأحداث أن
الإنسان لم يتخذ لنفسه قطيعاً من الثعالب، أو
الذئاب، أوالضباع، أوالنمور، أوالأسود. وعلى
غير ذلك، يسعى الإنسان إلى زيادة الثروة
الحيوانية، وتربية قطعان الماشية والطيور. في الطبيعة، كما
نرى، تعارُض بين العنف اللاعنف. لكن اللاعنف،
في الطبيعة والحيوان، لا ينتصر انتصاراً
تاماً لأنه يكاد يخلو من العقل كقاعدة أصيلة،
ومن الفكر كطريقة للتخلص من العنف الذي هو
خروج عن القانون الكوني. ومع هذا كله، نرى
آثار اللاعنف التي تبدو كجهود فعل في سبيل
التخلص من العنف، تماماً كما نرى آثار محاولة
تخلُّص الخير من الشر. وتبدو هذه المحاولة في
صور عديدة: 1.
محاولة تجنّب العنف
وتظهر في هروب
الحيوانات والطيور الصالحة من الحيوانات
والطيور الشريرة. 2. محاولة التجاء
هذه الحيوانات الصالحة إلى الإنسان لكي تدرأ
عنها خطر العيش
تحت رحمة
الحيوانات والطيور الشريرة. 3. تقدُّم الحضارة أو المدنية وامتدادها أو انتشارها في مناطق تُعَدُّ بيئات طبيعية ونموذجية للحيوانات الشريرة، دليل على اندحار العنف تدريجياً في عملية القضاء على تلك الحيوانات. 4.
اتخاذ
الإنسان من الحيوانات والطيور الأليفة
قطعاناً، ومحاولة القضاء على
الحيوانات
الشريرة وإفنائها، دليل على أن الطبيعة، في
سيرها الطويل، تهدف إلى تحقيق اللاعنف
والقضاء على العنف. 5. تضاؤل نسبة
الأخطار الطبيعية الناجمة عن الطبيعة
المادية دليل على مسيرة كوكب
الأرض نحو
الهدوء، وبرهان على أن تمرُّد المادة، على
نحو مقاومة سلبية، يتراجع تدريجياً. ولا ننسى
أن عملية الهدوء هذه، في الطبيعتين المادية
والحيوانية، تتطلب زمناً طويلاً لأن ديمومة
المادة غير العاقلة تختلف كلياً عن المادة
الخاضعة لعقل الإنسان. إن عمر المادة
الطبيعية يقاس بملايين السنين. أما مادة
الإنسان فتقاس بسنوات معدودات. لذا، يكون
التطور بطيئاً في المادة الطبيعية وسريعاً في
المادة الإنسانية. وهذا يعني أن الوعي
المدرِك في المادة الطبيعية يحتاج،
بالضرورة، إلى
أحقاب زمنية
طويلة ليبلغ مرحلة التحقيق. إن بحثنا للطبيعة
المادية، في نطاقها المادي الصرف والحيواني،
يشير إلى إمكانية غلبة اللاعنف على العنف،
والخير على سلبه، في عملية تطور طويلة،
ليتحرر الوعي الكامن في المادة تدريجياً. ومع
هذا، رأينا أن المادة ذاتها، بفعل قانون
تطورها الواعي، تهدف إلى تحقيق الهدوء، أي
تحقيق اللاعنف، وأن المادة الحيوانية،
بجزئها اللاعنفي، يهدف إلى الابتعاد عن عالم
العنف، وتجنبه بوسائل عديدة تشير إلى رد فعل
داخلي للخير والوعي في عالمي الطبيعة
والحيوان. وهكذا، نرى أن التحقيق البطيء
لتطور العقل والوعي يُخضع العالم المادي
للعنف والسلب. أما المسألة فإنها تختلف لدى
الإنسان. ثالثاً: العنف
واللاعنف في الطبيعة الإنسانية يشير وجود
الإنسان إلى حقيقتين: 1. الحقيقة التي
تشير إلى تجاوز مملكتي الحيوان والطبيعة إلى
عقل فوقي يعي ويُدرِك. 2. الحقيقة التي
تشير إلى أنه كائن يجمع العالم المادي
والعالم الروحي معاً. نستنتج ما يلي:
إذا كان الإنسان قد تطور من شجرة الحياة ومثل
الغصن الأخير والقائد فيها، فإنما يعني أنه
قد تخلص من انغلاقه المادي بمجرد دخوله عتبة
الفكر والوعي الذاتي، أي مملكة الإنسان، في
عملية تركيز دماغي كبير، وتركيز طاقي كبير،
يشير بدوره إلى وعي متزايد ومتنامٍ. وإذا كان
الإنسان يجمع العالمين
المادي والروحي
فلأنه كائن يشير
إلى تكامل بين هذين العالمين، أو إلى تعارض
ظاهري ينتهي بتلاقي هذين العالمين في وحدة
تعبِّر عن الوجود في حالته الأولى الأصلية،
حالة اللاتمايز. هكذا، يشير وجود
الإنسان إلى كونه يجمع في جسده المادة
بكاملها، بممالكها الطبيعية والنباتية
والحيوانية، وإلى كونه يجمع في عقله وفكره
كامل الطاقة الروحية في الصورة والقوة
والإمكان. ولما كان العالمان يجتمعان في هذا
الإنسان، في الجسد وفي القدرة العاقلة
والمفكرة، فإن التعارض بينهما ينشأ في داخله.
ويتأرجح الإنسان في وسط هذا التعارض الذي
يبدو تناقضاً في ظاهره، ويقرر الدرجة أو
المستوى الذي يبلغه في سلَّم التطور الذي
يتَّجه صعوداً إلى عالم الحقيقة. وإن تحقيق
عالم المادة وحده على حساب عالم الروح يعود به
القهقرى إلى عالم العنف والسلب، وتحقيق عالمي
المادة والروح وتوازنهما في عالم الجسد يسمو
به إلى عالم اللاعنف والمحبة والخير، ويتجاوز
كل ما يمكن أن يقلِّل من شأن إنسانيته
المتسامية. تشير مادة
الإنسان إلى حتمية ظاهرية. فهو يخضع بجسده،
أوبكثافته، إلى قانون صارم، تماماً كما تخضع
الطبيعة المادية لقانونها المهيمن الذي
ينظمها. وتشير روحانية الإنسان إلى حرية ووعي.
فهولا يخضع بروحه، أو طاقته، لأي حتمية أو
قدرية تقع خارج كيانه، ذلك لأن الروح، التي هي
القانون ذاته، تتحرر وتنعتق من قيودها
المادية، ومن كثافة وجودها. ولهذا نقول: إن
الروح تنشد الحرية والانعتاق من غلافها أو
غلافاتها بفعل إرادة إيجابية أو مقاومة صاعدة
تسمو وتتعالى، وإن الجسد ينشد العطالة بفعل
مقاومة سالبة تبقيه في غلافه أو غلافاته.
وبالمثل، يمتد الإنسان في تيارين متباينين في
الظاهر، فيتناقض، على نحو صراع داخلي، إن هو
خضع لمقاومته السالبة، ويتحرر، إن هو حقق
مقاومته الإيجابية. هكذا، يكون الخضوع للسلب
حتمية وشراً، والانعتاق منه حرية وخيراً. إذ نُدرِك
الإنسان في هذا المنظور، نعلم أنه يسعى إلى
التخلص من قانونه الصارم، تماماً كما تسعى
الكواكب إلى الإفلات من زمام الجاذبية بفعل
المقاومة التي يبديها السلب المتمثل بالنبذ.
ولكنه لا يحقق تخلصه هذا وفق قواعد الوعي
والعقل الفوقي بل بفعل التمرُّد والانفعال
والمقاومة السالبة النابذة.
وبالتالي، ينغمس الإنسان أكثر فأكثر في
مادِّيته، ويكون هذا التمرُّد سبباً رئيسياً
لضياعه. والحق هو أن تمرُّد الإنسان من خلال
الانفعال يزيد في إحساسه بالمأساة ويعبر
تعبيراً أكيداً وصريحاً عن العنف الذي يعاني
منه. أما انعتاقه أو خلاصه، الذي يحققه عن
طريق الوعي بحقيقة كيانه، فيزيد من سعادته
وغبطته، ويعبر تعبيراً أكيداً أو صريحاً عن
حالة اللاعنف والمحبة التي ترفعه إلى المثال
الأعلى لوجوده، محققاً إنسانية أعظم ووجوداً
أسمى. وهكذا، نرى كيف أن الإنسان يعاني من
تعارض قطبيه المتمثلين في مقاومة سالبة تشده
إلى الأدنى، إلى عالم الضياع والظلمة،
ومقاومة إيجابية تشده إلى الأعلى، إلى الوعي
الكوني والحقيقة السامية. والإنسان يتأرجح
بين هاتين المقاومتين، وهو الذي يقرر مصيره. يعد اللاوعي
ظاهرة العنف الأولى، ويعد الوعي ظاهرة
اللاعنف الأولى. فالوعي هو الفرق الأساسي بين
العنف واللاعنف، بين الانفعال المادي
والعقلانية الإنسانية المدركة، بين المادية
المغرقة في كثافتها وبين المادية الصاعدة
والمنفتحة إلى الروح. وزيادة الوعي تعني
زيادة الأنسنة، ورقياً وسمواً في عالم الفكر.
أما زيادة اللاوعي، وهي الجهل، والانقياد
الأعمى لتلقائية المادة وعفوية رغباتها،
فتعني زيادة العنف والصراع والألم السلبي
والشر. هذا لأن العنف ينتج عن الشر الذي يشير
بدوره إلى انعدام الخير والوعي. ولما كان
الإنسان يتميز بالوعي والعقلانية المتسامية،
فمن الطبيعي والضروري أن يحقق اللاعنف
والمحبة. يبدو لنا أن
العنف القائم في الطبيعة، بنوعيها المادي
والحيواني، ناجم عن فقدان الوعي المُدرِك
لذاته بعقلانية. وبالمقارنة ذاتها، يبدو لنا
أن العنف القائم في الطبيعة الإنسانية ينجم
أيضاً من عدم تنشيط الوعي والعقل وعدم
تحقيقهما. وهكذا، يبدو أن العنف يفعل في
الإنسان إن كان يتقاعس عن السموِّ في نطاق
الوعي والمعرفة، وينحرف إلى تلقائية الرغبة
والشهوة. الفهد لا يعي ما يفعل لأنه لا يعقل ما
يفعل، ولا يلقي أضواء روحه على سلوكه. ولا
نستطيع أن نعلِّمه أن ما يفعله هو شر وعنف
وذلك لأن محدوديَّة وعيه تعجز عن فهم حكمة
الوجود. أما الإنسان فإنه يتعلَّم ليدرك
ويفهم، ويتميز بالحكمة؛ وليس تعلُّمُه غير
دليل على ملكة الوعي المتأصلة فيه. فالإنسان
يعي لأنه يفكر؛ وليس عنفه، أي شره، إلاّ
برهاناً عن تخليه عن الوعي والحكمة. وفي هذا
المنظور نسأل: كيف يظهر عنف الإنسان وشرُّه في
الحياة الفردية والاجتماعية؟ كيف يتهم
الإنسان الحيوان والطبيعة بالعنف الناتج عن
فقدان الوعي، ويتصرف بعنف أشدّ وهو يدعي بأنه
كائن واعٍ؟ يظهر عنف
الإنسان، أول ما يظهر، عندما يتخلى عن الحكمة
والمعرفة. وبهذا، يتجرد الإنسان من القيم
السامية والغايات التي نُحِتت فيه منذ أن
وُجِد على هذه البسيطة. وليس تجرد الإنسان من
قيمه وغاياته النبيلة إلا برهاناً على
انغماسه في جسديَّة مادته التي تعبِّر عن
الشهوات. وهكذا، تكون الرغبات والشهوات،
وهي انحراف
دوافعه التي تتساوق مع العقل، دليلاً قاطعاً
على عنف الإنسان. تتعدد الشهوات
وتتنوع، وتختلف بدرجاتها وشدَّتها. والحق هو
أن شهوة الجنس، وشهوة الطعام، وشهوة السلطة،
وشهوة المال، وشهوة الجاه والمجد، وشهوة
الطمع، وشهوة الملكية، وشهوة القوة، إلخ...،
تحتضن العنف لأنها متأصلة فيه. ولذا، يجدر بنا
أن ندرسها بدقة ووعي لنعرف علاقتها بالعنف. أ.
شهوة الجنس: الجنس
طاقة حيوية، روحية ومادية، تفعل في الإنسان
لتحقيق غاية نبيلة، رفيعة وسامية، تماماً كما
تفعل طاقات الحياة أجمعها. إن أي انحراف لهذه
الطاقة عن الغاية النبيلة التي وُجِدت فيه
يشير إلى انفعال مادي، إلى انفعال غير عقلي،
إلى تجرد من مفهوم المحبة واللاعنف، وإلى عنف
شديد. فالطاقة الجنسية التي لا تتحقق في
حقلها، في مستوياتها الثلاثة المتصلة،
البيولوجية والنفسية والروحية، أي في الغاية
التي من أجلها وُجِدت وفق قاعدة الوعي
الكوني، تعبِّر عن عنف شديد. إن انفعالاً
قوياً يلفُّ الجسد، ويلغي دور القوة العاقلة،
ويُخضِع الإنسان لسلبية المادة ومقاومتها
السالبة، ولاتجاهها إلى عالم الأسفل، إلى
عالم يخلو من الحكمة والوعي. ونحن نعلم شدة
العنف الذي يشوب العلاقات الجنسية التي لا
تتحقق وفق قاعدة المحبة والخير، أي اللاعنف.
وبالإضافة إلى هذا، نعلم أن جرائم عديدة
تُقترَف في نطاق الدافع الجنسي المنحرف إلى
شهوة. ولذا، نرى أن الجنس الذي يخرج عن
نطاقيه، الروحي والمادي، يشير إلى العنف. وما
لم يتسامَ الإنسان بطاقته الجنسية ويسمُ بها،
فإن العنف يسود البشرية إلى ما لا نهاية. وكل
علاقة جنسية لا تبغي تحقيق غايتها تنحرف إلى
عنف لأنها تحقير للكائن الإنساني.
ب.
شهوة الطعام: يُعد
الطعام وسيلة للمعيشة واستمراراً الحياة.
وليست الرغبة في الاستزادة منه غير دليل على
العنف. وعلى هذا الأساس، نسأل: كيف يتضمن
العنف في هذه الرغبة؟ إن كان ما يقوله
بعض المفكرين بأن الصراع القائم بين الناس
صراع يُرد إلى المعدة أو ينطلق منه
الصراع
الاقتصادي
فإن شهوة الطعام
تلعب الدور الرئيسي في الحياة الاجتماعية،
وتعبِّر عن عنف قاتل وشنيع. في شهوة الطعام،
يسعى الإنسان إلى الحصول على المزيد، ويهدف
إلى حرمان غيره منه، الأمر الذي يؤدي إلى
النزاع والصراع بين الإنسان والإنسان. تعبِّر شهوة
المعدة عن عنف شديد، ذلك لأن المعدة تطلب
المزيد، ويسعى الإنسان لإشباعها على كل
المستويات. وليس هذا السعي إلى المزيد غير
دليل على أنانية الإنسان وعنفه. فأنا أحوِّل
طاقاتي كلها لكسب معيشة بائسة لا ترتبط بمعنى
حياتي ارتباطاً وثيقاً. وعندئذ، ينشأ الصراع
بين الناس من أجل المعيشة، وليس من أجل الحياة.
وعندما ينظر الإنسان إلى حياته من خلال
معيشته، من خلال طعامه ولباسه وزينته، يُخضِع
معنى الحياة لزخارف المعيشة، الأمر الذي يؤدي
إلى امتداد الصراع المعبِّر عن العنف. هكذا، يعيش
الإنسان في عالم مزيف تسيطر عليه شهوة معدته،
وتسيطر عليه أهواؤه التي تنزع إلى المزيد من
أمور المعيشة بغية الحصول عليها، أو تخزينها
اعتقاداً منه بأنها تمنح المعنى والقيمة
لوجوده. وفي هذه الحالة يشتد الصراع بين الناس
على النحو الذي يشير إلى وجود أناس جائعين
وآخرين مترفين ومُتخَمين. لذلك، يظهر زيف
الإنسان من خلال شهوة المعدة. وعلى غير ذلك،
يُستحسَن أن تُوزَّع كل زيادة أو استزادة،
تعبر عن الطمع والأنانية، توزيعاً عادلاً.
الإنسان الذي يُنفِق على شهوة معدته الكثير
بينما العالم يجوع، إنسان يجسد العنف لأنه
جاهل بحقيقة وجوده. والإنسان الذي يسعى إلى
الطعام، من خلال دافع الطعام فحسب، إنسان
يتجرد من العنف. ج. شهوة
التسلط: تشير شهوة
السلطة، وهي التسلط، إلى أنها دليل على العنف.
وإذا ما تساءلنا: لماذا يرغب الإنسان
بالسلطة؟ لماذا يتهرب من الخدمة؟ أليس لأنه
يزعم أن السلطة تشير إلى تفوقه الكاذب على
غيره وإخضاعه له؟ ولماذا يرغب الإنسان بإخضاع
غيره والتحكُّم به والتسلُّط عليه؟ أليس لأنه
يعتقد بتعاليه عليه من خلال مظهر العظمة
الفارغة؟ وما هي الزيادة التي يبغيها الإنسان
عندما يتسلط على غيره؟ هل تزداد قيمته؟ هل
يزداد وعيه؟ هل تزداد ثقافته؟ هل تزداد طاقته
الإنسانية والروحية؟ وهل يرى في السلطة خدمة
لغيره؟ في شهوة التسلط،
يكمن صراع يشير إلى العنف. إنها مأساة الإنسان
الأناني الذي أضاع نفسه، فأراد أن يجدها في
المجتمع بطريقة زائفة. هذا،لأن الذات التي
أضاعت حقيقتها، تبحث عنها في المجتمع. وفي هذا
المجتمع، تتراءى لها أوصاف ذاتها الكاذبة
والوهمية في السلطة، وحب الظهور، والتحكم
بالآخرين، وتمجيدهم المراوغ لها. ويتجلَّى
الصراع في أوْجِهِ وعلى أشُدِّه، ذلك لأن كل
ذات، على نحو تقريبي، ترغب في إظهار ذاتها
بالطريقة ذاتها. وهكذا، تكون شهوة السلطة
تعبيراً عن العنف الكائن في الإنسان الذي
يتخلى عن حقيقته، عن حقيقة الخدمة، وحقيقة
محبة الآخرين والتآخي والتساوي معهم. كثيراً ما سألت
نفسي: هل يتوق المرء إلى السلطة لو كانت
السلطة تعني الخدمة –
والخدمة فقط؟ وهل يدرك عمق السيادة الروحية
أو السلطة الواعية التي يتمتع بها الحكماء
والعلماء الذين يُردِّدون العبارة المثالية
"إن ابن الإنسان قد أتى ليَخدُم لا ليُخدَم"؟ د. شهوة
المال: لا تقل شهوة
المال عن غيرها امتلاء بالعنف. ولو أننا سألنا:
لماذا يرغب
الإنسان في الاستزادة من المال؟ لأجبنا: إنه
يرغب بهذه الاستزادة لاعتقاده بأنه وسيلة
مباشرة فعالة لتحقيق كل ما يشتهيه، أو أنه
وسيلة فضلى ورائعة للظهور والتفوق. ولا يحول
هذا التفسير والتوضيح دون طرح السؤال التالي:
متى كان المال، وهو وسيلة التبادل، يقوم مقام
المعرفة والحكمة؟ وهل يزداد الإنسان حكمة في
حال ازدياد ماله؟ هل يزداد فضيلة إن زاد ماله؟
وهل تتحقق طاقاته الفكرية والإنسانية نتيجة
لزيادة المال؟ يعتقد الإنسان
الأناني أن المال الكثير مدعاة لتحقيق معيشته
ورغباته. وبهذا الصدد، أسأل: ماذا يحقق المال
الكثير؟ وأجيب: إنه يحقق الشهوات. وإذا كان
المال الكثير وسيلة لتحقيق الشهوات، أفلا
يعني هذا أنه وسيلة لتطبيق العنف والسلب؟
بالمال الكثير، يقول الأناني،
أستطيع شراء ضمير الآخرين، كما أستطيع
شراء المجوهرات. بالمال الكثير، أستطيع
الظهور والتكبر. بقوة المال الكثير، أستطيع
أن أُملي إرادتي أو رغبتي كما أشاء، وأستطيع
أن أميز نفسي عن غيري. وإن كان المال الكثير
وسيلة فعالة لتحقيق الشهوات، فلأنه لا يمتُّ
إلى وعي الإنسان بصلة. هذا، لأن دوافعه تعاني
من انحراف. إن الرغبة
الجامحة لاقتناء المال الكثير، والسعي
الحثيث وراءه، وإهمال القيم الأساسية في
الحياة، أمور تشير إلى صراع عنيف بين الناس،
يؤدي، في نهاياته القصوى، إلى أنواع النزاع
والحروب، إلى العنف المبطن في الشيء ذاته. هـ.
شهوة الجاه والمجد: تشير هذه الشهوة
إلى الغطرسة التي، بدورها، تشير
إلى تمييز
الإنسان لذاته عن أقرانه. إنه يسعى إلى إظهار
ذاته بمظهر المتعالي والمتفاخر. وإذا ما
سألنا: لماذا
يتكبر الإنسان على غيره؟ أجبنا بأن هناك
أسباب مادية ومعنوية. فمن الأسباب المادية،
يُعَدُّ الانتماء إلى عائلة عريقة، والوضع
الطبقي، والشعور العنصري والمذهبي، والمال،
والإرث، والتملك، والجمال الجسدي، عناصر
الغطرسة. ومن الأسباب المعنوية، يشكل الشعور
بالذكاء، وبالشخصية الكاذبة، أي الفردية،
والمركز الاجتماعي والمهني، عناصر التكبر.
بالفعل، ليست هذه الصفات أكثر من عناصر زائفة
تشد الإنسان إلى أسفل، إلى ظلام الأنا.
فالجاه، على سبيل المثال، وسيلة للظهور
الباطل من خلال المركز الاجتماعي أو
الاقتصادي. ويقع شر هذه الأمور في ميل المتكبر
إلى احتقار غيره وتمييز ذاته بإحساس وهمي
بذاتيَّته. ولا يخرج هذا الاحتقار والتمييز
بالشعور الكاذب بالشخصية عن دائرة العنف، ذلك
لأنه يؤدي إلى صراع الإنسان مع الإنسان. و. شهوة
الطمع: تبدو هذه الشهوة
بأشد حالاتها بؤساً في عالم العنف. ويُعدُّ
الطمع وسيلة فعالة لانتصار الذاتية
والأنانية. فهو الحلبة التي يتم بها الصراع
العنيف القاسي بين الناس، إذ يؤدي إلى
الاقتتال والنزاع والانتقام. ولا يقوم الطمع
على أساس من الوعي، ذلك أنه ينصبُّ على الأمور
الدنيوية. وهكذا، يطمع الإنسان بالمال
الكثير، وبسدَّة الحكم والجاه، وبالجمال
الجسدي، ذلك لكي يبدو ذاتاً اجتماعية كاذبة.
وإذ يزداد طمع الإنسان يزداد معه شرُّه وعنفه.
ويستتر، الطمع، في أحوال كثيرة، برداء الطموح.
وليس الطموح، كما هو مطروح على مستوى التربية
الانفعالية، إلا طمعاً مقنَّعاً. إلامَ يطمح
الإنسان؟ إنه يطمح إلى الأشياء ذاتها التي
تشكل الطمع. ولماذا يطمح الإنسان إلى المجد
الاجتماعي ولا يطمح إلى المعرفة من أجل
المعرفة؟ ولماذا يطمح إلى امتلاك أمور مادية
عديدة ولا يطمح إلى خدمة الآخرين؟
ولماذا يطمح إلى
الكبرياء وحب الظهور ولا يطمح إلى المحبة
والتواضع؟ يشير مفهوم الطمع
والطموح الذي تتبناه إرشادات التربية
الانفعالية وتوجيهاتها إلى مفهوم واحد،
بدرجتين متنوعتين، تعبِّران عن العنف
الملازم لقوى المادة المنفعلة دون أخذ حقيقة
الآخرين بعين الاعتبار. ز. شهوة
التملك: تُعَدُّ هذه
الشهوة أكثر الشهوات دليلاً على العنف. فهي
وسيلة فعالة لتوطيد الفروق المادية
والمعنوية بين الناس. ويكون التملك شراً متى
زاد عن الحاجة الضرورية للملكية اللازمة
للإنسان. وفي معتقدي أن كل مال أو تملك يزيد عن
حدٍّ معين، يُفعِّل الإنسان باتجاه العنف،
فالشر، ويقصيه عن الخير والمحبة والسلام.
هذا، لأن الملكية الزائدة تصبح مجالاً للصراع
بين الناس، ووسيلة للتناحر، وعلَّة مباشرة
للنزاع بين الأفراد والفئات. ولما كان جميع
الناس، أو غالبيتهم، ينزعون إلى الملكية،
فإنها تصبح وسيلة عنف، لأنه يستحيل على
الإنسان تحقيقها دون أن يتسلط على غيره
أويستغله، أويتحكم به، أو يرذله، أو يتعالى
عليه تعالياً كاذباً. وعلى هذا الأساس، تكون
الملكية وسيلة لتحقيق الذات الوهمية التي
تُسقِط حقيقتها الإنسانية. وإذا ما سأل
الإنسان الحكيم نفسه: لماذا أسعى إلى الملكية
المتجاوزة لحاجاتي الضرورية؟ أجاب: إن ملكيتي
لمائة رطل من القمح ليست ملكية إن كان رطل
واحد يكفيني. وليس الاحتفاظ بالتسعة والتسعين
رطلاً إلا شراً كبيراً، يحمل العنف في أحشائه.
وليس هذا إلا لأنني منعت الخير الطبيعي عن
الآخرين، وحرمتهم منه. وكل احتفاظ بالخير
الذاتي في سبيل الأنانية والذاتية ينقلب أو
ينحرف إلى شر، ويتحول إلى وسيلة عنف. إني أرغب
بامتلاك الفائض والزائد لأنني أعتقد بتحقيق
ذاتيَّتي التي هي مظهر لأنانيتي. لماذا أشتهي
الملكية لذاتي ولا أشتهيها أو أريدها
للآخرين؟ ولماذا أحرم الآخرين منها؟ لماذا
أتمنى أن يكون الفقر أو العوز من نصيب غيري،
وأدَّعي بأنني أحبه، وأسعى إلى مساعدته، ولا
أريده لنفسي؟ هكذا تكون الملكية تملكاً وشراً
متى تجاوزت حداً معيناً. ح. شهوة
القوة المادية: تُعَدُّ هذه
الشهوة وسيلة عنف لأنها تشير إلى اعتماد
الإنسان مبدأ يتجرد من الوعي والحكمة. ويشير
اعتناق الإنسان لمبدأ القوة المادية إلى
اعتناق الإنسان لمبدأ العنف، وذلك ليفرض
شخصيته الوهمية وذاتيته الكاذبة. فعندما
يتملك الإنسان ويُخضِع غيره بتملُّكه هذا،
ويحس بتسلطه على الآخرين، أو عندما يتملك
سلاحاً قوياً يرهب
الآخر به أو
يرعبه، أو عندما يتسلَّم مركزاً يستغله
لإرهاب الناس أو لاستدعاء احترامهم الظاهري
الكاذب، أو عندما يمتلك مالاً يجعل منه وسيلة
للتكبر على الآخر، يشعر بأنه قوي من الوجهة
المادية، بمعنى أنه عنيف. ونأسف لقولنا إن
التقدم التقني، بوسائله المادية العديدة، قد
ضخم شعور الإنسان بالقوة الكاذبة. فلو أننا
تصورنا إنساناً يقود طائرة حربية مدمِّرة أو
بارجة حربية مدمِّرة، تندفع بقوة، ويحس
بقدرته "الإضافية" على التهديم والقتل،
بمجرَّد استعمال زر معيَّن أو حركة آلية
معينة، لرأينا أن شعوراً كاذباً بالسلطة
والقوة يتحكَّم به، فيفاخر به، ويتقمص شخصية
مزيفة كل التزييف، بعيدة عن إنسانيته كل
البعد. وليس الشعور بالقوة المادية الكاذبة
إلا تعبيراً عن العنف. ويؤسفنا أن نقول إن
الإنسان يتراجع إلى قوقعته الأولى، إلى
إحساسه بالضعف، إلى إحساسه بالمذلة والهوان
عندما يتجرد من هذه القوة المادية الوهمية.
وعندئذ، نسأل: أين كانت قوة الإنسان؟ أكانت في
ساعده القوية وجسده القوي؟ وماذا يصيبه عندما
يسقم هذا الجسد، ويتعرض للضعف المادي؟ أيبقى
شعوره بالقوة قائماً؟ وهل تزداد حدة عنفه أم
تقل وتخف؟ ولماذا يشعر بالضعف متى تجرَّد من
القوة المادية؟ أليس هذا الإحساس دليلاً على
هشاشة بنية شخصيته الإنسانية؟ وهل تجسَّدت
قوة الإنسان في المركز الذي تقلَّده، أو في
المال الكثير الذي اقتناه أو كان ينفقه، أو في
السلاح الذي كان يحمله ويهدد به، أو في الأداة
أو الآلة القوية المدمرة التي كان يستعملها؟…
لماذا يشعر بالضعف بعد تجرده منها؟ تشير دراسة القوة
والضعف إلى أن هذين المفهومين يشيران بدورهما
إلى غير حقيقتهما كما نشاهدهما ونفهمهما في
النطاق المادي، أو في المظهر الاجتماعي
الكاذب. فما القوة وما الضعف؟ ليست القوة هي
المظهر الخارجي للقوة؛ إنها قوة الروح،
والفكر، والعقل على الإبداع، وزيادة الوعي
والدفاع عن الحق؛ إنها قوة الفضيلة المتأصلة
في كيان الإنسان، وقوة المحبة، والخدمة،
والتحمل، والتضحية في سبيل الآخرين. والضعف،
ما الضعف؟ هو كل اعتماد على قوة خارجية لا
تنبع من داخل الإنسان بقدر ما تضاف إليه.
فالضعف، كل الضعف، يقوم
على اعتماد الإنسان وسائل خارجية واهية،
يضيفها إلى فرديته، ولا تمتُّ بصلة إلى
شخصيته وحقيقته الداخلية. لذا، نرى أن القوة
المادية الكاذبة وسيلة عنف كبرى لأنها تحمل
في أعماقها صورة زائفة ومشوهة لشخصية الإنسان.
وتشير هذه القوة الوهمية، سواء كانت على
المستوى الفردي أو على المستوى الاجتماعي أو
الأممي، إلى نزعة العنف والشر. أخيراً، أود أن
أقول: ثمة فرق كبير بين العنف والقوة.
فالإنسان القوي هو الكائن الذي يتكامل في
داخله ويمثل شخصية واعية لا تهزها أعاصير
الانفعالات. والإنسان الضعيف هو الذي يضيف
إلى ماديَّته "قوة" مادية خارجية تتلاعب
بها الانفعالات. وهكذا، أقول: يصير الضعيف
عنيفاً عندما يزوِّد ذاته بوسيلة مادية
خارجية مضافة، لكنه لا يصبح قوياً. ط.
شهوة الحقد والكراهية: تُعَدُّ هذه
الشهوة أكثر الوسائل شراً وعنفاً. ففي هذه
الشهوة تتركز جميع الشهوات وتجتمع. فإن فشلت
الشهوات في مجال التطبيق، تحوَّلت إلى حقد
وكراهية وضغينة. ويتركز العنف في هذا الحقد
لأنه يصبح الوسيلة الفعالة للثأر تسويغاً
لشهوة فشلت، وتركزت في إنسان. وعندئذ، ينفعل
الإنسان ضد نفسه، ويتمرَّد على الإنسان، إن
هو فشل في مجال التملك، أو في الجنس والحب
العضوي، أو في عملية طمع، أو في حرمانه
أو عدم حصوله على
سلطة أو مال، إلخ... ويحوِّله هذا الفشل
المُحبِط إلى فرد عنيف، ذلك لأنه تحول إلى
امرئ كاره وحاقد. والحق هو أن هذا التحليل
ينطبق في المجال الفردي،
والاجتماعي
والدولي. ويصير المجتمع الإنساني مجموعة من
الأحقاد، ويتأثر المجتمع الدولي على نحو
مباشر أو غير مباشر. وهكذا، يقف الناس بعضهم
من بعض موقف خصومة ونزاع مريرين. هكذا، نرى أن كل
دافع لا ينظِّمه العقل الواعي ويحوِّله إلى
فضيلة، أو غاية نبيلة، يصير تعبيراً عن العنف.
ففي شهوة الجنس، وهو الحب المادي القائم على
الانفعال، يتحول الإنسان إلى قوة مدمرة، إلى
منفعل لا يعي، يتصرف بطريقة غير موقَّرة
يُذِلُّ بها غيره. وفي شهوة الملكية وغيرها من
أنواع العنف، كالكراهية والحقد، يتحول
الإنسان، بل ينحرف، إلى قوة مدمرة لأن وعيه
ينزل إلى أدنى مستوى ممكن، فتنفعل المادة
وتتمرد وتتخبط في ظلمة انفعالها. وليس انفعال
المادة، أ والأنا، وتمرُّدها إلا قمة العنف.
لذا، تكون الحرب قمة الشر لأنها الدرجة
القصوى للانفعال والحقد والكره –
هذا الانفعال الذي تتركز فيه أشكال العنف
الأخرى، وتتجمع
فيه جميع السلبيات. وفي شهوة القوة المادية
الكاذبة تخرج الشخصية الإنسانية عن طورها،
وتشعر شعوراً باطلاً بالقوة، فترتفع على حساب
بطلانها، وتُحس بأنها تمتلك ناصية الجبروت
والقدرة، فتندفع في أعمال طائشة تؤذي
الآخرين، أوتدمرهم، أوتذلهم، أو تقتلهم أو
تتكبر عليهم. وفي شهوتي الطمع والطعام
وغيرهما من شهوات الإنسان، تندفع الأحاسيس
المنفعلة وتنزل بالإنسانية إلى درجاتها
الدنيا، وتصعد الأنانية إلى درجاتها العليا.
هذا، لأن الشَهَوي بطعامه لا يأبه لمصير
العالم إن جاع هذا العالم، أو إن كانت شهوته
توقِع الضرر بالآخرين. إنه يهتم بأنانيته،
وبإشباع شهوة معدته على حساب خير البشرية،
وبعدم التفكير بالذين يستحقون التفكير فيهم.
وترتبط شهوة الطعام بانحطاط قيم الحياة. ولا
يفكر الشَهَوي بمعنى الحياة، بل ينساق وراء
ملذات المعيشة. أما الطامع فإنه "مكيافيلِّي"
يصل إلى هدفه بكل وسيلة ممكنة شائنة، كانت أم
غير شائنة، ولا يأخذ مصير غيره بعين الاعتبار.
إنه أناني ذاتي،
قاسٍ وظالم، عنيف لا يسعى إلا إلى تحقيق
انفعاله الفردي فقط.
يتجسد العنف في
كل سلوك أو تصرف لا يتساوق مع الوعي. لذا، كانت
الرغبات والشهوات دليلاً على عدم اعتماد
قاعدة أخلاقية أو نظرة عليا وسامية للوجود
الإنساني، ودليلاً على عدم تحقيق الدوافع في
مستواها العقلي. على هذا الأساس، لا يحق لي أن
أُذِل جسد غيري من أجل شهوة تتملكني، جنسية
كانت أم معدية أم مالية أم اجتماعية. ولهذا
السبب، تكون الشهوات دليلاً بيِّناً على وجود
العنف لأنها مظهره الواقعي. فإذا كنا نتَّهم
الحيوان والطبيعة بنزعة العنف لانتفاء
الوعي، يجدر بنا أن نتَّهم الإنسان بالعنف
ذاته للسبب ذاته. وعندما يندفع الإنسان في
تيار شهواته، وينساق وراءها، بأنواعها
العديدة، يكون العنف طريقه الوحيد، وهدفه
الوحيد، ويصبح المجتمع غابة إنسانية. يشير العنف إلى
ضياع العقل الإنساني، وإلى عدم تركيزه على
غاية إنسانية، نبيلة وسامية، ويشير أيضاً إلى
عدم تفهم طاقات الإنسان والغاية التي تفعل
فيه. فلو أدرك الإنسان أنه قد وُجِد في الحياة
الأرضية ليعرف ويفهم ويعي، ويحقق غاية نبيلة
وسامية، لأدرك أن الشهوات كلها لا تعمل في خطة
الحياة هذه، ولكان العنف في أدنى مستوى له.
أما عندما ينحطّ الإنسان إلى درك الانفعال
والهوى والتلقائية اللاهادفة، ويخضع لسلبية
مادته، ينعدم مفهوم الغاية من وجوده، فيقلّ
الوعي أو ينعدم، ويرتمي في أحضان العنف. رابعاً:
العنف واللاعنف في النطاق الاجتماعي دلَّت
دراستنا للعنف، على المستوى الفردي، على
حقيقة هي أن الإنسان لم يهذِّب نفسه بما يتفق
مع قواعد الوعي والحكمة. وليس سقوط الإنسان
إلا سقوطاً من الحكمة والوعي إلى انعدامهما،
وتراجعاً من الاتِّصالية الكونية إلى
الانفصالية الجسدية الأرضية. وفي هذا السقوط
وهذا التراجع نشأ العنف، وسادت الخطيئة نتيجة
للخير المسلوب. وبالمثل، تتطور الطبيعة وفق
القوانين المنظمة، ولا تكون عنيفة إلا
بخروجها عليها. أما الإنسان الذي يدَّعي بأنه
يتميز بالعقل والوعي، فإن عنفه ينشأ عن خروج
مادته عن قواعد نظامها الداخلي المعروف
بالروح، أو عن قاعدتها المعروفة بالوعي. وفي
هذا الخروج، يخضع العقل للمادة المنفعلة،
ويبرز العنف إلى الوجود. لذا، تكون دراسة
العنف، على المستوى المادي، قاعدة أولية
لدراسته على المستوى الاجتماعي. ويزداد
اهتمامنا بدراسة العنف على المستوى
الاجتماعي، لأن العنف على هذا المستوى،
يقوِّي حدة أو شدة العنف الفردي ويزيده شراسة.
فما هي العوامل والأسباب التي تجعل من
المجتمع مكاناً ملائماً للعنف؟ إن الأسباب التي
تؤدي إلى بروز العنف وممارسته في المجتمع
الإنساني عديدة ومتنوعة، نعدِّد منها
المظاهر الرئيسة والتيارات الكبرى. أ.
الإيديولوجيات
أو المعتقدات القائمة في المجتمعات
المتباينة التي تدعو إلى تقييم معيَّن يتعارض
أو يتمايز عن غيره من أنواع التقييم. ومن
خلاله تتخذ الدولة أو الفئة موقفاً عدائياً
من الدولة أو الفئة الأخرى أو من الدول الأخرى.
ولما كان الإنسان ينشأ ويترعرع في أحضان
إيديولوجيا معينة أو معتقد معين فإنه يميل،
بطبعه التجمُّعي، إلى العنف المتمثل بالموقف
الصلب، مؤمِناً أن هذا الميل خير في أصوله. إن واقع العالم
يشير إلى مأساته، وصراعه يشير إلى العنف
القائم في معتقداته ومواقفه ومذاهبه. فكل
معتقد، أو إيديولوجيا، تشير إلى عداء مستحكم
ضد معتقد آخر أو إيديولوجيا أخرى. وللأسف نقول:
إن كل واحد منها قد وُجِد ليكافح، من خلال
خيره المزعوم، مظالم الأخرى وشرورها
وانحرافاتها. وهكذا، نرى أن المعتقدات أو
الإيديولوجيات أو المذاهب تؤدي إلى الحروب
الطائفية أو الفئوية، وتتسنّم قمة العنف، أو
تؤدي إلى الصراع العنيف، لأنها تزعم صواب
معتقدها أو موقفها، وتعلن خطأ غيرها من
المعتقدات. ومما لاشك فيه أن هذا التقييم
يُسيء إلى الأفراد القاطنين في بلدان مختلفة،
ويجعل منهم أناساً يتقبَّلون العنف بسبب ما
لُقِّنوه من أن عداء الأفكار الأخرى أمر
ضروري وجوهري. ويعيش الناس في العالم قاطبة
على فوهة
بركان العنف – العنف الناجم عن
عدم الاعتراف بالآخر، وعدم تحقيق مبدأ
التحمُّل في العلاقات البشرية.
ب.
نظرية الأمم القومية: لا تقل هذه
النظرية تأثيراً في نطاق العنف عن
الإيديولوجيات
أو العقائد
السائدة. وإننا نقصد بمصطلح "الأمم القومية"
التعصب القومي الذي يجعل الدول شعوباً
وحكومات تناهض بعضها بعضاً، وتقف ضد بعضها
بعضاً بأسلوب مؤلم. ونحن، عندما نتحدث عن
التعصب القومي، وعن الأمم القومية ونتَّهمها
بعنصرية العنف، لا نقصد التقليل من أهمية
الوطنية. فالوطنية، تختلف في مفاهيمها عن
التعصب القومي، وذلك لأن التعصب القومي يؤدي
إلى الحروب ويحمل بذور العنف، في حين أن
الوطنية مفهوم إنساني تقتضيه الضرورة
الكونية في المجال الإنساني. لذا، تُشبَّه
الوطنية بالعضو المؤلَّف من خلايا عديدة
تتفاعل بعضها مع بعض، وتشبَّه القومية
المتطرفة بالفرد. وتتألف الأمة من أفراد
يجتمعون بإرادة مشتركة. وتُشبَّه الأمة
بالعضو، بينما يشبَّه الفرد في الأمة بخلية
حية في هذا العضو. أما الجسد، الذي هو العالم،
فإنه يتألف من أعضاء سليمة ونشيطة ومتفاعلة
يقوم كل عضو منها بدوره الفعال الحقيقي. أما
التعصب القومي (ويشبَّه بالفردية الأنانية
المغلقة على ذاتها) فإنه يؤدي إلى العنصرية،
وحب التفوق، ويثير نزعة استغلال
الأوطان لغيرها من الأوطان، ويؤدي هذا التعصب
أيضاً إلى التضييق على الشمولية الإنسانية
وعالمية الوجود الإنساني. وهكذا، يمكننا إن
نقول إن الوطنية الصحيحة لا تتناقض مع شمولية
الإنسانية، إذ هي تعبِّر خير تعبير عن هذه
الشمولية على نحو مصغر. أما النظرية القومية
المتعصبة، فإنها ترمي العالم في أحضان التمزق
والصراع، الأمر الذي يؤدي إلى إشعال الحروب،
وانتشار الويلات، وهيمنة الكره والعداء. تشير دراسة
التاريخ إلى أن الحروب التي اندلعت كانت
وليدة التعصب القومي الذي
أدى، بدوره، إلى
نزعة السيطرة والتوسع. والحق هو أن عقيدة
الأمم القومية قد انبثقت، في أصولها، من
عقيدة العرق السائد؛ ولا تخرج هذه العقيدة عن
دائرة العنف لأنها متضمنة في صلبه. ج: التقدم
التكنولوجي: أدى هذا التقدم
إلى اشتداد العنف في العالم. ونحن نعجب
كيف يمكن أن يؤدي
التقدم التكنولوجي إلى العنف؟ إنه أمر واقعي،
ذلك أن كل تقدم تقني، يُستغَل لدعم
إيديولوجيا أو عقيدة، يُعَدُّ سلاحاً قاتلاً
في يدها، ويكون، بالتالي، وسيلة عنف. ولما
كانت الدول، بإيديولوجياتها وعقائدها،
تدَّعي العمل في حقل "السلام" و"العدالة"،
فإنها تدمِّر بعضها بعضاً، وهي تعتمد على
التقدم التقني الذي يمدها بسلاح مدمِّر
يعبِّر، أكثر ما يعبر، عن العنف. ولما كان
الإنسان عاجزاً عن رؤية الخير في التقدم
التقني، فإنه يستغله لتوطيد أطماعه العديدة
التي تتراءى في مظاهر متنوعة: مظهر الدفاع عن
الوطن، مظهر الدفاع عن معتقد أو وجهة نظر،
مظهر محاربة العقائد الأخرى، مظهر الحفاظ على
"حريات" البلدان الأخرى و"إنقاذها"
من براثن العدو، ومظهر الحفاظ على "كرامة
الإنسانية"، إلى ما هنالك من تعابير
ومصطلحات مخدرة وجوفاء. وهكذا، يجيَّر
استعمال التقدم التقني في نطاق العنف وليس في
نطاق السلام والخير والرفاهية للجميع. ثمة سيئة كبرى
تنجم عن هذا التقدم التقني. فقد احتكرت
التقنيةَ العلمية زمرةٌ من الناس، أو من
الدول، وسخَّرتها سلاحاً لنشر سيطرتها على
غيرها. فعلى مستوى الدولة، قامت الدول القوية
باستغلال الدول الصغيرة الضعيفة. وعلى
المستوى الفردي
الجماعي، تأسست
شركات احتكارية كبرى لتسيطر على المنابع
الرئيسية للمواد الخام في العالم، دون أن
تأبه لمصير الملايين من الناس، ودون أن تأخذ
مصير البشرية جمعاء بعين الاعتبار. ولقد سببت
هذه الاحتكارات اندلاع الحروب المحلية
وإشعال الثورات أو إخمادها، حتى تستمر
مصالحها في البقاء. وكما نعلم، تمثل هذه
الاحتكارات قمة الصراع، وبالتالي قمة العنف
لأنها وسيلة مدمرة للازدهار الإنساني
والعالمي. د.
مآسي الحروب:
تُعدُّ الحروب تجسيداً للعنف والشر. لذا،
كانت الحروب النهاية القصوى لغريزة الحقد،
والأنانية، والاحتكار، والشر، والانحطاط
الخلقي، وانعدام الوعي. ومن جانبي، أُشبِّه
الحرب بإنسان غاضب، ازداد غضبه وتزايد إلى أن
بلغ درجة اللارجوع، ولم يعد بإمكانه السيطرة
على ذاته، فانفجر ودمَّر. هكذا، تكون الحرب
دليلاً على انعدام الوعي، وعلى
تمرد المادة المنفعلة التي تبلغ درجة
الانفجار الذي يعقبه التدمير والموت المفجع.
وتعبِّر الحرب عن فوضى العقل، وضياع مملكته،
وخضوعها لمملكة الأهواء والانفعالات التي هي
انعكاسات مباشرة لتراكم الأحقاد. وبالإضافة
إلى ذلك، تُعَدُّ الحرب تمرداً على الحقيقة،
وعلى النظام، وعلى الخير، وعلى المحبة، وعلى
الإنسان، وعلى الوعي، وعلى كل جمال وحق... إنها
المأساة الأليمة، إنها الشدة المنفعلة التي
تبديها المقاومة السالبة للمادة، والرغبة في
بقائها غافلة، وجاهلة ومتمردة على الغاية
العظمى التي من أجلها وُجِد الإنسان. ولو علم
الإنسان وِزْر وشر الخطيئة التي يقترفها
عندما يقتل، لتوقف عن القتل... الذي ينجم عن
العنف وانعدام الخير. هـ.
مفهوم الحاكم:
تُعَدُّ هذه الأسباب بكلِّيتها مكمِّلة لسبب
أصيل هو مبدأ الحاكم. وكما نعتقد أن وجود
الحكام الذين لا يستحقون أن يكونوا حكاماً
سببٌ أساسي وجوهري في عالم العنف. ولما كانت
أغلبية حكام العالم مجردين من الفضيلة
والحكمة والخدمة، فإن العنف يعمُّ، ويسود
وتستمر الحروب. إن حكاماً من هذا النوع، وقد
اعتمدوا مبدأ الصراع وتمثيل المصالح، لا
يحققون المبدأ المنوط بالحاكم، إنهم يتصرفون
كآلات، ولا يعون الدور الذي يرتبط بهم،
ويجهلون الخطيئة التي يرتكبونها. إنهم صرعى
عُقَد العظمة والأنانية. والحق هو أن الحكام
الذين يأتون إلى سدَّة الحكم، وهم لا يستحقون
اسم الحاكم والاحترام الذي يُقدَّم لهم،
كُثُرٌ وعديدون. وليس تاريخ الأنانية غير
تاريخ الحكام، تاريخ حروبهم التي تسببت عن
أطماعهم وحبهم للغزوات والانتصارات الوهمية.
فما هي الأسباب التي حرضت حاكماً من الحكام
على الحرب؟ أكانت الأسباب إنسانية؟ وهل هنالك
إنسانية في الحرب؟ أكانت حضارية وثقافية
وعلمية؟ وهل هنالك حكمة في الحرب؟ فلماذا
حارب الحكام؟ ولماذا حشدوا الجيوش وعملوا على
تقوية أنفسهم بالعنف؟ أمن أجل مصلحة بلادهم
ورقيِّها وتساميها؟ ولو أننا عدنا إلى
التاريخ، لوجدنا أن الحكام المحاربين، الذين
جابوا الآفاق، وسيطروا على الأصقاع، وأخضعوا
البلدان الأخرى وقوَّضوا الممالك، تركوا
وراءهم أمة ضعيفة وخزينة فارغة، وأرهقوا
شعبهم بالضرائب. إن حكاماً من هذا النوع
يستنزفون دم الشعب والأمة، ويقودونه إلى
الهلاك والخراب. وبأي اسم، وبأي حق يثيرون
المجتمعات على المجتمعات؟ ماذا استفاد
يوليوس قيصر من ذهابه إلى بلدان أخرى؟ وماذا
ترك نابليون وراءه بعد حروبه؟ وماذا يترك
الآن قادة العالم بعد حروبهم المستمرة،
الساخنة والباردة، وبعد أطماعهم الفردية
وجنون عظمتهم، إلا شعوباً أنهكتها المتاعب
النفسية والجسدية، شعوباً فقدت ثقتها
بالمستقبل وبالحياة وبحكامها. وهل كانوا أفضل
من الغزاة الذين نتهمهم بالبربرية، أو أفضل
من أصحاب "العقائد" التي فرضوها بالعنف
على غيرهم؟ أليس الحكام، الذين لا يستحقون
مراكزهم، دعامة كبرى للعنف والصراع؟ و.
مفهوم التربية:
نجد في قيم التربية ومفاهيمها، على كل
المستويات الدولية تقريباً، وسيلة، غير
مباشرة، لنزعة العنف. وقد نعجب ونحن نسأل: كيف
تكون التربية وسيلة غير مباشرة للعنف؟ لما كانت التربية
الحقيقية تهدف إلى تحقيق غاية نبيلة وسامية
في الحياة، هي تعبير صميم وجوهري عن غاية
الإنسان نفسه، فإننا نحكم على التربية
السائدة، في بلدان عديدة، بأنها لا تحقق هذا
الواجب السامي. وبالفعل، لا تخرج غاية
التربية عن كونها وسيلة لتعليم الإنسان
المعنى من وجوده والغاية منه. ولا يتحقق معنى
وجود الإنسان إلا بالمعرفة وبالفضيلة. وتتجلى
المعرفة في أن يعلم الإنسان بأنه موجود في هذا
العالم ليعرفه، ويسبر أغوار وأعماق أسراره.
لذا، يقتضي وجودُه أن يحيا وجوده باحثاً عن
الحقيقة. وتتجلَّى الفضيلة في أن يعلم
الإنسان أيضاً بأن وجوده مرتبط بغاية
أخلاقية، سامية غاية السمو، تتلخص في أن يسعى
لتحقيق السلام والمحبة والسكينة، التي تظهر
في صورتها الناصعة في الخدمة والتضحية والسعي
إلى سعادة البشرية جمعاء. ولما كان وجود
الإنسان وجوداً مع الآخرين، فإن الإنسان
المعزول غير موجود. فوجوده مع الآخرين يشير
إلى التضامن، والمشاركة، والتكامل والتعاطف،
ولا يشير إلى الانقسام والتناحر. هكذا، تكون
التربية جهداً مبذولاً لتحقيق إنسانية
الإنسان. لكن التربية الحديثة، في عالم
تكنولوجي وإيديولوجي منقسم على ذاته ومفعم
بالعنف، تهدف إلى إشباع نهم الإنسان في
مجتمعه العلمي التقني، وتشير إلى "تربية"
شهواته ورغباته في الحقلين العلمي، أو
المعرفي، والأخلاقي، أي الروحي. ففي الحقل
العلمي يسعى الإنسان إلى اكتساب المعرفة من
أجل التزوُّد بمعرفة تقنية دون ربط هذه
المعرفة بغاية إنسانية رفيعة. ولعل التطرف في
القومية، المغلَّف بحب الوطن وتقويته، يمثل
هدفاً للعلم في صورته الحديثة. ولعل
الإيديولوجيات القائمة تدفع الإنسان إلى
تحصيل العلم وتحويله إلى تقنية عدوانية.
ويندر أن نجد الإنسان الذي يتعلم من أجل
المعرفة ذاتها، ذلك لأن واجبه الإنساني
السامي يعني ضرورة المعرفة وأهميتها،
وارتباطها بمعنى وجوده أشد ارتباط. لذا، نرى
أن كل علم يرتبط بإيديولوجيا معينة، أو
بعقيدة لا تتصل بالمغزى الذي نعزوه إلى وجود
الإنسان، أو بانفعال مذهبي يسعى إلى فرض
سيطرته على العالم، يؤدي إلى العنف، أو يحمل
بذوره فيه. لذا، نرى أن تقنية العلم نزعة
عدوانية تؤدي إلى الحروب والسيطرة،
والاعتقاد بأن العالم لا يتقدم إلا من خلال
الصراع والنزاع. ولئن كان هذا الزعم خاطئاً،
لكنه، لسوء الحظ، واقعي. وليس هذا الزعم إلا
دليلاً على أن العلم، في مفهومه التقني
العدواني، يتضمن نزعة العنف. إن الإنسان لا
يتعلم ليقتل، بل ليحقق الحياة، وليتفهم الوعي
الكامن في الوجود. وفي الحقل
الأخلاقي، أي الروحي، تتجرد التربية الحديثة
من كل مضمون إنساني تقريباً. فلا يتعلم
الإنسان ليعرف ويخدم غيره بعلمه، بل لتدرَّ
عليه مهنتُه المال الكثير، أو تكون وسيلة
نافذة إلى جاه أكبر، أو إلى مركز اجتماعي أهم،
أو إلى تصعيد كاذب للفردية. ولهذا، نرى
تقويماً للعلم وتصنيفاً له، يفضِّل الإنسان
منه ما يتصل بمصلحته الذاتية، وما يعبِّر عن
مطالبه الاجتماعية والاقتصادية، وما يرتبط
بأنانيته التي تُجسِّد الرغبات. ومن جهة
أخرى، نجد أن التربية لا تفي بمرادها وغايتها
في حقل الأخلاق المجردة التي تشير إلى الواقع
كما يجب أن يكون. فلا يتعلم الإنسان التطبيق
الفعلي للمبادئ الأخلاقية التي تعلمها
وحفظها عن ظهر قلب في الحقل الاجتماعي
والإنساني. وعلى سبيل المثال، يتعلم الإنسان
أن يحب غيره، أو أن يحب عدوه، نظرياً، لكنه
يتعلم أن يكره القريب أو الغير، أو أن يتكبر
عليه، أو أن ينبذ البعض ويلجأ إلى البعض
الآخر، أو أن يفضل إنساناً على إنسان لسبب
امتيازات خاصة ومعينة، عملياً. وهكذا،
تعلِّمه الشريعة "الحب النفعي" لمن
يشاركه مذهبه أو طائفته أو معتقده، و"الكره
الفعلي" لمن لا يشاركه هذا الموقف. والحق هو
أن الحب والكره، في هذا السياق، مفهوم واحد
يشتمل على العنف. إنه يتعلم مبادئ الأخلاق
والروح نظرياً، ويتنكر لها عملياً. وعندئذ،
يتنافى التطبيق مع كل ما علَّمته وصايا
شريعته. لذا، نرى أن كل تطبيق لـ"لأخلاق
المغلقة" و"الروحانية المغلقة"، ضمن
شريعة، يتنافى مع المثالية والسمو، والأخلاق
المنفتحة، فيؤدي إلى العنف. فالتكبر على
الآخرين بسبب انتماء المرء إلى فئة أو طبقة
معينة أوخاصة، وبسبب امتيازات معينة مضافة،
يقضي على المحبة والسلام ويستدعي العنف.
وكراهية القريب، أو التعلم من الأهل عملية
الكره التطبيقية، واقتباس الغيبة والنميمة
والرياء بأنواعها وألوانها، تعلم الطفل أن
يستجيب لشهواته، وانفعالاته الحيوية
والتلقائية، وإلى نبذ السمو الخلقي الذي حفظه
أ أو سمع به. وهكذا، تتجرد التربية من حقيقتها
لتُعبِّر عن العنف المبطن في الحالة
الاجتماعية التي "تستغل" الأخلاق،
بمفهومها الضيق والمغلق، لمصلحتها؛ بمعنى
أنها تدعو إلى الأخلاق ولا تدعو إلى تحقيقها.
وفي هذا المنظور، نرى كيف تكون التربية وسيلة
غير مباشرة للعنف. وبالفعل، يندر أن نجد
المجتمع أو الإنسان الذي يعلِّم الأفراد أن
يعملوا، على نحو صحيح وغير موارب فيه، في حقل
التطبيق العملي للتضحية والخدمة، وأن يحققوا
المهنة التي يختارونها لصالح الإنسانية وليس
لمصلحة الأنانية. إن دراسة التربية
من الناحية الفردية، تنقلنا إلى دراستها من
الناحية الاجتماعية العامة. فالدول،
بانقساماتها واختلافاتها ونزاعاتها، تشير
إلى انقسامات، واختلافات، ونزاعات في حقل
التربية. فما يعلِّمه مجتمع، ويجعل منه مبدأً
تربوياً مثالياً، يرفضه مجتمع آخر، ويعتبره
مبدأً تربوياً سيئاً. على هذا الأساس، نرى أن
وجهات النظر التربوية المختلفة التي تحمل
التناقضات في ذاتها بسبب الإيديولوجيات
والعقائد التي تقف من ورائها، تؤدي إلى العنف.
أليس ما يتعلَّمه
الإنسان في إيديولوجيا أو عقيدة معينة خيراً
ذاتياً يكافَح من أجله الشر الذي يتولد عن
طريقة تربوية في مجتمع آخر – عنفاً ناتجاً عن
تصلب العقيدة أو الإيديولوجيا وعن ضيق أفقها؟
ألا تقف المجتمعات من غيرها موقفاً عدوانياً
ناتجاً عن تعصبها لوجهة نظر، قد تكون خاطئة،
تؤدي إلى العنف والصراع؟ إن التربية، على
المستوى العالمي تقريباً، تحمل بذور العنف
والشر والصراع. وباسم الإيديولوجيات
والعقائد والتربية المرافقة لها، يقف العالم
متأهباً لتطبيق العنف. وإني أتساءل: كيف
تنتهي الحروب أو تقل آثارها، والإنسان مشحون
بعدوانية العنف؟ ففي صغره، تعلَّم كره الفئات
والمجتمعات الأخرى، أو نبذها، أو اعتبارها
عدواً يجب القضاء عليه، أو محاربته بأسلوب أو
بآخر، أو إذلاله والتفوق عليه. وفي صغره، تعلم
قواعد المكيافيلِّية التي تُحوِّل المجتمع
الإنساني إلى مجتمع الدهاء والسياسة البارعة
القاتلة، وتعلَّم كيف يتصرف لتحقيق مآربه
الفردية الخاصة. ولم يتعلم هذا الإنسان في
صغره مبدأ رفض التعلق الذي يدلُّه إلى طريق
الصواب والاستقامة والوعي. إن رفض التعلق
بالمفاهيم المادية وبالقيم الدنيوية
الكاذبة، كالملكية، والأنانية والمال
والجاه، إلخ، يشير إلى تسامي الإنسان وإلى
تجاوز رغباته وشهواته، وإلى إخضاع المادة
لعقلانية فوقية. والحق هو أن رفض الرغبة
لتحقيق الكبوحات والمكبوتات، وتجاوز انفعال
اللذة الذي يتوافق مع المنفعة الذاتية، فعلٌ
عميق وجوهري يرفع الإنسان إلى مراتب عليا في
سلَّم وجوده الروحي والمادي معاً. ولم يتعلم
الإنسان، في صغره، فلسفة المحبة، والتسامح،
والواجب، وعدم الاستغلال، والعقلانية
المنفتحة، ولم يُلقَّن مبادئ احترام الغير،
كل الغير، في وطنه وخارج وطنه، في عقيدته وغير
عقيدته، وتقدير إنسانيته ومساواته معه في
الجوهر. تشير التربية
التي تتأصل في أسس عقلية منفتحة وقلب منفتح
إلى حقيقة الإنسان، في كل زمان ومكان، وإلى
مساواته مع غيره في القيمة، وإلى محبته له
محبة الصورة المتكافئة مع الصورة الثانية
المنعكسة فيها. والتربية التي لا تزيل شهوات
الإنسان في حقل الملكية، والمال، والرغبة،
والتعلق، واللذة، والمعدة، والجنس، والسلطة،
إلخ، والتربية التي تخضع لإيديولوجيا أو
عقيدة متعصبة، قومية كانت أم مذهبية أم
فردية، والتربية التي لا تطبق الأخلاق
النظرية –
كالصدق نظرياً والكذب عملياً، كالعفة نظرياً
والشهوة عملياً، وكالمحبة نظرياً والكراهية
عملياً، وكالسلام نظرياً والعدوانية عملياً –
هي تربية تحمل العنف في بذورها وفي
إرشاداتها، وتنتهي إلى الدمار والتعاسة. ز. التربية
النظرية والتربية العملية:
تُعَدُّ التربية التي تحدثت عنها، في حقليها
الفردي والاجتماعي، تربية نظرية. أما التربية
العملية فهي تلك التي يولد في أحضانها
الإنسان أو تلك التي يعتنق قواعد سلوكها أو
عقيدتَها على نحو مكوَّن ومجرد من التفكير.
فالإنسان يعتنق مبدأ أو عقيدة أو يتعلق به أو
يرغب في فرضه على الآخرين، ويرفض المبادئ
الأخرى ويرغب بالقضاء عليها، أو ينشأ في
بيئة، أو في أسرة معينة تمتاز بصفات معينة
مكتسبة. وعلى هذا الأساس، يؤدي اعتناق
الإنسان مبدأ، أو تعلقه بمبدأ أسرته،
أوبيئته، أووضعه الاجتماعي والاقتصادي إلى
خلق مفهوم الطبقة. فالأحزاب العقائدية،
والطوائف، والفئات الاجتماعية التي تنتمي
إلى نوعية عمل خاصة، والأوضاع الاقتصادية
التي يولد في ظلها الإنسان، تعبِّر عن
الفئوية المحتجزة داخل قوقعة، هي تعبير عن
التعصب وضيق الأفق الفكري اللذين يترعرع
العنف في وسطهما. لا تختلف هذه
الطبقات أو الفئات بعضها عن بعض إلا بالدرجة؛
ولعل إحداها تكون أكثر تعصباً من غيرها
لمفهوم الطبقة أو الفئة أو الطائفة. وعندما
ينشأ الإنسان، في وضع فطري أصيل، أو في وضع
اتخذه سبيلاً واعتنق قواعد سلوكه، فإن الصراع
يبدأ بين الناس، ويستفحل الأمر. ولا يكون
الأمر كذلك في حال وجود تربية إنسانية راقية،
وفي ظل إصلاح اجتماعي وإنساني. لكن وجود
الطوائف المتعصبة – في تعصبها تشكل
طبقة – ووجود الأحزاب
العقائدية (ليس ثمة علاقة بين الأحزاب
العقائدية والأحزاب الدستورية، لأن هذه
الأخيرة تتسم بديموقراطية النزعة واجتماعية
المنحى) والفئات الجديدة المتناحرة، يؤدي إلى
سيادة نزعة العنف على مبدأ المحبة والتآخي.
وينطبق ما نجده على هذا الصعيد على الصعيد
القومي والداخلي، وعلى الصعيد الدولي، ذلك
لأن الدول تتعصب لمبادئها، وتتميز الطبقة
بصفة الإيديولوجيا. وعندئذ، تنشب الحروب التي
تنتج عن إيديولوجيا تختبئ داخل رداء اقتصادي،
أ واجتماعي، أو سياسي، أو تتستر برداء مذهبي طائفي،
أو فكري، أو نفسي. ولا تختلف أسباب الحروب
لأنها، على الرغم من تنوُّعاتها الظاهرية،
تنطلق من الإنسان ذاته. فإن كانت أسبابها
اقتصادية، فإنما يعني أن شهوة الطعام
والملكية، وهي شهوة بشرية مدمرة، مازالت
تسيطر. وإن كانت نفسية، فإنما يعني أن الرغبة
بالتحكُّم والحقد والتعلق، وهي شهوة بشرية
جامحة، مازالت تهيمن. وإن كانت اجتماعية،
فإنما يعني أن شهوة السيطرة وحب الاعتداء
والتوسع والاستغلال، وهي شهوة بشرية طامعة،
مازالت تسيطر. وإن كانت مذهبية
طائفية، فإنما
يعني أن الإنسان مازال متخلفاً، وجاهلاً
بحقيقة كيانه والوعي الكوني. وبالفعل، لا
نستطيع أن نميز بين هذه الأسباب أو نضع حدوداً
بينها، لأنها أبعاد لواقع واحد هو الإنسان،
خالقها ومبدعها. والحروب، بأنواع مظاهرها، لا
تخرج عن نطاق الشهوات التي، كما رأينا، هي
العنف والشر. يشير ما تقدم إلى
أن التشكل الطبقي يسيء للحقيقة الإنسانية
وذلك لأن الشخصية تضعف والفردية تشتد. لقد
انتمى الإنسان إلى الطبقة – وهنا نتكلم عن
الطبقات التجمُّعية الظاهرة
بولادته، أو
باعتناق قواعد سلوكها. ومتى انتمى الإنسان،
اضطر للدفاع عن تركيب طبقته أو فئته أو طائفته
أو عن قيمه التربوية الموروثة على نحو لاواع.
ولما كانت ذات الإنسان، لا روحه، هي التي تتخذ
من الطبقة أو الطائفة شعاراً لها، فإنها
توطِّد فيها نزعة العنف التي تتجسد في انفعال
الكره والحقد. وعندئذٍ، تندمج ذات الفرد بذات
الجماعة الفئوية، فتثبت الفردية وتتضاءل
الشخصية، وتصبح الجماعة –
مذهباً كانت أم طائفة أم فئة –
فرداً تجمعياً يتميز بفردانيَّة ذاته. إن
فردية الجماعة، أي الطبقة أو الفئة، تتمرَّد
على فردية الطبقة أو الفئة الأخرى، الأمر
الذي يعني فقدان الإنسان لحقيقته في الطبقة
والطائفة، وضياع شخصيته وجوهر كيانه. ويتحول،
نتيجة لذلك، إلى آلة ذاتية العمل والحركة،
ومبرمجة، لا يفكر ولا ينظر إلى أبعد من إشباع
مصلحته الطبقية أو الفئوية التي عبرت تعبيراً
صريحاً عن وضعه الاقتصادي، أو التجمُّعي، أو
النفسي، أو المذهبي، أو الطائفي، أو الفئوي.
ويثور المجتمع على ذاته، وتنشأ الفروق
المادية والمعنوية الحادة بين الناس، ويسود
العنف القاتل. وهكذا، تكون الطبقة أو الفئة
نزعة سلبية مدمرة تشير إلى العنف. وبالمثل، يحمل
مفهوم الطبقة المستحدثة –
وهي الطبقة الفئوية ذات النزعة الفردية، أو
تلك التي نشأت نتيجة لأوضاع تجمُّعية معينة
أو جديدة –
بذور العنف، إنما على نحو أخفّ حدَّة وشدة.
ولما كانت الثورات الاجتماعية الكبرى قد قضت
على الطبقات الرئيسية التقليدية بصورة عامة،
وفتحت مجال التعليم والفرص المتكافئة، فإن
طبقات جديدة نمت في صلب المجتمع الواحد
اللاطبقي. لقد نشأت طبقات مستحدثة من نوع آخر،
تتصف بصفات معينة، لعلها تعادل الطبقات
الماضية سوءاً. لكنها، مع ذلك، تُعَدُّ طبقات
مميَّزة. وإن ما يؤسف له هو أن العلم، بمفهومه
المهني، بالإضافة إلى العقائد التجمُّعية،
أدَّى إلى خلق هذه الطبقات. تُعَدُّ بعض
المهن طبقات فئوية اجتماعية تتصف بصفات مادية
لا تتصف بها غيرها من الطبقات أو الفئات.
ويهدف الناس إلى تحقيقها، إذ يفضلونها على
غيرها. وأما الفرد في الفئة الجديدة فإنه يجعل
من نفسه ذاتاً فردية أنانية تتميز عن غيرها
لأنها تحصل على مكاسب مادية أو تجمُّعية أكثر.
وهكذا، نرى أن مفهوم الطبقة يعود إلى الظهور
من جديد بظهور العلم، والتشجيع عليه وتحويله
إلى مهنة، ذلك لأن حصائل العلم لم تدرَّس على
نحو وافٍ، ولم تعيَّن لتكون غاية إنسانية. أما
العقائد الاجتماعية، فقد أدت إلى بروز فئة
جديدة اتصفت، أو تتصف، بامتيازات لا يعرفها،
أولا يتميز بها مَن كان غير منتمٍ إليها.
وتتصف ذاتية المنتمي العقائدية، خاصة في حالة
تسلُّم الحكم، أو حتى في حالة وصول هذه الفئة
إلى فرض عقيدتها، إلى شعور طبقي. وعندئذ، تسود
نزعة العنف، ذلك لأن الحواجز المصطنعة بين
الناس تعود إلى الظهور من جديد. إن مفهوم الطبقة،
اجتماعية كانت، أم عقائدية، أم مهنية، أم
اقتصادية، أم طائفية، تثير مكامن الإنسان
ومخاوفه. فما هي مخاوف الإنسان، وكيف تنشأ؟
ح.
الخوف:
هو ردُّ فعل، في الكائن الحي، يؤدي إلى الدفاع
عن النفس. وليس الدفاع عن النفس إلا هجوماً.
ويؤدي هذا الدفاع، بدوره، إلى اتخاذ موقف
عدائي بين فرد وفرد، وبين فئة وفئة، وبين
مجتمع ومجتمع. وهكذا، يكون الخوف وسيلة لدفع
العنف وتطبيقه في آن واحد؛ وبالتالي، لا يكون
دفع العنف إلا بالعنف. إن انفعال الخوف
يخلق انفعال الدفاع الذي يخلق، بدوره، انفعال
التسلُّح. وتشير ظاهرة استقلال الدول الحديثة
إلى هذا الواقع. فالدول الحديثة، تلك الصغيرة
أو الضعيفة من الوجهة المادية، تسعى إلى
التسلُّح قبل أي شيء آخر. وفي سلوكها هذا،
تتخذ مظهرين: المظهر الأول هو نزعة العداء
المستترة أو الظاهرة، والمظهر الثاني هو واقع
التخلف، أو بالحري، واقع التمزق الداخلي،
وإضاعة فرصة النمو والازدهار في نطاق
الاقتصاد الداخلي أو في نطاق التعليم. ولو
أننا شئنا أن نبحث في أسباب الخوف التي تدعم
التسلُّح وتصبح خلفية له، لعلمنا أن الدول
تتخذ من التسلُّح وسيلة لتسويغ سلوكها. إنها
تخاف من أعداء وهميين، ذلك أن كل دولة تتصرف
على هذا النحو. ولو أننا طرحنا على دولة معينة
السؤال التالي: لمَ التسلح؟ لأجابت: للدفاع.
ولو أننا طرحنا عليها سؤالاً آخر بالأسلوب
التالي: للدفاع ضد مَن؟ لأجابت: الدفاع ضد أي
هجوم يقع. يحمل انفعال
الخوف، في ثناياه، نزعة العنف التي تعبِّر عن
ذاتها بالتسلُّح وبالقوة المادية الغاشمة.
ألا نسمع ببربرية القوي مادياً؟ أليس هو
العنف الشنيع الذي يزداد على حساب الآخر
ليستغله؟ أليست الدولة الكبرى هي التي تعلن
عظمتها من خلال جيوشها؟ فلو كان الإنسان يدرك
ويعي، لرفض أن يكون فرداً في قطيع ينساق إلى
الموت، أو إلى الحرب، أو إلى الدفاع عن أفكار
وهمية، هي نزعات، لم تكن لتوجد ل ولم يخلقها
أفراد بلغ بهم التعصُّب إلى درجة وضع صياغة
مبادئ الدفاع والهجوم، والقومية والعرقية،
والعقائدية المتطرفة، والطائفية الجاهلة، في
صيغ وقواعد ومفاهيم لعبت بعقول الناس،
فبرمجتها وفق منهج. هي قواعد حوَّلت الناس إلى
أفراد لا يعرفون ما يفعلون. ط.
الإحساس بالقوة المادية الغاشمة: لا تستطيع الدول
أن تدَّعي بأنها تعمل من أجل السلام وهي مسلحة
بالقوة المادية الغاشمة. فالإنسانية ذاتها،
وهي تعبير عن إنسانية الإنسان، تتبرأ من هذه
القوة المادية الغاشمة لأن سلامها لا يتحقق
بالسيف والرصاص، بأسلحة العنف والشر.
الإنسانية تحتاج العلم، الملقَّح بالأخلاق
المنفتحة، والعقل المنفتح والقلب المنفتح.
إنها تحتاج الإنسان الذي يعي مغزى وجوده،
ويجد في كل أنواع الدمار عنفاً شديداً،
وخطراً على حقيقة وجوده، وشراً يهدد قيمة
وجوده في هذا العالم. هكذا، يبدو لنا
أن الإنسان لا يتعلم هذه المبادئ في الدول
التي وطَّدت مفاهيمها على نزعة الصراع والعنف.
ولهذا السبب ذاته، يجدر بنا أن نخفف، أونلطف،
من شعور الأمم القوية مادياً. ولعلني لا أبالغ
إن أعلنتُ مبدأ تقسيم الدول الكبرى إلى
دويلات. فلو تمَّ تقسيم الدول الكبرى إلى
دويلات، لخفَّت حدَّة شعورها بعظمتها
الفارغة، ولقلَّصت من إنشاء الأساطيل
البحرية والجوية، وآلات الدمار والرعب،
ولتوقَّفت الحروب والنزاعات أو تضاءلت، ذلك
لأن شواطئها وحدودها تضيق، وشعورها الكاذب
بالقوة يضمحل أو يتضاءل. أليس عامل التوسع،
الدفاع أو الهجوم، هو الذي يدفع الأمم،
صغيرها وكبيرها، إلى الدفاع، فالتسلُّح؟
والحق هو أن تناقص هذا العامل أوإلغاءه، يعني
تناقص العنف أو إلغاءه. ي.
ظاهرة الاتحادات الإقليمية: تقّض هذه
الظاهرة مضجع البشرية في الوقت الحاضر. وإننا
نشاهد ملامحها أو ظواهرها التي تدل على هذا
الواقع في الغرب والشرق على السواء. ففي كُلٍّ
منهما، الغرب والشرق، والشمال والجنوب، قامت
دول كبرى تؤكد على وجوب قيام اتحادات إقليمية
سُمِيت بأسماء مختلفة، وتدَّعي الدفاع عن
ذاتها. وتتخذ هذه الاتحادات مظهراً
اقتصادياً، أو مظهراً عقائدياً، أو مظهراً
اقتصادياً عقائدياً،
أو مظهراً سياسياً
عقائدياً. وعندما
تتوطد هذه الاتحادات، تعود الإمبراطوريات
لتُبعَث إلى الوجود مرة أخرى. وبهذا الصدد،
نبحث هذه الظاهرة من وجهتين: تتمثل الوجهة
الأولى في السؤال التالي: لماذا تشكلت هذه
الاتحادات؟ تتمثل الوجهة
الثانية في السؤال التالي: كيف تكون هذه
الاتحادات خطراً على الوجود الإنساني،
الفردي والجماعي والدولي؟
تشكلت هذه
الاتحادات بفعل وجود نواة أساسية جمعت حولها
أفلاكاً. وليست هذه النواة غير دولة قوية
مسيطرة، إيديولوجية أو عقائدية، تستقطب
حولها، وتجذب إليها، دولاً
أخرى تدور في
فلكها. لقد تشكلت هذه الاتحادات في سبيل
الدفاع عن عقيدة معينة في ظاهرها، ومن أجل
التسلُّط في واقعها. فهي تعمل على مدِّ
سيطرتها إلى جميع أنحاء العالم. ولا تختلف هذه
الاتحادات، أو الأحلاف، عن الإمبراطوريات
القديمة التي كانت تتركز في نواة، وتسعى إلى
التوسع والامتداد في اتجاهات عديدة. تكون هذه
الاتحادات، إن هي اتخذت صفة أحلاف أو معسكرات
أو تجمعات، وسيلة احتكارية كبرى. فكما أن
الشركات الفردية تشكل فيما بينها احتكارات من
نوع التروست والكارتل، هكذا أيضاً تشكل هذه
الاتحادات الدولية فيما بينها احتكارات تظهر
في شكلين: أولاً، بينها وبين بعضها؛ ثانياً،
بينها وبين بعض الدول الأخرى الضعيفة من
الوجهة المادية. ففي شكلها الأول تدور الدول
الصغرى في فلك الدولة
الأم، الكبرى.
وفي شكلها الثاني تستثمر الدولة الكبرى
الأم، أو تستغل،
الدول الصغرى وتسيطر عليها. وإن كانت هذه
الاتحادات قوية جداً، عمدت إلى بناء أساطيلها
التجارية والحربية، وتقوية جيوشها، لتهيمن
على كل الحقول. وتدَّعي هذه الاتحادات بأنها
تدافع عن السلام أو تحافظ عليه. لكنها تتجاهل
أن
"سلامها"
المزعوم وسيلة لتحقيق أطماعها. وعلى غير ذلك،
يتمثل السلام في تحقيق غاية إنسانية. هذا، لأن
السلام لا يتحقق بالعنف بل بالمحبة. وهكذا،
يقع العالم كله فريسة للعنف القائم في
الاتحادات الدولية أو في الاتفاقيات التي
تحمل بذور الحرب، أو في العقائد التي ترغب في
السيطرة على العالم. وتحمل هذه الاتحادات
بذور العنف لأنها تسعى إلى تدمير بعضها
بأسلوب أو بآخر. ك.
الآراء والنظريات السلبية: تُعدُّ ظاهرة
العنف التي تسود المجتمعات الحاضرة نتاجاً
مباشراً، أو غير مباشر، لهذه الآراء
والنظريات التي تغزو العالم وتنتشر فيه. فقد
أُغرِق العالم في بحر من الآراء والنظريات
المضطربة. وتختلف هذه النظريات في أنواعها
وصياغاتها. فقد نشأ بعضها من أوضاع اقتصادية
اتُّخذت كزاوية يُطِل المراقِب منها إلى
الوجود، وصارت مقولة تاريخية. ونشأ بعضها من
نزعة عبث الإنسان والوجود، وضياع الإنسان ولا
جدوى حياته. ونشأ بعضها من آراء فلسفية متطرفة
أشد التطرف. ونشأ بعضها الآخر من آراء علمية
ومادية جهلت أو تجاهلت حقيقة الوجود الإنساني.
ونشأ بعضها من آراء رمت الإنسان في أحضان
السلوكية واللاوعي بمفهومه السلبي. ونشأ
بعضها الآخر من العقائد المتصلبة والمتعصبة
لشريعتها التي تزعم خير أبنائها وشر أبناء
الآخرين. وتتفق وجهات النظر هذه في مجالات
عديدة لأنها تُجمِع على أمر واحد هو التنكُّر
للصفة الأساسية والجوهرية في الإنسان، وهي
العقل الفوقي الذي يسعى إلى الحقيقة في
كونيَّتها. إن سوء الفهم
وقصور الإنسان ذاته في فهم حقيقة وجوده أدى
إلى ابتداع نظريات من هذا النوع. ولا يقل
شأناً عن هذا القصور وسوء الفهم، انفعال
الإنسان ولاتعقُّله، وانغماسه في عالم
اللاوعي المكبوت أو المكبوح، واندفاعه في
تلقائية الرغبات المادية. وهنالك أسباب أخرى
دفعت بعجلة الآراء السلبية شوطاً بعيداً،
نعدد منها: محاربة النظريات العلمية بطريقة
عشوائية مغلوطة لم تقُمْ على معرفة عقلية –
هذه المحاربة التي دفعت بأصحاب المنهج العلمي
إلى ردِّ فعل عنيف بدأ في اتخاذ موقف معاكس من
مناصري النظريات الروحية المغلوطة –
وهي الفئات التي تسلَّمت أنواع الحكم، وكان
يناسبها ويلائمها أن تُعتمَد هذه النظريات
للاستفادة من كل ظرف قد يُطيل أمد حكمها (وقد
اعتُبِرت هذه الفئات غوغائية، ومسؤولة عن
تأخر المجتمعات البشرية وعن ارتمائها في
أحضان المادية السلبية)؛ الجماعات التي زرعت
بذور الفساد في العالم وسعت إلى تقويض مبادئ
الكيان والروح، وأقامت مكانها صرحاً جديداً
من العقائد مُشيّداً على اللاعقلانية (ويقف
علماء نفس الجنس، وعلى رأسهم فرويد، في طليعة
المُسيئين للقيم الإنسانية السامية)؛ أنواع
التربية التي اعتمدت دراسة سلوك الإنسان
الظاهري، وقارنته بالسلوك الانفعالي (لقد
أساءت هذه المجموعة من العلماء إساءة كبرى
لأنها نزلت بالإنسان إلى تلقائية مادته،
وأغفلت دور العقل الفوقي والوعي)؛ النظريات
الاقتصادية التي اختزلت سلوك الإنسان إلى
وضعه المعيشي فقط، وقيَّدته بسلاسل المعدة،
وبمظاهر المجتمع وتقاليده الزائفة؛ النظرة
التاريخية التي جعلت التاريخ حقلاً للصراع
وليس للتكامل، هذه النظرة التي ينقضها العلم
الحديث الذي يرى أن المادة التي تتطور إلى
غاية هي مادة عاقلة، واعية تتميز بالوعي؛
السلطات المذهبية والطائفية
الدينية
التقليدية
التي انحرفت عن
رسالتها، وأقبلت على مادية العالم أكثر من
غيرها، مشوِّهة مبادئ الروح - الفئات التي
أضاعت السبيل، وكان واجبها يقضي بأن تكون
المثال الذي يُحتذى به. أدَّت النظريات
السلبية إلى إضعاف إنسانية الإنسان واختزال
عقلانيته الفوقية التي تتجاوز حدود وأُطُر
الإدراك الحسي. فإن كان الإنسان مادة تنتهي
بموت فجائي، فإنما يعني أن حياته تخلو من
المعنى والقيمة. وإن كان الواقع يشير إلى هذه
القضية، فإنما لنقول بأن ما من شيء يمنع هذا
الإنسان من القيام بكل ما يثيره أو يجعله
منفعلاً. وعندئذ، يعجز عن مقاومة الرغبات
والشهوات التي تشده إليها برونق مادتها
وتلقائيَّتها. وإن كانت الحياة تخلو من غاية،
فأي شيء يُقيِّد الإنسان أو يمنعه؟ وإن كانت
حياته تنتهي دون أن تمتد في اللامحدود، أو في
الوعي الكوني والحقيقة السامية، فماذا يعني
وجوده؟ إن خلو الحياة من
غاية علوية، هي تحقيق الوعي الكوني، دفع
الإنسان إلى عالم العنف. فهو يحارب ويقتل، ذلك
لأن الحقيقة، في زعمه، غير موجودة. وهو"يتحرر"
من كل مسؤولية لأنه يندفع وراء ذاتيَّته.
وهكذا، يكون العنف موجوداً لأن الآراء
السلبية تعلِّم الإنسان أن حياته تخلو من
قاعدة فعل، هي إنسانية عليا، أو من قاعدة
ميتافيزيائية توحِّد حياته الزمنية الحاضرة
وحياته الأبدية اللازمانية. وتحرمه الآراء
السلبية من إدراك حقيقة الوجود ككل. وإذ يدرك
الإنسان حقيقة اتصاله مع الكون قاطبة، يعلن:
لا معنى للماوراء بمعزل عن هذا العالم؛ الكون
كلٌّ متحد، تتكامل فيه الأزمنة والأمكنة؛ وإن
ما نفعله هنا، أو نكونه هنا، نفعله ونكونه في
كل مكان كوني. لذا، يكون الماوراء حضوراً
تاماً ووجوداً بكل معناه، هو الكل في الكل.
يؤسفنا أن نقول: إن الآراء السلبية فصلت بين
زمانية الوجود الأرضي وأبديَّته، تماماً كما
فصلت الآراءُ المذهبية والطائفية الضيقة
الحقيقةَ السامية والوعي الكوني
والاتِّصالية عن الإنسان، فجرَّدته من نعمة
الوجود المتكامل في ذاته في حضور كامل. لما كانت الآراء
السلبية تعلِّم الإنسان بأن حياته تخلو من
القيمة والمعنى –
المفهومين اللذين يعلمانه بأنه غاية بذاته،
غاية تسمو على الغايات الأخرى – فإنه يندفع،
نتيجة لهذا التعليم، وراء الأهداف الدنيا:
كالملكية، والمال، والوضع الاقتصادي
والاجتماعي، والتعبير المباشر عن رغبته
الحسية، إلخ. ولما كانت هذه الأهداف الدنيا
تشكل معنى معيشته فإنه يتمسك بها
ويعتبرها
الجوهر، ويتجاهل حياته المثالية الكامنة في
العقل الفوقي المتَّجه إلى غائية الوجود.
هكذا، أعدَّت الآراء السلبية والعلمية
التقنية، غير الناضجة، تقويماً جديداً
للإنسان، ودفعته إلى إشباع أهدافه الدنيا
الثانوية. فقد أصبح الإنسان يقوِّم نفسه، في
كل نظام اجتماعي، حسب وضعه الاقتصادي. فهو
يشعل الثورات، ويعلن أنواع تمرُّده، يقتل
البشر الذين يتنازعون على سُبُل العيش.
وتتسلم الفئات الضعيفة السلطة، ويهدف هذا
الوضع السلبي إلى إجراء تحسين في وضع الإنسان
المالي والاقتصادي بمفهومه الضيق. وعندئذٍ،
يسود العنف في إطار المعيشة الخالي من الغاية
السامية، وينشأ صراع بين دولة ودولة، بين فئة
وفئة، وبين فرد وفرد. وليس جوهر الموضوع أكثر
من وجود "معدة" تشير إلى تحسين وضع
اقتصادي تحسيناً لا يستدعي هذا الصراع العنيف.
مع ذلك، لم تفعل
الآراء الروحية، التقليدية والمذهبية، شيئاً
في هذا المضمار، ولم تقدِّم حلاً للمعضلة.
كانت سلبية كالآراء السلبية ذاتها. وتحت
سلطتها، اندلعت الحروب وانبثقت أنواع الصراع
من أجل الأسباب ذاتها. لذلك لم تكن "روحية"
على الرغم من ادعائها بأنها سلطات روحية. وقد
سادت الأهداف الدنيا في مملكتها تماماً كما
سادت في مملكة الآراء المادية السلبية. وتعود
المسألة بكلِّيتها إلى أن الإنسان لم يتعلَّم
كيف يحقق إنسانية في كلتا المملكتين. وعلى غير
ذلك، تعلَّم أن يسعى وراء رغباته وشهواته
الاقتصادية والمادية والتجمُّعية. ولما كان
تجسيد العنف قائماً في الرغبات والشهوات،
بأنواعها، فلأنه نتاج لهذه الآراء المادية
السلبية والتقاليد المذهبية التي تُلبِس
الباطل رداء الحق. ليس القوي من
يعتمد العنف المادي ويمارسه، بل من يعتمد
القوة الفكرية، ويحقق التكامل الداخلي،
والوعي، ويحقق الغايات النبيلة في وسط
الصعوبات التي تعترضه بقسوة وشدة. ليس القوي
من يعتدي، بل هو من يسامح ويتحمل. ليس القوي من
يتغلب على غيره بالعنف المادي الغاشم، بل هو
من ينتصر على أهوائه ورغباته وشهواته. ليس
القوي من يستعبد غيره ويفوز بنصيب أوفر من
غنائم المال والسلع، بل هو من يعلِّم غيره كيف
يحقق إنسانيته ويشاركه في ميراثه وذكائه
الاجتماعي. ليس القوي من يخدع غيره، بل من
يرشد غيره إلى الحقيقة. ليس القوي من يصارع من
أجل البقاء، بل هو من يتكامل مع غيره من أجل
البقاء. ليس القوي من يتكبر على غيره، بل هو من
يخدمه. ليس القوي من يهزأ بغيره ويلتذُّ
بمأساة غيره أو يستضعفه، بل هو من يرفع مستوى
غيره. القوي بمادته
ضعيف، والقوي بوعيه الإنساني والكوني قوي؛
الشجاع بمادته عنيف يسيطر عليه الخوف والضعف،
والشجاع بروحه قوي بلاعنفه. هكذا، تتحقق
الحياة في مبدأ اللاعنف والمحبة، ذلك لأنهما
قانون الروح والوعي. ويتمثل كل من السلام
والعدالة والسكينة والعلم والمعرفة والأخلاق
في قانون الوعي الكوني – وهوالروح، وهي
تتجاوز غلافات مادتها عبر تطورها باتجاه
تحقيق ذاتها. هكذا، تكون المحبة، الممثَّلة
باللاعنف، شريعة الإنسانية، القوية
بمثاليتها. أما العنف، فإنه يعبر عن ذاته
بالضعف الذي يدافع عن ذاته في مقاومة تدعى
ميكانيزم الدفاع ومقاومة الحقيقة. نستطيع، بعد هذه
المقدمة الوجيزة، أن نسأل: كيف يتحقق اللاعنف
والمحبة؟
إن حل مشكلة
العنف في عالم بلغ درجاته العليا من التمزق
والصراع مسألة صعبة غاية الصعوبة. هذا، لأن
اللاعنف أصبح بعيد الاحتمال والتطبيق، إذ بلغ
العنف أقصاه. وتشير الدلائل إلى أن العنف قد
بلغ هذا الحد الأقصى بسبب العوامل المذكورة
التي تحرِّضه وتثيره.
وهكذا، تنبثق
العدوانية إلى الوجود. وفي عالم العنف هذا،
تتراجع أخلاقية اللاعنف والمحبة ومثاليتهما.
لكن اللاعنف يكون أكثر فعالية في وضع اجتماعي
أو فردي لا يكون الخير المسلوب قد طغى تماماً.
لذلك يسهل تطبيق اللاعنف في الحالات الفردية
أكثر مما يسهل تطبيقه في الحالات الاجتماعية
والدولية. يتطلب تطبيق
اللاعنف أمرين: أ. تطلب
وجود أناس يحملون بذوره ويتزودون بمبادئه.
إنهم يحملون هذه البذور إلى العالم
من أجل زراعتها في المجتمعات العديدة،
ويعلِّمون هذه المبادئ، بمحبة وتحمُّل،
لجميع الناس. ولما كنا نؤمن بتضامن أهل الوعي
والحكمة والخير، الذين يزرعون حقل الإنسانية
ببذور المحبة واللاعنف، فإننا نؤمن أيضاً بأن
اتحادهم يشير إلى تجاوز السلب الذي يستفحل
أمره يوماً بعد يوم. وفي هذا المنظور، تشتد
حاجة العالم إلى أصحاب الرؤى والبصيرة، وذوي
المعرفة والوعي؛ وتزداد هذه الحاجة إلى
العاملين في حقل السلام والعدالة. ب. يتطلب اللاعنف
تربية تطبيقية جديدة تقوم على مبادئ التحمل
والعطاء، وتقلص
التعصب المذهبي
والطائفي إلى أدناه، وتلطِّف أو تقلل من
خطورة الفوارق بين الأفراد والشعوب. إن تربية
من هذا النوع، تؤمن بأخوة الإنسانية وتبشِّر
بتضامن الإنسان مع الإنسان، وتدعو إلى احترام
آراء الآخرين وتقدير الشخصية الإنسانية. يتضمن اللاعنف في
قانون الروح، وغائية التطور؛ ويتضمن العنف في
قوقعة الأنا التي لا تعي ذاتها. ولقد أخطأ بعض
علماء التطور الذين أبانوا أن التطور صراع
يهدف إلى بقاء الأقوى لكونه "الأفضل".
والحق هو أن التطور، في الجنس البشري، وفي
الطبيعة، يتأسس في التكامل. وليس التكامل سوى
وجه آخر للمحبة واللاعنف والخير. هذا، لأن
عالم الإنسانية غاية بذاته. وإذا كان غاية
بذاته فإن تطوره يبدأ من ذاته لينتهي إلى
ذاته، لتحقيق ذاته، بمعنى أن التطور، بعد
الإنسان، يتجه إلى عقلانية أعلى، ووعي أعظم،
وروحانية أسمى. لذا، لا يكون التطور صراعاً بل
تكاملاً، وتجاوزاً أو تعالياً مستمرين في
حقول المعرفة والوعي والروح. يتحقق اللاعنف في
التضحية التي هي المحبة المطبقة، أو المحبة
التي بلغت ذروتها. وإني أفضل الإنسان المضحي
على غيره لأنه "خادم" أمين ومخلص. لذا،
كان اللاعنف خدمة وتواضعاً وبساطة؛ هو قانون
الإنسان الذي يعني أن الإنسان يرى صورته في
الآخر، فيحب هذه الصورة كما يحب نفسه، لأنها
نفسه في نوع آخر. وإذا كان الإنسان يحب غيره
كما يحب نفسه، فإنما ليكون اللاعنف قانون
البقاء والحياة. والإنسان لا يتمثل بإنسانين،
إنه إنسان واحد. وفي هذا الإنسان توجد الصورة،
المنظورة وغير المنظورة، للناس الآخرين.
والإنسان يحب صورته في الإنسان الآخر تماماً
كما تحب الحقيقة السامية صورتها في الإنسان.
وإذا كانت الحقيقة السامية تحب الإنسان،
وتمنحه صورتها وجوهر وجودها، فحريٌّ
بالإنسان أن يحب الإنسان الذي تتجسد فيه
صورته ومثاله. وفي هذا المنظور، نسأل: كيف يحب
الإنسان نفسه في الآخر؟ وكيف يُذِلُّ نفسه في
الآخر؟ وكيف يكره نفسه في الآخر؟ وكيف يرذل
نفسه في الآخر؟
وكيف يتكبر على
نفسه في الآخر؟ وكيف ينبذ نفسه في الآخر؟ وكيف
يعذِّب نفسه في الآخر؟ وكيف يستغل نفسه في
الآخر؟ وكيف يستعبد نفسه في الآخر؟ ولماذا
يحل الرباط الذي يصله بالآخر؟
خاتمة بات الإنسان، في
هذه الفترة من تاريخه، يشعر وكأن العنف قد بلغ
ذروته. لذا، يحمل الإنسان الذي يعتمد العنف
وسيلة لخلاصه بذورَ شقائه وفنائه. وهكذا،
يشير وضعه الراهن إلى أحد أمرين: أولاً،
الاستمرار في نطاق العنف؛ ثانياً، العودة إلى
الوعي واللاعنف. في الطريق
الأولى، أي الاستمرار في العنف، يتجه الإنسان
إلى هاوية التعاسة والظلمة والجحيم. وفي
الطريق الثاني، طريق الوعي والحكمة
واللاعنف، يتجه الإنسان إلى السعادة والنور
والنعيم. ولما كانت مسيرة الطبيعة تشير إلى
تقلص العنف، فإن مسيرة الإنسان تشير إلى تقلص
العنف أيضاً. وفي تصورنا، نعاين هذا العصر
الذي اقترب من درجة الغليان والانفعال وهو
يهدأ ويعتدل. فالعلوم التي اختبرت تجاربها في
حقل المادة، وتنكرت للطاقة الروحية كمبدأ
كوني فاعل، بدأت تعود إلى حقيقتها. وقد بدأت
تعترف بوجود هذه الروح المحيية في كل مجالات
الطاقة والمادة. ولذا نرى أن نظريات الفيزياء
وغيرها التي تطرفت كثيراً، أخذت تعود،
بالإضافة إلى علم
الفلك والرياضيات والبيولوجيا،
إلى نقطة انطلاق
جديدة، وترى في المادة صورة أخرى، تعتبرها
طاقة كثيفة، أو درجة من درجات اهتزازها. ولذا،
بدأت تخفف من غلوائها. إن هذه العلوم، وقد
بدأت تبحث عن الحقل المُوَحِّد لكل الحقول
وتعتنق النظرة الكلِّية الشاملة
النظرة
الهولستية، تبحث الآن عن المستحيل، عن
المجهول، عن الحقيقة في ذاتها. وسوف تعاينها
أخيراً، وتقرُّ بها، في مبادئ اللاتعيُّن،
وفي دراسة الطاقة التي لن تنتهي من دراستها. والمبادئ
المتطرفة، العقائدية منها والإيديولوجية،
التي أخضعت الإنسان والمجتمع لقانون صارم
وحتمي، أخذت تخفف من غلوائها أيضاً، وبدأت
تدرك أنها لا تتلمس الحقيقة إلا في تعديل
موقفها، والاعتراف بمزيد من التلاقي مع
المبادئ الروحية الأخرى. لذا، نرى أن العنف
الذي برز بشدة في هذا العصر سيخف تأثيره
ويتقلص شيئاً فشيئاً. هذا، لأن العنف يشبَّه
بإنسان غاضب، تضاعف غضبه وتزايد حتى بلغ
مرحلة تتشعب إلى مفترقين: مفترق أول يؤدي به
إلى الانهيار والضياع، ومفترق ثانٍ يتعرف فيه
على حماقته ولاوعيه. ولسوف يرتد إلى وعيه،
ويعود إلى صوابه وحقيقته بعد أن يكون قد أدرك
حماقته وتفاهة انفعاله. ولا نبالغ ونحن نقول:
إن العنف السائد في هذا العصر شديد وقاسٍ، بلغ
شعبتي مفترق الطريق. ونحن نعتقد بأنه سيتراجع
عن حافة انهياره وضياعه إلى الوعي الذي يرشده
إلى اللاعنف والمحبة. هذا، لأن غلبة اللاعنف
أكيدة في نهاية الأمر وفق جدلية الحياة
والمنطق الصاعد. ويبدو هذا التأكيد في الحقول
التالية:
أولاً:
إنه يبدو في حقول العلوم الفيزيائية حيث
أضاءت أنوار جديدة، هي المعلومات التي تشير
إلى أن الحياة والطاقة هما حقيقة المادة، وأن
المادة ليست إلا طاقة كونية أو حياة مكثفة،
ملتفة على ذاتها. وفي هذا الحقل، تظهر دلائل
جديدة لروحانية عقلية وعلمية جديدة، تأخذ بيد
الإنسان لترشده إلى طريق المعرفة والوعي،
معرفة الحقيقة السامية والحياة فيها،
والتأمل في حضورها الكلِّي. وفي حقل جديد
كهذا، تتحقق غلبة اللاعنف على العنف، ذلك لأن
الآراء السلبية التي ورثناها من القرون
الماضية، والتي سعينا إلى معرفتها، والتنقيب
عنها والتدقيق فيها، ودلت على حقيقة أخرى،
أدت إلى العنف. ولم يكن بزوغ التجربة العلمية
إلا رؤية نور بعيد في آفاق المعرفة، ودليلاً
على انبثاق فجر جديد للاعنف، تتروحن فيه
المادة، وتتعرف على سكينتها، يتعرف الإنسان
على جوهره. ثانياً:
إنه
يبدو في حقل العلوم الاجتماعية التي تشير إلى
إفلاس النظريات السلبية، الفردية
والتجمُّعية التي لم تؤسس قاعدتها على
الإنسان بقطبيه الروحي والمادي. فقد عانت هذه
العلوم من نقص في تركيبها. إنها شُيِّدت على
مغالطات التاريخ التاريخ
السلبي، واعتمدت العنف سبيلاً الحل مشاكلها.
وفي الحقبة الأخيرة، تجد هذه العلوم إيجابها
في ذاتها، وهو اللاعنف الذي هو الحقيقة التي
أضاعها الإنسان ونفاها. لذا، تقضي الضرورة
بعودته إليها في وضعه الاجتماعي المتمثل
بالسلم، والتآلف والمحبة. ثالثاً:
إنه يبدو في حقل العلوم الإنسانية التي تشير
إلى وجود عقل فوقي يتجاوز سلوكه الآلي.
وبالفعل، تتراجع هذه العلوم
التي تبنت، في
حقول البيولوجيا والفيسيولوجيا وعلم النفس،
نظرة مادية عن الإنسان
عن موقفها
الفكري، وتتطور إلى معرفة أكثر عمقاً، تلمح
من خلالها أشعة الروح والجوهر. وليس تطور
المعرفة، وعدم توقفها عند حد معين، إلا
دليلاً على روحانية الأشياء –
اللانهاية فيها والوعي الكامن في باطنها. لا تكتمل غلبة
اللاعنف إلا بفعل إنساني. هذا، لأن الإنسان هو
القائد الذي يبدعه ويوجِّهه. لقد ابتدع
الإنسان العنف، ويجب عليه، نتيجة لذلك، أن
يحقق اللاعنف حتى يعود إلى حالته الإنسانية
الفطرية والطبيعية – اللاعنف والسلام
قبل انهيار ملكوت روحه ووحدة كيانه، والعنف
بعد تدمير ذلك الملكوت. ولما كان الإنسان قد
بلغ درجة الإشباع بعد انهياره، فقد وجد نفسه
مضطراً للبحث عن الخلاص –
والخلاص قائم فيه، في روحانيته، أي مثالية
وجوده، التي هي حياته في الحقيقة السامية أو
في الوعي الكوني. وفي سبيل تحقيق غلبة اللاعنف
على العنف، يجدر بنا أن نتقدم ببعض الحلول
الأولية:
أ.
الانفتاح العقلي
الذي يشير إلى تبني العقل موقفاً إيجابياً من
المبادئ الأخرى. فواجب الإنسان يكمن في تفهم
المبادئ الأخرى، والاعتراف بالآخر. ويؤلمني
أن أجد غالبية الناس يجهلون مبادئ غيرهم
المذهبية والأخلاقية والاجتماعية أولا
يلمُّون بمضامينها كما ينبغي. وعلى هذا
الأساس، يقفون بعضهم من بعض مواقف متناقضة
وعدائية. فكلما زادت المعرفة بآراء الآخرين
ومبادئهم، زادت المحبة والوعي والانسجام.
لذا، كان العقل المنفتح دليلاً أو سبيلاً إلى
اللاعنف. ب.
الحوار الإيجابي
الذي يشير إلى محاولة الإنسان التي تبغي
للوصول إلى نقطة تلاقٍ مع الآخرين. هذا، لأن
انعدام الحوار سبب أصيل للعنف، يؤدي إلى
التباعد وانعدام التلاقي، فالبغضاء والعداء.
ويُعَدُّ الحوار نتيجة أكيدة للانفتاح
العقلي والقلبي الذي يعني إقدام الناس على
دراسة مبادئ بعضهم البعض دون تبني موقف سلبي
أو حكم مسبق مناقض. إن دراسة مبادئ الغير
بعقلية منفتحة، وقلب منفتح، وإرادة فهم تتجرد
من الانفعال والتعصب، وتتصف بأمل اللقاء
واعتناق الأفضل، تؤدي إلى محبة متزايدة،
وتتركز في اللاعنف. وعلى غير ذلك، تعزز كل
دراسة يبتغي الإنسان منها تهديم غيره أو نبذ
مبادئه دون اعتماد الوعي، كما هو الأمر في
الواقع، أنانية الإنسان، وتقوض ملكوت حقيقته.
ج.
الموقف الإيجابي
الذي يشير إلى احترام الإنسان الآخر مهما
اختلف موقفه أو نظرته إلى الحياة، أو مذهبه،
أو عقيدته، أو عرقه، أو لونه... إلخ. وهذا، لأن
احترام المبادئ الأخرى خطوة أولى باتجاه
اللقاء. ففي هذا الاحترام، يتم تقارب الإنسان
من الإنسان الآخر، ويساعده على تفهم وجهة
نظره قبل الحكم عليها أو قبل الوقوف منها موقف
العداء. ولذا، يستحيل بناء هيكل الإنسانية أو
معبدها، الذي تلتقي فيه الآراء من أطراف
العالم كلها، ما لم يتأسس هذا البناء على
مبادئ الاحترام والانفتاح العقلي والقلبي،
والتحمل من أجل تحقيق حوار تتآلف فيه الآراء
وتتعاطف. ويعد هذا التآلف أو التعاطف قاعدة
اللاعنف والمحبة. نحن نرى أن كل
عداء بين الناس ينطلق من مواقفهم العدائية
الناتجة عن سوء الفهم الناتج، بدوره، عن
تلوين العقل بلون معيَّن. وتتسبب هذه المواقف
العدائية من ضيق أفق الفكر، وتصلب الموقف
العقلي وتعصبه، ومن الاعتقاد بأفضلية إنسان
على إنسان، أو فئة على فئة، أو أمة على أمة، أو
مذهب على مذهب، وفق ما تفرضه شريعة دنيوية أو
غير دنيوية، تشير إلى أن فئة من المجتمع
الإنساني حازت على موهبة الخلاص والنعمة أكثر
من غيرها. ولهذا، فقد اندلعت الحروب المذهبية
والعنصرية والعرقية. فمن الوجهة المذهبية،
انطلقت أفضلية شعب على شعب آخر؛ ومن
الوجهة العنصرية، انطلقت أفضلية عرق على عرق.
وإضافة إلى ذلك، تعتمد الوجهة العنصرية على
معالم عديدة، معنوية ومادية. ويؤسفنا أن نقول:
إن الاعتقاد بهذه الأفضلية، على كل
المستويات، يؤدي إلى العنف والعداء والحرب.
وعلى غير ذلك، يؤدي الاعتقاد بأن للأمم
والشعوب طرقاً للخلاص خاصة بها، تلتقي في
نقطة أو نقاط مع طرق غيرهم، إلى اللاعنف
والسلام والمحبة. لما كانت البشرية
تتنوع وتتعدد، فإنه يجدر بالأمم والشعوب
والأفراد ألا يجردوا غيرهم من وعي الحقيقة أو مقاربتها،
أو أن
يعتقدوا بوجودهم الوحيد في هذا العالم،
وبأنهم أصحاب الحق وأتباع أو أنصار الحقيقة
والأوصياء عليها، أو أنهم فُضِّلوا على غيرهم
أو خُصُّوا وحدهم بالحياة والموهبة والخلاص. [1]
راجع مفهوم "الوعي واللاوعي" في كتابي تأملات
في الحياة النفسية.
|
|
|