|
بين
دانتي والمعرِّي
رؤية
كهنوتية مقابل رؤيا عقلانية
غالب
سمعان
عندما
يفكر المرء في اطِّلاع دانتي (1265-1321) على رسالة
الغفران للمعري (974-1058) وتأثره بها في
مؤلَّفه الكوميديا الإلهية فإنه يكتشف،
في أعقاب القراءة النقدية، التباينَ الكبير
بين الشاعرين والكتابين؛ وهو يكتشف، كذلك
الأمر، أن قراءة دانتي لمؤلَّف المعري لا
يمكن أن تكون قراءة باعثة على رضائه. فالمعري في رسالة الغفران
مفكِّر، وخيالُه واقع تحت سلطان التفكير
الحر، ومؤلَّفه ينتمي إلى فترة زمنية في
التاريخ العربي مختلفة تماماً، من حيث
مضمونها الثقافي والفكري، عن الفترة الزمنية
ذاتها في التاريخ الأوروبي. وطبيعة المعري
طبيعة مفكِّر حقيقي، وأهدافه في رسالة
الغفران تتفاوت، من البحث التأملي الدقيق،
إلى تحطيم القهر الاجتماعي، إلى الهزء
والتهكم. والكتاب ذاته فكري خيالي، ونقدي
أدبي، وذو غايات محددة وواعية لذاتها. وأفكار
المعري مفصولة عن فكره: أي أن فكر المعري قادر
على رؤية أفكاره؛ وطاقة التفكير الموضوعي
لديه حاكمة، ولا توجد أية طاقة أخرى تتحكم بها.
والمرونة الفكرية الكلِّية التي يتمتع بها
تجعله قادراً على رؤية الماضي والحاضر، وعلى
الاستشراف المستقبلي.[1] في مقابل هذا كله، كان خيال دانتي
ذاتياً، وصوفياً مدرسياً (سكولستياً)؛
ومؤلَّفه الكوميديا الإلهية ينتمي إلى
العصور الوسطى انتماءً حقيقياً. ودانتي لا
ينتمي إلى عالم الفكر، بل إلى عالم التصوف
المدرسي الذي فرضته عليه بيئة القرون الوسطى؛
وهو نتاج لبيئة لاهوتية، وناطق بلسانها – وهي
البيئة التي كوَّنته وشكَّلته، إلى درجة يمكن
معها التشكيك في أصالته كمفكر قادر على
الانفصال عن بيئته ورؤيتها رؤية موضوعية،
وبالتالي توافر القدرة على نقدها البنَّاء.
ونتاجه الأدبي غير معتمد على التفكير الواعي
لذاته؛ وأفكاره فاقدة للاستقلالية، وموضوعة
في خدمة طبيعته الصوفية المدرسية. وافتقاد
دانتي للمرونة الفكرية افتقادٌ كلِّي؛ وهو
مأخوذ بالتصورات الصوفية المدرسية، وعائد
بها إلى التصورات التي رافقت نشأتها الأولى.
وهي نقطة ليست في صالحه أبداً، وهي تدل على
أصولية حقيقية وتطرف جَوَّاني عميق.[2] من هنا أعتقد أن إمكانية قيام حوار
عقلاني بين المعري ودانتي إمكانية غير ممكنة.
ففي الوقت الذي يرى فيه المعري في نموذج بشري
كدانتي داعيةَ صوفية مدرسية فإن دانتي لن يرى
في المعري غير عدوٍّ حقيقي. والتصوف المدرسي
يختلف عن التصوف الذي نادى به المعلِّم إكهرت
(1260-1337) الذي كان يستمد مبادئه من الأفلاطونية
الجديدة، معلناً بذلك انفصاله عن النوع الأول
من التصوف المدرسي الذي لازم التعاليم
الدينية المدرسية، كما هي الحال لدى دانتي –
وهو الانفصال الذي أدى إلى إدانة القائلين به.[3] إن تعرُّض أمثال المعلم
إكهرت الآن لما تعرَّض له في ذلك الأوان هو
أمر غير وارد بالطبع. فالقول بضرورة استبدال
الجدل الباطني، الهادف إلى توحيد هوية
الإنسان بالله، بالجدل اللفظي الفارغ،
والقول بأن الطبيعة البشرية تتحول إلى
الطبيعة الإلهية في الحياة الأبدية ليس مما
يستدعي الإدانة في أواننا هذا. ومردُّ ذلك هو
أن التصوف أصبح قادراً على ضمِّ كل صيغه تحت
جناحيه؛ وهو تطور له مدلولاته التي تعني، في
ما تعني، أن صيغ التصوف لم تكن انشقاقات
مهدِّدة له بقدر ما كانت صيغاً صادرة عنه
وعائدة إليه.
في سيرة حياة الشاعر
الإيطالي دانتي تطالعُنا قصة حبِّه المثالي
لبياتريتشي التي يعتبرها مثله الأعلى،
وملهمة حياته، والعامل الأهم في خلاصة الروحي.
فالسعي الذي للشاعر سعيٌ ديني في جوهره، وغير
معتمد على التفكير المنطقي المفصول أساساً عن
الاعتبارات الوجدانية للصوفية المدرسية.
والتكامل الوجداني بين دانتي وبياتريتشي
يبدو غريباً بالفعل إلى الحد الذي يجعل
بياتريتشي جزءاً لا يمكن فصله عن تكوين
دانتي، وكأنها استكمال لنقص فيه، لا يمكن
استمرار حياته بوجوده – وهو النقص الذي ينبغي
أن تملأه بياتريتشي كي يتحقق خلاص الشاعر.
وتعرُّف الشاعر إلى بياتريتشي وهما في
العاشرة من عمرهما، وبقاؤها في وجدانه بقاء
أبدياً، يدل على أن طبيعة علاقته بها كانت
طوباوية. وبياتريتشي على هذه الصورة فكرة
ثابتة، تلعب دور المَعْبَر المؤدي إلى
الاتحاد الصوفي بالله – وهو المعبر الذي لا
يمكن الاستغناء عنه أبداً. هكذا تتحول بياتريتشي إلى
رمز إيماني. وهذه الصورة تذكِّر بالشعراء
العذريين الذين تم الكشف عن نقاط التلاقي
الصريحة بينهم وبين الشعراء الصوفيين في كثير
من الأبحاث والدراسات. وأعتقد أن بالإمكان
الادِّعاء بأن دانتي شاعر صوفي عذري؛ وهذه
الحقيقة تجعل الهوة التي تفصله عن شاعر قوي
الطبع وإرادي كأبي العلاء المعري غير قابلة
للردم. والغاية من وجود بياتريتشي في حياة
دانتي كالغاية من وجود ليلى في حياة المجنون.
فالخلاص بالنسبة لدانتي، كالخلاص بالنسبة
للمجنون، لا يتحقق عبر الحضور المادي للحبيبة
في حياة أيٍّ منهما، بل في الحضور الوجداني
لفكرتها أو صورتها؛ وهي، في هذه الحالة، رمز
إيماني ومَعْبَر إلى الخلاص الروحي. ربما رأى بعض الدارسين أن
دانتي قد أدخل تطويرات على أشعار الحب.
فالتصورات الفروسية التي سبقت دانتي تحدثت عن
الحب في قالب يتضمن صور الفرسان البواسل،
المستعدين لإنقاذ العذارى البائسات من
المكروه الذي قد يلحق بهن؛ ولا بدَّ للفارس
النبيل أن يجتاز أفانين المتاعب والشدائد كي
يكون جديراً بإحداهن. والفروسية، في هذه
الحالة، ليست فروسية أرستقراطية، منطوية على
الأخلاقية، بقدر ما هي فروسية أخلاقية بعيدة
كل البعد عن أي جوهر أرستقراطي. وهذا الأمر
على درجة من الأهمية لأن الفروسية، في مثل هذه
الحالات، مفارقة للبطولة ومباينة لها، وهي
دليل على تراجع في الطاقات البسيكولوجية.
والفروسية الموصوفة ليست فروسية شاعر كأبي
الطيب المتنبي؛ والنوع الموصوف لا بدَّ أن
يواصل تردِّيه الظاهراتي، الناجم عن
التردِّي الموصول في الطاقات البسيكولوجية. الثابت تاريخياً أن دانتي شارك في
موقعة حربية، لكن الاعتقاد القائل بأنه كان
فارساً مقداماً اعتقاد خاطئ؛ فالصورة
الجَوَّانية للفارس دانتي ليست صورة الفارس
التلقائي البطل، بل هي صورة الرجل الذي تتوتر
في داخله البنية البسيكولوجية التي تحكمه –
وهو التوتر الناجم عن التراجع في الطاقات
الجَوَّانية وعن وجود قدرة محدودة على
استجماع ما تبقى لديه من قوى. وهذا الصراع
الجَوَّاني يؤدي إلى موقف فروسي ذي طبيعة
بسيكولوجية غريزية. وما
كان في مقدور دانتي أن يقف هذا الموقف في
الأربعين
من عمره؛ والسبب في ذلك هو انهيار التوتر
الجَوَّاني الناجم عن انتصار
التراجع
في الطاقات الجَوَّانية على آخر معاقل القوة
التي له. ومن ثم فإن الانتقال
إلى
التعبير عن الحب بطريقة عادية ومفهومة ليس
تطويراً لأشعار الحب، بل هو انعكاس
مباشر
للبنية البسيكولوجية التي تحكم الشاعر. وهذه
الظاهرة تذكِّر، مرة أخرى، بقصائد المجنون
في
الحب – وهو الشاعر الذي لم يكن يتوقع من نفسه،
ولم يكن أحد يتوقع منه، أن يسجل أي
موقف
فروسي، بطريقة أو بأخرى. ثم إن الكآبة كانت
علامة بارزة في تاريخ كل منهما –
والكآبة
ذاتها دليل على الانهيار البسيكولوجي
الموصول الذي ينتهي بالكآبة الشاملة.
والاحتضار
ذاته، في هذه الأحوال، احتضار للبنية
البسيكولوجية قبل أن يكون احتضاراً للجسد،
خاصة
إذا كانت الوفاة حادثة على نحو طبيعي. في مقابل هذا كله، كان أبو
العلاء المعري ينطوي في داخله على فارس حقيقي.
فالأخلاقية لديه متولِّدة عن الأرستقراطية؛
والقوة الجَوَّانية لها تظاهراتُها في
ديوانيه سقط الزند واللزوميات وفي رسالة
الغفران، حيث اتخذت تلك القوة الجَوَّانية
صورة التهكم والهزء. ومن المعروف أنه كتب
ثلاثة آلاف بيت في الدرعيات؛ وفيها
يمكننا في بعض المواضع أن نجد المرأة قوية
والرجل قوياً، ولن نكون في حضرة عذارى
بائسات، وفرسان أكثر بؤساً منهن، كما هو
موصوف في الحب الفروسي الأوروبي ما قبل دانتي.
وأولئك الكتاب في القرن العشرين الذين أقروا
بدور المرأة الحاسم في تعزيز اتجاههم الصوفي،
كالفرنسي أندريه جيد (1869-1951)، يختلفون عن
شعراء كدانتي بكون اتجاههم الصوفي هادفاً إلى
تحقيق التواصلية الهارمونية في حياتهم على
الأرض، وليس في العالم الغيبي، وبكونه قادراً
على إثرائها، وليس ارتكاساً بسيكولوجياً
تعويضياً، ناشئاً عن الخلل الذي يعتريها
ويسربلها بالإخفاق ذي الحلقات المتوالية. ووفق التصورات السائدة في
عالمنا المعاصر التي تتدخل في تشكيل العقل
الحديث فإن في الإمكان النظر إلى تعلق دانتي
بالحبيبة بياتريتشي وبالشاعر الروماني
الرعوي فرجيل (70-19 ق م) على أنه مزاجي وغريزي،
لثباته كفكرة، وعدم قابليته لإعادة النظر،
وافتقاده الشامل للمرونة، على خلاف الشاعر
العربي أبي العلاء المعري ذي الطبيعة
المفكِّرة الناجزة. وعلى سبيل المثال، لا
يمكن القول إن امتداح المعري للشاعر العربي
الآخر أبي الطيب المتنبي هو امتداح مزاجي،
على الرغم من أن المعري ظل طوال حياته معجباً
بالمتنبي؛ والسبب في ذلك يرتد إلى كون
التقدير مؤسَّساً على ركائز فكرية؛ أي أن
المعطيات أو المعارف الجديدة عن الآخر سوف
تؤدي إلى تكوين أفكار جديدة والى إعادة النظر
في الأفكار الأولى؛ على خلاف دانتي ذي
الطبيعة الكهنوتية الساكنة، غير القادرة على
التحرك. وظاهرة الإيمان لدى دانتي لها
تظاهراتها؛ ومن هذه التظاهرات اعتقادُه
الإيماني الراسخ "بأن الكوميديا الإلهية
هي تلك العقيدة المقدسة التي مدَّت السماء
والأرض لها يداً، والتي ستحقق له عودة مجيدة
من منفاه إلى مدينته الأصلية". أي أن الكوميديا
الإلهية ليست منزَّهة عن الغرض
البسيكولوجي الذاتي. ودانتي الذي يتحدث عن الشكل
النهائي للنور الإلهي، والذي يتذكره ويتذكر
إحساسه به في رؤياه، لا يستطيع الاحتفاظ
بالتفاصيل؛ وهذه الخبرة الروحية تعادل
تماماً خبرة المتصوفة المشهورين. وبالطبع لا
يمكن الاحتفاظ بالتفاصيل لأن ذلك يعني
اتحاداً دائماً مع الذات الإلهية. وهذه
الظاهرة مذكورة في الأدبيات الدينية الشرقية.
فالاتحاد الصوفي الدائم لا يتحقق إلا بعد
الموت. وكان جبران خليل جبران (1883-1931) قد أشار
إلى أن ابن الفارض (1181-1234) قادر على التحليق في
العوالم الروحية العليا، وأنه يحدِّثنا في
قصائده الفوقانية عن خبراته الصوفية
المتعالية والمتجاوزة التي تمكن من إدراكها
والعودة بها؛ أي أن دوام التحليق المذكور أمر
غير ممكن في الصوفية.[4] ولدى التأريخ لابن الفارض، يتحدث
المؤرخون والأدباء عن حضور للظواهر الصوفية
لدى عامة الشعب في زمانه، وليس لدى ابن الفارض
فقط.[5]
وبالمثل، نلحظ أن محاولة دانتي الالتقاء
بحبيبته في المقبرة في أثناء العاصفة،
وظهورها ومحاورتها له، ترافقت مع ظاهرة
مماثلة لدى حارس المقبرة؛ أي أن الطبيعة
الصوفية التي تفرض صورتها على البنية
البسيكولوجية، وتضع الخيال الوجداني والعقل
في خدمتها، ظاهرة تتناول المجموع، ولا تقتصر
على فرد واحد هو ابن الفارض أو دانتي. فالحياة
الاجتماعية البشرية، في مكان وزمان معينين،
تؤدي إلى طبيعة معينة للعصر لا يمكن للكائن
الفرد أن يظل خارجها. وطبيعة ابن الفارض
الصوفية صورة جزئية عن طبيعة عصره الصوفية؛
وكذلك الأمر بالنسبة لدانتي. لكن اللافت أن
دانتي الصوفي المدرسي قد توصَّل إلى هذه
الخبرة، أعني خبرة الاتحاد الصوفي بالله. والكوميديا
الإلهية التي تنتقل بين الجحيم والمطهر
والفردوس لا يمكن أن تكون نتاج تصوف غير
مدرسي؛ وهذا التلاقي في الخبرة النهائية بين
المدرسية واللامدرسية في التصوف تجعل دانتي
ظاهرة غريبة. على أن الشاعر العربي أبا العلاء
المعري بعيد كل البعد عن هذه الأجواء، وهو
الأكثر قدرة على الرؤية الواقعية؛ لا بل إنه
الأكثر شفافية وحساسية، وذلك لأن الترفع
الصوفي عن الوقائع الحياتية ينطوي على بلادة
وجدانية غريبة، خاصة عندما تكون الشفافية
والحساسية هي المطلب المتشامخ على الوقائع
الحياتية. والصوفي المترفع عن تلك الوقائع
الحياتية لا يرى ولا يسمع إلا ما يودُّ أن
يراه وأن يسمعه؛ وفي هذا الميل لامبالاة
حقيقية، على خلاف أبي العلاء المعري، الذي
كانت الوقائع الحياتية ميداناً يرقبه
ويختبره وينقده نقداً فكرياً بنَّاءً، بالرغم
من كل شيء. وإذا كان من المتداول
في الأوساط الثقافية الاعتقاد بأن دانتي "كان
بائساً في صباه، وفي شبابه
وكهولته
ومنفاه" فإن البؤس، في حالة وجوده الفعلي،
لا يبرر لدانتي الاستغناء عن
العالم
الدنيوي، إلى حدِّ نفيه، من أجل الوصول إلى
السعادة في العالم الغيبي. فالشقاء الدنيوي
لا ينبغي أن يدفع المرء في هذا الاتجاه، ولا
ينبغي أن يدفعه في اتجاه
طلبه ونشدانه بطريقة تنطوي على مازوخية، بل
ينبغي له أن يتعامل معه بعنفوان
وإباء
– وهو التعامل القادر على احتواء ذلك الشقاء
الدنيوي. الدافع
الذاتي
تمكَّن أبو العلاء المعري
من تحقيق هذه المعادلة الصعبة، وحقَّق بذلك
انتصاره الفرداني الوجودي، على خلاف دانتي.
ففي الوقت الذي كان فيه لدانتي حضورٌ محوري في
الكوميديا الإلهية لم يكن للمعري أي حضور
في رسالة الغفران. فالخلاص الروحي
الذاتي، الذي كان غاية الشاعر في مؤلَّفه،
سيرورة وجدانية خالية من اللباقة والذوق،
ووصفُه لطرائق التعذيب الفظيعة والمتنوعة،
والاستعانة بطاقة الخيال في هذا المجال، يجعل
خيالات دانتي أقرب إلى أحلام اليقظة ذات
المضمون السادي–المازوخي. وإذا كان الدافع لكتابة رسالة
الغفران دافعاً تصادفياً اتفاقياً، تمثَّل
في رسالة ابن القارح إلى المعري، وفي نمو فكرة
رسالة الغفران إبان البدء في تدوين
رسالته الجوابية – أي أن رسالة الغفران
لم تكن في ذهن أبي العلاء عندما بدأ ردَّه، بل
تبلورت بعد أن بدأ ردَّه – فإن دافع دانتي
لكتابة الكوميديا الإلهية دافع محض ذاتي.
فالشقاء المذكور تطور لدى دانتي، على ما
يبدو، إلى درجات قصوى، آخذاً صورة جحيم أرضي،
مليء بالعذابات الجَوَّانية المريرة. وهذا ما
دفع دانتي إلى نشدان الخلاص الذاتي وطلبه؛
وكان لهذا انعكاسه في الكوميديا الإلهية.
"فلقد تنقَّل في الجحيم ومستوياته، إلى
المطهر ومستوياته، إلى النعيم ومستوياته،
التي تنتهي بالنعمة الإلهية، والنور الإلهي
الخالص، والسعادة الأبدية، والاتصال الشامل
بالفضائل والمعرفة الكلية." وكان التنقل
الخيالي الموصوف مترافقاً مع التنقل
الوجداني الذاتي عبر تلك المراحل والمستويات. وإذا كانت ظاهرة دانتي منتمية إلى
العصور الوسطى، وتجد ما يوازيها في العصور
القديمة (الأقدم عهداً بألفي سنة)، وإذا كانت
تلك الظاهرة مؤلمة وتبعث على الألم، فإن ما
يدعو إلى التأمل هو أن ظاهرة العذابات
الهائلة التالية للموت، والتصورات المتعلقة
بالتطهر والاتحاد مع عالم الأرواح الكاملة،
موجودة في القرن العشرين. والمؤمنون بها
يعتمدون على المعارف العلمية لدعم تصوراتهم
وإقامة البرهان على صوابيَّتها. وإنه لمن
الغريب أن يكون أحدهم رجلاً متحضراً، منتمياً
إلى القرن العشرين، ومنطوياً في قراراته على
أسطورة دانتي الذي نتحدث عنه. وكان فولتير (1694-1778) قد أكد أن الكوميديا
الإلهية تحولت إلى تحفة، وأنها تنتمي إلى
العصر الذي كتبت فيه؛ وكان دافعُه إلى ذلك
التأكيد هو اعتقاده بأن الصوفية الكهنوتية
عقبة في طريق التقدم الذي يتطلب تغيراً
دائباً في الأفكار وتطويراً دائباً للمعرفة
العلمية. لكن من المشكوك فيه أن تكون آراء
فولتير الغيبية التجديدية آراء قادرة على
النيل الحقيقي من الصوفية الكهنوتية.[6]
فالآراء تظل آراء، والأقوى منها هو الدوافع
البسيكولوجية البشرية الفاعلة. ومن ناحية أخرى، فإن
كتَّاباً كثيرين تمكَّنوا من إخفاء حقائقهم
الجَوَّانية، كالكاتب الصوفي جبران خليل
جبران، الذي لم يدَّع في كتاباته إمكانية، كي
يتهمه المرء بما قد يتهم به دانتي. فالعذاب
الأرضي الهائل لدى دانتي، والرغبة في فرض
أفانين العذاب على الآخرين، لا توجد في عالمه
على تلك الصورة. فلقد تحقق له احتواء الآلام
الجَوَّانية إلى الحد الذي تحولت فيه الفظاعة
إلى سعادة في قراراته. ثم إن الإصرار على
تصوير العلاقة الروحانية مع المرأة، في الوقت
الذي كان فيه جبران يتعبد في محراب اللذة، يدل
على فداحة الصراع الجَوَّاني، وعلى شدة الشغف
باللذة، وشدة التعلق بالنقيض، أي بالعفة.
والبون الشاسع بين طرفي الثنائية الجبرانية
هو الذي أدى إلى انقذاف جبران إلى ما وراء تلك
الثنائية. وبالطبع يمكن القول إن
أبا العلاء المعري مفكِّر حقيقي، وإن أدوات
المعرفة لديه هي العقل والحواس. أما دانتي
فليس مفكِّراً، وإنتاجه الأدبي ليس إنتاجاً
فكرياً، بل هو نتاج طبيعته وبنيانه الديني
الذي يفرض نفسه على عقله وحواسه. فالعقل
والحواس لديه موضوعان في خدمة طبيعته
الدينية، ولا يمتلكان أي استقلالية. وفي الكوميديا
الإلهية تدل صورة دانتي الضائع في غابة
مظلمة على عدة أمور: "الانفصال الروحي عن
الله، والفوضى في إيطاليا، والحياة الشريرة
التافهة". وضياع دانتي ضياع بسيكولوجي
حقيقي؛ بينما لا يمكن التحدث عن أي ضياع لدى
أبي العلاء المعري الذي كان مالكاً زمام أمره.
والتردِّي في الأحوال الاجتماعية والأخلاقية
والسياسية في البيئة التي تتحوَّطه أدى به
إلى إعمال الفكر، ونقد الواقع الحياتي
القائم، أي إلى التفكير والتنظير البنَّاء،
وليس إلى استقطابه أو إلحاقه في تيارها إلى
الحدِّ الذي يصبح فيه مستلباً، غير قادر على
الخلاص من شباكها. في حين أن وقوع دانتي في
شباك بيئته، وتورطه في الحياة الاجتماعية
والسياسية والأخلاقية، أدَّت إلى تحوله إلى
جزء منها. وكأني به في الكوميديا الإلهية
ناطق بلسانها، ولكن بطريقة لا تعتمد التفكير
والتنظير البنَّاء، بل تقفز قفزاً إلى العالم
الغيبي؛ وهي تدل على إخفاق في التعامل مع
المعطيات البيئية القائمة. وتصورات دانتي عن الشرق العربي
تدل على نقص في معرفته، ونقص في مقدراته
الفكرية. وهو يدلِّل على تزمُّته، وعلى أن
تزمته موقف داخلي دائم ودالٌّ على نقص
المعرفة وعدم القدرة على إكمال المعرفة، وعلى
وجود عطب شامل في القدرة على التفكير
الموضوعي.[7]
وروح دانتي مجبولة على هيئة غريزة مكوَّنة من
مادة مضغوطة، لا تنفك عن الانطلاق المتواصل
الذي هو المتنفَّس الوحيد لها، فتقرِّر، دون
تدخل حقيقي من العقل، "أن العشاق الزناة
فوق المحتالين والنصابين، لأن ذنوبهم هي
تطبيق خاطئ للحب، الذي هو خير بحدِّ ذاته،
بينما الاحتيال شر بأكمله"، و"إن
تأكيدنا على الاستقرار، وكوننا ضد العنف،
يؤدي بنا إلى اعتبارنا سارق البنك أكثر من
أمين الصندوق الهارب. ودانتي يذكِّرنا أن
خيانة الثقة أسوأ أخلاقياً من الأخذ بالقوة
السافرة." وما هذه الأحكام الأخلاقية غير
إعادة إنتاج للأخلاقية الموجودة في الواقع
العياني؛ وأن يكون المرء عاشقاً زانياً لا
يعني أنه غير منتمٍ إلى طائفة المحتالين
والنصابين، وما هو غير أخلاقي يحتال على
القانون الأخلاقي الذي أقرَّه وآمن به.
وبالمثل، فإن الذي يأخذ بالقوة السافرة ينطوي
على استعداد بسيكولوجي يؤدي به إلى خيانة
الثقة. والإشكال الحقيقي ليس أن يكون المرء
على هذه الشاكلة، بل أن يكون مدفوعاً بقوة
بسيكولوجية ذاتية تؤدي به إلى الإتيان بتلك
السلوكات الواقعة في نطاق الأخلاقية. وليس من
المعقول تقبُّل دعوات دانتي الرافضة للعنف
إذا لم يكن غض الطرف عن العنف الموجود في
بسيكولوجياه الذاتية ممكناً. وكون دانتي جندياً،
وسياسياً، وعاشقاً مثالياً، ورجل أعمال،
وشاعراً غنائياً وفيلسوفاً، لا يدل على تعدد
المواهب؛ فالعاشق المثالي والشاعر الغنائي
والفيلسوف تؤدي المعنى ذاته، ولسنا أمام ثلاث
مواهب. ودانتي الجندي والسياسي ورجل الأعمال
هو دانتي الذي لا يستطيع أن يكون جندياً أو
سياسياً أو رجل أعمال ناجزاً إلا في نطاق
الإمكانية البسيكولوجية الحياتية القائمة.
ولربما كان في مقدور كل كائن بشري منتمٍ إلى
تلك الإمكانية أن يكون متعدد المواهب في
جوهره. والموهبة ذاتها في هذه الحالة موهبة
محدَّدة الجوهر والمظهر على نحو مسبق بالنظر
إلى أنها نتاج لإمكانية بسيكولوجية بشرية
وتجلٍّ ظاهراتي لتلك الإمكانية. و"ما كان
في مقدور دانتي أن يكون ناسكاً وسط ظروف الحرب
الأهلية الإيطالية لأن الجلوس تحت الشراشف
والأغطية لا يحمل الرجال إلى الشهرة". ولكن دانتي في نهاية
المطاف ناسك حقيقي؛ وانتشار الأديرة الصغيرة
في أرجاء إيطاليا دليل على أن إيطاليا
بأكملها دير كبير، وكل ما يحدث فيها إنما يحدث
في ذلك الدير الكبير، وفي تلك الأديرة
الصغيرة، على نحو مضمر. والحرب الأهلية
والقتال والشهرة ليست على تناقض مع الجلوس
تحت الشراشف والأغطية، لا بل إنها نتاج
الجلوس تحت الشراشف والأغطية؛ وليست مما يحدث
ويوجد خارج الأديرة، بل مما يحدث ويوجد
داخلها. وما اعتزال أبي العلاء المعري بدليل
على إقامته في الدير بقدر ما هو دليل على
إقامته خارجه. وتصورات دانتي السياسية عن البابا
القوي والإمبراطور القوي والتعاون بينهما من
أجل الصالح العام تدل على افتقاد تام للقدرة
على التفكير التنظيري الموضوعي.[8]
وهذا الرأي لا يمكن وصفه بالطوباوية، لأن
الطوباوية ذاتها لا تنطوي في تقريراتها على
مثل هذا التناقض. فالتعاون بين البابا القوي
والإمبراطور القوي غير ممكن من الناحية
العملية، والتوفيق الفكري بينهما يدل على أن
تفكير دانتي غير مفصول عن ذاته. فالسعي
البسيكولوجي التوفيقي إلى القوة يدفعه إلى
تصور إمبراطور قوي، خاضع للإرشادات الروحية
التي يقدمها له البابا. ولكن الإمبراطور
القوي، على الصورة التي يتصورها دانتي، لا
يمكن أن يكون خاضعاً لسلطان من هذا القبيل. *** *** *** [1]
راجع: أبو العلاء
المعري، رسالة الغفران، بتحقيق عائشة
عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، القاهرة، دار
المعارف؛ عائشة عبد الرحمن، رسالة
الغفران لأبي العلاء المعري، تراث
الإنسانية، المجلد الثاني، ص 421– 435؛ حنا
الفاخوري، تاريخ الأدبي العربي، فصل
"أبو العلاء المعري"، فقرة "رسالة
الغفران". [2]
راجع: دانتي
أليجييري، الكوميديا الإلهية، ترجمة
حسن عثمان، دار المعارف بمصر؛ إبراهيم
المويلحي، الكوميديا الإلهية لدانتي،
تراث الإنسانية، المجلد الخامس، ص 620–631؛ دليل
القارئ إلى الأدب العالمي، بترجمة محمد
الجورة، "دانتي أليجييري"، ص 142؛ الكوميديا
الإلهية، ص 505. [3]
"عاش
المعلِّم إكهرت الألماني بين سنتي 1260–1337،
وانتمى إلى رهبنة الدومنيكان، وتلقَّى
العلم بجامعة باريس، ثم علَّم بها، وتولَّى
في رهبنته عدة مناصب كبيرة. وأخِذَت عليه،
عندما علَّم في كولونيا، ثمانية وعشرون
قضية مخالفة للدين، أدانه لأجلها أسقف
المدينة؛ فاحتكم إلى البابا، فصدر الحكم
بتأييد الإدانة بعد وفاة إكهرت بسنتين." (عادل
العوا، المذاهب الفلسفية، الفصل
السادس، فترة "الإسمية والتصوف"، مادة
"إكهرت"، ص 225) [4]
"كان
عمر بن الفارض شاعراً ربانياً، وكانت روحه
الظمآنة تشرب من خمرة الروح، فتسكر، ثم
تهيم سابحة مرفرفة في عالم المحسوسات، حيث
تطوف أحلام الشعراء وميول العشاق وأماني
المتصوفين. ثم يفاجئها الصحو، فتعود إلى
عالم المرئيات، لتدوِّن ما رأته وسمعته
بلغة جميلة مؤثرة." (المجموعة الكاملة
لمؤلفات جبران خليل جبران، بتقديم
ميخائيل نعيمه، كتاب البدائع والطرائف،
فصل "ابن الفارض"، ص 565) [5]
"نقل عن
ولده أن الشيخ كان ماشياً في السوق
بالقاهرة، فمر على جماعة من الحرسية يضربون
بالناقوس ويغنون. فلما سمعهم صرخ صرخة
عظيمة، ورقص رقصاً كثيراً في وسط السوق،
ورقص جماعة كثيرة من المارة، وتواجد الناس
إلى أن سقط أكثرهم إلى الأرض. ثم خلع الشيخ
ثيابه، ورمى بها إليهم، وحُمِلَ بين الناس
إلى الجامع الأزهر، وهو عريان مكشوف الرأس
وفي وسطه لباسه، وأقام في هذه السكرة [النوبة
العصبية] ملقى على ظهره مسجَّى كالميت." (أنيس
المقدسي، أمراء الشعر العباسي، فصل "ابن
الفارض"، ص 442) [6]
"كان
فولتير مؤلِّها ينكر الوحي، وكانت آراؤه عن
العالم متناقضة. فرغم تأييده للميكانيكا
والفيزياء عند نيوتن إلا أنه أقر بوجود إله
باعتباره المحرِّك الأول." (الموسوعة
الفلسفية، بترجمة سمير كرم، دار
الطليعة، بيروت، مادة "فرانسوا ماري
أرويه فولتير"، ص 358) [7]
"صحيح
أن الأبدية تتلاشى فيها كل الفروق، إلا أن
التفاوت غير العادي والمفارقة التاريخية
بوضع الشخصيات اللامعة التي عاشت قبل
المسيحية في نفس فئة الوثنيين الملعونين مع
المسلمين الذين جاؤوا بعد المسيحية أمرٌ لا
يقلق دانتي. ومع أن القرآن ينص على نبوة
عيسى، نجد أن دانتي يفضل النظر إلى
المسلمين وكبار فلاسفتهم باعتبارهم جهلة
بالمسيحية من الأساس." (رشا حمود الصباح،
"التصورات الأوروبية للإسلام في العصور
الوسطى وتأثيرها في الكوميديا الإلهية"،
عالم الفكر، المجلد 11، العدد 3، ص 95) [8]
"رأى
إمبراطور ألمانيا هنري السابع أن يغزو
إيطاليا بجيش جرار ليعيد إلى الجزيرة
النظام والأمن ويذكِّر أهلها بما لألمانيا
من حقوق عليهم تناسوها على مر الأيام. لم
يستطع دانتي الصبر حتى ينجح هنري السابع في
حملته، بل سارع بتحرير الرسائل إلى ملوك
الطوائف والأمراء، بل وإلى سكان مدن
إيطاليا، ومنها فلورنسا بطبيعة الحال،
يحيي فيها العهد الجديد المنتظر بزوغُ فجره
على الوطن الممزق الأوصال. ولكن مات
الإمبراطور الألماني، فوقع خبر وفاته على
دانتي كالصاعقة." (إبراهيم المويلحي، الكوميديا
الإلهية لدانتي، تراث الإنسانية، المجلد
الخامس، ص 624)
|
|
|