العالم
الإسلامي:
ملامح راهنة
لتكوين نظرة مستقبلية
"أنا
شامت لأن الولايات المتحدة تهاجم حلفاءها."
"أمريكا
تتكلم في كل مكان عن الديموقراطية، إلا في
منطقتنا."
"11 أيلول مظهر تأزم للحركات الإسلامية
وبداية انحلالها."
صادق
جلال العظم مفكر كبير أمضى عمره الفكري في
المعارضة الثقافية، منشقاً واستفزازياً وحتى
مهاجماً؛ وله مواقع هي، من دون شك، علامات في
صراعاتنا الفكرية. إلى ذلك، درس العظم في
أمريكا، ولا يزال متتبعاً مراقباً عن كثب
للسياسة الأمريكية. لا يسمي نفسه يسارياً،
لكنه بالتأكيد مناضل في سبيل الديموقراطية
والعلمانية – صفات تجعل من العظم وجهاً لجيل
ثقافي، وتجعل الحوار معه حواراً مع تكوين
فكري متعدد – وربما نموذجي – لأفضل ما في
معارضتنا الثقافية. دردشة حول 11 أيلول وما
بعده كانت وراء هذا الحوار الذي بدأه العظم.
عباس
بيضون
***
[...] حين وقعت أحداث 11
أيلول كنت في اليابان. هناك يتفاعل المرء مع
الحدث أو المشهد بثقافة مختلفة كلياً عنا،
وطبعاً عن أوروبا التي نحن معتادون على
التفاعل معها.
حين ذهبت إلى اليابان
لأول مرة أحسست كم هي كثيرة القواسم المشتركة
بيننا وبين أوروبا، على الرغم من كل الفوارق
التي نتكلم فيها. لكن حين تشرف على المشهد من
هناك يصبح معنى فكرة "البحر المتوسط"
مختلفاً عن المعنى الذي لها إذا تكلمنا عنها
من هنا. لأول مرة، وجدت نفسي في ثقافة وحضارة
إذا قلت فيها "يا إلهي!" أو "يا ربي!" Mon
Dieu,
My God فليس لها معنى، لأنه ليس
عندهم آلهة أصلاً. ففي الهند التي زرتها،
مثلاً، عدد هائل من الآلهة، حتى إنهم هناك لا
يعرفون عددها! أما في اليابان والصين فلا آلهة
بتاتاً. كلمة God يستعملها في اليابان من يعرف
الإنكليزية كتعبير خطابي لا أكثر. وأحياناً
حين يقولون god أو "إله" أو "مؤلَّه"
إلى ما هنالك، يقصدون بها "ولي" أو "قديس"
مثلاً، لا أكثر.
بالعودة إلى موضوعنا، أول
ما رأيت المنظر على التلفزيون (مع أني لا
أشاهده كثيراً، ولكني كنت أريد متابعة
الأخبار بالإنكليزية) ظننت نفسي على قناة
للخيال العلمي... خلت أنه فيلم من أفلام
هوليوود المتخصصة بالكوارث والرعب المديني!
انتابني أول الأمر شعور
بالشماتة، على الرغم من أن في ثقافتنا
وتقاليدنا "لا شماتة في الموت"... لكني لم
أتمالك نفسي؛ فكان ذلك الشعور البدائي الأولي.
شعرت بأن الملايين من العرب والمسلمين وغيرهم
يشاركونني هذا الإحساس بالشماتة، وخاصة أن
الأخبار من الضفة الغربية يومها كانت سيئة
جداً (طبعاً بمعيار تلك المرحلة، ثم صارت أسوأ
بكثير!).
ناقشت نفسي في هذه
المسألة، واعتبرت أنه لا شماتة في الموت،
ولُمت نفسي إلى حد ما على هذا الشعور الذي طغى
عليًّ – وهو شعور غير محمود – لكني لم أستطع
السيطرة على نفسي. ثم تمالكت عقلي الذي عاد
ليشتغل، ودخلتْ اعتبارات التحليل السياسي،
والنتائج والأسباب، إلخ.
أول فكرة لمعت في ذهني أن
من قام بالعملية هم الإسلاميون. لم يكن عندي
شك من اللحظة الأولى. خطر ببالي أن أول سبب
للقيام بهذه العملية أن هؤلاء لهم ثأر عند هذا
البناء؛ فقد جرَّبوا عام 1993 أن يدمِّروه ولم
يتمكنوا من ذلك. وبعقلية الثأر التي عندنا،
والتقاليد القبلية في أفغانستان والسعودية
إلخ، جرَّبوا وفشلوا. ولكنهم هذه المرة رجعوا
بنهم انتقامي أكبر بكثير من المرة الأولى.
هذا الحسم في التقدير كان
من البداية بأن الإسلاميين هم من قاموا بهذه
العملية.
ذلك
يستتبع السؤال: إذا كان الإسلاميون هم من
قاموا بالعملية، فهل هو فعلاً صراع بين
ثقافتين، بين طرفين... هل هو، كما يقول
بودريار، "انفجار من الداخل"، أم كما
يقول نيغري، حرب أهلية داخل الغرب؟
لا، ليس صحيحاً الحديث عن
حرب أهلية داخل الغرب. ليس هذا إحساسي، بل
تحليلي. قلت لك عن إحساسي؛ لكن على مستوى
التحليل إذا أردت أن تحملها على محمل صراع
الحضارات فذلك ليس صحيحاً على أساس أطروحة
هانتنغتون. فالأخير تعلَّم درسه جيداً من
الإسلاميين الذين كانوا السبَّاقين إلى
تحويل الصراع من صراع سيادة على الموارد
والمصالح في الساحة الدولية والعالمية إلى
فكرة صراع حضارات، أو صراع بين الإيمان
والكفر، أو بين دار الإسلام ودار الحرب... وهم
الذين نظَّروا – وما زالوا مستمرين – لفكرة
أن هذا الصراع هو صراع حضاري بين كتلتين
وحضارتين، هما: الغرب والإسلام. وهانتنغتون،
كما قلت، تعلَّم درسه جيداً من الإسلاميين في
هذا الموضوع.
السبب الثاني أني لا
أعتبر أن الإسلام الآن يشكل حضارة بالمعنى
الفاعل والدينامي والمتحرك والفعال. ولذلك
فإن أطروحة صراع الحضارات لا تنطبق في هذا
المجال. الإسلام حضارة فقط بالمعنى التاريخي
التقليدي الانفعالي السلبي الفولكلوري. لذلك
فإن أي صدام بينهما، إذا كان مقدَّراً له أن
يقع، سينتهي كما لو لم يكن أكثر من استعارة
أدبية: يقال في أمثالنا إنه إذا وقعت بيضة على
حجر فإنها ستنكسر، وكذلك إذا وقع الحجر على
البيضة فإنها ستنكسر أيضاً! ما يحصل حالياً
ليس صداماً بين حضارتين.
أتصور أن الحرب الباردة
كان فيها نوع من الصدام؛ لكن كان هناك حدٌّ من
التوازن. أما الآن فإذا كانت هناك إمكانية
للتصادم بين الإسلام والحضارة الغربية، التي
تشعر الآن بأنها منتصرة على كل خصومها
وأعدائها، وهم في حالة ذهول، فإن نتيجة أي
صدام ستكون على صورة المثل الذي قدَّمتُه عن
البيضة والحجر.
في نظري أن الحركة
الإسلامية استحكمت فيها أزمةٌ بنيوية. وعندما
وصلت إلى طريق مسدود قبل 11 أيلول – عندما تصل
مثل هذه الحركات، إجمالاً، إلى طريق مسدود،
تنشأ فيها تيارات تعتقد بأنه عبر العنف
المباشر يمكن كسر هذا المأزق أو الأزمة
والخروج منها.
شاهدنا ذلك في أوروبا في أواسط
السبعينيات. وعندما أراجع الآن تلك المرحلة
أرى أن الشيوعيين وقتها وصلوا إلى أزمة
بنيوية مستعصية، إلى طريق مسدود تماماً؛
فنشأت أيضاً تيارات وقوى على طريقة Bader-Meinhoff أو "الألوية الحمراء" Brigade
Rossi
والـAction direct
في فرنسا، الذين اعتبروا أن الطريقة الوحيدة
للخروج من هذا المأزق أو هذا الانسداد هي
العنف المباشر.
وحسب رأيي، فكما أن العنف
اليساري في أوروبا تبيَّن أنه كان تعبيراً عن
الأزمة العميقة والبنيوية للحركة الشيوعية
واليسارية فقد تبيَّن، في الوقت نفسه، أنه
كان المدخل لانحلال الشيوعية وسقوطها. وأرى
أيضاً أن المقايسة في هذه الناحية تصح أيضاً:
فهذا العنف المشهدي الكبير، "الإرهابي"
– أو سمِّه ما شئت – هو تعبير عن هذه الأزمة،
وسيكون أيضاً المدخل لتفتت الحركة الإسلامية
وانحلالها. وأتوقع أنه كما أن هناك ناصريين
كثراً بعد وفاة عبد الناصر، لكنهم لم يعودوا
يشكلون قوة معتبَرة تؤخذ بالحسبان، كذلك هناك
شيوعيون كثر في العالم، لكن بعد سقوط الاتحاد
السوفييتي لم يعودوا يشكلون نواة صلبة قوية
تؤخذ بالاعتبار والحسبان. وسيحدث الشيء نفسه
– وقد بدأ فعلاً – للحركة الإسلامية التي من
شأنها الإسلام السياسي، مثلاً، أو
الراديكالي، أو الأصولية؛ سيحدث نفس الشيء
بعد ضرب النواة الصلبة: سيبقى هناك إسلاميون
كثر، لكنهم لن يعودوا يشكلون تلك القوة
المتماسكة التي فعلت فعلها في السنوات
الثلاثين الأخيرة.
النواة
لكن
هل نستطيع أن نعتبر أن النواة الصلبة للإسلام
تتمثل في "القاعدة" أو بن لادن الذي هو،
إلى حد كبير، طرف هامشي، برغم العنف والقوة
والزخم؟ أم أن هذه النواة الصلبة تتمثل في
السعودية وإيران حيث يوجد نظامان إسلاميان.
إذا أردت المقارنة فإن
النواة الصلبة كانت حركات كالتي رأيناها في
بلادنا، في مصر وسوريا... ثم إن "القاعدة"
وعلاقتها ببلد مثل السعودية أو غيره كانت
كعلاقة الدول الشيوعية بحركات مثل "الألوية
الحمراء" و"بادر–ماينهوف"... لم تكن
تلك الدول تتبنى هذه الحركات علناً ولا
تتماهى معها تماماً؛ ولكن كانت تستخدمها من
أجل إضعاف الخصم والطرف الآخر، كحال الاتحاد
السوفييتي وألمانيا الشرقية.
بهذا المعنى أعتقد أن
التوازي قائم وموجود. والدول طبعاً تبدل
مواقفها وتوجهاتها حول هذه المسألة، كما
رأينا في باكستان، بمقتضى موازين القوى
والمصالح.
لم يكن عندي أي شك لحظة
واحدة بعدما شاهدت الرئيس بوش وجماعته
يتكلمون أنه ستكون هناك حملة غربية بقيادة
الولايات المتحدة لسحق هذه الظاهرة نهائياً.
وكان عندي إحساس، بل حتى استنتاج عقلي، بأنهم
هذه المرة سوف ينهون هذه الحركات كما أنهوا
الشيوعيين.
هناك
حديث اليوم عن أن الإسلام المعتدل في مأزق.
ووجهة نظرك أنت أن الإسلام المتطرف، أو
الإسلام "الإرهابي"، هو الآن على وشك
الانحلال والتبدد، أو بمعنى آخر، في آخر
أطواره.
فترة "آخر أطواره" قد
تمتد مدة لا بأس بها؛ ولذلك يقول بوش إنها مدة
طويلة أو حرب طويلة. ولا تنسَ أن أوروبا،
عندما عبَّأت أواسط السبعينيات ضد الإرهاب
اليساري، فإن الدولة الألمانية، بكل تنظيمها
وقوتها، استغرقت عشر سنوات كي تقضي على بادر–ماينهوف،
مع أنه بلد واحد وعصابة صغيرة، لكنها منظمة
جيداً ومدربة تدريباً جيداً. والى اليوم لم
ينتهِ الإيطاليون من "الألوية الحمراء".
لذلك عندما يقول بوش إنها حرب طويلة الأمد
فأنا أصدقه لأنه أخذ المسألة بجدية، خاصة أن
"القاعدة" لها امتداد في كل أنحاء العالم.
أما في ما يخص مسألة
الإسلام المعتدل، أو المسلمين المعتدلين،
فلدي إحساس بأننا نحن، كيساريين أو حتى
كأحزاب شيوعية، كنا ننظر إلى الحركات
الإرهابية على أنها رفاق ضلوا الطريق. لم ننظر
إليهم على أساس أنهم إرهابيون، بخلاف الموقف
الرسمي لبعض الدول الشيوعية الذي اعتبرهم "مغامرين"،
كمثال غيفارا – مع أنهم اليوم يتبنون غيفارا
ويعلقون صوره! لكننا كنا نقول عنه دائماً، كما
قلنا عن غيره، إنهم رفاق ضلوا الطريق. ليس
هكذا يتم العمل، ولا هكذا تساق الإبل. كان
هناك تعاطف – أو ربما أمل – بإضعاف الخصم
وبأن يساعد هؤلاء، من حيث لا يدرون (والنتائج
غير المقصودة قد تساعد) بعملهم، الشيوعية
الوسط المعتدلة. أعتقد أنه عند الإسلام
المعتدل كان هناك موقف قريب من اتجاه هذه
الحركات. هناك شيء عاطفي، شماتة، أشياء لها
علاقة بنفسية الإنسان العربي المقهور
الهامشي الذي ليس له دور. هذه الأمور تخلق
نوعاً من التعاطف، وليس التزاماً بالضرورة.
كانت نظرة الإسلام المعتدل إلى أن هؤلاء "إخوان"
(لا تصح تسميتهم "رفاقاً"!) ضلوا الطريق
وشطوا وتطرفوا، ولكن لا يُدانون كإرهاب أو
كإرهابيين. هذا طبعاً لعب سياسي، بمعنى أن
الكتلة الأكبر تعدل مواقفها بحسب نتائج
النجاح أو الإخفاق أو ما بين بين بالنسبة لهذه
الحركات. الآن يغسل الإسلام المعتدل يديه
كلياً من هذه الحركات.
الثالوث
أنت،
كيساري، تجاه هذا النزاع بين إسلام "أصولي"
و"ظلامي"، كما يسمى، من جهة، وبين أنظمة
مؤذية لشعبها، وتعطل عملياً كل طاقات شعوبها،
وبين أمريكا، من جهة أخرى – أمريكا، من جهة،
وأنظمة تعسفية، وإسلام ظلامي، أين تجد نفسك؟
سؤال جيد. أجد أن الإسلام
الظلامي أثبت أنه "ظلامي" فعلاً! فهو لم
ينجح في أي منطقة من المناطق؛ فحيثما جرَّب
وحاول آلت الأمور إلى كارثة: انتخابات
الجزائر، أو السودان، الآن... حيث إن النموذج
الذي قدمه هو نموذج طالبان. وحين سقط طالبان
لم يرتفع صوت واحد في العالم الإسلامي علناً
ليدافع عنه، ولم يقف أحد ليقول: لقد فقدنا ما
كان يبدو نواة أو جنيناً لنظام إسلامي حقيقي
سيتطور ليصبح نموذجاً يُقتدى به أو يقلَّد أو
ما شابه ذلك. من هذه الناحية، أثبت هؤلاء أنهم
أسوأ في هذه المسائل من الأنظمة نفسها، وحتى
أسوأ من الولايات المتحدة.
تبقى فقط إيران. وحتى هذا
النموذج، صحيح أنه مستمر، لكنه يقع تحت
توترات وضغوط شديدة وانقسامات. الثورة نفسها،
حين انتصرت، وقف في اللحظة الساخنة للثورة من
قال: يجب أن نقلدها ونقوم بمثلها. لكن في ما
بعد، لم يعد أحد في العالم الإسلامي يقول إنه
يُفترض أن نقلد إيران أو النموذج الإيراني أو
ما يجري في إيران. لذلك أعتبر، على العموم، أن
كل تلك المحاولات التي جرت لإقامة حكم أو
مجتمع أو لتطبيق الشريعة الإسلامية إلخ انتهت
نهايات بمنتهى البؤس. هناك شبه إجماع على ذلك
أيضاً، وأكثر منه في أي مجال آخر.
أعتقد أن الإجماع على فشل
النماذج والأنظمة الشيوعية أقل من الإجماع
على فشل النماذج والتجارب والأنظمة
الإسلامية، خاصة حينما يقرر حاكمٌ ما أن يحول
دولته إلى دولة إسلامية: أكان اسمه ضياء الحق
أو القذافي أو النميري، فإن أول ما يفعله هو
اختزال الإسلام إلى الشريعة، والشريعة
تُختزَل إلى قانون العقوبات – وهو، في كل
الأحوال، نظام صارم وقاسٍ، وأحياناً وحشي في
تطبيقاته.
أنا أعتبر أنه حين يأتي
الإسلاميون إلى الحكم ويعلنون تطبيق
الشريعة، فهذا يعادل تماماً مجيء العسكر
وإعلانهم الأحكام العرفية. الشريعة هي
الأحكام العرفية وحالة الطوارئ الخاصة
بالإخوان المسلمين أو الملالي أو الحركات
الإسلامية الأخرى؛ وحالتها القصوى طبعاً
تكفير المجتمع بأكمله. إذاً ينبغي الموازنة
ما بين الأحكام العرفية للعسكر وبين أسوأ
مثال: الأحكام العرفية لجماعة تطبيق الشريعة
الإسلامية. وإذا خُيِّرت بين الاثنين فإني
اختار الأحكام العرفية للعسكر!
وإذا
كان الأمر بين هؤلاء وأمريكا؟ فهناك الآن،
كما يبدو، نزعة وطنية تفترض مواجهة أمريكا...
لا أكتمك، ولا أكتم
القارئ، أني مرتاح لأن الولايات المتحدة
تهاجم الآن حلفاءها من الأنظمة – مرتاح وشامت
أيضاً! أعترف بهذا، وإن كان على صعيد المشاعر
البدائية، أو حتى على صعيد التحليل إلى حد ما.
فلماذا لم تكن هذه الأنظمة العربية الحليفة
لأمريكا تقابَل بأية ملاحظة أو نقد من الغرب
نفسه؟ كان يُنتقَد وضع المرأة في إيران
ويهاجَم من قبل الغرب، لكن لم يكن أحد يقول
شيئاً عن وضع المرأة في السعودية مثلاً. أنا
لست حزيناً لأن الغرب بدأ الآن يتناول جماعته
وعلاقاته.
بالنسبة للسياسة
الأمريكية، فإن كل التدخلات الأمريكية التي
حصلت في الفليبين، في نيكاراغوا، في غرانادا،
في بنما، وحتى في إندونيسيا في ما بعد، كانت
تتم باسم وغطاء "الديموقراطية"، "التعددية"،
"التنوع"، "احترام حقوق الإنسان"،
إلخ. لكن المكان الوحيد الذي يتدخلون فيه بدون
أن يأتوا على أي ذكر لهذه القيم على الإطلاق
هو منطقتنا نحن، أي الشرق الأوسط! وأوضح مثال
على ذلك هو حرب الخليج. وبوش قال للسفير
الكويتي: "نحن لم نخُضْ هذه الحرب من أجل
الديموقراطية"! – مع أنهم في كل الأماكن
الأخرى كانوا يتكلمون باسم الديموقراطية.
لا شك عندي في نفاق
الأمريكيين ولعبهم. ولكن، لأول مرة لدى تدخل
الدولة العظمى في منطقتنا، تُذكَر كلمات
الديموقراطية، التعددية، الدستور، إلخ. على
الأقل، أنا أترقب هذا الموضوع وأنصت وأقيِّم
لأن هناك حالة جديدة لا أقدر أن أحكم فيها
حكماً قاطعاً وجازماً.
بالنسبة لسؤالك حول
تخييري، فأنا مع أي شيء يعزِّز قضايا المجتمع
المدني والديموقراطي وحقوق الإنسان... فهذه
مسلَّمات عندي.
لو
أخذنا العراق مثلاً – ورأيُنا لا يعني شيئاً
– دائماً يُستدعى مثقفون إلى قناة الجزيرة
مثلاً ليُسألوا في الآخِر عن موقفهم من
النزاع بين الولايات المتحدة والنظام
العراقي. كيساري وكمثقف عربي وديموقراطي، أين
تقف من ذلك؟
برأيي السؤال الملح الآن
هو: هل يضرب الأمريكان أم لا؟ هل يتجرأون على
ذلك أم لا؟ ولا أكتمك القول إننا نقوم صباحاً
ونقرأ الجرائد فنرى أنهم سيضربون، ونسمع من
الأخبار ظهراً بأنهم لن يضربوا... الأمريكان
أغرقونا بكمية من المعلومات الكاذبة أو
المضادة التي تبدو أنها معلومات، لكنها
مجموعة من الدعايات. وهذا نوع من المكر
السياسي لخلخلة وضع الخصم.
أنا، مثلي مثل غيري،
مبلبل ولا أستطيع الوصول إلى استنتاج في هذه
المسألة. ولكن هناك نقطة تجعلني أقول إنهم
سيضربون العراق، وهي أنه، لأول مرة، يأتي
طاقم أمريكي يلتزم بشكل واضح وقوي بالإطاحة
بصدام حسين. فبوش، ربما عن قلة خبرة أو عن تعصب
أو عن عجرفة، لم يترك لنفسه خط رجعة فأحرق
جسوره كلَّها.
في الولايات المتحدة هناك
لحظة تأتي يُحاسَب فيها الرئيس على ما التزم
به. في زمن أبيه، مثلاً، في أثناء الحملة
الانتخابية – مع كل الكذب الذي يقال فيها
والوعود التي تُطلَق، لكن هناك مسائل أساسية
لا يمكن الكذب فيها – قال بوش الأب حينها جملة
جازمة حاسمة: "لا زيادة على الضرائب." لكن
في أثناء رئاسته رفع الضرائب – وهذا كان من
الأسباب الرئيسية لسقوطه في الانتخابات، حيث
نكث بوعد قطعه لناخبيه. بالنسبة لنظام صدام
حسين، كان بوش جازماً وقاطعاً بشكل غير معتاد
في عمله السياسي الدولي.
أنا درست في الولايات
المتحدة، ولا أزال مراقباً ومتابعاً للسياسة
الأمريكية وصنع القرار في أمريكا منذ أن كنت
طالباً للدراسات العليا فيها. بالنسبة للموقف
من العراق، فكأنك تسألني: أنت مع عرفات أم مع
شارون؟ طبعاً أنا مع عرفات! – مع كل التحفظات.
لكن هذا لا يقدم ولا يؤخر. مثل سائر الوطن
العربي، لا أرى أي مصلحة الآن في ضرب العراق.
في الوقت نفسه يهمني كثيراً ماذا سيفعل
الأمريكيون بعد الضربة؛ فالمسألة خطيرة جداً.
في أثناء حرب الخليج كنت
في ألمانيا كباحث زائر في معهد الدراسات
المتقدمة، ثم رجعت إلى جامعة برنستون كأستاذ
زائر. وبعد حرب الخليج كانت هناك نقاشات
وسيناريوهات ومحاضرات حول الموضوع. قسم
دراسات الشرق الأوسط كانت تأتيه المعلومات من
وزارة الخارجية الأمريكية، ويزوره ويمر فيه
مسؤولون وتنعقد فيه سمينارات. في أحد هذه
السمينارات والمناقشات طرحتُ سؤالاً القصد
منه استدراج جواب من جانب أمريكي. قلت لهم:
أنتم هزمتم الجيش العراقي وأخرجتموه من
الكويت. فلماذا لم تتعاملوا مع العراق كما
تعاملتم مع ألمانيا أو اليابان بعد الحرب
العالمية الثانية؟ لقد استأصلتم النازية من
ألمانيا؛ فلماذا لم تستأصلوا "الصدامية"
من العراق وتعطوا العراقيين دستوراً، كما
فعلتم في اليابان وألمانيا، وتجروا انتخابات
نزيهة وتخلقوا تعددية وحقوق إنسان وكل
القضايا التي تتكلمون بها في أماكن أخرى غير
بلادنا؟! يجوز أن تفشل الفكرة في النهاية،
ولكن كان من الجدير المحاولة. وقلت لهم إننا
لو أردنا أن ندفع هذا المنطق إلى حدِّه الأقصى
لكان يمكن أن تصبح السعودية جمهورية! وأضفت
أنه لو سرتم في خطوة من هذا النوع وقتها لكان
أثرها على العالم العربي كأثر البريسترويكا
على أوروبا الشرقية! هزُّوا برؤوسهم وضحكوا
إلخ. لكن فحوى الجواب كان أننا إذا قمنا بمثل
هذه العملية في العراق، فماذا سيحدث للسعودية
وأمراء الخليج وسائر الأنظمة الحليفة لنا؟
السؤال الآن: هل ما زال
الأمريكان على الموقف نفسه أم أن هذا الموقف
تبدل؟ هل هم مستعدون، إذا ضربوا النظام
وأطاحوا به بسهولة وبسرعة، للدخول في تجربة
من هذا النوع على طريقة ما فعلوا في ألمانيا
واليابان؟ هذا سؤال كبير بالنسبة إليَّ،
وتستحيل الإجابة عنه بشيء من التأكيد والثقة
بالنفس. لكن على الأقل فإن في خطابهم الآن
منحى مختلفاً عن السابق في هذه المسألة: مسألة
نظام ديموقراطي، مجتمع مدني، حقوق الإنسان،
إلخ.
إذا
رجعنا إلى الخطاب الأمريكي الحالي وتجربة
أفغانستان، كيف ترى هذا الخطاب الحالي الذي
يبدو خطاباً خليطاً؟
صحيح، خليط ومرتبك... أظن
أن إقامة نظام مدني، ولو بتغيير بنسبة 30%،
تعني قفزة هائلة مقارنة بوضعنا العربي. إذا
عملت المؤسَّسات في أي بلد عربي بطريقة أكثر
ديموقراطية، ولو بنسبة 30%، فإنها تعطينا
نَفَساً لعشرين سنة للأمام.
طبعاً أفغانستان بلد قبلي
جداً في منتهى التخلف – مع أن النظام القبلي
له ما يماثله في اليمن والصومال – آخذ في
التحلل والانكسار. ليست واضحة البدائل التي
ستنتج، هل هي مجموعة عصابات ومافيات، كما في
الصومال، أم شيء أكثر تماسكاً وله أفق.
في العراق لا أظن أن الوضع
هكذا؛ فهناك مجتمع حقيقي، وهناك خبرات وتراكم.
لذلك أراهن أنه إذا جرت محاولة لإقامة نظام
ديموقراطي، ولو بنسبة 30%، في العراق فإن
احتمالات النجاح، وحتى احتمالات تأثيرها على
المنطقة، ستكون كبيرة.
خطاب
القيم هذا، "محور الشر"... هل يوحي هذا
النوع من الخطاب، في نهاية الأمر، بسياسة
فيها احترام للشعوب الأخرى أو اهتمام بها
وبمستقبلها؟ أليس فيه قدر من العنصرية؟
أنا اعتبرت أن بوش أراد من
الكلام على "محور الشر" الرد على إيران،
لأن إيران لا تزال منذ 25 سنة تنعت أمريكا بـ"الشيطان
الأكبر"! فقال بوش: إذا كنتم تنعتوننا بـ"الشيطان
الأكبر" فأنتم "محور الشر"! وقد اعتبرت
أنه "صغر عقل" من بوش، رئيس الدولة
العظمى، أن "يضع عقله بعقل ملالي إيران"،
ويعارضهم بالأوصاف التي أطلقوها!
لكن بوش في حملته
الانتخابية كان يقول إنه يطبق سياسة المسيح!
فهناك قدر من الشعوذة الدينية واللغة الدينية...
هذا للاستهلاك الداخلي في أمريكا.
الموقف الأمريكي تجاه فلسطين، هل ترى أنه
يحمل نواة عنصرية؟ هل يبدو أنه استمرار لموقف
الحضارتين، الثقافتين، صراع أنماط القيم؟
لا
أعتقد أن الأمريكان يضعون سياسة بمعنى policy، وليس سياسة بمعنى الاستراتيجية؛
لا يضعون policy
على أساس أنهم يكرهون العنصرية وما شابه...
لا. الموقف من فلسطين له
اعتبارات، على ما يبدو، أكثر من مجرد كونه
موقف ثقافة غربية، من جهة، في مواجهة ثقافة
إسلاموية، من جهة ثانية. ففي النهاية إذا أخذت
عمق العلاقة بينهم وبين إسرائيل، العلاقة
بالمعنى السياسي والمصلحي، وليس بالمعنى
القيمي وما شابه، هناك رؤساء أمريكيون لم
يكونوا ليدفعوا الموقف الأمريكي إلى أقصاه،
أو إلى نتائجه المنطقية والطبيعية، لأنهم لم
يحبوا، أو لا يناسبهم، التطرف. الآن نحن أمام
مجموعة يناسبها الحسم والتطرف والجذرية؛ لذا
دفعت بالسياسة الأمريكية إلى نتائجها
المنطقية.
وهناك اعتبارات أخرى.
فجزء مما يحصل هو عقاب لعرفات على رفضه كامب
ديفد مع إيهود باراك. ويبدو لي، من خلال
قراءتي لكامب ديفد، أن الأمريكيين
والإسرائيليين عرضوا على عرفات صفقة أو رزمة،
وخيَّروه بين رفضها وقبولها. بعد رفضه بيومين
أو ثلاثة ذهب شارون إلى الحَرَم – وهم كانوا
يعرفون ما سيحصل من ردَّة فعل على ذهاب شارون
إلى الحرم! ومن هناك انطلقت شرارة الانتفاضة.
وعرفات كان قيَّد نفسه في اتفاقات أوسلو بعدم
اللجوء إلى العنف وعدم اللجوء إلا إلى
الأساليب التفاوضية السياسية للوصول إلى
الحل الأخير. أخذوا عليه هذا "المَمْسَك".
وهناك مسألة أخرى كُتِبَ
عنها الكثير، وهي أن عرفات كذب كثيراً عليهم
– وتعرف أنه "فهلوي"! لكن أحسست بأنه في
الآخِر وصلت الأمور معهم إلى الحد الأقصى.
فهناك نقطة معينة لا يعود جائزاً الكذبُ فيها.
قال شارون مثلاً: "إني أعطيت وعداً بأن لا
أمس عرفات." وقال: "أنا آسف لأني قطعت هذا
الوعد." لكنه التزم بكلمته. وفي أثناء حصار
بيروت، حين كان عرفات يصعد إلى الباخرة،
صوَّب القناص الإسرائيلي المنظار إلى عرفات،
وجاء الأمر من بيغن بألا يطلق النار عليه،
لأنه كان قد أعطى كلمة لفيليب حبيب بأن يخرج
عرفات وأنصاره سالمين. هم يعتبرون انه لا تجوز
"الفهلوة" بين أناس بهذا المستوى
يتفاوضون معاً ويجلسون معاً. هذا أيضاً سبب
للنقمة على عرفات.
غَربان
الكلام
الذي يُتداول حالياً يوحي وكأن هناك غربين:
الغرب الأوروبي، والغرب الأمريكي. وبدا أن
هناك افتراقاً في فهم الغرب بين الأوروبيين
والأمريكان. كيف ترى هذا الكلام؟
بدون شك لاحظت، وألاحظ
الفوارق. لكن لا أعتقد أن هذا فارق حاسم؛ وحتى
إن تطوَّرَ فلن يُسمَح له بأن يتحول إلى عامل
حاسم في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي
والولايات المتحدة.
لقد أمضيت هذا الصيف في
أوروبا، ألمانيا تحديداً. شعرت، على الأقل
على صعيد الشرائح المتعلمة من المجتمع، بأن
هناك تعاطفاً مع الفلسطينيين أكثر من أي وقت
مضى. هذا لا يؤثر مباشرة على صنع السياسة
الأوروبية المباشرة تجاه الانتفاضة وعرفات،
لكن أظن أنه لا بدَّ لبعض الحكومات الأوروبية
من أن تتحسس الرأي العام لديها وتراعيه. لدي
شعور بأنه، بالنسبة للشرائح المتعلمة في
أوروبا، فقد انتقل عندها ذلك التعاطف مع
اليهود الذين كان يراهم العنصر المضطهَد، إلى
تعاطف مع الفلسطينيين لأنه بات من الواضح
تماماً أن الفلسطينيين الآن هم العنصر
المضطهَد، فيما خطاب الاضطهاد يصدر عن
إسرائيل في نفس الوقت.
فوجئت بأنه في مناقشة
للبرلمان الألماني كان مستوى النقد لإسرائيل
في النقاشات والخطابات بارزاً. بالطبع قالوا،
أولاً، أن أمن إسرائيل محسوم وندافع عنه،
وكذلك قضية السلام... لكن بعد ذلك، لأول مرة في
ألمانيا تحديداً، يصدر نقد للسياسة
الإسرائيلية. أعتقد أن هذا يؤثر في الجانب
الأوروبي – هذا إضافة إلى أن الأوروبيين في
هذه الأوضاع يميلون إلى التعامل مع العالم
بالطرق السياسية والدبلوماسية، لأن لهم
غرضاً في الهيمنة على العالم، والعنف يأتي
عندهم بحسب المثل: "آخر الدواء الكيُّ"،
بينما نرى الأمريكان يلجأون إلى العنف فوراً.
كذلك فإن لدى الأمريكان نظرة تبسيطية أكثر
للعالم ولصنع السياسة، بينما الأوروبيون
مرهَفون أكثر، ولديهم تجربة في هذه المسائل.
وفي النهاية لا أعتقد أن
هذه المسألة ستكون حاسمة في العلاقات بين
الأوروبيين والأمريكان.
كيساري،
كيف تتصرف على ضوء كل هذه الظروف التي تكلمنا
عنها؟ كيف يمكن أن يتصرف يساري في علاقته
بالإسلام على مختلف تنويعاته وتلاوينه؟
على الصعيد العملي لا
مشكلة عندي. أنا أعتبر أن الانتقاد الديني
مسألة شخصية فردية تابعة لقناعات كل شخص. من
هذه الناحية أنا في منتهى التسامح مع الناس.
حين أرصد هذه المسألة في مجتمعاتنا أجد أن
الميزان يميل إلى إسلام الطبقة الوسطى
المعتدل. هذا واضح مثلاً في سوريا: حتى
التيارات الراديكالية العنيفة في السابق في
الأوساط الإسلامية أعادت النظر كلياً في
منهجية عملها. لا أدري إلى أي حدٍّ هم منافقون
في ذلك أو صادقون، ولكنهم أعادوا النظر في
تكتيكاتهم، وأجروا نقداً ذاتياً، وصاروا
يتماهون أكثر فأكثر مع الإسلام الوسطي، إسلام
التجار ورجال الأعمال والصناعيين إلخ في بلد
مثل سوريا، أي الإسلام الذي لا يهز البلد.
أعتقد أن الاتجاه الآن في هذا المنحى.
يضاف إلى ذلك أن هناك الآن
أكثر من محاولة إصلاحية على المستوى الفكري
في اللاهوت الإسلامي. أشهر هؤلاء، على الأقل
في سوريا ولبنان، محمد شحرور الذي يعيد قراءة
التراث الديني، النصوص المقدسة، الحديث،
القرآن، إلخ، بطريقة تسمح لك بأن تعيش حياة
عصرية راهنة، وفي نفس الوقت تشعر بأنك مسلم
قلباً وقالباً. طبعاً واجهتْه القوى
المحافظة؛ لكن، في الوقت نفسه، أعرف أن له في
الأوساط التجارية والصناعية وغيرها صدى
وشعبية، ويحبون تفسيراته لأنها تسهِّل عليهم
حياتهم وتحل لهم التناقض بين من يسكن في بناية
من عشرين طابقاً يدير منها تجارته وأعماله
وبين واجباته الدينية. البقية يختزلون
المسألة بوجوب لبس القنباز وإطالة اللحية
وحلق الشاربين إلخ، ويتعاملون بالتكفير
أحياناً مع من لا يلتزم بمثل هذه الأمور.
***
*** ***
أجرى
اللقاء عباس
بيضون
عن السفير،
13/9/2002
|