لا عقيدة أسمى من الحقيقة!

 

ديمتري أفييرينوس

 

الحقيقة أرض بلا دروب. ليس بمقدور الإنسان أن يأتيها عبر أي تنظيم، عبر أي معتقد، عبر أية عقيدة، أو كهنوت، أو شعيرة، ولا عبر أية معرفة فلسفية أو رياضة نفسانية. عليه أن يجدها عبر مرآة العلاقة، عبر فهم محتويات ذهنه هو، عبر الرصد وليس عبر التحليل الفكري أو التشريح الاستبطاني.

جِدّو كريشنامورتي

 

مافتئ الوجود يمضي في صيرورته، وماانفكت الحياة تتفتَّح مفصحة عن جوهرها، ومازال الإنسان – لأن الإنسان هو البؤرة التي يجتمع فيها الوجود كله والحياة كلها – يتأنسن في الصيرورة الكلِّية التي لا بداية لها ولا نهاية.

ذلك أنه في الكل لا بداية ثمة ولا نهاية، بل الحقيقة وحدها؛ وفي الكل لا حركة ثمة ولا سكون، بل "فعل" الحقيقة وحدها. فإذا ظهر لنا أن ثمة "حقائق"، فذلك ليس إلا في الظاهر وحسب. لكننا إذا سبرنا باطن الأشياء (تِيَّار دُهْ شاردان) لم نجد إلا حقيقة واحدة، سرمدية، هي الكل في الكل، وهي ماهية كل وجود، وكل حياة، وكل فعل، وكل ما يتجلَّى في تنوُّع لانهائي.

يمكننا، إذن، أن نستشف الحقيقة الواحدة في كل ما يظهر، على أن ننظر إلى داخل ما يظهر. فيكون كل ظاهر عندئذٍ حقيقياً لأنه لا وجود له إلا بالحقيقة.

إننا دوماً نفتش عن عقيدة، عن منهج، عن درب يوصلنا إلى الحقيقة، لكننا نخطئ الاختيار دوماً، فلا نشعر بخطئنا إلا في لحظات الصدق مع نفسنا التي نجرؤ فيها على طرح أسئلة لا نجد إجابات عليها في العقيدة التي تبنَّينا أو في الدرب الذي سلكنا. وما ذاك إلا لأننا تجاهلنا أن "الحق والطريق والحياة" واحد (يسوع الناصري) وأن "الحقيقة بلاد بلا دروب" (كريشنامورتي) – أي أننا نوجد ونحيا ونتحرك بالحقيقة وللحقيقة، وليس لنا نحن، ولا حتى من أجل أن "نحقق" الحقيقة!

إن الإنسان الجاهل دوره ومكانه في هذا الوجود يأبى إلا أن يجعل من نفسه مركزاً و"أنا" ومبدأً. فلئن نجم عن هذه "الأنيَّة" تمايز وانفصال بين الكل والجزء، بين المطلق والنسبي، بين الحقيقة والإنسان، أليس أنه من صلب وجود الحقيقة فينا أن تكون لنا إمكانية اندراج "الوجود-الوهم" في "الوجود-الحق" عبر فعل كلِّي يوقظنا على وحدة كل الكائنات في الجوهر، ويشير بالضرورة إلى الصيرورة الكلِّية عبر العلاقات اللانهائية التي تقوم بين تلك الكائنات؟!

ومع ذلك، إذا كان ما ينبع من الحقيقة يصير إلى الحقيقة لأنه حقّ، فإن الذي يتجلَّى في الإنسان – والإنسان حقّ – يجب ألا يخرج عن الفعل الكلِّي للحقيقة؛ أي يجب أن يصير إلى فعل يعدِّل ويوازن بين حركة شفافة، كلِّية في ظهورها وانبثاثها – هي الباطن، وبين حركة وهمية، متمايزة، فردية، شواشية، تتجلَّى كفقاقيع على سطح المحيط الروحي (راماكرشنا) – هي الظاهر، لا تصدر، في كل لحظة، عن الحركة الكلِّية إلا لتعود إليها.

إن التعبير عن إمكانية هذا الاندراج للوهم في الحقيقة هو عينه، على صعيد اللغة البشرية المحدودة، إمكانية تحويل الاختبار الحيّ للحقيقة (أي تحقيقها) إلى عقيدة أو معتقد، أي "شاخصة مرور" تشير إلى هذا التحقيق.

إن الصعوبة الكبرى التي تحول بيننا وبين تحقيق الحقيقة الواحدة ناجمة عن تمسُّكنا بشخصيتنا الراهنة، بكل رغباتها ومخاوفها، عن تشبُّثنا بأنيَّتنا الرهيبة التي تقتات بهذه الرغبات وتينك المخاوف. وإن عدم وعينا للحقيقة فينا يدفع بنا إلى محاولة إيجاد "المكافىء الموضوعي" البديل عن الاختبار الحيّ.

من هنا تشكَّلت العقائد المختلفة التي أريد لها أن تكون بمثابة "الشاخصات" التي تشير إلى الطريق إلى الحقيقة وتذكِّرنا بواجب العمل على تحقيقها.

إن العقيدة ليست هي الحقيقة قطعاً، ولا هي حتى بمعرفة الحقيقة. إنما هي مجرد تمثُّل نسبي لها على مستوى الفكر. فالحقيقة لا يمكن التعبير عنها، بل هي تتطلب التحقيق لأنها، كما رأينا، ماهية الأشياء والأفعال، وأصل الحركة والسكون، وجوهر الكون والإنسان. من هنا فإن "العقيدة الجيدة" هي ما يذكِّرنا بنسبيَّته ويضعنا دائماً أمام فعل التحقيق.

إلا أننا غالباً نستصعب التحقيق لأنه بالضرورة يؤدي إلى فضح وهم الأنا الذي نحرص كل الحرص على تغذيته. لذلك نستعيض عنه بالتماهي النفسي مع "العقيدة-الشاخصة" واعتبارها سمة مميِّزة من سمات هذه الأنا – هوِّيتها، إذا جاز التعبير.

ولا نكتفي بذلك، بل نفتش بين "الآخرين" عن أنداد لهذه الأنا، يخفِّفون من عزلتها الموحشة ويبثُّون فيها إحساساً بالأمان. هكذا تتشكل، باختصار شديد، الجماعات العقائدية. ومن بعدُ تظهر الحاجة إلى قيام مؤسسات مهمتها تنظيم العلاقات بين الأنيَّات العديدة والسهر على تقيُّدها بتلك العقائد.

هكذا نجد أن العقائد، المقيَّدة بالضرورة، هي التعويض الخارجي عن غياب الخبرة الداخلية. غير أن الحقيقة غير مقيَّدة؛ وإذا أراد المرء أن يقاربها يجب عليه أن يخلع عنه كل الأقنعة والهويات والأسماء التي يتستَّر بها.

إن ذلك الحاجز-الوهم الذي نقيمه بين ما ندعوه "أنا" وبين الحقيقة السرمدية التي لانني نبحث عنها، هو أصل ما نسميه عادة "خطيئة"؛ بل إن هذا الوهم هو "الخطيئة" بامتياز – "الخطيئة الأصلية" التي أدت إلى "سقوط" الإنسان من عليائه بعدما أكل من شجرة المعرفة!

ليس ثمة خطيئة إذن، لأنها وهم. وهذا الوهم الأصلي هو الذي يتفرع عنه وهم آخر هو "الدرب" الذي يفترض وجود "مسافة" بين شيئين، وانتقال من موقع الأول إلى الثاني. ليس ثمة، عمقياً، إلا درب واحد هو الشعور بالوحدة مع الكل، بأننا في الكل، وبأن الكل فينا! من هنا يمكن أن نفهم العمق اللانهائي الماثل في عبارة كريشنامورتي: "الحقيقة بلاد بلا دروب".

وليت المشكلة تقتصر على الإنسان الفرد نفسه! إن الخطأ الذي وقعت ضحيته غالبية المؤسسات العقائدية هو أنها فرضت على أتباعها اعتناق حشد من "الكليشيهات" الذهنية الجاهزة التي لا تمت إلى الحقيقة بصلة، الأمر الذي يُخضِعهم لعبودية المعادلات والتعاريف والأفكار المسبقة التي تجعلهم، رغماً عنهم، يتوهمون أنهم يحتكرون الحقيقة، فيفكرون ويتعاملون مع الآخرين بوصفهم منتمين إلى هذا المعتقد أو ذاك ويصنفون الناس، بحسب انتماءاتهم، إلى "أصدقاء" أو "أعداء". إن وهم الانفصال عن الحقيقة هو علَّة وهم انفصال الإنسان عن الإنسان والطبيعة والكون، وهو سبب كل نزاع، داخلي وخارجي.

إن تصوراتنا عن حقيقة الوجود محدودة من وجهين: فهي من وجه مستعارة، تتكئ غالباً على عقيدة الجماعة التي ننتمي إليها، وتفتقر، بالتالي، إلى الاختبار الحيّ؛ وهي من وجه آخر مشروطة باللون الذي يتلوَّن به فكرنا، أي برغباتنا الأنانية.

إن دور العقيدة – إن كان لها من دور – ينحصر في إعادة ترتيب الفكر، ومناغمة وظائفه، بما يمهِّد الطريق للتأمل في باطن الأشياء. وكل ما عدا ذلك شطط لابد أن يدفع الإنسان ثمنه مآسي فردية وجماعية.

ليس من "طريق" إلى الحقيقة، إذن، سوى تحقيقها – ذلك لأنه لا يمكن التعامل مع الحقيقة إلا بالحقيقة. فإذا كان الإنسان صادراً عن الحقيقة، منها وفيها، فإن بوسعه تحقيقها. وتقتصر العقيدة على "تعليمنا" الكيفية التي يمكن أن نسلك بها.

وبما أن لكل منا مسلكه إلى الحقيقة في الحقيقة ("الطرق إلى الله كنفوس بني آدم" – مثل صوفي)، فإن بالإمكان تبلور عقائد كثيرة. فاللغات كثيرة، وطرق التعبير لا تنضب. إنما يُشترَط في كل منها أن يضع المرء أمام مسؤولية التحقيق.

ولكن... أليس أن هذه العقائد العديدة ينبغي أن تكون واحدة في الجوهر، ولا تتناقض فيما بينها. إن بالإمكان التعبير عن الحقيقة بطرق شتَّى، لكن معرفة الحقيقة – تحقيقها – لابد أن يكون فعلاً واحداً.

تجعلنا العقيدة نحدس الحقيقة، نتمثَّلها، نسلك إليها، وفق مفاهيمنا وتعبيراتنا؛ لكن، إذا ما شرعنا جدياً في العمل، فليست تعرقلنا بعدُ عقيدة أو تقيِّدنا أخرى.

إن عقيدة الجماعة تصير، إذن، بعد حدٍّ معيَّن، عائقاً يحول بيننا وبين تحقيق الحقيقة. فهل نستطيع أن نتحرر من العقائد، ونواجه الحقيقة وجهاً لوجه؟ وإذا كنَّا نعد كل العقائد، بدرجات متفاوتة، قيوداً، فكيف نبحث عن الحقيقة بدون عقيدة أو طريقة مبدئية في السلوك؟!

ذلكم هو السؤال الذي نتركه مفتوحاً...

***

ذهب الشيطان مرة في نزهة مع صديق له. فأبصرا أمامهما رجلاً ينحني ويلتقط شيئاً من الأرض.

سأل الصديق: "ماذا وجد هذا الرجل؟"

فقال الشيطان: "قطعة حقيقة."

سأل الصديق: "أفلا يزعجك ذلك؟"                     

فأجابه الشيطان: "لا. فسوف أدعه يجعل منها معتقداً."

*** *** ***

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود