حوت العلم يأكل قمر الأدب

 

إقبال الشايب غانم

 

هل أكل حوت العلم قمر الأدب؟ ومتى تم هذا الالتهام؟ هل استجدَّ في هذا العصر؟ أم أن هذا الجوع الشَّرِه استمر منذ القدم متربِّصاً، مستعداً للهجوم؟ وهل انتهى هذا التناحر بين التوأمين اللدودين بانتعاش الأول على حساب أنفاس الثاني؟

يظهر هذا التناحر واضحاً خلال عصر النهضة في إيطاليا، ثم في أوروبا. وخير من يمثِّل له النهضوي المثالي ليوناردو دافنشي، الفنان العظيم الذي كان مهندساً ورجل علم وأبحاث في الذرة والطبيعة والنبات والحيوان. من مفكراته الشخصية نستدل على آرائه العظيمة واكتشافاته المذهلة الرائدة؛ ومن مفكراته أيضاً نعرف أنه كان يكرس معظم وقته وجهده وعرقه للأبحاث والعلوم والاختراعات. ولكن، رغم كل ذلك، لم يبقَ لنا نحن من عطاءاته بعد قرون إلا روائعه الفنية ولوحاته الخالدة: "الموناليزا"، و"العشاء الأخير"، و"عذراء الصخور"، التي كان يرسمها على هامش اهتماماته العلمية، أو في تعبير آخر في "اللحظات المسروقة".

 

ليوناردو دافنشي

هل يعني ذلك أن العلم عاقٌّ والفن بار؟ هل يعني أن العلم جزر منفصلة، بينما الآداب والفنون إنسانية تتواصل وتُقرَأ من كتاب واحد، كما قال بورخيس؟

منذ القديم، رسمت العلوم الإنسانية، مروراً بعصر النهضة، النظريات والفلسفات والتشريعات، وجعلت الإنسان محور العالم. حرَّكت الثورات ونبشت خبايا الحقوق؛ قضَّت مضاجع العروش المتجبِّرة، لتنصِّب عليها رايات حرية الفرد وسؤدد الجماعة.

لكن ماذا حصل لها الآن؟ ولماذا انكسر عمودها حتى صارت حملاً ثقيلاً على ظهر النصف الثاني من القرن الماضي وما بعده؟! لِمَ لا يستمر، مثلاً، فيلم فانتازيا بإيقاعه الكلاسي أكثر من بضعة أيام، بينما يحشرج في أحضان أغنية يأجوج ومأجوج الكلامُ واللحنُ والصوتُ النافر من عيني الحسناء – وكل فتاة حسناء خميرة صالحة لعجين مطربة محلية أو عالمية؟!

لماذا يبحر الناس في رحاب بيلي الصغير ليصطفوا أفواجاً خائرة خاوية على أبواب المقاهي ومطاعم العم سام الذي لم يرد من "أنس" مدينة فيينا سوى البيت الذي ولد فيه موتسارت، فحوَّله إلى مرتع لماكدونالدز و"حضارته المعوية"؟!

لماذا يُركَن على الرفوف كل يوم ألف كتاب جديد، وتصفرُّ الكتب غير المقروءة في الزوايا المنسية للعالم، بينما المسرحيات الصابونية هناك، والمسلسلات المكسيكية هنا، تتصدر القلوب والآذان والأحاديث، مضخِّمة الشاشات والأبصار ومرمى الآمال؟

ويقولون: العلم هزم الفن والأدب... ألا تباً لهذا العلم إذا كانت هكذا مفاعيله – والآتي أعظم! ويتبجحون بالمعلومات الفائضة التي أثقلت حمولة شاحنة العالم. كل دقيقة تضاف ألفا صفحة إلى معلومات الإنسان العلمية، بما يستلزم من الإنسان خمس سنوات ليقرأ المواد المنتَجة في يوم واحد في العالم. ثلاثمئة مليون صفحة ترسل كل يوم عبر البريد الإلكتروني. نحو خمسة عشر ألف مجلة علمية تصدر سنوياً. لكن بحسب د. تود، المدير السابق لوكالة الطب الأميركية، يسقط نصف المعلومات كل عشر سنين ويمسي غير صالح طبياً وإنسانياً.

عام 1948 اختُرِع الترانزيستور وأدهش شكله الصغير العالم. قريباً سيكون في الأسواق ترانزيستور يضاهي حجم رقاقته شعرة رأس الإنسان! تسعون دقيقة على كومبيوتر الـNASA كانت كافية لتعقُّب أبولو 13 المفقودة في الفضاء عام 1970 ولإعادتها إلى شاشاتها. ولو استخدم أيُّ عالم فذٍّ الورقة والقلم لإنجاز هذه المهمة لتطلب الأمر مليون سنة!

وبعد... بعد هذا التطور العلمي التكنولوجي المذهل، الذي لا بدَّ من أن نقف مدهوشين إزاءه، نتساءل: هل أصبح العالم أكثر سعادة وبحبوحة ورقياً، أو أكثر اكتفاء وميلاً للسلام؟

بدءاً من الأطفال، يُظهِر إحصاء قامت به مجلة نيوزويك الأميركية أن الصورة المخيِّمة اليوم صورة جيل يعيش في الخوف، في القلق، قلق لا يستطيع الأهل تفسيره: من الحرب؛ من الفقر؛ من المرض؛ من المخدرات؛ من التفكك العائلي والطلاق... يعيش الجيل في خوف من العنف الذي يراه كل لحظة مجسَّداً على شاشة التلفزيون. في أمريكا، بحسب مكتب التحقيق الفدرالي، يُقتَل، في معدَّل وسطي، شخص كل اثنتين وعشرين دقيقة، ويُغتصَب آخر كل أربع دقائق، وتُرتكَب سرقة كل ست وعشرين ثانية. أي أن أعظم وأقوى دولة عصرية حديثة أمست قنبلة موقوتة معرضة للانفجار في أية لحظة.

في إحصاء آخر بريطاني، 77% من الفئة تحت الدرس تقول إن بريطانيا الآن تعيش انحطاطاً أخلاقياً عميقاً بسبب من الأنانية وانعدام الحس الجماعي وسيطرة المفاهيم الاستهلاكية والمعايير المادية.

ونتساءل: بعد هذا التطور العلمي اللافت، هل أصبح العالم أكثر صحة وأقل مرضاً وجوعاً؟

ادَّعى العلماء في القرن الماضي أنهم قضوا نهائياً على الأمراض الجرثومية المُعْدِية. لكن الأبحاث الحاضرة تقول إن جهاز مناعة الإنسان يطوِّر مضاداً لكل المضادات الحيوية الحالية بما يجعل خطر الإصابة بهذه الأمراض أشد فتكاً من مرض الإيدز والسرطان، بعدما استفحل تعاطي هذه المضادات وأسيء استعمالها وصارت توصف "للعمَّال والبطال"!

المعاناة الإنسانية... لماذا لم يستطع العلم الحديث القضاء عليها؟ العالِم الذي صرخ أرنولد توينبي قائلاً إن الإنسانية مستعدة لتتويجه شرط أن يخلصها من مشكلاتها... أين هو؟ – العالِم الذي يوجِّه العلم صوب خير العالم. لكن بدلاً من أن يصير العلم في خدمة الإنسان صار العكس، فأضحى العلم والاكتشاف والاختراع مواداً استهلاكية باهظة الثمن، وأدوات ترف وتبذير يسعى المرء بحثاً طوال عمره في تسديد فواتيرها؛ وصارت الحروب المموِّل الرئيسي لبعضهم والقاتل الأساسي للبعض الآخر. يوم واحد من حرب الخليج كلَّف العالم مليار دولار! وفي ترجمة عملية، يظهر أن ثمن صاروخ واحد مضاد للطائرات يكفي لإطعام مدرسة بكامل تلاميذها مدى خمس سنين!

وهكذا، بعدما كانت العلوم الإنسانية تكوِّن رأس الإنسان، وتملأ قلبه فرحاً وأملاً، صارت العلوم المادية التكنولوجية تحشو رأسه وتفرغ قلبه. وتحت وطأتها يشعر كل منا أحياناً بأنه لم يُخلَق لهذا العصر!

*** *** ***

عن النهار، السبت 4 آب 2001

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود