|
من أجل
المصالحة بين المسيحية
وحضارات
الشرق القديم
نجاة
نعيمه ناصيف
من
يقف على الأساطير السومرية والأكادية
والبابلية والآشورية والكنعانية، كما
والفرعونية، بأن يعود إلى أسطورة إينوما
إيليش التكوينية، أو ملحمة جلجامش، أو ملاحم
أوغاريت وأساطيرها (كرت، إقهرت...)، أو كتب
الموتى الفرعونية، وما إلى ذلك من أساطير، أو
ما كشفت عنه الحفريات في بلاد ما بين النهرين
ومصر وفلسطين، ويقارنها بما يمثلها في
التوراة لجهة الثالوث الخالق، أو قصة
التكوين، أو الطوفان، أو التنين، أو الفردوس،
أو سقوط الإنسان الأول، أو حكاية قايين (قابيل)
وهابيل، أو سمات العالم السفلي، أو نزول
الإله إليه، يعجب لمدى التماثل في هذه
الأساطير، إنْ على مستوى المفاهيم أو الطقوس
أو الرسوم والأيقونات. فهي جميعاً تلتقي على
مكوِّنات أساسية قامت عليها الديانات
السماوية، وخاصة المسيحية، التي استقت
وعمَّقت الكثير من روحانية ورموز هذه
الديانات الأسرارية، مما بات يقرُّ به علماء
الحضارات أخيراً بعد تجاهل طويل، بدت من
جرائه الأساطيرُ الإغريقية والرومانية (الألف
الثاني قبل المسيح) وحدها مؤسِّسةً لحضارة
الغرب، فيما هي في الواقع ذات تاريخ وتراكم
يضربان بجذورهما عميقاً في حضارات الشرق
القديم (ربما منذ الألف الرابع قبل المسيح).
جزء
من بردية مصرية قديمة تمثل مشهداً أسرارياً
يشاهَد فيه المُسارَر بالمعرفة ماثلاً أمام
حورس، تظلِّلهما نوت، إلهة القبة السماوية. فالاعتقاد
بولادة المسيح من عذراء، وإقامة الفصح،
وانتقال العذراء إلى السماء، وعيد الأموات،
والصليب، والنزول إلى الجحيم، والقيامة،
فضلاً عن طقوس العماد والقربان، تجد لها
جذوراً شديدة الوضوح في الديانات الشرقية
السابقة على المسيحية، مما برهن عليه وتبسَّط
في شرحه فراس السوَّاح[1]
وسواه من علماء الآشوريات والفرعونيات، من
عرب وأجانب. إذ تكفي جولة على متاحف الغرب
والشرق، ووقفة أمام المؤلفات التي تتناول
شؤون الحضارات (ولاسيما بعدها الديني–الأسطوري)،
لكي ندرك كم إن الديانات والتراثات الشرقية
باتت تحتل حيزاً رئيسياً في الأبحاث
الأكاديمية واللاهوتية وتاريخ الديانات. لا
شك أن المسيحية شكَّلت تحولاً نوعياً في هذا
المسرى التاريخي. فإشارة الإنجيل إلى أنه "لما
تم ملء الزمان" ولد المسيح تنطوي على إعلان
بأن ولادة السيد ما كانت لتتم قبل أن "يكتمل
الزمان"، بمعنى أن يكون الإنسان قد قطع من
التطور شوطاً يؤهِّله لأن يكتمل في الفكر
والمعرفة، فيدرك الألوهة إدراكاً روحياً
وعقلياً، بعدما ساد الـ Homo sapiens
sapiens على
الطبيعة، وعرف نواميسها معرفة باتت تتوثق
علمياً، فما عاد الإنسان قابلاً لتفسير
المادة والخلق بالفهم الحرفي للأسطورة، بل
عالمٌ بقوانين المادة، وبأن مبدعها شاء لها
أن تتفتح بمخاض من التطور والصيرورة والحكمة. لكن
العجب لا يتوقف عند التماثل الذي عرضنا له، بل
يتزايد أمام أمرين آخرين: أولهما،
أن ثمة إعداماً لهذا التراث السامي في لاهوت
الكنيسة، كما في الأدبيات الدينية، لصالح
العلاقة الحصرية بين المسيحية واليهودية،
متمثلة بالعهدين القديم والجديد، انطلاقاً
من أن العهد الجديد "منسوج بكلمات العهد
القديم وعباراته ومفاهيمه ورؤاه ورجاءاته"،
ومن أن "الرسول بولس ويوحنا البشير
يعلماننا أن يسوع الناصري، هو، في المطاف
الأخير، مَن انسكبت فيه، ومن خلاله، إلى
العالم أجمع، محبة إله العهد القديم الفائقة
كل تعبير"[2]، من غير الوقفة
المتأنية أمام إلهامات الروح لدى الشعوب
الشرقية التي بلغت حداً عالياً من التوحيد في
إيمانها بالإله الأسمى، يصعب معه رميها
بالوثنية والشرك بداعي تعدد الآلهة في تراثها
الديني–الأسطوري – وهو تعدد شكلي، لا يلغي
التراتبية بين الآلهة، ولا ينفي الجوهر
الأخير للتوحيد.[3]
نصب
آشوري للإله شمش، المشخص للألوهة الشمسية في
العديد من حضارات الشرق القديم. يدرك
الباحث اليوم أن اعتبار آباء الكنيسة، في
القرون الأولى للمسيحية، أن المسيح هو محقق
العهد القديم ووارثه، وأنه "مكمِّل
الشريعة والأنبياء" و"إسرائيل الجديد"،
وأن العهد القديم هو كتاب ميلاد "يسوع
المسيح بن داود بن إبراهيم" (متى 1: 1) لأنه
كان فترة وعود وعهود وانتظار وتنبؤات، من غير
رؤية الحبل السُّري العميق بين المسيحية
وديانات الشرق (ديانات الخصب، ديانات
التفريد، ديانات التوحيد)، في مفاهيمها
وطقوسها وحكمتها وروحانيتها (العقل في القلب،
الخلق المتجدد، الألم والقيامة، توحُّد
الإله مع الإنسان...) – هذا الاعتبار، نقول،
إنما يعود إلى أن الكشف عن هذه الديانات لم
يتم إلا في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات
القرن العشرين، بفعل التنقيبات الآثارية (اكتشاف
مكتبتي الملك آشور بانيبعل وإيبلا اللتين
احتوتا آلاف الألواح، أوغاريت، الحضارة
الكريتية المينوية...)، وما سبق ورافق من حلٍّ
لرموز الكتابة الهيروغليفية والمسمارية، مما
سمح بالكشف عن معتقدات بابل وفارس وكنعان؛
وبالتالي ما اقتبسه أنبياء العهد القديم من
هذه التراثات، وبخاصة ما أضافه النبيان عزرا
ونحميا على التوراة العبرية بعد عودة اليهود
من السبي البابلي، مما يوضح لنا صلة النسب بين
المسيحية وهذه المعتقدات المنغرسة في كل
حضارات الشرق القديم، مما لم يكن ميسوراً
استنتاجُه لدى آباء المسيحية الأولين. ولئن
كان من المتعذر إعادة النظر في عمارة لاهوتية
تراكمت قروناً وتأسَّست عليها عمارة طقوسية
لا تقل انغراساً في وجدان المؤمنين، إلا أنه
ليس غريباً الدعوة إلى فتح الباب للتلاقي بين
المسيحية والتراثات القديمة التي تجد "ملء
اكتمالها" في المسيح، فلا تبقى التوراة
وحدها تهجئة أولى عن المخلِّص. ولعل
معاهد اللاهوت في المشرق، وفي أنطاكية على
الأخص، بالتلاقي مع مئات الأكاديميين
واللاهوتيين الأمينين على حقائق التاريخ
والتراث، هي المكان الملائم لمثل هذه الورشة
الفكرية التي تريد أن ترى في شخص يسوع المسيح
وارثاً للإشراقات الروحية في جميع التراثات،
وأخصها تراث هذا الشرق، صانع الحضارة
النيوليثية، ومستودع القيم والروح. إن
المصالحة المرجوَّة بين الأديان التوحيدية،
وخصوصاً المسيحية، وبين ديانات الشرق القديم
تفتح الباب على مسألة أخرى: فمن جهة، اختزنت
الديانات السابقة، بحسب منابتها الجغرافية
والتاريخية، الكثيرَ من الرموز والاعتقادات
التي تتمايز بها طوائف الديانات التوحيدية
ومذاهبها؛ ومن جهة أخرى، عرف المشرق بأكمله،
منذ العصور الألفية الأولية لبزوغ دياناته،
تيارين اثنين (ضمن التفريد): 1.
تيار
التوحيد: ومثاله الإله المصري بتاح الذي،
إبان قرون سبقت أخناتون، ولد من ذاته وعَقَلَ
الكون وخلق الخلائق باللسان وبالكلمة. 2.
تيار
التثليث: ومثاله أيضاً من مصر: الثالوث
المكوَّن من رع (إله الشمس وربِّ الكون)، ومن
أوزيريس (إله الموتى والصالحين والبعث)، ومن
ماعة (ربة الصراط المستقيم والحقيقة والعدالة).
وهذا الثالوث كان يسيِّر الكون ويحيي مملكة
العدالة، إنْ في الموت أو في انتظام الحكم. جسد
أوزيريس إله الموتى (على شكل مومياء)، بين
إيزيس ونفتيس، ورأس أثوم إله الشمس الضاربة (على
شكل ثور) وقد اتحدت طبيعتاهما بموتهما
وقيامتهما في باطن الأرض. إن
اشتمال هذه الديانات على التيارين معاً يجعل
من التعرف عليها مادة لإغناء الحوار الإسلامي–المسيحي،
في شقِّه اللاهوتي–الفقهي، حول مسألة
التوحيد والتثليث، بما يخرجها من كونها مسألة
حصرية بين المسيحية والإسلام. أما
العجب الثاني فهو في غربة الكثير من المثقفين
عن هذه المباحث، مما يُفقِر الثقافة ويحول
بينها وبين عمق حضاري يشكل مخزونها الحقيقي.
إن الجهل بالتراث الحضاري لهذه المنطقة ينشئ
ضبابية لا تتوقف عند الفكر، بل تمتد إلى
الرؤية السياسية، في عالم لا تفسره البواعث
الاقتصادية والاجتماعية والجيوستراتيجية
وحدها، بل النوابض الحضارية والتراثية
أيضاً، بل وأولاً. ***
*** *** [1]
ولاسيما في كتبه لغز عشتار ودين
الإنسان والأسطورة والمعنى. [2]
الأب بولس طرزي، مدخل إلى
العهد القديم، الجزء الأول. [3]
مثال على ذلك فكرة ماعة، ربة
العدالة والاستقامة والحقيقة لدى
المصريين، التي تسيِّر الكون والملك وعالم
الآلهة والأموات.
|
|
|