مغامرة الحكمة
لقاء مع جلْ فرسيه
يمثل
الكاتب الفرنسي جِلْ فرسيهGilles
Farcet موجة جديدة من
المفكرين والأدباء الشباب الذين يسعون، إلى
جانب البحث عن جمال التعبير في النص، عن العمق
القابع في الأشياء التي نحسبها أتفه التوافه.
وفرسيه من مواليد عام 1959، وهو يحمل شهادة
دكتور في الآداب (اختصاصاً في الأدب الأمريكي).
ويدير هذا الكاتب الشاب مجلة Filigrane
(ما بين السطور) الفرنسية؛
كما يشغل منصب المدير الأدبي في دار Dervy؛ ويدير سلسلة
’’دروب الحكمة‘‘ Les chemins de la
Sagesse لدى دار La Table Ronde؛
ويشارك في تحرير مجلتي Nouvelles
Clés و Sources
وغيرهما. صدرت له عام 1990 عن دار Albin
Michel سيرة
توماس مِرتُن Thomas Merton ودراسة لفكره
الذي ألّف فيه بين اللاهوت المسيحي ورياضات
الشرق من بوذية وهندوسية إلخ.
أُجري الحوار
التالي في معرض الكتاب في مونتريال. وتجدر
الإشارة إلى أن أرنو دِه جاردان (أ. د. في النص) Arnaud Desjardins
الذي يتكرر ذكره في الحوار اشتهر أول ما اشتهر
في الغرب بنقله إلى الغرب أفلاماً حية عن
حكماء المشرق الأحياء (من هندوس وبوذيين
ومسلمين إلخ)، وقد صدرت له كتب عديدة ممتازة
عن رحلاته وعن الحكمة المشرقية (صدرت
غالبيتها عن دار La Table Ronde).
سمير كوسا
سمير
كوسا: جِل
فَرسيه، أنت دكتور متخصص في الأدب الأمريكي؛
وقد انجذبت باكراً إلى الروحانية la spiritualité،
وهو ميدان لا يشغل الإنسان عادة إلا في أواخر
حياته! أحب أولاً أن أعرف ما هي الروحانية
بالنسبة إليك، وما الذي دفعك إليها؟
جِل
فَرسيه:
ليست الروحانية بالنسبة إلي إيديولوجيا أو
انتظار تعويض عن مشقات حياتنا هذه في الدار
الآخرة! الروحانية بالنسبة إليّ هي، قبل كل
شيء، هنا والآن، موقف وجودي، طريقة حياة
مختلفة؛ مختلفة في كونها، ببساطة، حياة أكثر
انفتاحاً، أكثر تسامحاً ومحبة، وأكثر سعادة.
وهنا أؤكد على فكرة السعادة؛ فكما يقول المثل
الجاري: "بئس القديس الحزين."
وفي اعتقادي أن هذا صحيح. فالإنسان الروحاني
بحق إنسان يُحسِن تقدير اللحظة، ويعرف كيفية
العثور على نوع من الكمال مستقل عن الظروف
الخارجية، وإن كانت مؤلمة. هكذا أفهم
الروحانية.
أما
فيما يتعلق باهتمامي بالروحانية، فلقد جاء
بالفعل باكراً. وأعتقد أنه نبت فيّ منذ
طفولتي، وإن لم يكن واضحاً آنذاك. ومن بعدُ
تجسَّد هذا سريعاً في سن الثامنة عشرة حيث
بدأت بممارسة التأمل بجدية. ولقد قرأت أيضاً
الكثير من الكتابات الروحية وسِيَر التجارب
الداخلية.
لا يمكنني تفسير
هذا الاهتمام على وجه التحديد. ولكن يبدو أن
ثمة أشخاصاً يمتلكون "عصباً روحياً".
لماذا؟ لست أريد هنا أن أخوض في النظريات
العديدة والمعتقدات المختلفة التي تفسر ذلك،
إنما أقول ببساطة إن ذلك كان دائم الحضور فيَّ.
هو فضول، بل أكثر من ذلك، حاجة لفهم ومعرفة
تلك الأسئلة الخالدة، مثل: من أنا؟ ماذا أفعل
هنا؟ ما مستقبلي؟ ما فائدة الحياة وما المغزى
منها؟ إلامَ يقود كل ذلك؟...
كثر
هم الذين طرحوا على كر العصور هذه "الأسئلة
الخالدة"، على حد ما سماها دوستويفسكي،
بينما نرى غيرهم أكثر لا تهمهم أو ينتظرون
سناً متقدمة حتى ينتبهوا إليها.
س ك:
لابد أنك احتجت إلى زمن طويل حتى بلغت
الروحانية كما عرَّفت بها...
ج ف:
طرح تعريف شيء، والوصول إلى تحقيق هذا
التعريف شيء آخر تماماً...
س ك:
صحيح! ومع ذلك قبل أن تصل إلى تصوِّرك السابق
قمت باجتياز مراحل عدة، كما ذكرت عن مطالعاتك
وعن التأمل... فمن هم الأشخاص (أو ما هي الأحداث)
الذين أناروا لك الطريق؟
ج ف:
نعم... أولاً، ولدت وترعرعت وسط أسرة
كاثوليكية محافظة. وقد ساعدني هذا بالطبع على
تبني وجهة نظر معينة – رغم ابتعادي عنها فيما
بعد – وذلك من خلال شعور بوجود سرّ. الاستماع
إلى الإنجيل وقراءته أيقظا فيَّ إذن بعض
التساؤلات ووفرا لي بعض نقاط الاستدلال.
بعدئذٍ، من سن الخامسة عشرة وخصوصاً في سن
الثامنة عشرة، مارست التأمل، ومثَّل هذا خطوة
حاسمة في حياتي...
س ك:
أي طريق من طرق التأمل مارست؟
ج ف:
عدة طرق. مثلاً التأمل التجاوزي Transcendental
Meditation،
الاسترخاء، إلخ. واهتممت على وجه الخصوص بكل
ما يمت إلى التأمل بصلة، فتعمقت في اليوغا، في
الهندوسية، إلخ. وكان هذا هاماً بالنسبة
إليَّ؛ فقد تمكنت أخيراً من العثور على
ممارسات يبدو أنها اختفت من الطقس الديني
التقليدي أو لم تعد تثير اهتمامه، وتبصرت إلى
إمكانية نوع من الصلاة العميقة التي ليست
صلاة طلب وحسب.
ومن بعدُ، وأنا
في حوالى الثالثة والعشرين من عمري، التقيت
بأرنو دِه جاردان (أ.د.). لقد مثَّل هذا اللقاء
خطوة حاسمة في حياتي. فقد شعرت مع أ.د. أنني
فعلاً أمام شخص لم يكتف بالقراءة وحسب، بل عاش
بعمق من الداخل ما كنت أصبو إليه، حتى إنه صار
ماهية وجوهر حياته وكيانه. وهذا لا يعني أنني
أصبحت كالحيوان الوديع الأليف. أ.د. مرح
للغاية وأبعد ما يكون عن الدور الذي يلعبه
بوصفه "مستشاراً روحياً" لبعض الأشخاص.
لقد
بيَّن لي هذا اللقاء أنه يمكن لشخص غربي عادي
أن يتمثَّل حكمة الشرق وقيمَه العميقة في
حياته اليومية. أعتقد أن اللقاء بشخص حكيم أو
معلم روحي – وهنا يجب أن ننتبه لكلمة "معلِّم"
هذه لأنها قد توحي بصورة شخص مهيمن يُجبِر
الآخرين على طاعته والقيام بما يحلو له؛ ليس
هذا ما أقصده بكلمة "معلِّم" – أقول، إن
الالتقاء بحكيم، بشخص يحيا تجربة روحية عميقة
لهو أمر جوهري؛ إنه تقليد تناقلته الأجيال.
ونجد ذلك حتى في المسيحية حيث كان للأفراد
فيما سبق موجِّهون روحيون.
اللقاء
بحكيم يمكنه أن يساعدنا على الطريق، لا بأن
يقوم بالعمل بدلاً عنا، أو بأن يدلنا على سبيل
مخطوط سلفاً، بل بأن يساعدنا على التوغل
عميقاً في دخيلتنا لنستمع إلى المعلِّم
الداخلي القابع في أعماقنا. فلكل واحد منا
صوته الداخلي، معلِّمه الداخلي الموافق
لشخصه، بما فيه من تفرُّد وتميُّز؛ والمعلِّم
الخارجي إنما يمثل همزة الوصل التي تسمح
بالإنصات إلى هذا الصوت الداخلي.
إذاً
كان لقائي مع أ.د. مرحلة حاسمة في دربي الروحي.
س ك:
وما الذي دفعك إلى القيام بدراسات أدبية رغم
اهتمامك بالروحانية؟
ج ف:
لم أكن أحب الفلسفة حسبما تعلَّمتها في
الصفوف الثانوية الانتهائية في فرنسا. لقد
وجدت الفلسفة في أحيان عديدة تمعن في تشييد
صرح أو منظومات نظرية تعمل جيداً في إطارها
المنغلق على نفسه، ولم تعد ذلك البحث عن
الحكمة الحقيقية حسب هدفها الأصلي.
هذا لا يعني أن
الفلسفة والفلاسفة جميعاً يقومون بهذا.
فأشخاص من نحو سقراط وأفلاطون أو حتى نيتشه
شغلتهم بعمق الأسئلة الخالدة. إنما بشكل عام
شعرت بعطالة الفلسفة. أضف إلى ذلك أنني أتمتع
بـ"سوسة فنية". لذا كانت دراسة الأدب أهم
بالنسبة لي، وكذلك كتابته؛ إذ يمكن من خلال
الأدب نقل أشياء جوهرية من غير أن نشعر، عبر
سحر الكلمات والأسلوب... ويمكن أن نصل إلى
تعميق شعورنا اليومي. فالشعر مثلاً يسمح بأن
نحوِّل حادثاً عادياً إلى شيء يمسُّنا في
الأعماق. ذلك ما دفعني إلى الأدب.
س ك:
ألا يمكن أن نوجه الانتقاد عينه الذي وجهته
إلى الفلسفة إلى الأدب بعامة؟ صحيح أن الأدب
يعبِّر جيداً عن خلجات النفس، لكن عديدون هم
الأدباء الكتاب الذين يضيعون في خيالهم
المجنَّح وهو في النهاية خيال الفلاسفة ذاته!
ج ف:
يمكننا أن نقول ذلك. يتعلق ما سبق بالفيلسوف
أو الأديب الذي نتحدث عنه. أعتقد أن الذي
يخلِّد كاتباً وكتاباته على مر الأجيال هو
أننا نجد في أعماله نماذج أو صوراً عالمية
كبيرة – أليس كذلك؟ – هي حقاً من مستوى
الخيال، إنما تقابل في خيالنا حقيقة تذهب إلى
أبعد من هذا الخيال لتمسنا في أعمق وأسمى ما
لدينا. لذا مازلنا نقرأ هذه الأعمال؛ ففيها
صدى لحياتنا الداخلية الخاصة. إذاً إلى جانب
الآداب التي تضيع في دوامة كلماتها، نجد
كتَّاباً يحركون الصور الكبيرة والأسئلة
الخالدة عبر فنِّهم، ككبار الرسامين
والموسيقيين. إنه في الواقع الأمر نفسه عبر
قناة مختلفة.
س ك:
لكن من هم كتَّاب اليوم الذين يعبِّرون في
رواياتهم أو سِيَرهم أو في شعرهم عن شيء عاشوه
بعمق؟
ج ف:
لديَّ عدة أمثلة، أخص منها بعض المؤلفين
الفرنسيين الذين أعرفهم، كصديقي كِنِّث وايت Kenneth White
– وهو من أصل اسكتلندي. وايت شخص إن
حدَّثناه عن الروحانية أخذ حذره وتمنَّع،
لكنه من خلال كيانه، من خلال شعره ورواياته أو
حتى دراساته، يقوم بنقل رؤية عميقة للحقيقة
في أصفى ما فيها وأشده ألقاً. يحضرني شخص آخر
هو فيليب سولِّرس Philippe
Sollers الذي،
رغم أنه يُنظَر إليه كشخص "دنيوي"، هو
شخص عميق جداً لديه الكثير مما نتعلَّمه منه.
كذلك غبرييل متزنيف Gabriel
Matzneff، وهو
كاتب فرنسي من أصل روسي، أذكر من بين مؤلفاته
قاموسه الفلسفي ثور فلاريس Le taureau de Falaris حيث نجد تساؤلاً
عميقاً، بلغة طليَّة، حول الأسئلة الخالدة.
يحضرني أيضاً كريستيان كريير Christian Carrière
الذي يضطلع بزاوية التلفزيون في صحيفة يومية
باريس Le quotidien de Paris.
لقد حوَّل كريير هذه الزاوية إلى ضرب من
التأمل المستمر في الصور الكبيرة. إذ حسبه أن
يرى فيلماً أو مسلسلاً أمريكياً حتى يستخلص
استنتاجات مذهلة حقاً.
أعتقد
إذن أن ثمة اليوم مؤلفين لديهم ما يقولون،
ويستحقون منا كل اهتمام.
س ك:
هل هناك اتجاهات معينة في هذا النوع من الأدب؟
ج ف:
هناك حتماً اتجاه ما لدى بعض الكتاب. ثمة
كتَّاب يكتفون بكتابة الروايات وسردها، وهذا
لا يهمني كثيراً. وهناك، بالمقابل، تيار كامل
لدى بعض الكتاب الذين، بواسطة شخصية وهمية،
يتحدثون عن تجربتهم الخاصة أو يحاولون تعميق
وضع أو حالة ما واستخلاص جوهرها. يعتقد هؤلاء
الكتاب أن الواقع بأعماقه أهم بما لا يقاس من
شخصية رواية سطحية. وهذا ما أحاول القيام به
من جانبي.
س ك:
لنأتِ إذن إلى مؤلفاتك. سبق لك وكتبت عن ثورو Thoreau. وفي واحد من
كتبك الحديثة تحدثت عن أرنو ده جاردان (أ.د.)،
وكان عنوانه أرنو دِه جاردان أو مغامرة
الحكمة. فلِمَ هذا العنوان، وكأن أ.د. يمثل
قصة الحكمة بكاملها؟
ج ف:
إنه لعنوان مشوِّش في الواقع. لمغامرة الحكمة
دوماً بعدٌ عالمي على المستوى العميق. ونجد
هذا البعد في سيرة حياة أ.د.، مع صعوبات وقيود
الوسط والترسُّخات التي عاشها الرجل، وكذلك
في محاولاته الأساسية، وهي محاولات إنسان
يبحث عن المعنى وعن تعميق حياته الداخلية. من
هنا كان العنوان السابق الذي لم أقصد منه بأي
حال من الأحوال أن قصة أ.د. تحتوي وحدها مغامرة
الحكمة كلها.
س ك:
ما الذي أردت نقله من خلال سردك لقصة أ.د.؟
ج ف:
قصة أ.د. مدهشة ومشجعة، ونجد فيها مستويين:
المستوى الأول بشري؛ فقد بدأ أ.د. حياته في خضم
صعوبات جمة ومشاكل لا تحصى، حتى إن أسرته كانت
عندما تتحدث عنه تنعته بـ"أرنو المسكين".
وفي سن الأربعين، أي ليس قبل مضي عشرين سنة
على ما ذكرت، صار أرنو شخصية معروفة تجوب آسيا
بالسيارة لتصور حكماءها الأحياء، وصار شخصاً
صاحب حياة غنية. تمثل قصة أ.د. إذن، على هذا
المستوى، قدرة الإنسان على تجاوز الصعوبات
والنجاح رغم بداياته الخاطئة.
أما المستوى
الثاني فهو روحي ومشجع كذلك. إن عزيمتنا تصاب
بالإحباط عندما نقرأ مثلاً سِيَر الحكماء من
أمثال راماكرشنا أو غيره – ولست أدَّعي هنا
مقارنة أ.د. براماكرشنا – يخالجنا شعور بأن
هؤلاء الأشخاص عاشوا منذ طفولتهم في عالم
روحي وأنهم كانوا يجيدون التأمل والاستغراق
منذ سن الثالثة مثلاً! فما العلاقة بيني
وبينهم؟ وكيف لي أن أبلغ نوعاً من الحكمة إذا
قارنت نفسي بهم؟ إن ذلك لمحبط تماماً، كأن
يقارن موسيقيٌّ هاوٍ نفسه مع موتسارت الذي
بدأ يؤلف القطع الموسيقية منذ الرابعة من
عمره تقريباً!
من
المشجع إذن على الدرب الروحي أن نجد أ.د.
الغربي الذي رُبِّي بصورة تماثل تقريباً
الغالبية في الغرب (حتى في عالم اليوم) والذي،
رغم صعوبات حياته وبفضل مثابرته وإرادته في
المضي إلى الأمام على طريق الحكمة، بلغ حقاً
حكمة عميقة. إنها شهادة مشجعة تبيِّن أن
الحكمة ليست بعيدة عن متناولنا، بل هي شيء
ينبغي البحث عنه رغم ثمنها الغالي.
وأود
أن أضيف أن هذه الشهادة، على كونها مشجعة،
واقعية أيضاً. أي أننا عندما نرى التضحيات
والمثابرة والشجاعة التي احتاجها أ.د. جميعاً
لكي يمضي قدماً في طريقه، يتبيَّن لنا كذلك أن
الحكمة ليست سهلة المنال، بل تتطلب الكثير من
بذل النفس والمثابرة.
س ك:
وما هي رسالة أ.د. التي يبدو أنك على تناغم
معها؟
ج ف:
يصعب عليَّ في هذا الحيِّز الضيق أن ألخص.
لنقل إن أ.د. يرتبط بحكمة الفيدنتا Vedanta
الكلاسية. فلقد كان معلِّمه [سوامي برجناباد]
فيدنتياً يكمن تعليمه في ضرورة الانتباه
للواقع وقبوله كما هو. يبدو ما تقدم بسيطاً
للغاية يشبه الجبرية؛ لكن الحقيقة أعمق قطعاً.
الفيدنتا هو تعليم "اللاثنوية" ("أدوَيتا"
advaita)، وهو مصطلح
فلسفي يحملنا على الإحساس ببعدها أو بتعذر
تحقيقها. لكن ما هي اللاثنوية في الواقع؟
سأعطي أمثلة بسيطة. نحن الآن نتحدث في ساحة
معرض يرتاده العديد من الناس والجو خانق، وقد
لبثنا واقفين طوال ساعات عديدة. نرفض في
داخلنا هذا الواقع قائلين: "آه، ما أجمل أن
أكون في مكان آخر، كشاطىء بحر جميل...!" نحن
بهذا نُسقِط على وضعنا الراهن أو نُراكِب
عليه وضعاً آخر ليس له أية حقيقة. لحظتئذٍ
نكون في الثنوية dualité،
إذ إننا نكون في داخلنا ما هو كائن، أي "ماهو
واحد لا ثاني له" – كما يقول الفيدانتا –
زائد شيء ليس حقيقياً يمنعنا أن نكون حاضرين
تماماً هنا والآن وذلك بقبولنا ما هو موجود.
ذلكم
هو الألفباء. يبدو ما سبق ساذجاً لا يقود
بعيداً؛ لكننا بفضل هذا الموقف نصل شيئاً
فشيئاً إلى تعميق حقيقي لواقعنا المدرَك وإلى
رؤية مبلغ عيشنا في نوع من الرفض للواقع
والتشنّج.
لا
يمثل هذا جبرية عاجزة. فلا يعني ما سبق أننا
تركنا كل شيء قائلين: طيب، لندع الأمور تجري
وحدها، لن أعارض شيئاً، إلخ!
لا، ليس هذا هو
المقصود. المقصود هو أننا، إن كنا في وضع ما،
فلنقبله، وإن كان بوسعنا القيام بشيء ما
حياله، فلنقم به. يحضرني هنا جواب لـ ما
أننداموي Ma
Anandamay – وهي
قديسة معاصرة من الهند – على شخص تذمَّر من
مرضه: "إنها إرادة الله أن تكون مريضاً؛
اقبل إذن، أولاً، بأنك مريض. وثانياً، إنها
إرادة الله كذلك أن يوجد طبيب قريب من هنا...".
س ك:
كيف نصل إلى هذا القبول؟ يقول الناس إنهم
يريدون لكنهم لا يستطيعون.
ج ف:
إنه موقف داخلي وطريقة حياة. قد يبدو ما سأقول
سوداوياً، لكنني أرى أننا، على نحو ما، نحب أن
نتألم. لا أقصد أن الألم ضروري. ومن جهتي ليس
لدي أية نيّة أو رغبة في التألم. لكن الواقع هو
أننا يجب أن نواجه آلياتنا الخاصة وأن نفهم
إلى أي حد نعمل بصورة آلاتية رديئة وأن رفضنا
الدائم والتشنج المرافق له يزيد الأمور صعوبة
والألم حدة. فإنْ وَعَيْنا ذلك واقتنعنا
بوجوب التحرر منه، بدأنا عندئذٍ نكتشف
تدريجياً هذا السلام المستقل غير المرتبط.
أعتقد أنه لابد أن نصاب أو أن نخرج إلى الحياة
لكي نتنبَّه إلى ذلك، إلى أوهامنا، وإلى كل ما
يحول دوننا وأن نكون بالكلية هنا والآن.
س ك:
ألا يقود هذا الموقف إلى شيء من الجمود يستحيل
معه كل تطور اجتماعي؟
ج ف:
كلا! نحن أمام أمرين مختلفين. ميَّز معلم أرنو
بين القبول accepter
والتحمُّل tolérer. فإذا
كنت على سبيل المثال، في الشارع حيث بدأت
الأمطار تهطل وأنت مصاب بالزكام، النقطة
الأولى هي في أن تقبل هطول المطر وزكامك، أي
أنه يجب ألا تراكِب على الحالة الراهنة صوراً
أخرى؛ أما النقطة الثانية فهي البحث عن ملجأ
يؤويك من المطر كالمظلة أو سيارة الأجرة إلخ،
أي أنك لن تحتمل بقاءك ساعة تحت المطر بانتظار
أن ينقطع.
ينطبق ما سبق على كل
شيء في الحياة: قبول الأشياء ثم تغييرها إذا
لزم الأمر وإن أمكن؛ فإذا لم يكن بالإمكان
ذلك، فلم "نزيد الطين بلة"؟
كلما قبلتُ تمكَّنتُ
من أن أرى بوضوح أكبر وانتباه، وتحسنت
استجابتي للأشياء. القبول إذن ليس التحمل.
س ك:
المفتاح إذن بالنسبة إليك هو القبول ومن بعدُ
التغيير. فهل تعتبر نفسك قد بلغت هذا؟ وهل ثمة
تناقض فيما تقول باعتبار أن رغبتك في الوصول
إلى هذا المستوى – إن صح التعبير - يعني أنك
لا تقبل ما أنت عليه الآن؟
ج ف:
بلى، أعتقد أنه يجب أن أقبل ما أنا عليه هنا
والآن.
س ك:
وهل تقبل به؟
ج ف: أنا أحاول.
س ك:
ألا تدل المحاولة على شيء من عدم القبول
لنفسك؟
ج ف:
إن ذلك لصعب جداً. لقد ترسَّخت فينا آلية
الرفض هذه. فلو كان بإمكاني قبول نفسي على ما
هي عليه، هنا والآن مباشرة، بكل مظاهرها
وتناقضاتها لبلغت الهدف. لكني لم أصل إلى هذا.
هنالك بالطبع أجزاء
في نفسي لا تقبل بأجزاء أخرى! وعندما أقول
إنني أحاول، أقصد بهذا الانفتاح على كل مظاهر
نفسي وعلى كل ما يعتمل في أعماقي ورؤيتها
بوضوح. ونحن لا نرى شيئاً من هذا غالباً...
وعندما أرى ذلك، أقبل به وأعمل على تبديله
بوسائل وتمرينات مختلفة.
إنني أحاول تنمية
إدراكي في كل لحظة؛ إنه تدريب مماثل لأي تدريب
آخر. وعندما نأخذ نفسنا على حين غرة وهي ترفض،
فإن ذلك بحد ذاته يمثل تقدماً. ففي السابق ما
كنا حتى لنتنبَّه إلى رفضنا، بل كنا نترك
دوافعنا وقيودنا والأشياء تقودنا بصورة
عمياء. ومن بعد، شيئاً فشيئاً، نصل إلى قبول
كل الأشياء تقريباً بصورة طبيعية. ولحظتئذٍ،
نرى الهدوء والسلام فينا وفي علاقتنا مع
الأشياء والآخرين.
إن قبول صراعاتنا
الداخلية والتخلص منها ومن التثبُّت عليها
يسمحان لنا بأن ننصت إلى الآخرين. ذلكم مصدر
الرحمة الحقيقية.
أين أنا من كل هذا؟
يصعب عليَّ أن أجيب.
إنما أنا إنسان على
الدرب بقي عليه أن يقطع الكثير لكنه صادق
وجادٌّ في محاولته للتقدم على هذا الطريق. وفي
الوقت نفسه أتفق مع القائلين إنه لا وجود
لطريق أو حتى لأي تقدم. إنها طريقة في الكلام
وحسب. فنحن في الحقيقة، منذ الآن، الشيء الذي
نصبو إليه. فالحقيقة تكمن فينا، وما علينا إلا
الانفتاح عليها في كل لحظة. وساعة نصبح، أو
بالأحرى ندخل في ديناميَّة اللحظة يفقد الزمن
أهميته. ليس من الضروري أن نتصور ذلك في الزمن
بل كشيء متجدّد في كل لحظة. ومن بعدُ بالطبع،
إذا نظرنا إلى حياتنا نجد تاريخاً يحتوي
جهوداً وتقدماً.
السر إذن هو أن نرى
أنفسنا تماماً كما هي... هنا والآن!
س ك:
شكراً جِل فرسيه!
*** *** ***
إعداد وتصوير:
سمير كوسا
|