|
... وعلى الأرض السلام بشرى
جاءت مع ولادة المسيح. فلا سلام قبل مجيئه،
ولم يتحقق سلام بعد مجيئه طوال الألفيَّتين
الماضيتين. فهو ما جاء عبثاً بين اليهود، حيث
لا سلام معهم. أرادوه منفذاً لأطماعهم، فرفض،
ولم يستطع خرق قلوبهم المتحجِّرة، رغم كل
الحب الذي فاض منه، ورغم دمه المسفوك على
الصليب. لقد
أراده اليهود لهم وحدهم ليوقفوا كلامه عن
المحبة والرأفة ووحدة الوجود. لم يفهموا
رسالته، واستمروا في هدر سلام الإنسانية
جمعاء إلى يومنا هذا، وفي قهر من ليس منهم،
مشرعين أبواب الدمار، غارقين في بشاعة جهل
قدسية الحياة. أينما حلُّوا حلَّ الخداع
والغش والبؤس، وعصفت بالعالم الحروب. من
أين يأتي السلام؟ لا يأتي بجرَّة قلم من
السماء، ولا بجرَّة قلم من إلهة الكرة
الأرضية الجديدة، أمريكا، الغارقة في
رعونتها، تنفث غرورها وقمعها المنظَّم لتطور
وعي الشعوب وازدهارها، ولا من دفاتر شريكها
وصديقها شارون، بطل نهاية القرن العشرين
وبداية الحادي والعشرين في سفك الدماء وسلب
الأرض وما فوقها – وما شبع، ولن يشبع وكلَّ
قبيلته، ولو التهموا الكوكب بكلَّ ما فيه. من
أين يأتي السلام إذن؟ ديمتري
أفييرينوس، في افتتاحية الإصدار السادس من معابر
"نحو مفهوم أخلاقي للسلام"، يرد السلام
إلى توازن الطاقتين الملازمتين لطبيعة تكوين
الكائنات جميعاً: اليَنغ واليِن. "اليَنغ"
هو المبدأ الفاعل، المنير، الصلب، الجاف
والسماوي التوجُّه، و"اليِن" هو المبدأ
المنفعل، المظلم، الطيِّع، الرطب والأرضي
التوجُّه. نقيضان متكاملان؛ ومن تكاملهما
يتجلَّى العالم، يقوم، ويتوارى تباعاً. ويحمل
الإنسان في تركيبة جسمه صفات تركيبة الوجود
نفسها؛ إذ أفادت أبحاث جَرَت في الربع الأخير
من القرن العشرين أن تركيبة الدماغ البشري
الثنائية، رغم تماسكه ككلِّ عضوي، تركِّز عمل
نصف الكرة المخية الأيسر – "اليَنغ" –
على التحليل المنطقي والعلمي والموضوعي،
بينما يرتكز عمل النصف الأيمن – "اليِن"
– في المقابل، على الحدس والذاتية والمشاعر
والعفوية. ويتمتع الإنسان بكلتا القدرتين؛
ولكن ثقافته نزعت إلى تنمية النصف الأيسر
وإهمال النصف الأيمن من دماغه، فتفوَّقت لديه
الخصائص العلمية، المذكرة، والانفصالية، على
الخصائص الفنية، المؤنثة، والاتصالية، على
مستوى الأفراد والحضارة ككل، فأضاع التوازن
بينهما. ونجم من هذا كله شرخ، ثم صراع بين نصفي
الدماغ، انعكس على الأفراد صراعاً دائماً
أبعد ما يكون عن السلام. ويرى
ديمتري أن العلاج يأتي من إعادة تفعيل
البصيرة الحدسية في النصف الأيمن من الدماغ،
حيث يشرق مفهوم الرحمة والتضامن، إلى كونه
مصدر كل الفنون ومنبع الحكمة والمحبة. ومتى
تندمج البصيرة الحدسية الواعية مع البصيرة
المنطقية تبدأ أخلاق "سلامية" في
الظهور، ويبدأ الشرخ بين نصفي الدماغ في
الالتئام، ومن بعدُ بين الفرد والجماعة، أو
بين كلِّ الكائنات التي ستدرك ارتباطها في
سيرورة كلِّية غير منفصلة. وتفعيل
البصيرة الحدسية يأتي من طريق ممارسة "التأمل"
أو التبصُّر بالترابط في الأحدية المتناغمة
مع نظام شامل. "التأمل" وحده يعيد
التوازن إلى أداء الدماغ بجزأيه عندما يحقق
المتأمِّلُ المتمرسُ السلامَ مع ذاته، ثم
سلامَه مع سواه، فسلامَه مع الوجود بأسره. فلو
أردنا السلام علينا أن نسعى في نيله، مانحين
من ذواتنا ومن وقتنا لنستحقَّه؛ إذ لن يهدينا
إياه أحد. لذا فالجنس البشري مدعو إلى وليمة
"تأمل" تشملنا جميعاً مدى الحياة. نحن
مدعوون إلى تصحيح خطانا على درب الحياة،
وبالأخص اليهود الصهاينة المتقوقعون داخل
جدران جهلهم لتركيبة الوجود ووحدتها. فهم جزء
منها معتم، متحجِّر، غائر في قعر الإنسانية
العدائية المدمِّرة. فهل يستيقظون ويغتسلون
من آثام بربريتهم يوماً؟ *** *** ***
|
|
|