النضال اللاعنفي:

انسجام الوسيلة مع الغاية

 

سعيد مضية*

 

التنافس أو الصراع ما بين البرامج السياسية وما بين أشكال النضال يتم حسمُه في الممارسة العملية، وليس على الورق! فعبر الممارسة العملية تنفتح أو تنغلق إمكانات وآفاق؛ وقد تتفجر طاقات كامنة أو تواصِل كمونَها. الصراع ما بين البرامج وأشكال النضال هو صراع سياسي تخوضه الأحزاب السياسية من خلال التعبئة والحشد، تتوجَّه به مباشرة إلى الجمهور وتخاطب نفسيَّته الاجتماعية.

والنفسية الاجتماعية حالةٌ من الوعي ترسَّبت تاريخياً في الحياة الاجتماعية، تنطوي على ما يفكر ويشعر به الناس، وما يؤسِّس لسلوكهم واستجاباتهم، نظراً لارتباطه – الوعي – بحاجاتهم ومصالحهم، الحقيقية منها أو الوهمية، وتجاوبه مع المزاج العام الذي يكتنف الجماهير. فالوعي الاجتماعي لا يقتصر على الإيديولوجيا وحدها، بل يدخل في تكوينه العنصرُ النفسي أيضاً. ويفضي إهمال الجانب النفسي إلى فهم مبسَّط ساذج للهياكل والبنى الاجتماعية. النفسية الاجتماعية هي التي تتلقف فكرة أو نقيضها، فتحوِّلها إلى قوة مادية محرِّكة للجمهور. وتتغلغل الأفكار الإيديولوجية، إذ تتقبلها الجماهير، في نفسيَّتها وتغدو حوافز سلوكية.

فالتفاعل قائم بين الأفكار والنفسية الاجتماعية؛ ومن التركيبة المشتركة للجانبين تتشكل الثقافة بمفهومها التاريخي. النفسية الاجتماعية تتضمن أنساقاً من النظرات المعرفية والحوافز والأحاسيس المبنية على الخبرات والأوهام والفرضيات والخرافات والأساطير، منها ما هو حصاد التجربة العملية، وبعضها أوهام تعبِّئ فراغ المعرفة، وتتَّكئ عليها النفسية لتحقيق توازنها.

فأي من هذه الأنساق يخاطب الحزب السياسي؟ ذلك يتوقف على نموذج المصالح التي يدافع عنها الحزب السياسي، ومدى الصدق السياسي والمبدئية في نهجه التكتيكي. وقد تشكِّل الأوهام أو الخبرة المنقوصة حاجزاً في وجه تفاعل الجمهور مع برنامج سياسي يعتمد المنهجية العلمية. وقد يحول دون ذلك المزاجُ المستفَزُّ تحت وقع عنف السلطة المسيطرة. وهنا يجب بذل الجهد لتعديل الاختلال.

فنتيجة التنافس بين العنف واللاعنف على وعي الجماهير، بين ما يُطلَق عليه الكفاح المسلح وما يُطلَق عليه النضال السلمي، تتوقف على عوامل موضوعية تكمن في النفسية الاجتماعية، إلى جانب عوامل ذاتية تكمن في معرفة الحزب، أو مجموعة الأحزاب مؤتلفةً، بالأسلوب الصحيح للاقتراب من الجمهور وفهم نفسيَّته والتفاعل معها أو تغييرها لاجتذابه – الجمهور – إلى طروحاته السياسية، ثم الإتقان التام لنواميس النضال وسُبُل تطويره حتى النهاية المظفَّرة.

ولدى المفاضلة، من الخطأ اعتماد أسلوب انتقائي يركز على جانب معين يزكِّي بموجبه هذا الخيار أو بديله. فالأسلوب العلمي للمفاضلة بين ظاهرتين–خيارين أو أكثر يتم من خلال القيام بتحليل موضوعي لجميع جوانب الظاهرة، السلبية منها والإيجابية، ثم التمعُّن في العناصر التحليلية وتقييمها في ضوء ملابسات الواقع واستراتيجية النشاط.

وعبر التجربة تعززت قناعات بصدد شكل الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي. فقد ترسَّبت في نفسية المجتمع الفلسطيني سِماتٌ حددت معايير توجُّهاته فيما يتعلق بأسلوب الكفاح ضد الاحتلال حتى غدت مسلَّمات لدى كلِّ من لا يناقش التجربة بالنقد الذاتي وتجاوز الروتين.

-       أولى هذه السمات وأشدها حضوراً الأثر الذي تركه العنف المتواصل من جانب المحتل. فهو يمارس العنف المحصَّن بالحكم العرفي المتواصل من أكثر من ثلاثة عقود، ويردُّ بالعنف المسلح على أي حركة مَطْلَبية أو معارضة شعبية. وحتى في أثناء المفاوضات لم تتردد سلطة الاحتلال في توجيه القوة المسلحة ضد اعتصامات المواطنين السلمية دفاعاً عن أراضيهم المصادَرة، أو في تنظيم الاعتداءات على المؤسَّسات التعليمية وضد سير مجمل الحياة الاجتماعية. ويحتفظ الوعي الاجتماعي الفلسطيني بمخزون وافر من القهر النازل على تعاقب سلطات الحكم عبر قرون خَلَتْ. وتجري في إسرائيل مَأْسَسَة العنف ضد العرب، حيث تعمل ماكنة لا تتوقف، تزرع المخاوف والشكوك والكراهية تجاه العرب في نفوس الإسرائيليين. ويجري على الدوام إحياء عقد الإبادة ونفسية المحرقة وإدخالها في منهج التدريس، كما يجري تعميم ذهنية الأمن والولاء للجيش، صاحب "الاختصاص" في القضية الأمنية – لدرجة أن المحكمة العليا تلتزم بالأوامر العسكرية وتعتبر مصدرَها "أهلَ الاختصاص". وقد لوَّنتْ هذه التجربة الأليمة ردود أفعال الناس بين الخنوع والتحدي العنيف.

-       ترسَّخ في الوعي الاجتماعي، من خلال المدرسة ونظريات العلوم السياسية، أن العنف هو محرِّك قاطرة التاريخ، وأن العنف قد لعب الدور الرائس عبر آلاف السنين في تشكيل الكيانات السياسية، الإثنية والدينية. تحافظ السلطة على بقائها أو تقوَّض بوسائل العنف. وغالباً ما يقدَّم مثال الجزائر ويُغفَل مثال الهند في تحقيق الاستقلال الوطني. ويتم التغاضي عن الكثير من التحولات التاريخية التي تمت بوسائل سلمية.

-       في المجتمع الفلسطيني، شأن مجتمعات العالم الثالث، لا يُنظَر باستغراب إلى واقع الاستهانة بالرأي العام. فالجمهور العربي يعي من تجاربه عبر العصور والعهود أن من يحكم يُطاع، وأنه يحظر عليه التدخل في قرارات السلطة، ويستنكف في أغلب الحالات عن مجرد الاعتراض على توجهات السلطة أو انتقادها العلني. وتصعب في ضوء التجربة التاريخية المختلة بلورةُ قناعة اجتماعية بإمكانية تشكيل رأي عام شعبي بمعزل عن السلطة الحاكمة أو بما يعارضها. فقد اختُزِلَت الدولة في سلطة سياسية. يقابل ذلك احترامُ الرأي العام والتجاوب معه عند المجتمعات المتقدمة. إنها ظاهرة حضارية ذات دلالة أن يستقيل رئيس وزراء البرتغال لأن حزبه حقق نتائج هزيلة في الانتخابات البلدية، وليس البرلمانية: لقد استخلص أن الرأي العام غير مرتاح إلى نهج حكومته فاستقال. وأياً كانت أسباب الاستقالة فإن التوقف عند استياء الجمهور مظهر حضاري يؤكد مبدأ الديموقراطية واحترام قيمة الإنسان.

-       وفي مثل هذه الحال ليس أمام الجمهور المستلَب سوى انتظار "المخلِّص" أو التداعي لحمل السلاح مع أول سانحة. والجمهور المقهور يطربه صوت لعلعة الرصاص، ويرى في البندقية رمزاً للسطوة السياسية. وهنا يمْثل، في ظروف ضعف الوعي السياسي، خطرُ فقدان الكفاح المسلح بُوصلتَه، فيعيد بذلك إنتاج القهر الاجتماعي. وفي بيئة تسودها ضحالة الثقافة السياسية وتعدم التقاليد الديموقراطية، يكون بديل الرضوخ للقهر هو الاستعلاء والجبروت وثقة مفرطة بالذات وتفاؤل مفرط يزدري التنظيم وينزع لحرق المراحل. والنزوتان وجهان لعملة الواحدة.

-       وتغيب المنهجية العلمية – ومَعْلَمُها الأساسي جدل الفكر والممارسة – عن الحياة الفكرية والسياسية. فلا تُختبَر البرامج والطروحات في الممارسة؛ ولدى عدم التجاوب الشعبي يوجَّه اللوم إلى الجمهور. وبعد الهزائم والنكسات لا يجري تقييم موضوعي لعوامل الفشل. فالمراجعة النقدية مجهولة، وتتواصل الأخطاء، وتتكرر، بالنتيجة، حالات الفشل.

-       وهناك من يأخذ بعقيدة أن الكفاح المسلَّح أرقى أشكال الكفاح. ولدى الرجوع إلى منشأ "العقيدة" يتضح أن المقصود هو تنامي النضال السلمي حتى ذروة نهوض جماهيري عارم وتشكُّل مزاج ثوري لدى الجمهور، لا بدَّ من استثماره بالتحول إلى النضال المسلح، وإلا تبدد المزاج الثوري، وضاعت فرصة الاستيلاء على السلطة. فالشكل مرهون بفترة زمنية قصيرة تُقطَف فيها الثمرة التي أنضجها النضال السلمي. لم يُقصَد بمقولة "الكفاح المسلح أعلى أشكال النضال" أن يكون ذلك الشكل نمط حياة يرهق المجتمع ويعطِّل سير حياته المعتاد. وعلى من يتمسك بهذه المقولة أن لا ينسى موقف صاحبها المطلق من الإرهاب ومن نضال النخب المعزولة عن الجماهير الشعبية. كما أن للهَبَّة المسلحة قواعد تنظِّم سيرورتها كي تنجَز الثورة، أهمها: إحراز التقدم المطرد كل يوم، بل وكل ساعة.

-       وعقيدة أخرى ترى في الكفاح المسلح جهاداً وواجباً شرعياً لردِّ الغاصب. التأويل يصرُّ على حشر النص المقدس في قالب محدد، بينما تُفرَد للجهاد مضامين تشمل مختلف جوانب الحياة الاجتماعية. والحديث الشريف القائل إن "أعظم الجهاد كلمة حق في وجه سلطان جائر" يُترجَم في العصر الراهن بمضمون ديموقراطي عميق يشمل العلاقة بين الحاكم والشعب، وفيما بين أفراد المجتمع وشرائحه. لقد تعطلت الفريضة قروناً استتبت خلالها الأمورُ لسطوة القهر والجور، المسؤوليْن عن خواء الطاقة الروحية لدى الجماهير المسلمة. على أن الدين يترك حيزاً للعقل والخبرة العلمية–التقنية في قضايا مصيرية تتعلق بالوجود الحضاري. مبدأ الجهاد، إذا أُخِذَ بمعنى الكفاح المسلَّح، وفي ظروف الصراع المسلَّح مع قوة عسكرية ضارية، يستدعي استيعاب العلوم العسكرية وإتقان فنون الحرب.

تعارض هذه المسلَّمات وقائعُ موضوعية تطرح بصورة ملحة تساؤلات بصدد الشكل الأمثل للنضال، وتستوجب التحلِّي بالبصيرة النفاذة والتفكير الجدلي.

يقف على رأس هذه الوقائع تصميم داخل المجتمع الإسرائيلي على إبقاء الآلة الحربية على أهبة الاستعداد والتوجُّه إلى الحرب بين فينة وأخرى. فالعنف أداة سياسية واقتصادية وثقافية لتكتيل المجتمع حول القوات المسلحة وتلبية احتياجات الحلف الاستراتيجي الدولي للحركة الصهيونية ودولة إسرائيل. في مقابلة مع جينيه شارب، أحد أبرز النشطاء المعاصرين من أجل اللاعنف، نُشِرَتْ في كراس تحت عنوان النضال اللاعنفي: تكنيك فعال للنشاط السياسي، يقول: "سألت إسرائيليين من مختلف المشارب: ماذا يحصل إذا ما تحوَّل الفلسطينيون إلى اللاعنف، وبدون استثناء؟ أجابوا: إن هذا سيخلق متاعب للحكومة أعظم مما يجلبه العنف."

العنف هو الميدان المفضل لإسرائيل، فيه يحقق تفوُّقه المطلق، ومن خلاله أنجز لدى قيامه استراتيجية الحركة الصهيونية في إقامة الدولة شبه النقية من "الأغيار"، ثم توسيع رقعة الدولة وفتح احتمالات التوسع من جديد والحفاظ على علاقات متوترة وقابلة للالتهاب مع الجيران. وهذه ملابسات عَسْكَرَة الحياة الاجتماعية. واليوم تراود اليمين الإسرائيلي في مناخات العنف أطماعُ تهجير العرب من فلسطين. وإسرائيل ماهر في التستر على مراميه التوسعية بذريعة الأمن.

وقبل الاستطراد في الوقائع الأخرى يجدر التوقف عند الملابسات التي شكَّلت المقدمات التاريخية لمأزق النضال التحرري في المرحلة الراهنة.

فنظرية إسرائيل الأمنية تندغم في النظرية الأمنية العامة لنظام العولمة الذي يغلف مشاريعه العدوانية داخل قوالب محاربة العنف. لقد بات اعتماد أسلوب العنف في ردِّ العدوان الأجنبي ومقاومة الاحتلال ينطوي على مخاطر تعريض المجتمع بأسره إلى ضربات مدمِّرة. وقد أدمنت دعايةُ العولمة صناعةَ العدو وفق نماذج نمطية تُقَوْلِب الشعوب المستهدَفة بموجبها وتروج لها، تمهيداً لإخضاعها للهيمنة ومصادرة حقها في تقرير المصير.

وقد أسهبت دعاية العولمة في الحديث عن "صدام الحضارات"، وشخَّصت الإسلام عدواً ينبغي التحول لمنازلته بعد الانتصار على الشيوعية. وتلقف أصوليون الدعوة ووظَّفوها في دعايتهم السياسية. فهؤلاء يستَعْدون مختلف المجتمعات غير المسلمة؛ إذ قسموا العالم بين "دار إسلام" و"دار كفر"، وشطروا المجتمع المحلِّي بين علماني ملحد ومؤمن يتبع النصوص الأصولية. وَضَعَ هؤلاء أنفسهم ممثِّلين للإسلام – الأمر الذي يستوجب إظهار الوجه الحقيقي للإسلام، ليس دفعاً لتهمة، إنما للتنوير في إطار الصراع الثقافي ضد قوى العولمة.

فالإسلام بدأ وتطور ديناً "علمانياً"، بمعنى تنظيم العلاقة ما بين الديني والزمني داخل النظام الاجتماعي العام. انفتح على الأمم والحضارات، يحضُّ على التفكير وإعمال العقل. في صدر الإسلام نمت مدارس فقهية من أهل الرأي ومبدعي علوم الكلام. وقد أقر الإمام أبو حنيفة النعمان مبدأ الاستحسان العقلي. ثم تطور اتِّباع العقل إلى منهج فلسفي يحترم العقل ويعلي حرية الإرادة الإنسانية على قاعدة العدالة الربانية. اقترن التطور خلال فترة قرنين ونصف القرن في العصر الوسيط بارتقاءٍ للحياة الاجتماعية، تفتحت عبره طاقات العقل وازدهرت مدارس الاجتهاد وانتعشت حلقات الحوار والنقاش. وبالتفاعل مع هذا كلِّه، أنجزت العلوم التجريبية والمدارس الفلسفية اختراقات أحلَّت للثقافة العربية الإسلامية مكانة مرموقة في تاريخ الثقافة الإنسانية. حدثت إنجازات عظيمة في مجالات الفكر والعلم التزاماً بنهج الإسلام وامتثالاً لأحكامه بصدد مجالات الحياة الاجتماعية. ثم تعاقبت حقبٌ توقف إبَّانها دولاب الحركة الاجتماعية عن الدوران، فتجمد العقل وتعطل باب الاجتهاد، ومضى العقل في سبات طال عدة قرون. ظلت آليات تداوُل السلطة تعتمد على الغلبة العسكرية. وتكيف الفقه الشرعي مع التقليد الجديد حين ذهب أكثر من فقيه إلى عدم جواز الخروج على الحكم درءاً للفتن بموجب مبدأ "درء المفاسد مُقدَّم على جلب المنافع". فتعزز بذلك الركود الاجتماعي وغدا التراثُ الديني الإطارَ المرجعي الوحيد لكل معرفة ولكل ممارسة وسلوك.

ولما تسللت إشعاعات التنوير في العصر الحديث كانت معالم العقلانية في الفكر الفقهي والتجريبي وكنوز الأدب والفلسفة قد دُفِنَت عميقاً تحت طيات الفكر الظلامي والبدع الصوفية والخرافات. وتكرر في العصر الحديث تعاقُبُ حقبتي النهوض والتردِّي. دامت حقبة النهوض زمناً أقصر بكثير؛ إذ نبتت وانتعشت في مستهل الحقبة الإمبريالية التي فاضت على العالم كله. ومع توطد السيطرة الكولونيالية للإمبريالية على العالم العربي–الإسلامي أُجهِضت عمليةُ النهوض العربي–الإسلامي قبل أن يمد جذوره في التربة الاجتماعية.

فتح جمال الدين الأفغاني من جديد باب الاجتهاد في الدين: "بأيِّ نصٍّ سُدَّ بابُ الاجتهاد؟ أو أي إمام قال: لا ينبغي لأحد من المسلمين بعدي أن يجتهد ليتفقَّه بالدين؟" وقدَّر الأفغاني العلم والعلماء ممَّن جسدوا في نظره "وحدة النوع البشري، ويقومون من خلال نشر العلوم ووضع القوانين العادلة واختراع الصنائع النافعة بدور في خدمة البشرية أكثر أهمية من دور الملوك والأمراء، حتى حازوا السلطنة الحقيقية في المملكة الإنسانية". وقد رأى الأفغاني وحدة الجنس البشري "في إطار التنوع... تقبُّل التفاعل الحضاري دون التقليد الأعمى"[1].

وانطلق محمد عبده في بنائه الفكري من العلاقة الوشيجة بين الإسلام والعلم، مؤكداً الطابع العلماني للإسلام. فالدين يعلي شأن العقل ويفسح صدره للعلم ويدعو إليه. وقد أرجع انحطاط المجتمعات الإسلامية إلى العامل السياسي–الاجتماعي: "فساد علمائهم وجهلهم وتسلط حكامهم وجشعهم وسوء التربية في صفوفهم." حضَّ الإمام على التفاعل الحضاري بين الأمم والانفتاح على مختلف ثقافات العصر، وشأن أستاذه الأفغاني، حثَّ على الابتعاد عن التكفير وركَّز على أن "الإسلام لم يَدَعْ لأحد، بعد الله ورسوله، سلطاناً على عقيدة أحد ولا سيطرة على إيمانه". فالإسلام، كما يراه محمد عبده، "لا يضمن حرية الاعتقاد ويدعو إلى مودة المخالفين في العقيدة وينهى عن الغلو في الدين فحسب، بل هو يضمن كذلك حرية التعبير. فصفة الإنسانية لا تنطبق على الإنسان إلا بعد تمتُّعه بحرية اللسان الذي هو ترجمان الضمير المفصح عن الأغراض".

لقيت هذه الأفكار وغيرها رواجها في حقبة نهوض الحلم القومي بالتحرر من تخلف العصر الوسيط والانضمام إلى ركب الأمم المتحضرة. اغتيل الحلم مع استتباع الأقطار العربية للسيطرة الكولونيالية وتخلِّي البرجوازية العربية عن المشروع النهضوي المنشود. ونجد التحول الحاد بارزاً لدى أبرز تلاميذ الإمام محمد عبده، ألا وهو محمد رشيد رضا، صاحب مجلة المنار.

مضى صاحب المنار شوطاً مع التفتح العقلاني والتسامح مع المخالفين في الرأي والدعوة إلى استقلال الفكر وحرية البحث والأخذ بالعلوم. استمد من تجربته في بداية شبابه عدمَ جواز فرض سلطان الجهل والتحريض الأعمى على المفكر الباحث. فقد ألَّب أبو الهدى الصيادي[2] العامة عليه، فهاجموه وهو في دمشق وهددوا بقتله، لولا أنه هرب إلى مصر ليقضي فيها بقية حياته. ففي خطبة ألقاها محمد رشيد رضا عام 1908 خلال رحلته الأولى إلى بلاد الشام، بعد وصول الاتحاديين إلى السلطة، أشار إلى إحلال استبداد العامة محل استبداد السلطة، حيث برز كثيرون "يسلِّطون العامة على من يُبدي رأياً يخالف رأيهم أو هوى أنفسهم، يهدِّدونه ويهينونه. وإذا لم توجد له عصبةٌ تمنعه منهم فإنهم يضربونه". لكنه انقلب على نفسه وطفق يؤلِّب على الفكر الباحث لدى كل من د. طه حسين وعلي عبد الرازق عامي 1926 و1927 في كتابيهما في الشعر الجاهلي والإسلام وأصول الحكم، وكان في موقفه يمالئ رغبة الملك فؤاد الأول في اقتران المُلك بالخلافة. وتكررت أزمة الفكر والثقافة على مثال ما أقرَّ به الغزالي في العصر الوسيط في كتابه المنقذ من الضلال بأن كل ما قام به لم يكن مقصوداً به وجهُ الله!

دشَّن محمد رشيد رضا الردَّة الفكرية التي بدأت ولما تنتهِ بعد، تحتكر الصواب وتنكر شرعية الآخر. وتطور التزمُّت إلى درجة تكفير المجتمع كلِّه والتحريض على الديموقراطية والعلم اللذين يُعتبَران حبل النجاة من حالة مزمنة من التخلف والاستبداد والتبعية، الأمر الذي عمَّق الأزمات داخل المجتمعات العربية–الإسلامية وفي أوساط حركة مجابهة الاحتلال والعدوان الأجنبي، حيث اتخذ التزمُّت طابع "الإسلام الجهادي" لدى مقاربة قضية مكافحة السيطرة الأجنبية. جرى التركيز على العنف المسلح، مع إغفال القضايا الاجتماعية وأوضاع التخلف وامتهان الإنسان، علاوة على استعداء المجتمعات الأخرى دفعة واحدة.

ردَّتان متناظرتان على امتداد التاريخ العربي–الإسلامي! الإسلام العقلاني ينكفئ، لتنكفئ في إثره المجتمعات العربية–الإسلامية إلى أوضاع التخلف واستبداد الحكم. والفكر المستمَد من النصوص القديمة يعجز عن ترشيد المقاومة. ينجذب الفكر العربي المعاصر إلى اتجاهين متضادين يغيِّبان الواقع: اتجاه ينشدُّ إلى الماضي، حالماً بإعادة إنتاجه أو محاكاته – وهو أمر مستحيل؛ واتجاه مضاد ينشدُّ إلى نموذج أوروبي يغرق في طروحاته ومعطيات تجربته وملابساته المغايرة للتجربة والملابسات المكتنفة للواقع العربي. فالتاريخ لا يعيد نفسه نظراً لتبدلات الواقع؛ ولكل مجتمع ولكل حقبة زمنية خصوصية تتجلَّى من خلالها قضية التحرر والتقدم. فما أحوجنا إلى ممارسة كفاحية تحلُّ عقد الحاضر وتفك مأزقه: تنقية النفسية الاجتماعية من الانسحاق والاستلاب عبر تصفية علاقات القهر؛ تحرير الإنسان من أغلال التخلف؛ ثم تنظيم الجماهير في هيئات تطوعية للعمل الاجتماعي العام وتنشيط مبادراتها وتفجير طاقاتها الثورية. وهذا ما توفره فعاليات النضال اللاعنفي.

يجنِّد النضال اللاعنفي نسبة عالية من الجمهور قد تصل، إذا ما روعي تنويع أنماطه وتطوير أساليبه، إلى 80% من الجمهور، من مختلف الأعمار والاتجاهات. بينما العنف يستوعب الشباب بنسبة لا تزيد عن 15% فقط. وعبر تصعيد الكفاح تتبدد بين الجمهور حالات الإحباط وعدم الثقة بالذات والارتياب بالآخرين. ففي مدرسة النضال الجماهيري تجري عملية تربوية تثقيفية للجماهير، وتتفتح براعم وتنبت فسلات، مثل التآخي والتكافل الاجتماعي، وتتضاعف العزيمة الكفاحية أضعافاً مضاعفة. صحيح أن الكفاح المسلَّح يحرِّر المناضل من الخوف ومن الإذعان لسطوة الطغيان؛ إلا أن العرَض المرَضي يعاوده حالما يعود إلى مجتمع تتكالب عليه عقد الاضطهاد والقهر والانسحاق. أما النضال اللاعنفي فيسلِّح الجمهور بأسلحة اجتماعية واقتصادية وسياسية ونفسية. والتداعيات التي تتراكم وتتنامى في النفسية الاجتماعية أثناء تطور النضال اللاعنفي هي من التنوع والضخامة بحيث تعجز عن التنبؤ بها أكثر القيادات السياسية حنكة وحصافة وبُعْدَ نظر؛ وكلها تخلخل البنى النفسية الموروثة عن قرون القهر والجور، تعزز النزعة الديموقراطية داخل المجتمع، وتبعث ألق العقلانية في الدين. هنا تنسجم الغاية مع الوسيلة. فما من نضال تحرري يحرز النصر إذا لم يرتكز على فهم عقلاني للدين، ولا ينفتح على أفق التقدم والديموقراطية.

يحفل التاريخ الحديث بوقائع اتخذ فيها الجهاد شكل النضال السلمي. ففي الهند شارك العديد من رجال الدين على رأس الجمهور المسلم خلف المهاتما غاندي. وكان عبد الغفار خان نائباً للمهاتما في منطقة شمال غربي القارة الهندية، ولقِّب بـ"غاندي الحدود".

وفي مصر كانت ثورة 1919 شكلاً للنضال اللاعنفي، وشكَّلت منعطفاً هاماً في تطور مصر الحديث. ولقد توجَّه النضال الفلسطيني في بادئ الأمر وجهة سلمية، حيث خاضت جماهير الفلاحين إضراباً استمر ستة أشهر. وتوجَّه القادة العرب بنداء إنهاء الإضراب، واعدين بالتدخل لدى "الحليفة" بريطانيا، التي تنكَّرت للتدخل وخذلت المتدخِّلين. وحصلت دول الهند وغانا وغينيا (ساحل العاج سابقاً)، وكذلك دول شمال أفريقيا، على استقلالها بوسائل اللاعنف. كما حققت إيران، من خلال اللاعنف، ثورة أطاحت في العصر الحديث بسلطة الشاه عبر تفكيك وشلِّ أعظم جهاز عسكري في العالم الثالث.

وخاضت قرية فرنسية حملة دامت أكثر من عشر سنين في سبعينات القرن الماضي لإبطال قرار عسكري بتوسيع قاعدة عسكرية في أراضيها. تنوعت أشكال النضال وتفرعت الاتصالات من أجل تشكيل رأي عام فرنسي يدعم المزارعين. وعبر سيرورة المقاومة التزمت الحكومةُ وأجهزتُها بالقوانين وحكم المؤسَّسات الأهلية والرسمية، واستجيب لمطالب سكان القرية. والتجربة رائعة وملهمة بتفاصيلها. وأثناء الحرب العالمية الثانية استطاع الجمهور الدانمركي بالنضال السلمي إفشال خطة المحتل النازي لتغيير البرنامج الدراسي: توحَّد الجميع بشأن اندماج المدرسة في الهوية الحضارية للأمة. ويجري حالياً في كل من الدانمارك والسويد وضع خطة المقاومة اللاعنفية ضمن الاستراتيجية الدفاعية، كما يجري إدخال موضوع المقاومة اللاعنفية في البرنامج الدراسي.

وقد قدَّمت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وهي ملتزمة باللاعنف، مكتسبات ضخمة للقضية الوطنية على الصعيدين المحلِّي والدولي. وقد ثبت بالدليل القاطع أن التفاوض يمضي بجدية ضمن علاقات قوى قريبة من التكافؤ إذا ما واكَبَهُ النضال الجماهيري. فالمتفاوضون يبصبص كل منهم تحت الطاولة ليرى حجم الهراوة التي بحوزة الطرف المقابل. حقاً، لا يتحقق النضال اللاعنفي إثر تسوية بين طرفين بصدد أسلوب الصراع، وقد تُستخدَم القوة ضد المعتصمين أو المتظاهرين. ولكن مردود العنف في هذه الحالة أشد إضراراً بمن يبادرون به، وغالباً ما تندسُّ العناصر الاستفزازية وتنجرُّ العناصر النزقة للمقامرة، وتستغلها السلطة لقمع النضال السلمي والفتك بالجماهير وترويعها. ومن ثم يتطلب النضال اللاعنفي قدراً عالياً من الانضباط ورباطة الجأش والوعي بتاريخ كاسري الإضرابات وتحطيم المظاهرات.

العنف يوحِّد الخصم؛ أما اللاعنف فيفسخه، إذ يضيق رقعة الاتفاق بين عناصره. النضال السلمي يمنح المزيد من الحرية للمتعاطفين والأنصار من الجانب المقابل كي يعبِّروا عن تضامنهم بدون مخاطرة التعرض لتهمة الخيانة. فهناك العديدون من أصحاب الضمائر الحية يردعهم العنف عن إعلان انحيازهم مع الحق الفلسطيني.

الصراع قضية اجتماعية ملازمة للحياة الاجتماعية. فما من بيئة اجتماعية تخلو من صراع الإرادات من أجل تحقيق الذات. ومن مصلحة الطغاة انتشار مقولة "العنف شرط النجاح"؛ وهم يدركون أن تواصل سطوتهم مشروطة بتلقِّي الدعم ممَّن يخضعون لهم. وهم يمارسون العنف ويلوِّحون به لضمان خضوع الأتباع لسطوتهم. وحدث أكثر من مرة أن انهارت أجهزة السلطة أو تخلَّت عن الرئيس، كما حدث في مثال ماركوس في الفيليبين، فلم يجد أمامه سوى التنحِّي. ومن خلال الجهود المشتركة والمثابِرة لملايين البشر وتنوع الأساليب يُكسِب النضالُ اللاعنفي الجمهورَ قوة معنوية واحترامَ الذات والثقةَ بالمجموع.

ينطوي العنف على مجازفات خطيرة إذا لم تُتَّبَع الأساليب العلمية في الحشد، والتعبئة، والتخطيط الدقيق، وحساب التوازنات المحلية والدولية، وتحقيق المباغتة، ووحدة القيادة، والمثابرة الدؤوب في تنفيذ المهمات. وفي ظروف الاحتلال وحصاره وتغلغله في ثنايا المجتمع الفلسطيني المحتل يستحيل تحقيق شروط النصر مجتمعة.

نشرت الأيام، ولما يمضِ سوى بضعة أشهر على بدء الانتفاضة، مقالة عبَّر فيها كاتب هذه السطور[3] عن قلقه بشأن ما يشوب الانتفاضة من تجاوزات تعذرت السيطرة عليها، واختُتمتْ بالاستخلاص التالي: "هل باتت نتيجة الفشل أمراً ملازماً للنضال الفلسطيني، وكأنها القدر الذي لا يُرَدُّ؟"

حقاً تبدو فعاليات النضال الفلسطيني بمختلف نماذجها، من كفاح مسلَّح وانتفاضة ومواجهة الاستيطان، كما لو أنها تنفيس للقهر، تمضي ولا تُدخِل تغييراً جوهرياً على واقع الرضوخ للهزيمة، أو تترك أثراً على الخبرة السياسية! ونحن شهود الانتفاضة الثانية تتعثر بنماذج من الفعاليات المرتجلة العشوائية، ولا ينبري التنظيمُ والتوعيةُ السياسية لبلورة الطاقات الكفاحية وتعبئتها وتوجيهها فيما يرهق الخصم ويحتويه ويحمله على مراجعة حساباته.

الانتقاص من دور الجماهير والجهل بالنفسية الاجتماعية وإغفالها، أو العجز عن التعامل مع آلياتها والتغلغل في ثناياها من أجل التعرف إليها، تمهيداً للتحكم بها وقيادتها، يغري القوى والفصائل السياسية باختصار الجهد والتركيز على نهج كفاحي لا تتوفر عوامل إنجاحه.

فهلا أوصلتنا الانتكاسات وآلامها إلى ضرورة إمعان الفكر في نهج كفاحي تتوفَّر فيه مقوِّماتُ النجاح؟!

*** *** ***


* كاتب فلسطيني.

[1] مقتطف عن د. ماهر الشريف، "مفهوم الاختلاف بين الإصلاح الديني والإسلام السياسي"، الطريق، عدد 1، 1997.

[2] كان الصيادي مستشار السلطان عبد الحميد وشيخ مشايخ الطرق الصوفية.

[3] عدد الجمعة، 8 كانون أول 2000.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود