|
إنسان الغد يلتهم نفسه
دنيس
دوكلو
أن
نأكل ذاتنا، أضحت صفة الرأسمالية الوحيدة في
أيامنا هذه. المؤسسات تبتلع بعضها البعض،
والأسواق تفترس بعضها البعض كذلك. أما
المواطنون فيكابدون عواقب هذا التوجُّه الذي
أصبح جنونياً، وهو المرحلة النهائية لقانون
المنفعة القديم. كان كارل ماركس يخال أن
الرأسمالية تسحب في صورة مبالغ فيها الطاقة
البشرية حيث تشكل "سرقة" البروليتاري
تشكُّل فائض القيمة. وكانت المشكلة تكمن
وقتها، في نظره، في استرداد ذلك الفائض وجعله
اشتراكياً. بيد أن النظرة تلك، إن كانت صحيحة،
بدأت تتحول ربما إلى نظرية خاطئة: الرأسمالية
كلمة ينبغي فهمها، أكثر من أي وقت مضى، وكأنها
تمثل النظام الكوني لتداول القيمة، وقد تكون
من الآن فصاعداً استهلاك-تآكل البشرية من
ذاتها. ظهور طابع الاقتيات بالنفس (أو أكل
الذات) autophagie
في نظامنا الراهن يرتكز على عامل العودة إلى
الذات، وينبغي التحصن ضده وراء جدران سميكة
كي لا نراه (أي طابع أكل الذات)، ولنستمر في
المنطق الكلاسيكي لـ "الحسابات الأنانية"،
وإن تكن جماعية. العُدَّة، السكن، المواصلات
السهلة، بتُّ أجدها في الأجواء، على اليابسة،
في المياه: عامل ومستهلك، إني أجرح نفسي.
فأثريت بسلع قابلة للتبدل، إلا أنني أخذت
أفتقر إلى الثروة التي لا يعاد إنتاجها. كذلك داخل المجتمع يتطور
أكل الذات بهذه الطريقة: النظام يميل إلى
تحويل كل منفعة جماعية شرعية إلى منافس ذي
منفعة أخرى جماعية. إذا كنت شاباً، أكون
مستثنَياً من "الامتيازات" التي أكون
اكتسبتها بالطبع بعد شقاء طويل، أي عندما
أصير عجوزاً متقاعداً. ولو كنت فقيراً، فريسة
صانعي الموضة، ومعرَّضاً سلفاً لبيع
مستقبلي، أغذِّي آلية فائض الدين وآلية
التبعية. ولو كنت مساهماً فقد أتعرض لخطر عدم
حصولي غداً على معاش تقاعدي. ولو كنت عجوزاً،
أخشى رؤية النظام ينهار فأموت قبل الأوان (كما
في روسيا حيث لم يبقَ راتب تقاعدي بالروبل
يسمح لي بإعالة نفسي). ولو كنت متقاعداً
أميركياً لألفيت نفسي عضواً لاإرادياً في
نظام–وحش
هائل يدير أموال تقاعدي ويزعزع، من أجل
المنفعة المباشرة، أي نشاط نقابي يحاول حماية
وظيفتي من الاستغلال المفرط. ولو كنت عاملاً،
أشتغل كثيراً وأدفع ضرائب هائلة ويطاردني
إداريون إرهابيون (عيَّنهم صندوق التعاقد
ذاته) فينعشون مردوديَّتي التي، بدورها،
ستقاس بحسب الالتزام بـ "مضاربية"
مؤسستي. لو كنت مريضاً، أواجه، رغم
حقوقي الشرعية، الانحراف الذي ينخر شيئاً
فشيئاً أفضل ضمان اجتماعي: فبسبب الواجب
الإداري الذي يحل مكان المبدأ المطلق
للتطبيب، أرى نفسي أبرهن، حتى في أكثر
المناطق حميمية في جسمي، عن سلوكي الجيد، في
الماضي كما في المستقبل، لأستحق السداد. ولو رفضت البطاقة الجينية
أو دفتر الصحة، لكان عليَّ مع ذلك الاشتراك...
من أجل الآخرين، أولئك الذين يكونون قد قبلوا
بالتخلِّي عن حقوقهم في التصرف بجسمهم حيال
الواجب الجماعي في المسؤولية! ولأنني "مستعمِل مرغم"
للسيارة، أشارك في أضخم الإغراءات التقنية
التي لم تبتكر لها مثيلاً بعد "مضخة
المالية"، وأشارك كذلك، رغماً مني، في نشر
حالة من التلوث الدائم، يساهم بدوره في تفجير
نظام الصحة كلما ازداد شعوري بالرضى كمستهلك
لحم وماء وخضار، كما زاد جهلي بأني أساهم في
ترويج مطبخ مجنون صناعي لا يقل جنوناً عن
البقرة التي يعلفونها ببروتينات آتية من
الفصيلة ذاتها. إنما هو "أكل الذات"
الذي يخيف ويزعزع وينشر الفضيحة في الحقيقة.
شبحه هو الذي يقود إلى اتهام كل التظاهرات
المتعلقة بالنفعية، وباسمها ينظِّمون، داخل
الجنس (الفصيلة) الواحد، تداول الجينات
والأعضاء... لنبدأ بـ "فصيلتنا":
كلما قبلت وأنا ممدد على طاولة العمليات بأخذ
عظام جاري وعينيه وأمعائه ودمه وجهازه
العصبي، تعلمت من قاع الجهل العلمي أنني
ساهمت في إشاعة وباء عام قد يبدو السيدا
مقارنة به مجرد ربو. بالنسبة إلى المهنيين
المشرفين، قد تكون هذه التصريحات حول "استهلاك
الذات" فضائحية، ولاسيما أنهم يعيشونها إذ
يشاهدون الظهور المتزايد للوعي العام إزاء
الظاهرة، يلجأون إلى رد فعل عنيف كمنع الكلمة
المقلقة. وذاك ما فعلته الشركات الزراعية–الغذائية
الأميركية التي توصلت إلى فرض قوانين "ضد
التشهير". ومن يومها، لم يبق ممكناً
الإثبات بأن "خبزاً يحتوي على القمح
المعدَّل جينياً" (قضية باتت تافهة في
أميركا الشمالية) فضيحة كبرى، أو أن حبة
البندورة التي عولجت جينياً لتأخذ شكلاً
مربعاً، فضيحة أيضاً. فالدعوى ستكون خاسرة
سلفاً. لكن وسائل القمع هذه لا
تستطيع مقاومة المنطق الهائل الذي يكشف آلية
"أكل الذات". في وجه هذا المنطق، ماذا
تستطيع بضعة كتائب قضائية موكلة بإثبات أن
بوارز الجلد والأظافر والشعر وفضلات الجلد
إلخ، ليست من "الجسم" البشري، أو أن
تتذرع بأنه يحق لنا بيع أصابع أرجلنا لأننا
نبقى، نحن أنفسنا، حتى بأصابع مقطوعة؟ إلى
هذا السؤال تضاف مسألة تداول الأعضاء البشرية
ضمن إطار الاستخدام الطبي. كيف نسمح شرعياً
لجسم المجتمع المقدس بأن يتداول "كثافة"
الإنسان الخاصة والحميمة، إنْ ميتاً أو حياً؟
أي نوع بشري أكون لو تمكَّنت وأنا مريض من
استخدام إنسان آخر كأنه مخزن قطع غيار؟ أي
احترام أستطيع أن أنتظر من المجتمع إذا لم أكن
أكثر من مجموعة قطع موصولة؟ لا يجوز التخلص من
السؤال باسم أخلاقية التبرع التي تتجاهل
المقلب الآخر للقضية: "إنتاج الآلية
الهائلة التي تستخدم الإنسان" من أجل سواه
والعكس صحيح. أبعد من الاستنكار الإعلامي
حول "الأكل المجنون"، وأخطار الأميانت
وعدوى الأمراض في ما بين الأجناس والتلوث
المعمَّم، نستطيع قراءة إشارات إيمان قوي في
الخير العام. يقول أحد الأطباء
النفسانيين: "لدي قلب قذر وقاس، إذن لن
أنزعج من فكرة زرع قلب خنزير في حال أصبت بمرض
القلب". إلا أن عالم الأنثروبولوجيا يعرف
أن الأمر ليس بتلك البساطة: عندما سيطلب من
الخنزير، عبر معالجات جينية، إنتاج أعضاء
صالحة للزرع لمريض القلب، سوف نحصل على نتيجة
رمزية لن نستطيع إيقافها أو التراجع عنها،
وهي أن الخنزير يكون قد دخل عندئذ العائلة
الخيالية الكبرى للإنسان الكوني. إلا أن هذه
الكونية هي المعادلة المنطقية للـ "وجهاً
لوجه" بين الذات والذات، ولا أحد يتمكن
بعدئذ من منع اللاوعي الجماعي من تأسيس
التفكير الآتي: إذا كان الحيوان يأكل ذاته،
وإن كنت آكل الحيوان الذي استخدم جسمه
المصنَّع لأتوالد وأستمر، فذاك يعني أنني
أواجه إمكان أكل ذاتي. الاقتيات بالنفس حقيقية،
اقتيات بالنفس استيهامي، انزلاقات بين أشكال
الاقتيات بالنفس الفيزيائية والاقتصادية
والثقافية: إنها الكلمة-الأساس في النظام
الرأسمالي المتأخر، أو بالأحرى إنها مسألته
الجوهرية. في مجتمع إشباع الرغبات
هذا، نحمل جميعنا من داخلنا وجوهاً متعددة
ترغب في شيء متناقض، لأننا نرغب في كل شيء،
وللتو نرى أنفسنا حكماً في مواجهة مع ذاتنا. الأوتوفاجي: إنه ما بدأت
الهستيريا الخاصة، الفردية، تصفه منذ عقود.
وينبغي في أي حال، وقبل كل شيء، محاورة
الهستيريا ووضعها عند النقطة التي تحمل
موضوعها الحقيقي: الآلية الأوتوفاجية
للرأسمالية المتأخرة. لكن في الواقع، لِمَ هذه
المقاومة؟ لِمَ الخوف من المواجهة، ولِمَ
اللجوء إلى الأعذار، بدلاً من الاعتراف
بضرورة التصحيح؟ عبر تحقيق ذاتنا كـ "أفراد
كاملين" كونيين شموليين وتجريديين، كمثلٍ
مطروح للتداول العام. في تعبير آخر، من خلال
تحقيق مثال الحداثة الأعلى، الهدف الذي
أرادته الحداثة، والذي أشار إليه في وضوح
مفكرو القرن الثامن عشر والسابع عشر، ركضنا
إلى ظلال أنثروبولوجيا ارتبطت منذ القدم لدى
المجتمعات البدائية بفكرة الكلِّي: الاقتيات
بالنفس. ليس الاقتيات بالنفس نتيجة
ظرفية وطارئة للرأسمالية، بل هي أونطولوجيا
الرأسمالية كمشروع إنساني. إنما ينبغي
التفكير من جديد هنا، ومن يعدُ البحث عن حلول
ممكنة. لذا يجب أن نحمل على محمل
الجد المفارقة الجوهرية لنظامنا: لأنه
ديموقراطي نراه يزعزع النقابات والحمايات
ويمحو الحدود الفردية والجماعية ويفسدها من
خلال النشاط الذي يمارسه على الأجسام. لكن من
أجل ذلك أيضاً "يلتقي" مع الاقتيات
بالنفس: أو لكان اكتفى بالعودة إلى الأشكال
الكلاسية للأرستقراطية والعبودية... ولما كان
اقتصادنا مستمراً في العيش على تجارة الرق
الخارجية، بعيداً قدر الإمكان عن شواطئنا
الأوروبية، كانت عودة الآخر إلى الذات صعبة.
ومادمت أظن أني قادر على طرد العبد وإعادته
إلى بلده الأصلي، فإني كنت لاأزال قادراً على
القول: هو ليس أنا، والكارثة التي أنزِلها به
لن تعود إليّ. إلا أنه عندما يتقاضى العامل
الإنكليزي أجراً أقل من نظيره الكوري، وحين
أنتبه إلى أنه لا حدود ولا قانون عاماً ولا
سلطة وصية تستطيع حمايتي من أن أصبح عجلة في
الآلة الضخمة، آلة "مكدنلة" macdonaldiser
الوظيفة، فشيء من الصلة بين الديموقراطية
والاقتيات بالنفس يشرع في الظهور لي. وهذا
النقد كأنه محاولات للهرب من الفعل
البروليتاري العام، وإيقاف التعبئة في "الآلة
الكون" أو "السيبرديموقراطية" التي
يحلم بها "التكنوفيليون" [محبّو
التكنولوجيا] الرؤيويون. إنما لذلك، تحديداً، ولأن
أي منطق لا يستطيع أن ينغلق على ذاته وأن ينشئ
ذاته، يتجمَّد المجاز الجميل لبشرية كونية:
إنها تتآكل، خاصة لأنها ديموقراطية. أما
السؤال الأهم: كيف يمكن البقاء ديموقراطياً
من غير الوقوع في عملية افتراس الذات؟ إذا كان
هدف كل سياسة إنسانية ألا تشرك إطلاقاً كل
الأفراد في المجموعة السياسية، فكيف يتم
التوصل إلى ذلك من دون تنظيم عربدة دامية حيث
كل واحد، بحجة التضامن من أجل المنفعة العامة
المتبادلة، يفترس في الآخر قطعة من ذاته، من
ماضيه، من مستقبله، من جنسه، من سيادته؟ من
ملف "تفكُّر القرن الحادي والعشرين" في
"أسلوب رؤية"
الصادر
عن لوموند ديبلوماتيك، تموز/آب 2000
ترجمة:
صباح زوين
عن
النهار، 22/12/2000
|
|
|