|
إنسان
إياس
محسن حسن
كان الجبل
مرتفعاً جداً، وكنت أرى العالم من حولي بقعاً
ملونة بعيدة مختلفة الأشكال. الأولاد
الذين كانوا برفقتي، والذين لا أعرف أحداً
منهم، كانوا يركضون في جميع الاتجاهات، حفاة
عراة، يصعدون الصخور ويهبطون، وهم يغنون
أغاني بطيئة اللحن، بلغةٍ لا أفهم منها شيئاً.
كانوا يعتلون الصخور ويقفزون محاولين التقاط
الغيوم، مستمرين في غنائهم البطيء. من حولي كان
الماعز الجبلي يرعى الأعشاب القصيرة الخضراء
الظاهرة على جسد الجبل البني الكامد. كنت أدور بين
الأطفال سعيداً، حزيناً، مستغرباً. لا أعرف
ما كان شعوري بالتحديد، لكني كنت أميز شعوراً
خاصاً بسكينة رائعة تهبط على جسدي. اقترب مني أحد
الأولاد وسألني لاهياً بعود طويل جاف: "هل
قتلت ذئباً في حياتك؟" سؤاله صغير كفمه،
كبير كالجبل، مخيف أكثر من أنياب ذئب. قلت: ولماذا أقتل
الذئب؟ قال: كي لا يأكلك. قلت: ولماذا
يأكلني الذئب؟ قال: كي لا تقتله. ومضى يضحك بجنون
قافزاً نحو السماء، ماداً يده لالتقاط ندف
الغيم التي كانت تسقط أكثر فأكثر ضباباً يستر
أجساد الأولاد العارية والجبل على حدٍّ سواء. قلت لأحد الأولاد:
"هل قتلت ذئباً في حياتك؟ " قال: "أمي
قدموها للذئب في أيام الثلج كي يرحل عنا. في كل
يوم من أيام الثلج نعطي الذئب أحدنا كي لا
يأكلنا جميعاً." "أنتم خنافس،"
قلت مستاءً. تابع هو دون أن
يكترث: "جدي قتل الذئب وأطعمنا إياه يوم وصل
الثلج حتى أغصان الشجر، ولم يعد هنالك طعام.
وأصبحنا بعدها نقتل ذئباً في أول الثلج،
ونسكب دمه الساخن ليفتح في الأرض البيضاء
حفرة، يهرب منها الشتاء وقطعان الذئاب." استلقيت على
الأرض فوق العشب، أرقب قطعان الغيوم القريبة
تجري مسرعة نحو مراعٍ زرقاء بعيدة، ونور
الشمس يغمر وجهي وأنا أستمع إلى غناء الأطفال
البطيء غير المفهوم. أخذت الغيوم
البيضاء تزيد من سرعتها هاربة من غيوم سوداء
مفلطحة الشكل، تأتي مسرعة لتغطي وجه الشمس.
رفعت رأسي. كان الماعز الجبلي يقفز هارباً بين
الصخور المرتفعة. صاح أحد الأولاد: "الذئب!"
جلست على الأرض
مذهولاً أنظر إلى قطيع الذئاب الرمادية التي
ظهرت مفتوحة الأفواه متدلية الألسنة وهي
تقترب ببطء. شعرت بالأرض ترتجف تحت جسمي، وساد
لون رمادي قاتم على كل شيء. ركض الأولاد وهم
لايزالون يغنون غناءهم البطيء. وقفت، ثم أخذت
بالجري معهم، بينما كانت الأرض تهتز
وتشقِّقها من حولنا فوالقُ صخرية عميقة
مظلمة، تخرج منها ذئاب صامتة تتحرك في كل مكان
بلامبالاة. ركضت وراء
الأطفال في طريق ترابي عريض شديد الانحدار،
مبتعدين عن الجبل. حول الطريق لم يكن هنالك
أية معالم مميزة، وأخذ الجبل يختفي شيئاً
فشيئاً وراءنا. لم ينزعج أهل
القرية من صخب الأولاد والبنات العراة، الذين
كانوا يضحكون بأعلى صوتهم وهم يعتلون ظهور
حيواناتهم، أو يتسلقون إلى أسقف البيوت
الطينية، ليقفزوا عنها فوق أكوام التبن لاهين.
كان الجميع هنا
يرتدي ثياباً مكونة من قطعة قماش غريبة
النوع، يلفونها حول أجسامهم. كانوا جميعاً
يبتسمون على الرغم من معالم القسوة والجدية
البادية على وجوههم. اقتربت من الشيخ
الذي كان يجلس صامتاً أمام الباب الخشبي
لبيته، ممسكاً عصاه الطويلة بيد وممسِّداً
لحيته الطويلة بالأخرى. قلت: "إلى أين يتجه
أهل القرية أيّها الشيخ؟" "إلى الهضبة."
قالها دون أن يزيح بصره عن الأفق وهو يمسك
بعصاه الطويلة. "هل في الهضبة
ذئبٌ أيّها الشيخ؟" "في الهضبة
يبنون بيوتاً جديدة. لقد ابتلع النهر نصفنا في
عيد الموت الماضي." استغربت جوابه،
قلت: "وهل للموت عيدٌ عندكم أيّها الشيخ؟" "إنه عيد النهر
يا غريب، والنهر يأكل الزرع والأبقار
والأولاد…
والنهر كان حكيماً قبل أن يتزوج العاصفة،
ويجن ويصبح موتاً." كان الأولاد
مايزالون يغنون بأصواتهم الرقيقة وهم يركضون
في بيادر القمح المحصودة، يلعبون مع الأبقار
السمينة المتناثرة على الصفحة الصفراء
الواسعة المحيطة بالقرية، ويجرّون بأيديهم
الصغيرة محاريث خشبية قديمة متقنة الصنع،
ثيرانها ترعى في الجوار بعيداً عنها، أو
يركلون بأقدامهم جماجم أبقار وخراف قديمة. كان الوقت مساء
عندما رأيت الجميع يعودون إلى القرية.
الأولاد كانوا مستمرين في لهوهم وغنائهم
البطيء. أنا، كنت أجلس مع
أهل القرية حول نار كبيرة. قدمت لي امرأة شابة
كبيرة العينين وعاء فخارياً فيه حساء قمح
ساخن. قال عجوز هيئته هيئة راعٍ، دون أن
يوجِّه الحديث إليّ، أنه شاهد فوق الروابي
البعيدة العاصفةَ تغرس منجلاً في صدر الصيف
المريض. "لقد جاءتنا
مبكّرةً ." علَّق الشيخ ذو اللحية هازاً
رأسه بأسف. وقالت امرأة إن البيوت في الهضبة
توشك أن تصبح جاهزة، بينما علَّق أخي الجالس
في الجهة المقابلة لي بأنه متعب ولن يذهب
للعمل غداً. فجأة مزق سكون
الليل خوار غريب، وخرج من ظلام البيادر رجل
منكوش الشعر، ممزق الثياب، يرفع رأسه للسماء
راكضاً بين بيوت القرية، متعثراً بالحجارة،
يركع بين الفينة والفينة خائراً، كثور ذبح
نصف ذبحة قبل أن يفلت من أيدي جزاريه. كان يصيح
بأعلى صوته: "لقد ذبح إبراهيم ولده وغرق
نوحٌ ." الأولاد كانوا
لايزالون يغنون أغانيهم بطيئة اللحن وهم
يلعبون. قام أهل القرية
على عجل مذعورين، هاربين من أمام رجل عملاق
أزرق الجسم، رأسه رأس ثور، قادم من البعيد
ساحباً مياه النهر وراءه باتجاه القرية. أخذ
المطر المتوحش يطفئ النيران ويذيب البيوت
الطينية. وكان من بقي من أهل القرية يزحف
باتجاه الهضبة. كان الطريق أشد
انحداراً من سابقه، وكنت أركض بأقصى سرعتي
وراء الأطفال الذين لم يعودوا عراة، بل كانت
أجسامهم ملفوفة بقطع قماشية طويلة غريبة
النوع. كانوا مستمرين في غنائهم البطيء، وكنت
بدأت أفهم شيئاً مما يقولون. القرية ذات
البيوت السوداء كانت شديدة الحرّ. لم يكن
هنالك الكثير من الناس في أزقتها الضيقة. انتشر الأولاد في
كل مكان يلعبون ويغنون، كان كل شيء قاتماً على
الرغم من قرص الشمس الحارق الذي يحتل نصف
السماء. استوقفني رجل
أسمر الوجه، حادّ القسمات، يجر خلفه حماراً
وامرأة سوداء العينين والشعر، مطرقة في الأرض.
قال: "أتشتري؟" قلت: "ماذا؟" قال: "المرأة." نظرتُ في عينيّ
المرأة اللتين كانت قد رفعتهما للنظر في
عينيّ. كانت تشبه أحداً ما أعرفه، نسيت تماماً
أين ومتى التقيت به، ربما أحد أصدقائي أو
أقاربي. "تبيع امرأتك؟"
سألتُه. "إنها ليست
امرأتي. اشتريتها من النخاس الأسود. ألا ترى؟
إنها جميلة، لن تجد مثلها في السوق." قلت: "ليس معي
نقود تكفي لشراء امرأة كهذه." أجاب مسرعاً:
"سآخذ ما معك مهما كان قليلاً." "ولماذا
تبيعها بثمن بخس؟!" سألتُ مستغرباً. اقترب مني
متلفِّتاً حوله وهمس في أذني: "سأشتري
جواداً وأرحل." "إلى أين؟"
سألتُه بصوت خفيض، كما كان قد فعل. "إلى المملكة.
إنها هناك، وراء تلك الصحراء البعيدة."
أجاب مشيراً نحو نقطة ما في الأفق. استغربتُ لهجته.
سألت: "ولماذا ترحل؟" "إنهم قادمون."
أجاب. سألت بدهشة: "من
هم؟" لم يجب بشيء. "من هم؟"
كررت. "أنا أكره الدم."
قال. "أي دم؟" "أنا أحب الذهب."
"من هم
القادمون؟" ألححت بالسؤال. "هل لديك سيف؟"
بدا لي
لوهلة أنه مذعور كجرذ، عميق كبئر. نظرتُ إلى
المرأة. كانت تحدق بي صامتة وهي تقف إلى جوار
الحمار. كان لها نهدان يبدوان من تحت ثوبها
الأبيض الرقيق مدوَّرين ببراعة وكأنهما رخام
منحوت بدقة لامتناهية. أخذ صوت غناء الأولاد
البطيء يرتفع في أذنيّ، وشاهدتهم يمرون بنا
وهم يغنون، دون أن يكترثوا لوجودنا. "هل ستشتري أم
لا؟" قال الرجل بإلحاح وعصبية. مددت يدي إلى جيب
بنطالي لأخرج ما معي من نقود. صعقت بأنني لا
أرتدي بنطالاً وأنني عارٍ من الأسفل. أخذ
الثلاثة، الرجل والحمار والمرأة، ينظرون إلي
بفضول. شعرت بخجل شديد منهم، وبخوف من الحمار
الذي أخذ ينهق سعيداً. تراجعت خطوة إلى الخلف.
كانت المرأة تضحك بدلال أرعبني، بينما كان
الحمار قد وقف على قائمتيه الخلفيتين وأخذ
يقهقه ممسكاً بطنه بكلا حافريه. أصبت بالهلع،
وأخذت أجري مبتعداً عنهم وأنا ألهث، متلفتاً
خلفي لأرى ما إذا كانوا يلاحقونني. على جميع
المفترقات كنت أصادف الأولاد وهم يغنون
أغانيهم البطيئة. أخذ جسدي يتعرَّق ويحترق
بأشعة الشمس اللاهبة. كانت جدران بيوت القرية
الخالية تزداد قتامة واسوداداً، كرماد نار
عملاقة أطفأها المجوس وانتحروا. ظهرت أمامي فجأة
بوابة نحاسية كبيرة لبناء أحجاره ضخمة
وجدرانه شديدة الارتفاع. دفعت البوابة، ودخلت
قبل أن أقفلها خلفي. كان المكان معتماً،
والنور يدخل من فوهة صغيرة مرتفعة فوق
البوابة، ليسقط على وجه تمثال أسود كبير،
عابس الوجه، تحيط به تماثيل أصغر حجماً. رأيت
أخي يخرج من باب الحمام الموجود في الزاوية
البعيدة. كان يتنشّف بمنشفة كبيرة صفراء
اللون مبتسماً. هز لي برأسه قائلاً بأنه متعب
ولن يذهب إلى العمل غداً. اقتربت من التمثال،
ومددت يدي محاولاً تحسُّس حجارته. وقبل أن
ألمسه، تردد ضجيج جبار في الغرفة، وبدأ
التمثال يحرك يديه المعقودتين على صدره. أخذ
صدى صوته الأجش يهز المكان: "أنا الشمس وأنا
القمر، ولي كروم ونساء. أنا الليل وأنا
النهار، وكفّي ظلام وكفّي نور. خيولي أقوى من
الخيول، وسيفي من صوَّان." تراجعت وأسندت
ظهري إلى الباب الموصد. "وأنا الصخر
والصحراء ومن قدميّ يدخل الأموات ويخرج
الأحياء. وأنا الأموات والأحياء. وأنا
الأشياء. وأنا الرمل والماء والهواء. وأنا
المكان وأنا الزمان. فيّ يلتقي الأزل بالأبد.
وأنا أنا. وأنا أنا. وأنا أنا...". وأخذت الأرض
تزلزل، ومرّ الأولاد يغنون غناءهم البطيء من
خلف البوابة الكبيرة المقفلة. ومن الشقوق
الصغيرة في حجارة الجدران الضخمة، أخذت تخرج
خيول كبيرة سوداء، على ظهورها فرسان خُوَذهم
جماجم غزلان، وسيوفهم طويلة ضخمة مستقيمة.
رأيتهم وهم يحطمون التمثال بحوافر الخيول،
ويرفعون مكانه آخر برأس أيِّل، ومنجلين مكان
الذراعين. ودخل من البوابة التي انفتحت ورائي
فجأة نساء يرتدين دروعاً حديديةً، يجررن
رجلاً مكبَّلاً أسود الوجه من قدميه. قطعن
رأسه أمام التمثال الجديد، وأخذ جسمُه
المقرَّح يركض في أنحاء الحجرة بلا رأسٍ
مصطدماً بالجدران. قال أحد الفرسان
الغرباء: "سنبيع رأس النخاس الأسود لمن
يدفع أكثر." ووقف عقاب رمادي
ساداً الفتحة الموجودة في الجدار فوق الباب،
آخذاً بتنظيف مكان ما تحت جناحه بمنقاره
المعقوف. أخذت أجري في
أزقة القرية السوداء، أدوس على الأشلاء
المقطَّعة، وأتعثر بالرؤوس الملقاة في كل
مكان. كان الدم يلطخ كل شيء. السماء مكفهرة،
الأرض ترتج، والخيول السوداء المجنونة تركض
بأقصى سرعتها. أخذت أرى سيوف الفرسان تتحول
إلى مناجل كبيرة لامعة النصال، وبدأ دم أحمر
قانٍ يخرج من شقوق جدران البيوت السوداء.
وهناك، عند أول الطريق المنحدرة، لوّح لي من
بعيد رجل أسمر اللون، ميَّزتُ على كتفيه
منشفة أخي الصفراء، لكنه لم يكن أخي. كان
يعتلي جواداً بنياً نحيلاً يخب به مبتعداً
نحو الصحراء الواسعة. لحقت بالأطفال في
منتصف الطريق المنحدرة المرصوفة، هذه المرة،
بأحجار كبيرة بيضوية الشكل نافرة. كانوا لا
يزالون يغنون غناءهم البطيء الرقيق. وعند أول
بيوت البلدة الحجرية التي وصلناها، أخذت أسمع
رنين أجراس مرتفع، وتعثرت منكفئاً على وجهي.
وجدت نفسي واقفاً
بين الأولاد، الذين لم يكونوا يرتدون ثيابهم
القماشية الجديدة، بل أثواب طويلة فاتحة
اللون، ويحمل كل منهم شمعة في يده، وهم
يردِّدون تراتيل دينية بلغة لا أفهمها، على
الرغم من أني كنت أرتدي ثياباً شبيهة
بثيابهم، وأردِّد معهم التراتيل غير
المفهومة نفسها. مال أخي الواقف
قربي بجسمه عليّ، وهمس في أذني بأنه متعب ولن
يذهب إلى العمل غداً. انهمكت في الغناء
الديني مع الأولاد بكل جوارحي، وأخذت
تراتيلهم تتحول شيئاً فشيئاً إلى الغناء
البطيء السابق، لأجد نفسي معهم وسط ساحة
حجرية الأرض، جالساً على حافة بركة ماء
صغيرة، في وسطها تمثال حجري لجواد جامح، واقف
على قائمتيه الخلفيتين، يخرج الماء من فمه
المفتوح. كانوا لايزالون
يقفزون ويلعبون، وكان بعضهم يتراشق بالماء
خلفي في البركة الصغيرة الضحلة، كل ذلك دون أن
يتوقف صوت الغناء البطيء. مرّ من أمامي كهل
رمادي الشعر واللحية، توقف بعد أن تجاوزني
ببضع خطوات وأدار وجهه نحوي قائلاً: "لايزال
الخير في كل مكان يا ولدي، ولايزال الشر
أيضاً، وأنت كائن من أنت، مثلك كمثل أي مكان،
فيك الخير وفيك الشر...". ودون أن يضيف
حرفاً، مضى محدِّثاً نفسه، مشيراً بذراعيه
ورأسه في كل الاتجاهات. وقفت أنظر إلى ظل
الرجل شبه المجنون وهو يبتعد، بينما مرّ في
الساحة حوذي عجوز يقارب المئة من عمره، قذر
الوجه والثياب، يعتلي عربة خشبية عتيقة، يصدر
من عجلاتها أنين حزين، وتفوح من جلود الخيول
الهزيلة المتعبة التي تجرها رائحة تشرد نتنة.
تعلق بضعة أولاد بالعربة من الخلف وهي تبتعد. رأيت أمي تعبر
الساحة مغطية نصف رأسها بوشاح أسود اللون،
يترك للقسم الأكبر من شعرها ذي الخصل السوداء
والرمادية أن يتبعثر فوق كتفيها. كانت ترفع
ذراعيها نحو السماء، داعية بأن
يحترقوا بنار
كبيرة ويُفجَعوا بعيونهم وأولادهم. وعاد
الحوذي إلى الساحة خارجاً من زقاق آخر بعربته
البائسة وخيوله النتنة، ليتوقف عند البركة
الصغيرة تاركاً للخيل أن تشرب. ترجَّل متجهاً
نحوي، مطرِقاً، عابثاً بسوطه الجلدي العتيق. "هل يريد سيدي
أن أصحبه إلى مكان ما؟" قالها من فم بلا
أسنان تفوح منه رائحة قاتلة، محرِّكاً شفتيه
بطريقة ربما قصد بها أن يبتسم. حدقت في قميصه
المصنوع من خيش ممزق، يُظِهر مساحة كبيرة من
صدره الهزيل ذي الأضلاع البارزة والشعر
الأبيض المصفر. قلت: "لا،
شكراً، سأنام عند عمتي." استدار صاعداً
إلى عربته مرة أخرى هازاً رأسه بأسف، ثم انطلق
بقهقهة غريبة ناهراً خيوله، آمراً إياها
بالتحرك. صحت في أثره: "هيه...
اسمع، عمتي لديها كلب." "ستأكلك
الصراصير في الفندق ياسيدي... الصراصير ستأكلك
..."
قالها منهالاً بالسوط على ظهور الخيل وهو
يختفي في أحد الأزقة الجانبية. نظرت حولي، فلم
أجد أياً من الأولاد، على الرغم من أني كنت
لاأزال أسمع غناءهم البطيء. قمت عن حافة
البركة وأخذت أسير في الأزقة ملتقياً ببعض
السكان ذوي الوجوه الهادئة. بيد أني لم ألتقِ
أياً من الأولاد. شدَّتني رائحة
خبز ساخن نحو دكان صغير. تذكرت أني جائع، بل
أني كنت أموت من الجوع. وقفت عند باب المتجر.
رأيت أمي تلبس مريلة المطبخ وتثرثر مع رجال
دميمين لا أعرف أحداً منهم. دخلت. لم يحرك أحد
الموجودين ساكناً، بمن فيهم أمي. وقفت أمام
قطع الخبز المتطاولة الساخنة التي أشعرتني
بأني لم آكل منذ قرون. قلت: "ماما، أنا جوعان."
ابتسمت وقالت: "لقد أكل أخوك كل حساء العدس."
أخذت أبكي وأنا أردد كطفل صغير: "أريد شوربة
عدس، أريد شوربة عدس...". نظرت إليّ أمي بعتب
وقالت: "متى تعود للبيت؟" لم أكن أنا أريد
سماع أو قول أي شيء. كنت أريد أن آكل وحسب. مددت
يدي إلى قطعة خبز ساخنة وخطفتها بسرعة هارباً
خارج الدكان. ركضت قليلاً إلى أن اطمأنيت إلى
أن أحداً لا يتبعني. وقفت ونهشت بقوة من قطعة
الخبز. تفاجأت بطعم الدم اللاذع في فمي. نظرت
إلى ما كنت آكل، فوجدت أني كنت أنهش أصابع يد
مقطوعة من المعصم، فيها ساعة يد تشبه ساعة
اليد الخاصة بأخي. رميت الكف أرضاً وشيءٌ ما
يطبق على صدري. قلت لنفسي: "متى يكف أخي عن
المزاح؟" تابعت سيري في
الأزقة. ومن آخر الزقاق الذي كنت أسير فيه،
رأيتُ عربة الحوذي تقترب مني سادَّةً الطريق
بأكمله. انتصب العجوز القذر واقفاً على
العربة، ممسكاً اللجام بيد وهو يحث الخيول
على الإسراع أكثر، وكاشفاً باليد الأخرى عن
وسطه الأسود. بدا لي واضحاً بأنه مصاب بفتق
قديم. وقفت أنظر إليه بغير قرف وهو يشد اللجام
موقفاً العربة في مواجهتي تماماً. "اصعد يا سيدي،
اصعد..." قالها وهو ينظر إلى وسطه الهرم
الشبيه به، ثم ابتسم، أو حاول أن يفعل. وجدتني أنقاد
صاعداً معه. قاد العربة بنا في شوارع البلدة
الصغيرة ذات الورود الحمراء على النوافذ، قبل
أن نتوقف في سوق شعبي مكتظ.
أشار لي إلى مدخل
أحد الأبنية غير المرتفعة، ككل بيوت البلدة. ولجت المدخل
المظلم، وأخذت أصعد درجاً خشبياً حلزوني
الشكل وأنا أعدّ الطوابق. كانت الأبواب في كل
الطوابق مقفلة. وجدتني أصعد وأصعد حتى بلغت
الطابق الثاني عشر وأنفاسي تكاد تنقطع.
فاجأني وجود هذا العدد من الطوابق في بناء
شديد الانخفاض كالذي كنت دخلته. هناك فقط وقفت.
قرعت على الباب الخشبي المفتوح قبل أن أدخل. قالت لي العجوز
ذات أحمر الشفاه الفاقع، الجالسة خلف طاولة
صغيرة، أنه علي أن أدفع قبل الدخول. انفتح باب، وخرج
أخي مبتسماً وهو يحزم بنطاله، وقال لي غامزاً
أنه متعب ولن يذهب غداً إلى العمل. نظرت حولي حيث
أنا، كنت قد بقيت فجأة وحيداً في الغرفة ذات
الطاولة. دخلت إلى إحدى الغرف دون أن أدفع،
ودون أن أقرع الباب. تلقفتني فوراً بين
ذراعيها امرأة ثلاثينية ترتدي فستاناً أحمر
فاقعاً فضفاضاً، وأخذت تعرِّيني بسرعة من
ملابسي. أخذت أقبِّلها من عنقها بنهم. ابتعدتْ
عني، ووقفت فوق السرير معدني الحواف. خلعت
فستانها الأحمر. بدت عارية تماماً وراحت تضحك.
أخذت أقترب منها وأنا أحملق في أسفل بطنها.
استلقت هي. وما إن بلغتُ السرير، وهممت بوضع
كفي فوق أحد نهديها، حتى اندلع ضجيج هائل في
الخارج، وسمعتُ صراخ الحوذيّ العجوز يأتي من
الشارع. أمسكتُ نهديّ العاهرة بقبضتيّ بقوة.
انفتح الباب خلفي على حين غرة، وظهر رجال
ملتحون يلفّون رؤوسهم بعمامات، ويحملون
سيوفاً ضخمة محدودبة النصال. هربت نحو
النافذة. نظرت من خلالها إلى الأسفل. كان
المكان شديد الارتفاع، وتيقنت من موتي إذا ما
أنا قفزت. رأيت في الأسفل خيولاً كبيرة،
يعتليها فرسان شديدو القسمات، ملتحون،
يصولون في أرجاء القرية. ورأيت الحوذيّ
العجوز يجلد خيوله هارباً بأقصى سرعة،
ملتفتاً خلفه بذعر، قبل أن يشطره سيف جبار إلى
قسمين طوليين، وتتحطم عربته تحت حوافر الخيول
الضخمة. التفتُّ ورائي،
فرأيت الرجال الملتحين يضاجعون المرأة ذات
الفستان الأحمر على الأرض، مثنى مثنى. نظر
إليّ أحدهم، وبدا وكأنه انتبه لوجودي للمرة
الأولى. قام نحوي مسرعاً وهو يحمل سيفه المقوس
الأشبه بساطور الجزار. أصبت بالهلع ورميت
بنفسي من النافذة. تفاجأت بأني لم
أمت حين وقفت سليماً معافى بين الأطفال، في
ضجيج المدينة الكبيرة التي وجدت نفسي فيها
بعد أن سقطت من النافذة. مشيت معهم قليلاً في
الشوارع الإسفلتية وهم يغنون أغانيهم
الرقيقة بطيئة اللحن. توقفنا على رصيف عريض
أمام باب كنيسة كبيرة ذات عمارة رائعة.
تلتفتُّ حولي فرأيت على الرصيف المقابل دار
سينما، على بابها إعلان عن فيلم يبدو أنه مشوق.
ترددت لحظة، قبل أن أنسلّ من بين الأولاد
وأتركهم يدخلون الكنيسة، لأقطع الشارع
متجهاً صوب السينما. وقفت أتأمل في صورة فتاة
رائعة الجمال، يبدو أنها بطلة الفيلم. لمحت
أخي يشتري تذاكر من الكوة. التفتَ إليّ
مبتسماً قبل أن يدخل، وقال إنه متعب ولن يذهب
إلى العمل غداً. أخذ لون السماء
الرمادي يزداد قتامة بسرعة غريبة، وسمعت من
وراء ظهري زلزلة مخيفة. التفتُّ، فرأيت
الكنيسة تنهار بكاملها دفعة واحدة بصورة لم
أشهد مثلها من قبل، وسط غيمة هائلة من الغبار
أخذت تصعد إلى السماء لتحيل لونها إلى أسود
كالفحم. وبدأت الأرض تهتز تحت قدميّ. أخذت أتراجع
للخلف وسط الشارع هلعاً، وعيناي معلقتان
بحطام الكنيسة العجيب. كادت حافلة مسرعة أن
تدهسني، قفزت إلى الرصيف. بدأت جدران باب
السينما تتشقق ببطء، وأخذتُ أسمع غناء
الأطفال البطيء ضعيفاً جداً يأتيني من مكان
ما كالنواح. ركضتُ في الشوارع
الخالية بأقصى سرعتي والأرض لازالت تزلزل. دخلت حديقة عامة
خالية، وسمعت صفارات الإنذار تنتحب في كل
مكان. صرخت في الجسدين العاريين المتعانقين
خلف شجيرة خضراء بأن يركضا. لم يكترثا لوجودي
أبداً. توقفت عن الجري وأخذت أنظر إليهما.
كانا يمارسان الحب بصورة رائعة. ركعت وجعلت
أضرب الأرض بقبضتيّ باكياً. أدارت الصبية
وجهها نحوي. قالت برفق: "ما بك؟ تعال." "أنا كلب."
ونبحت نبحتين. "اخلع ثيابك
واجلس بقربنا." قالت. "الدبابات في
كل مكان، في كل مكان..." قلت باكياً. "لكنك مازلت
حياً، مازلت حياً حتى هذه اللحظة. كل الملاجئ
محطمة، و نحن لا. تعال..." "وحيد أنا." "لا تنسحب
الآن، لا تخف." "وحيد أنا،
وحيد بلا أنثى." "سننتظرك." "وحيد أنا،
وحيد بلا أحد في هذا المكان القاتل." "انتظر،
انتظر، لا تذهب..." حطمت الدباباتُ
سور الحديقة المنخفض تحت سلاسلها، مطلقة
قذائفها في كل مكان، وأخذت الأرض المزلزلة
تتشقق. دوَّى هدير الطائرات المنخفضة، وظهرت
حفرة سوداء مكان الجسدين اللذين كانا يمارسان
الحب منذ لحظات. أخذت أجري في
الطرقات الخالية إلا من الدبابات والحطام
والسيارات المحترقة ذات الزجاج المحطم. كنت
أنظر إلى الأبنية السوداء المثقبة، وأهرب من
الدبابات التي كانت تخرج في وجهي عند كل
المفترقات، وأرى الطائرات وهي تلقي قنابلها،
لتترك مكان الأبنية أعمدة مدخنة متفحمة
وأكوام حجارة. سقطت أمامي طائرة محترقة كبيرة
الجناحين، وانفجرت تاركة مكانها حفرة كبيرة
وعموداً من دخان أسود. أخذت أركض وأركض هارباً
من كل شيء، أركض بعيداً عن المدينة، وأركض
وأركض... لم أجد الأولاد في أيّ مكان. كانت
السماء سوداء سوداء كالليل العاصف بلا قمر. وجدت نفسي أركض
بأقصى سرعتي على درب طويلة منحدرة. كان غناء
الأولاد يأتيني خافتاً من مكان ما. وقفت ألهث
مقطوع الأنفاس في ساحة ترابية واسعة
كالصحراء، شاسعة تمتد حتى الأفق القاتم. لم
يكن في الساحة أي شيء سوى طاولة كبيرة جداً،
يصطف عليها، بترتيب مدهش، عدد هائل من أقداح
زجاجية كروية الشكل، ذات أعناق وقواعد
دائرية، ممتلئة بنبيذ أحمر قانٍ. كان الصمت
والظلام يعمّان المكان، وكانت السماء تبتعد
مرتفعة، وتقترب منخفضة، حتى تكاد غيومها
القاتمة تلامس رأسي. اقتربت من
الطاولة منهكاً وحلقي جاف، أرغب في مدّ يدي
إلى أحد الأكواب. شعرت بالسكون المخيف يزداد
بصورة مريبة. اقتربت حذراً من الطاولة. اكفهرت
السماء أكثر، وأخذ
ضجيج خافت يكسر
الصمت قادماً من مكان ما بعيد، تجمدت في مكاني.
تحول الصوت الخافت إلى ضجيج صاخب، ثم أخذت
السماء تهدر بصوت كالرعد، ورأيت ذراعاً
هائلة، طويلة جداً، ملفَّعةً بالغيم، تخرج من
السماء، من أبعد نقطة في الأفق، تمتد نحوي
بسرعة قبضتُها الجبارة الهائلة، لتمسك بأحد
أكواب النبيذ من عنقه، وترفعه للأعلى وسط
لفاف الغيم الذي يغطيها، ويهدر في كل مكان صوت
سماوي جبار طاغ يصرخ بي: "لا إله إلا
أنت أيها الإنسان... لا إله إلا أنت..." فتحت عينيّ فجأة.
لم أكن أعلم كم مضى من الوقت، فالظلام هنا
موجود على مدار اليوم. أعادني إلى وعيي صرير
المفتاح الضخم يدور في الباب الحديدي
لزنزانتي، ووجدتني للمرة الأولى منذ عامين
أبتسم لسجّاني، الذي لم يتوانَ عن سكب دلو
الماء فوق رأسي، على الرغم من كوني مستيقظاً
هذه المرة. وضع العصابة على
عينيّ، واقتادني معه في نزهتي اليومية. حين همَّ برفع
العصابة كنت أعلم تماماً أين سأجد نفسي. نظرت
إلى المصباح، ذي الضوء الأحمر، المعلق في
السقف، وإلى السلاسل الحديدية الضخمة
والأجهزة غريبة الأشكال، التي صرت أعرف جيداً
وظيفة كل منها. اقترب الرجلان المقنَّعان
لاستلامي من السجّان. ووجدتني رغم ذلك كله
أبتسم للمرة الأولى في هذه الغرفة، الغرفة
التي كنت قد علمت أن أخي مات فيها قبل قدومي
إلى هنا. ولم تراودني أبداً تلك الفكرة بأن
أقول كل ما لديّ وأنتهي من كل هذا. لم تراودني،
ولن تراودني بعد ذلك، إذ إنني لم أشعر بالألم
يومها، لم أشعر بأي ألم، وتملكتْني حتى العظم
قناعة، لا أعرف كيف جاءتني بتلك القوة وتلك
السرعة، قناعة ذكَّرتني بأن أولاداً ودروباً
ومدناً وقرى لازالت تصخب وتستمر خلف هذه
الجدران. |
|
|