|
اتجاهات الشباب
اللبناني
اليوغا:
ذروة الفردية في أفق مديني
نبيل
أبي صعب
مع
ازدياد الخيارات القصوى سطوةً في المجتمع
اللبناني، الملتبس في علاقاته الداخلية،
ينحو بعض الشباب اللبناني في اتجاه رياضات
روحية، محاولين بناء عوالمهم الذاتية بما
يُشبِع حاجاتهم إلى أمان داخلي يعجز المجتمع
المحيط عن تأمينه، أو أنه، في أحسن الأحوال،
غافل عن مثل هذا الدور. ومع
انحسار الأطر العقيدية التي طالما حضنت طاقات
شبان العقود الماضية ووجَّهتها، وما كانت
تؤمِّنه من اكتفاء نفسي بامتلاك المرجعية
الفكرية، ومع ما تعنيه من انتماء إلى مجموعات
كبرى من المتشابهين عقيدة – وسلوكاً أيضاً في
أحيان كثيرة – يلتفت العديد من الشبان
والشابات نحو تميُّزهم الفردي الخاص، نحو ما
يمكِّنهم من ممارسة حميمية ذاتية، غير مثقلة
بسمة التشابه ونمطيَّته. هكذا
يجد بعضهم نفسه وقد اختار ممارسة رياضات
روحية وفق إحدى مدارس اليوغا أو التأمل
التجاوزي Transcendental
Meditation،
طلباً لمزيد من التوازن والهدوء والسعادة
الداخلية التي لا تعني بالضرورة تفاعلاً
سلبياً مع المحيط الاجتماعي والسياسي وضغوطه. من
نافلة القول إن ممارسة اليوغا ليست حديثة
العهد في لبنان والشرق عموماً؛ إذ إن جذورها
التاريخية ضاربة في القدم تأثراً بالفلسفات
الهندية – تحديداً – التي أنتجت مدارس
ومذاهب صوفية وفكرية. لكن الجديد هو اتخاذها
طابعاً مدينياً حديثاً اليوم، بعدما نشط
معتنقوها وأصحابها في الولايات المتحدة
وأوروبا، متخذين في ولوجها منهجيات علمية
تجريبية في جامعات ومعاهد وعيادات الطب
البديل وسواها. من هنا تغدو المفارقة أقل
التباساً عند التساؤل عن سبب مجيئها إلينا من...
الغرب، رغم شرقية منشئها وثقافتها. يرى
وديع حيدر، الأستاذ منذ عشرة أعوام في "مركز
مهاريشي العلمي الثقافي"، سبباً آخر لهذه
المفارقة مفاده أن ما تطرحه الثقافة الغربية،
عموماً، غالباً ما يكون أكثر تقبُّلاً
وتلقائية عندنا، خصوصاً إذا كان علمي الطابع
ومُسنَداً بالإحصاءات والتجارب الملموسة،
فضلاً عن أن اللغة الإنكليزية هي الأكثر
انتشاراً الآن. وبذلك تسهل ملاحظة التخاطب
بالإنكليزية، أو الإحالة على مصطلحات
وعبارات إنكليزية، عند محادثة مزاولي اليوغا
والتأمل التجاوزي TM،
للتعبير عن مكنونات أفكارهم. ويبدو أن تقبُّل
الطابع الغربي لهذا الحقل المعرفي ليس سمة
لبنانية أو عربية فحسب. إذ إن مهاريشي ماهيش
يوغي، مؤسِّس مدرسة التأمل التجاوزي، بعدما
تعمق في أسفار الـفيدا (معرفة الوجود) في
الهند، أسَّس عام 1971، في الولايات المتحدة،
جامعته الأولى التي حملت اسمه ("جامعة
مهاريشي الدولية"). طبعاً
لليوغا مدارس وطرق ممارسة عديدة ومتنوعة،
يحتاج الغوص في تفاصيلها أعواماً، كما يؤكد
المعنيون بها. إلا أن سمة السلبية والعزلة
وإهمال الحياة اليومية وتفاصيلها ليست سوى
صورة نمطية عنه لا تعكس الواقع، كما تقول رولا
أبو طرية بعد أكثر من سنتين على ممارستها "فن
الحياة بلا مجهود" the
art of effortless living. فليست
المسألة في الابتعاد عن مسببات الضغوط stress،
بل في كيفية التعامل معها، مادامت تأتي من
أوجُه الحياة اليومية المختلفة، وليس
بالضرورة من المؤذي منها فحسب. وتصف رولا
نفسها الآن بأنها أكثر قدرة على السعادة
والراحة الداخلية والنشاط البدني والذهني،
وهي تشعر بتوازن داخلي "مهم جداً في نمط
الحياة الذي نعيشه". فبفضل الغورو guru
("مبدِّد الظلمة"، أي المرشد
أو الأستاذ) فإنها، بعد سنتين على ممارسة Shonia
Meditation،
باتت
أكثر انتباهاً لما يحيط بها من تفاصيل صغيرة،
تراها الآن مفرحة وتوحي بجماليات الحياة.
وبذلك فإن "فن الحياة بلا مجهود" لا يعني
نبذ الحياة العامة، بل الغوص أكثر في
تفاصيلها العامة والخاصة، ولكن من منطلق رحب
وعميق. وكما يقول الغورو، توضح رولا، "لا
يمكننا الذهاب للعيش في الغابة لكي نتصالح
وأنفسنا لأنه أساساً لم يعد هناك ما يكفي من
غابات لجميع البشر"! ثمة
أسباب ودوافع مختلفة لمزاولة التأمل، بحسب
تجربة وديع حيدر. فبعض الطلاب يأتونه لأسباب
صحية، حيث يقول إن من 70 إلى 80% من أسباب
الأمراض هي نفسية نتيجة الضغوط، و"التركيز
العميق مدة عشر دقائق يوازي في نتيجته ست عشرة
ساعة نوم". وآخرون ينشدون منفعة فكرية،
بزيادة القدرة على التركيز والصفاء الذهني،
وآخرون أسبابُهم نفسية، كالتوتر والعدوانية.
وبذلك فإن معظم الأسباب، على ما يبدو، هي محض
شخصية وذاتية لممارسة التأمل على هذا النحو. ولكن،
في المقابل، فإن القدرة على التأثير الإيجابي
في المحيط المجتمعي وفي العالم هي إحدى
الشعارات التي يتبنَّاها أتباع مهاريشي؛ إذ
لديهم تجارب في التأمل الجماعي في أماكن
عديدة في العالم بهدف "إزالة الضغوط
والنواحي السلبية في المجتمع وإحياء
الاتجاهات الإيجابية في حياة الوطن والأمة".
وبحسب أدبيَّاتهم، فإن هذه التجارب أثَّرت في
انخفاض عنف الحرب وحسَّنت "العلاقات
العالمية" والتقدم في اتجاه الحلول
السلمية. ولكن، بغضِّ النظر عن مدى صحة هذه
التجارب، ورغم أن أحداث الوقائع تناقضها
تماماً، فإنها لم تُلحَظ في دوافع المنجذبين
إلى ممارسة التأمل. يبقى
القول إن ميلاً عاماً في اتجاه الفردية individualism
يُترجَم بين الشباب اللبناني في أنماط سلوكية
كثيرة التنوع. وهي تزداد تنوعاً وتداخلاً،
جاعلة التشابه والتماثل من الصفات النافلة
وغير المستحبة. وليست ممارسة التأمل واليوغا
بهذا المعنى سوى انعكاس لهذا الاتجاه العام
على المستوى الشخصي. فممارسة "الطقوس"
الخاصة المصاحِبة للتأمل – حيث لكل شخص
قرينُه الخاص وطبيعته المتميزة التي تستدعي
تلاوة "أوراد" خاصة mantra
– هي بهذا المعنى ذروة ما تنشده ممارسة الشاب
لفرديَّته التي لا تعني التناقض مع الآخرين،
بل تحفظ حقه في الاختلاف عنهم وحسب. فمن
مسوِّغات الانجذاب نحو الرياضات الروحية،
كما يبدو، الغموض والبحث عن التجربة
والمغامرة الذاتية في أفق مديني يزداد ضيقاً
وازدحاماً. وبذلك تقول إحدى ممارِسات اليوغا
إن "السعادة كامنة في داخلنا"، وتالياً،
فهي قدرة، "كل ما تتطلبه أن نُحسِن
استخدامها". فهل
يعني ذلك افتقاداً لحيِّز مكاني ومجتمعي
مؤهِّل لإسعاد أبنائه؟ ***
*** *** عن
النهار، الأحد 6 تشرين الأول 2002
|
|
|