|
بقاء المسيحيين
العرب
الأمير
طلال بن عبد العزيز آل سعود
يتعرَّض
العالم العربي لنزيف بشري واجتماعي وثقافي
وسياسي واقتصادي على جانب كبير من الخطورة:
هجرة العرب المسيحيين التي لم تنقطع منذ
أعوام عدة. إنه
واقع صعب ستخرج عنه آثارٌ بعيدة على مصير
عالمنا العربي، وسيغير من طبيعة المنطقة ومن
أسس ازدهارها وسلامها واستقرارها الداخليين،
إن لم يتخذ العرب، مسلمون ومسيحيون على
السواء، قراراً بالتصدِّي لهذه الظاهرة. وكما
في زمن الأزمات الكبرى، كالتي يعبرها العالم
عموماً والعالم العربي خصوصاً اليوم، لا بدَّ
من وقفة لمراجعة أسباب هذه الهجرة القاتلة
للنسيج العربي. لقد
شكَّل العرب المسيحيون إحدى ركائز البناء
العربي، القديم والحديث على السواء. ففي فجر
الإسلام كانوا ركناً ثقافياً وسياسياً
وعسكرياً من أركان الدولة العربية التي توسعت
شرقاً حتى بلاد السند وغرباً حتى إسبانيا،
وكانوا أحد عناصر القوة الدافعة التي حملت
الإسلام إلى خارج جزيرة العرب وبلاد الشام
والتي شكلت أحد العناصر الحاسمة في توسع هذه
الدولة ونموها وسيادتها على معظم العالم
القديم. وفي
عصر النهضة، الممتد طوال القرنين التاسع عشر
والعشرين، لم يَغِبْ العرب المسيحيون عن
دورهم في إعادة إحياء معالم العروبة ومضمونها
الحضاري الجامع والمنفتح على الحضارات
الأخرى الناهضة في مرحلة التراجع العربي.
شكَّلوا حلقة وصل واتصال، وعمقاً ثقافياً
أصيلاً في العروبة متقدماً في العَصْرَنَة
والحداثة. كان
العرب المسيحيون – ولا يزالون – نتيجة
لثقافتهم المتنوعة المناهل، يخلقون تحدياً
مستمراً في الثقافة والفكر. وهجرتهم تلغي هذا
المعنى، باعتباره تنوعاً غنياً، وتسلخ فئة
كبرى عن أصولها العرقية والثقافية الأصلية. *** عندما
نتحدث عن وجود المسيحيين في العالم العربي
نعني بقاءهم فيه. فهم من عناصر التكوين الأولى
التي يمنع بقاؤها قيام بيئة تفترش التعصب
والتطرف، وبالتالي العنف المؤدي إلى كوارث
تاريخية. بقاؤهم
هو الرد – بالفعل لا بالقول – على مقولة
إسرائيل في دولة الدين الواحد، والعرق
الصافي، والشعب المختار، وكسر لأسس الفكر
الصهيوني في نتائجه المعروفة والقائمة على
الحديد والنار والدماء والدموع، والأهم من
ذلك كله، على فكرة إلغاء الآخر. بقاؤهم
ترسيخ للدولة العصرية، المتعددة العناصر
والمتنوعة في وحدتها، ونفي قاطع لعنصرية
الدولة. بقاؤهم
قوة لقضايا العرب في اتصالهم مع الغرب
المسيحي اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً. أما
هجرتهم فقوة معاكسة وعرضة لاستغلال بيئة
تضيِّق مناخات الحوار والتواصل. بقاؤهم
خيار عربي باعتماد الديمقراطية وانتهاجها في
الاحتكام إلى الإنسان والمواطن والعقل والحق
والحرية والإبداع؛ وهو، تالياً، ميل مؤكد
لإغناء النسيج الاجتماعي العربي والدولة
العربية العصرية. وهو خيار حاسم بتدمير منطق
الحروب الأهلية، كما حدث في لبنان في الأعوام
1840 و1860 و1975، وكما هو حاصل في السودان، وكما
يُخشى أن يحصل في مصر. بقاؤهم،
أخيراً وليس آخراً، هو منع لاستنزاف قسم مهم
من الطاقات العلمية الثقافية والفكرية
الخلاقة في العالم العربي؛ وهو أيضاً حرصٌ
أكيد على عناصر قوة اقتصادية في التجارة
والصناعة والمال والتخصص المهني. *** باختصار،
إن هجرة العرب المسيحيين، في حال استمرارها،
هو ضربة عميقة توجَّه إلى صميم مستقبلنا. مهمتنا
العاجلة منع هذه الهجرة، وترسيخ بقاء هذه
الفئة العربية في شرقنا الواحد، والتطلع إلى
هجرة معاكسة إذا أمكن. *** *** *** عن
النهار، 29 كانون الثاني 2002 والمحرر
العربي، 2 شباط 2002
|
|
|