|
التاريخ والرؤيا
أدونيسالنظم
والشعر، التاريخ والرؤيا، العابر وغير
المرئي، الرائد والأجيال الجديدة في الكتاب
أدونيس:
الوزن وسيلة سحرية، الموزون اليوم في أزمة،
والنثري يتنمَّط
هذا الحديث لا يحتاج
إلى مقدمة – مع أنه يخرق سائر الأحاديث. فهو
لا يستفسر بقدر ما يجادل. وحاجتنا اليوم أكبر
إلى سِجال مع أدونيس الذي تكثر الخصومةُ حوله
وعليه، بدون أن تتحول إلى حوار خصب. فهناك من
يبرأ منه أو يعاديه دون شرط. وإذا كان مهماً
تحويلُ الخصومة إلى حوار فإن مواجهة أدونيس
بما يثير شعرُه وفكرُه من التباسات واعتراضات
من شتى المطارح خطوةٌ أولى وضرورية: أولى
وضرورية لا لفهم أدونيس فحسب، بل لتعميق
سِجالنا الشعري والفكري وإخصابه. هذا الحديث لا يحتاج
إلى مقدمة. إنه سِجال ينطلق من مجلَّدي أدونيس
الأخيرين – الكتاب I
والكتاب II
– ليحيط بجملة من مسائل تتعلق بتنظيره
وإبداعه.* عباس
بيضون *** ينطرحُ مرة أخرى
المشروعُ المؤلف من ثلاثة مجلدات. المجلد
الثاني يزيد السؤال – إذا شئتَ – عمقاً
وإشكالاً. إذا بدا المجلد الأول وكأنه
تناوُلٌ شامل، ثقافي فلسفي تاريخي، بحيث إن
الشعر يبدو واجهة له وليس كل شيء فيه، يطرح
المجلد الثاني السؤال عن المشروع: هل المجلد
الثاني امتدادٌ لمشروعٍ موجود – توسيع
وتصعيد تاريخي لمشروع موجود أصلاً، أم أن له
وضعاً مستقلاً؟ يضعني
سؤالك الأول في موضع من يُفرَض عليه أن يشرح
عمله الشعري أو يفسِّره – وهو ما كرهت طوال
حياتي الشعرية أن أقوم به. تدفعني إلى طرح
السؤال الخشيةُ من أن يكون الكتاب الثاني
امتداداً لا يضيف شيئاً إلى الأول، أو ليست
فيه محطة جديدة. إذا قارنَّاه، مثلاً، بـالكوميديا
الإلهية لدانتي، فإننا نجد في هذه ثلاث
محطات: الجحيم، المطهر، الفردوس. فأين هو
الموقف المختلف في الكتاب الثاني –
المختلف، وليس بالضرورة المضاد؟ أين المسرح
الآخر؟ أين الإشكالية الأخرى التي نراها فيه،
ولا نراها في الأول؟ ليس هناك
مجال للمقارنة. الكوميديا الإلهية سَفَرٌ
في العالم الآخر، في محطاته الثلاث، وفقاً
للرؤية الدينية. أما الكتاب فهو سَفَرٌ في
التاريخ العربي، عبر المتنبي، حياةً وذاكرة.
ظاهر هذا التاريخ سياسي: هو بمعنى ما، تاريخ
الحكم في علاقته السياسية بالمحكومين. الكتاب محاولة لكي أمَسْرِح سرَّ التاريخ
العربي – سياسةً وثقافةً ونظرةً إلى الإنسان.
وهو، إذن، صدمة للذاكرة العربية السائدة التي
لا تتذكر، أو لا تحب أن تتذكر، إلا ما تحسبه
جميلاً وكاملاً، أي ما يحجب الواقع والحقيقة
– في كليهما. وحجب الماضي يشمل إرادة حجب
الحاضر. الذاكرة العربية، كما تعاش، هي نوع من
الحجاب. وفي شكل الكتاب، أو في تكوينه، ما
يتيح لنا أن نرى من جديد هذا التاريخ بطريقة
جديدة، في ما وراء هذه الذاكرة وضدها. على أن
التجديد الحق في الشعر ليس في تجديد الشكل
الشعري، في حدِّ ذاته، وإنما هو بالأحرى في
خلق فضاء آخر للتصور والفهم والمتعة الجمالية
والعمل. هو في الكشف عن الطاقة الانتهاكية عند
الإنسان، وفي توليد حركية للانتقال من الحلم
الخاص بالفرد إلى اليقظة الكاملة في المجتمع.
والبعد السياسي في الشعر لا يجيء، في هذا
المنظور، من الانخراط في موقف إيديولوجي
والتعبير عن الالتزام به، وإنما يأتي من
الرؤية الاختراقية أو الانتهاكية التي
يكتنزها هذا الشعر. هكذا نشهد
ثلاث محطات في هذا التاريخ، استناداً إلى
المتنبي: بوصفه محكوماً وشاعراً، وبوصفه
مرتبطاً بعصره ومشكلاته، وبوصفه، أخيراً،
بؤرة للتناقضات السياسية والشعرية، نقرأ
فيها عصرَه وقيمَه وعلاقاتِه. يتجلَّى
"المسرح الآخر" (وفقاً لعبارتك) في الكتاب
الثاني، في أربع قضايا: الأولى، الحرب مع
الروم وطبيعة العلاقة بين الذات والآخر، كما
فهمها العربي آنذاك؛ الثانية، إشكالية
الخطاب السياسي في علاقته مع الخطاب الشعري؛
والثالثة، عذاب الذات وتناقضاتها، وخاصة ما
يتعلق بالموقف من الآخر الأجنبي–العدو، وفي
الحب؛ وأخيراً إشكالية المدينة العربية: هل
المدن العربية واحدة، على كثرتها؟ أم أن كل
مدينة تختلف عن الأخرى؟ وهي إشكالية تُطرَح
عبر صديق للمتنبي ليس إلا صوتاً ثانياً له –
هو أبجد. فإذا كان
لا بدَّ من الكلام على المراحل، فهي مراحل
حياة المتنبي، جحيماً وجنة، متشابكة مع مراحل
التاريخ العربي. والمرحلة التي سيمثلها الجزء
الثالث والأخير من الكتاب هي الأفول: موت
المتنبي، متداخلاً مع أفول الحضارة العربية. مع ذلك، أشعر بأن
المشروع الأساسي لا يزال هو نفسه: كتابة نص
يقترح نفسه نقطةَ تقاطع بين الفلسفة والتاريخ
والشعر. وقد يكون هو نفسه أيضاً بالمقارنة بين
التاريخ والشعر، خاصة أن التاريخ في الكتاب
هو الذاكرة الميتة، إذا جاز التعبير، والشعر
هو الذاكرة الحية. لذلك فديالكتيك النص
وإشكاليته هي نفسها بحيث إن التنويع الذي
تتكلم عليه يبدو أنه تنويع في المسرح أو في
الفضاء. وما
المانع؟ إذا كان هناك في الكتاب الثاني
تنويع في المسرح أو في الفضاء فهذا يعني أنه
ليس مجرد امتداد للأول. ولا أوافقك على وصفك
له بأنه "نص يقترح نفسه نقطة تقاطع... إلخ"،
وإنما هو نص يُمَسْرِح التاريخ العربي؛ وشخوص
هذا المسرح هم العرب كلهم، في حياتهم اليومية
والسياسية والثقافية. وهو لا يُمَسْرِحه
بوصفه "نصاً ميتاً"، كما تعتبر، بل
بوصفه، على العكس، الوجه الآخر النموذجي لهذا
الذي نسميه المعاصرة أو الحداثة. وكما ينبغي
علينا أن نرى في هذا المسرح العقل الذي يبدع
فإن علينا كذلك أن نرى "اليد التي تقتل"،
كما يعبِّر نيتشه. التاريخ
في الكتاب ليس "ماضياً". ذلك أن "حاضرنا"
تكرار متقن لظاهره السياسي ولباطنه الفكري.
وفي مَسْرَحَته توثيقٌ نتمرأى فيه، من جهة،
وانتهاكٌ له، وخاصة في تَمَفْصُلاته
السياسية–الدينية، من جهة ثانية. أقول "انتهاك"،
لأن أصوات الممثلين على المسرح (المتنبي،
والخلاقون العرب في مختلف الميادين، سواء مَن
قُتِل أو مَن نجا) لا تقول السماءَ وسياستَها
إلا بنبرة الإنسان والأرض، نبرة الحقيقة
والحرية. إنها مَسْرَحَةٌ أرضية–إنسانية،
وليست سماوية أو إلهية، كما نرى في الكوميديا
الإلهية. وفي هذا ما يفسر أن الكتاب ليس
مجرد مشروع شعري–ذاتي، وإنما هو مشروع لا
تنفصل فيه الذات عن التاريخ؛ هو ليس، بتعبير
آخر، مشروعاً أقرأ فيه ذاتي الشعرية، وإنما
هو مشروع أقرأ فيه التاريخ. وفي هذا ما
قد يفسر أيضاً كونَ الفكر بُعداً عضوياً في
شعرية الكتاب، وذلك لغاية أساسية: تعميق
الانتهاك، وتوسيع حدوده، عبر التأمل في أحداث
التاريخ وسيرورته، وبخاصة نواته السياسية:
السلطة. الإنسان
كلٌّ لا يتجزأ، والشعر، بوصفه التعبير الأعلى
عن هوية الكائن الإنساني، لا يمكن أن ينفصل عن
الفكر. الوزن
وسيلة سحرية هنالك بعض التساؤلات
حول الكتاب، خصوصاً الجزء الثاني. فهو،
مثلاً، ينظم أخباراً موثقة وأحداثاً؛ وليس
لهذا النظم مكانٌ محدد. فنحن نجده تارة في
المتن وتارة في الهامش (وكان في الجزء الأول
في الهامش غالباً). لماذا يفعل ذلك شاعر مثلك،
وَضَعَ دائماً فارقاً حاداً بين النظم والشعر
(وهذا جزء من عمله النقدي)، ونراه الآن ينظم
أشياء تبدو للوهلة الأولى أنها ليست في حاجة
إلى نظم – مجرد أخبار! فما أسباب ذلك؟ كل حدث
رواه الرواة، أو كل عمل واقعي أُرِّخ له (فيما
يتصل بطقس القتل خصوصاً) أردتُ قصدياً أن أعيد
صياغته وزناً. وقد أشرت إلى هذه القصيدة في
مستهل الهامش في الكتاب الأول. لأقلْ،
بتعبير آخر، أنني قصدت عامداً أن أُخرِج هذا
الحدث أو العمل من نثريَّته التي رُوِيَ بها،
وأن أعيد روايته، مُدخِلاً إياه في نسق يرتبط
بالذاكرة الشعرية. وبهذا يكتسب شرعيَّته،
بوصفه رمزاً للممارسة السياسية، من جهة، ولغة
طقسية لاحتفال مأتمي، من جهة ثانية – وخصوصاً
أن الحدث هنا، أو الفعل، متصل غالباً بقتل
الإنسان. إنه ملهاة–مأساة: إذ يبدو، ظاهرياً،
كأنه نوع من اللعب أو الاحتفال المأتمي،
يتكرر بشغف وغبطة، كأن الأضاحي البشرية فيه
شرطٌ لـ"مجد" السلطة! وقد رأيت
أن إعادة صياغته وزناً تُحدِثُ تأثيراً خاصاً
في القارئ بفعل الطقسية الشعرية الكامنة في
الحدث ولغته، وتجعل هذا الحدث الغابر كأنه
"حي" مستعاد. فالشعر، بوصفه طقساً، إنما
هو تحيين actualisation
للتاريخ. هكذا يبدو
الوزن هنا مجرد وسيلة "سحرية" – إذا شئت
– ولا يصح أن يُنظَر إلى الهامش، إذن، إلا من
هذه الزاوية: بوصفه تحييناً طقسياً بالوزن
للنثر الإخباري. أضيف أن في
هذا النظم استعادةً لأسلوب قديم في السرد
الموزون (لا ننسى السردية النثرية التي تهيمن
اليوم على الشعر في كثير من لغات العالم –
وبينها اللغة العربية – بحيث إن القصيدة تصبح
أقصوصة)، واستعادةً لمناخ خاص في العلاقة بين
النظم والحدث، وذلك تعميقاً لعمل الذاكرة،
وتحقيقاً لنوع من التطابق المثلي بين الماضي
والحاضر، بين الذاكرة والواقع. فحين نسرد
الأعمال أو الأحداث وزنياً، بلغة وإيقاعات
بسيطة في مستواها الشفوي، نعطي لما نرويه
كتابياً نكهة الحضور المتواصل، بحيث يبدو ذلك
شبيهاً بعُقَد نافرة في الخيوط الشعرية التي
تربط بين مراحل التاريخ. وفي هذا أستعيد أيضاً
بعض العناصر المغيَّبة لكي تكتمل صورةُ
العلاقة التاريخية العربية بين لغة الشعر
والأحداث الواقعية. إنه نوع من التوثيق
أردتُه قصدياً، كما أشرت. عدا أن الذات هنا
غائبة؛ لا حضور إلا للحدث نفسه، والشاعر
مجرَّد راوٍ، لا بلغته هو، بل بلغة الرواية
التاريخية، العامة، "الموضوعية". وفي
ذلك ما يعطي الوجه الآخر الذي هو نقيض للذاتية
الطاغية في الشعر العربي التي "تمحو"
الحدث ولا ترى "الشيء". كان لديَّ إحساسٌ
بأن هناك أموراً أو أحداثاً قُصِدَ أن تكون
نظماً. حتى في المتن، هناك أحياناً أخبار
منظومة. مثلاً كلامك على أبي نواس وما قيل فيه. قلت –
وأكرر – إنني تعمدت أن أعيد صياغة بعض
الأحداث والأقوال بشكل موزون. أشعر، في هذا
الإطار، بأن تقديم أبي نواس بما قيل عنه في
وقته، وفي شكل موزون، يعطي لموقعه في تاريخنا
الشعري بُعداً رمزياً أكثر دلالة من تكرار ما
قيل عنه بصيغته النثرية. الاستشهاد
أو التمثل بعبارة قديمة نوعٌ من العودة إلى
أصل اللغة–الكلام، عودة لا تتضمن الارتداد
أو المحافظة، وإنما هي استعادة للُّغة
القديمة، مفرغةً من نمطيِّتها؛ وهي في سياقها
المختلف توكيد آخر على أن الماضي لا يزال حياً
– وهذه من الأفكار الأساسية التي توجِّه
الكتاب كله – وبخاصة في كل ما يتصل بالعلاقة
بين السلطة والفكر والفنون بعامة، أو بين
السياسي والشاعر. وفي
الاستشهاد، على مستوى آخر، ما يشير إلى أن أبا
نواس فُهِمَ ماضياً – في عصره – بشكل أعمق
مما يفهمه عصرُنا؛ وفيه أيضاً توكيدٌ على
أننا لا نملك قانوناً مطلقاً للتقدم الثقافي
نستطيع أن نقول على أساسه، بشكل قاطع ومطلق،
أن عصرنا الراهن أكثر تقدماً في العمق من
العصور السابقة. وبهذا المعنى، مرة ثانية، لا
تنفصل الرؤية الجمالية عن الرؤية الفكرية أو
الفلسفية للتاريخ. اسمح لي
بأن أعود هنا إلى المسألة السردية في الشعر،
سواء كان السرد منثوراً أو موزوناً. تعرف أن
هذه المسألة هي التي تطغى الآن على الكتابة
الشعرية في العالم؛ وهي في تقديري عودة
للحياة اليومية، أو لنثرها الغامر، عبر عودة
أعمق إلى الشعر القديم، بدءاً من جلكامش،
مروراً بهوميروس وفرجيل ودانتي. وتعرف خيراً
مني أن كفافي وريتسوس يقودان هذا الاتجاه في
عصرنا الراهن، إضافة إلى فرنسيس بونج – مع
فارق هو أن كتابة هذا الأخير تتمحور حول
الأشياء، في حين تتمحور كتابة الشاعرين
الأولين حول الأشخاص. تعرف كذلك مدى التأثير
الذي يمارسُه هذان الشاعران على اللغة
الشعرية العربية اليوم. في نصوص هؤلاء
الشعراء، أو جلِّها، إرادةٌ لتغييب الذات، أو
لأقل: ليست الذات حاضرة فيها إلا بوصفها راوية. ولكنك فعلت شيئاً
أكثر إرادية. كفافي، مثلاً، ينظر في التاريخ
الإغريقي والبيزنطي، يعمل على قصة ويعيد
بناءها. أنت، في أماكن كثيرة، قمتَ بنظم الأثر
أو الخبر لا أكثر. والسؤال: لماذا لم تقل ذلك
نثراً؟ لماذا – وهذا هو الغريب – يبدو الشعر
أحياناً في نثرك أكثر مما يبدو في وزنك؟! لا أجادلك
في الفقرة الأخيرة من سؤالك. فالشعر ليس
محصوراً في شكل دون آخر؛ وقد يكون موجوداً في
النثر أكثر منه في الوزن – والعكس صحيح. غير
أنني أخالفك في الفقرة الأولى. فليس صحيحاً أن
كفافي يعيد دائماً بناء القصة القديمة أو
الحدث. خذ، لا على التعيين، ما شئت من قصائده،
أو خذ تحديداً قصائده: "على مشارف أنطاكية"،
"سفسطائي قادم من سوريا"، "ألكسندروس
اليانِّي وألكسندرا"، "على الطريق إلى
سينوبيس"، "أمير من ليبيا الغربية"،
"لم يحدث أن فهمت"... وماذا أيضاً؟ –
نستطيع أن نضيف قصائد أخرى كثيرة – أقول: هذه
القصائد لا تقوم على إعادة بناء للأصل، وإنما
هي سرد استعادي. بل إن قصيدة مثل "إيمينوس"
ليست إلا فقرات لإيمينوس نفسه، يبثها كما هي،
ثم يختمها معلقاً: "هذه فقرات من خطاب للشاب
إيمينوس (سليل أسرة رومانية نبيلة) الذي
اشتُهِرَ بالانحلال في سيراقوسة في العهد
المنحل لميخائيل الثالث." واسمح لي
بأن آخذ مثلاً من الكتاب، الجزء الثاني،
يتعلق بهامش عن آدم، حفيد الخليفة عمر بن عبد
العزيز الذي ضربه الخليفة المهدي ثلاثمئة سوط
بتهمة الزندقة؛ وكان يؤكد للخليفة قائلاً:
"والله ما أشركتُ بالله طرفة عين. ومتى
رأيتَ قرشياً تزندق؟ ولكنه طربٌ غلبني، وشعرٌ
طفح على قلبي، وأنا فتى من فتيان قريش، أشرب
النبيذ، وأقول على سبيل المجون." هذا الخبر–الحدث
رُوِيَ في الهامش (الكتاب، الجزء الثاني،
ص 36) أو "نُظِمَ" كما تعبِّر، على الشكل
الموزن التالي: لم
يكن آدَمٌ يتزندَقُ. ما
قالَهُ جاء
فيضاً على القلبِ، مِن
طربٍ وانْتِشَاءٍ. كان
هذا مُجوناً، ويؤكِّد
أصحابُه: لم
يكنْ آدَمٌ مُشْرِكاً. فهل هذا
الهامش هو حقاً مجرد "نظم" لذلك الخبر–الحدث؟
والأمثلة من هذا النوع هي الغالبة في الهامش.
أظن أنني ميال، هذه اللحظة، إلى أن أدعوك
لإعادة قراءة الكتاب. مرة أخرى: ما الكتاب؟
هل هو، ببساطة، مجموعة شعرية أو كتاب شعري –
وهو بالتأكيد ليس كذلك برأيي. هناك نص، جزءٌ
كبير منه إرادي ومصنوع ومقصود؛ كما أنه، على
الصعيد الشعري البحت، يبدو كأنه خلاصة شعرك؛
بمعنى أن فيه كلَّ فنك، من غير أن يكون
بالضرورة تجديداً لهذا الفن. فمقارنةً بـأغاني
مهيار أو مفرد بصيغة الجمع، يبدو كأنه
يتابع هذه الكتب ويعمل عليها؛ لكن القصد لا
يبدو أنه الفن الشعري ذاته. فما هو الكتاب
بهذا المعنى؟ تصر على
وضعي في موقع الشارح المفسِّر لعمله – ليكن.
لا شك في أن بين الكتاب وشعري السابق صلة
عميقة. فهو، بمعنى ما، أفقٌ آخر في سياق ما
كتبتُ حتى الآن. غير أنه، في الوقت نفسه،
مختلف عنه بناءً وطموحاً، وأوسع منه آفاقاً
ودلالات. فهو ينهض، بنائياً، على تعددية
تشكيلية، تتمازج فيها وتتواكب صور تعبيرية
متنوعة – وَزْنية، نثرية، سردية؛ شذرات
واستشهادات؛ أشياء الذات وأشياء العالم؛
أشياء السياسة وأشياء التاريخ؛ وقائع كأنها
خرافات، وخرافات تعاش يومياً كأنها هي وحدها
الواقع – في صراعات وتأرجحات واحتمالات
ومفاجآت تعكس الأزمة الكيانية العربية، أزمة
الهوية والسيرورة، بحيث يبدو الكتاب نفسه
هو أيضاً أزمة فنية–تعبيرية. واضح،
إذن، أن الكتاب، كما تقول، ليس مجرد
مجموعة شعرية، وإنما هو مشروع. وهو، بوصفه
مشروعاً، متعدد اللغات: تتمازج فيه لغة
الرؤية الشعرية، ولغة الرؤية الفكرية، ولغة
الرؤية التاريخية، في عقدة نواتُها العميقة
تلك العلاقة الغامضة المعقدة بين العربي
والعربي، وبين العربي والآخر، وبين الإنسان
والكون. وفي تراثنا الكتابي–الفني نماذج
أولى لهذا المشروع، نجدها خاصة عند المعري
وعند ابن عربي. الكتاب، في هذا الأفق، هو اللزوميات
ورسالة الغفران معاً، منصهرين في كتاب
واحد، وهو ترجمان الأشواق والفتوحات،
ذائبين في تموُّج واحد. الكوميديا
الإلهية لدانتي ليست نموذجاً للكتاب؛ ذلك أنها،
من جهة، تستقي كثيراً من العناصر التخييلية
العربية؛ وهي، من جهة ثانية، سفر تصاعدي في
الأفق: جحيم، مطهر، فردوس. بينما الكتاب
سَفَرٌ في جحيم متواصل، يتنوع إلى ما لا
نهاية؛ وهو، إذن، سَفَرٌ في عمق الكينونة
العربية. وليس الوقوف عند تجلياتها في
الممارسة إلا لمزيد من الغوص في أغوار هذه
الكينونة. الكوميديا الإلهية سُلَّم
صاعد؛ الكتاب دوائر هبوط في الكينونة،
واستقصاء لأبعادها ومظاهرها. وهو، من هذه
الزاوية، أكثر قرباً إلى مشروع نيتشه، في
رؤيته للحضارة الغربية المسيحية، منه إلى
مشروع دانتي – هذا إذا وافقتَ معي على أن
مشروع نيتشه هو أساسياً فني–فكري: فن بلغة
الفكر، وفكر بلغة الفن. ومن هنا لا
يُقرأ الكتاب إلا بوصفه كلاً – بوصفه
قصيدة واحدة، بتنويعات. وهو، بوصفه كذلك،
خروج من نظام القصيدة–الأغنية الذاتية، التي
هي قوام "ديوان العرب". واستطراداً، أود
أن أشير إلى أن شعر الحداثة العربية استمرار
لهذا التقليد: القصيدة–الأغنية. وبهذا
المعنى، تُواصِلُ الحداثةُ الشعرية العربية
كتابةَ شعرها وفقاً للبنية الفنية العميقة
التي أسَّستْ لها اللغةُ الشعرية القديمة.
فالحداثة، على مستوى البنائية الفنية،
استمرارٌ للقَدامة: غيَّرتْ الثوب، لكنها لا
تزال، على الرغم من ادعاءاتها المناقِضة،
تدور في البنية القديمة ذاتها، في الحدس
الأساسي للقصيدة العربية القديمة. لا يمكن –
استطراداً – تأسيس قطيعة مع الماضي إلا في
سياق علائقي: علاقتنا بتاريخنا، علاقتنا
بالمجتمع، وعلاقاتنا بالطبيعة وأشيائها،
علاقتنا بالآخر. بدون هذا السياق العلائقي لا
تكون القطيعة إلا لفظية. هكذا، ربما، أردت أن
أجعل من الكتاب صورةً للإنسان العربي في
تناقضاته – بين ماضيه وحاضره، أولاً، وفي
تناقضاته الأخلاقية والفكرية والتعبيرية،
على نحو خاص. مدن
مختلفة إذاً، نحن لسنا
أمام كتاب شعر بالمعنى البسيط للكلمة؟ لا، طبعاً.
هو، كمثل اسمه، "كتاب"، كتاب جامع. أسأل نفسي سؤالاً
لدى قراءتي الكتاب (المجلدين الأول
والثاني، ولاسيما الثاني): هذا الكتاب،
أولاً، في تسلسله التاريخي؛ وثانياً، في
تركيزه على خيط مضيء متسلسل يعبَّر عنه
بشخصيات (وهي شخصيات يكاد لا يجمعها شيء محدد؛
فهي تتراوح بين ناسك وفاجر، وزنديق ومؤمن،
إلخ) تجمع فيما بينها، إلى حدٍّ كبير،
مشاركتُها في نهضة ما، في حضارة، في موقف غير
تقليدي. فهل الكتاب هو الموازي الشعري
لمشروعك الفكري؟ بعبارة أخرى، هل تضع الكتاب
في موازاة الثابت والمتحول، بحيث يبدو أن
خطة الثابت والمتحول موجودة هنا فكرياً
إلى حدٍّ كبير؟ بشكل ما،
إذا أردنا التبسيط. إذا رجعنا للـكتاب
نفسه، فإن هذا الحجم (600 صفحة تقريباً) يتشكل،
تبعاً لخطة تتكرر تقريباً، بهندسة مميزة:
هناك شعر للمتنبي، بيت للمتنبي، هناك – إلى
حدٍّ كبير – وقائع وشخصيات، وهناك ما يمكن أن
نسميه الرواية، وهناك المدن التي جعلتَها
أبجد... في هذا الكتاب، هل انبنى نصٌ
متصاعد، كل خطوة فيه مفترقة عن الأخرى، أم أن
طابع السيولة الشعرية جعل الأشياء إلى حدٍّ
أكثر اختلاطاً أو تمايزاً؟ بناء الكتاب،
كما خططتُ له أساساً، ليس تصاعدياً بالمعنى
الذي تشير إليه. بناؤه دائري، شبكي. التصاعد،
إن كان لا بدَّ من الكلام عليه، هو في وتيرة
الانفجار، في التوتر والتأزم، في حياة
المتنبي وتقلبات العلاقات. قارئ الكتاب
لا يصعد سلماً، بل يهبط في السراديب
والمخابئ؛ لا يسير من "قدم" الحكاية إلى
"رأسها"، أو العكس، وإنما يجيء ويذهب في
جسد التاريخ العربي، في شرايينه وأغواره، وفي
جميع الاتجاهات. أريد أن أسأل عن
أبجد المدن: هل هذه المدن مدينة واحدة؟ أم هي
مدن متمايزة؟ ألها ما يقابلها في المدن
العربية؟ هي نماذج
أو رموز للمدينة العربية، أو للمدن العربية. أهي مدن محددة؟ ما
لم أفهمه هو الجانب المكاني في هذه المدن. تحس
أنها مدن أفكار، مدن تعبِّر عن المفهومات
أكثر مما تعبِّر عن الأمكنة. وهذا ما
قصدته: الارتفاع بواقع المدن العربية إلى
مستوى الرمز لكي تجيء الإضاءة أكثر شمولاً.
والمدينة، إبداعياً أو حضارياً، زمنٌ أكثر
مما هي مكان. ليس مكان المدينة هو ما يعطيها
هويَّتها؛ إنما يعطيها هويَّتها زمنُ هذا
المكان: كيف يتحرك، بماذا يمتلئ، وكيف؟ الكتاب
لا يقدم توثيقاً جغرافياً أو تاريخياً؛ لا
يقدم دراسة طوبوغرافية لهذه المدن. ولهذا
فهي، بالضرورة، رموز، ومفهومات، وعلاقات،
وصور، ومجازات. لكن هل تكرارية
المجتمع العربي تقتضي أن تقابلها تكراريةٌ
شعرية؟ ماذا تعني
بالتكرارية الشعرية؟ هل هي، مثلاً، في أن
يكتب الشاعر عن الموت وحده، ولا شيء غيره؟ أو
عن الحب، ولا شيء غيره؟ التكرار لا يكون في
المادة أو الموضوع – وإلا لكانت المادة
الشعرية مكررة منذ بدايات القول الشعري،
ولكانت نفدت وانتهت، ولكان الشعر انتهى.
التكرار يكون في طريقة القول وزاوية الرؤية –
وطرق القول لا تنتهي. أهناك تكرار في الكتاب
على مستوى طريقة القول؟ لا أظن. لكن هناك
إلحاح (ولا أقول تكرار) على التعبير عن مادة
العنف والقتل – وهو تعبير–تنويع متعدد
للإحاطة بجميع الدقائق والتفاصيل الخاصة
بهذه المادة. تكرار
أم تحوُّل؟ أنا أفهم ذلك. ولكن
السؤال: إذا كان التاريخ العربي كله متكرراً،
وعنفاً متكرراً، وإذا كانت المدن العربية
تملك تكراراً مماثلاً، فهل هذا يبرر كتابة نص
يخترق التاريخ من أوله إلى آخره، والمدن من
أولها إلى آخرها؟ ألم يكن ممكناً تقديم
أمثلة؟ الأمثلة
لا تبيِّن رسوخ هذا الطقس، ولا التفنن في
القتل. أفترض أن القارئ، عندما يقرأ هذه
الأشياء، يعرف الأمثلة. خذ بغداد خلال عشرين
سنة من التاريخ: لماذا ينسى العربي الذي يتكلم
في الحرية والشعر والإبداع ماذا فعلت بغداد
أو ماذا حدث فيها خلال تلك السنوات العشرين؟
ولماذا نتحدث عما فعله العقل والقلم، ولا
نتحدث عما فعلته اليد والقنبلة؟ كم عدد
القتلى، وكم عدد الموتى والمساجين؟ أليس لهذا
معنى؟ لماذا ننسى ما يحدث في الجزائر، مثلاً؟ صرت
ميالاً إلى القول إن في بنيتنا العميقة ميلاً
للدفاع عن عبوديتنا، لأن الرؤية التي تقول إن
تاريخنا عظيم ومضيء – هذه الرؤية هي، في
الواقع، دفاعٌ عن السلطة، وتماهٍ مع السلطة.
وكما نرى، الكتَّابُ اليوم يتماهون مع
السلطة، لسبب أو لآخر، وبشكل أو بآخر. فهم لا
يستطيعون رؤية تاريخهم الذي هو تاريخ السلطة؛
يخافون أن يواجهوا أنفسهم؛ يهربون دائماً في
نوع بائس من امتداح الذات، وإلقاء الأخطاء
على "الآخر". إن تاريخ السلطة العربية
تاريخ أسود وأعمى، ويجب فضحه وكشفه؛ كله قمع
وعنف. أما التاريخ العربي الآخر – تاريخ
الكتَّاب والمفكرين والشعراء – فله المكان
الأكبر في الكتاب. والسؤال
هو: لماذا لا يرى القارئ، قارئ الكتاب،
إلا ذلك المكان "الأصغر" – مكان العنف
والقتل؟ والجواب هو أن السبب عائد إلى أن في
ثقافة العربي أارتباطاً بنيوياً بالسلطة،
واستعداداً ليكون خاضعاً وتابعاً، إلى درجة
التماهي؛ وهو عائد كذلك إلى أن العربي يخاف من
مواجهة الذات، من مواجهة أخطائه، من مواجهة
نفسه. هذا الكتاب،
الذي هو على مفترق التاريخ والفكر والشعر، هل
تراه فكراً أم تاريخاً، أم تراه في الدرجة
الأولى شعراً؟ أراه كلاً
لا يتجزأ. الكتاب فكر وتاريخ وشعر معاً. هو، بالدرجة
الأولى، شعرٌ إذن؛ أي ليس تاريخاً بمعنى كتب
التاريخ، وليس فكراً بمعنى الفلسفة. هو شعر.
لكنه شعر يصدر عن مفهوم يرى في القصيدة عالماً
يتداخل فيه التاريخ والفكر والفلسفة
والسياسة؛ أي هو مزيج من كل شيء. ولذلك يطرح
الشعرُ في الكتاب سؤالاً حول مفهوم الشعر
عند العرب أمس واليوم. تقرأ مثلاً هوميروس
وفرجيل، فترى أن شعرهما سردٌ كامل؛ تقرأ
أراغون، فترى فيه سرداً ومقاطع تاريخية
وقصصاً؛ تقرأ عزرا باوند، فتجد الشيء نفسه:
مقاطع كاملة من التاريخ... الشعر تعبير كلِّي
وشامل. ولكن عندما يكون في
النص تاريخ حرفي، من الأول للآخر، بهذا
الشكل، يُطرَح السؤال عن الفرق بين الشعر
والتاريخ. أين حد الشعر وأين حد التاريخ، كما
تقول العرب؟ ليس هناك
تاريخ حرفي، وإنما هناك وقائع تاريخية،
بحرفيَّتها أحياناً، القصد منها تجاوز
التجريد؛ القصد منها الإلحاح على لازمة
سياسية، لازمة العنف والقمع والقتل في تاريخ
السلطة العربية. هذه الوقائع تصير شعرياً
داخل النسيج العام. أختلف معك في هذه النظرة؛
مجرد ذكرها والإلحاح عليها وتكرارها شيء مهم
وجديد في الكتابة الشعرية العربية. قوة
الشعر وشكوكه هذا الكتاب
الكلِّي يبدو طموحاً لأن يكون جامعاً للثقافة
العربية وتقديمها، بشكل أو بآخر. أعود لأشير
إلى علاقة الشعر بالنثر فيه – بمعنى القصيدة
النثرية والقصيدة الموزونة. لاحظت، أولاً، أن
في الكتاب شعراً نثرياً أكثر من الوزن؛
فإلى أي مدى هذا مقصود؟ وثانياً، أن القصيدة
النثرية تبدو وكأنها تقول شيئاً مختلفاً، في
أحيان، عما يقوله الوزن. ففي الوزن هناك شيء
من الكلام ذي الصوت العالي الذي فيه اكتمال
ذاتي، وفيه ثقة ويقين ("شمسه"، مثلاً،
"أمواجه")، نوع من تكامل الأنا والفرد؛
فيما تبدو القصيدة النثرية قصيدة شكوك. فلو
أخذت: "ربما بفعلِ هذه الغيمةِ لم يزلْ
عمودُ سمعان/لم يكن في حاجةٍ إلى أن يحوِّل
حياتَه إلى عمودٍ آخر، بمعنى: هل الكتابةُ هي
وحدَها الشتاء، هي ذي يراها كمثلِ ثمارٍ
تتساقطُ ولا يأبَه لها حتى البستاني/الذي
أمضى حياتَه ساهراً عليها..." في النثر هناك
تشكيك في قوة الشعر التي يبدو أن الوزن تأكيد
لها. انطباعك
هنا، كما يخيل إليَّ، سريع جداً. النصوص
الوزنية في الكتاب مليئة بالتساؤلات
والشكوك حول كل شيء، بدءاً من الذات؛ لا تكاد
تخلو صفحة منها؛ بل إنها أكثر إيغالاً فيها
منها في النثر. كل شيء في هذه النصوص يبدو كأنه
على الحافة، فوق الهاوية، يكاد أن يسقط؛ كل
شيء قلق وضياع. مرة ثانية، أعِدْ القراءة –
وإلا فأنت آخذ بدفعي إلى القول إن الوزن في
القصيدة – مجرد الوزن – يحجب عنك شعريتَها.
وهذه ظاهرة قرائية نراها عند كثير من
الكتَّاب الشبان اليوم – وأنت، بنعمة الشعر،
لم تعد شاباً؛ فأنا لا أقصدك – وكأن لسان حال
كلٍّ من هؤلاء هو: عندما أرى شعراً موزوناً لا
أقدر إلا أن أصوِّب مسدسي! الوجه المقابل
تماماً لمن يقول: لا شعر خارج الوزن! ما أسباب
ظاهرة كهذه؟ ليست، في كل حال، ثقافية أو فنية؛
وإنما هي، بالأحرى، ثبوتيةٌ في الموقف. ذلك
أنني لا أتصور شاعراً فرنسياً أو إنكليزياً
يتهم شعر بودلير أو مالارميه أو شكسبير
باللاشعرية، لمجرد أنه شعر موزون! كذلك لا
أتصور شاعراً عربياً حقيقياً يتهم شعر امرئ
القيس أو أبي نواس أو المعري باللاشعرية،
لمجرد أنه شعر موزون! وإنما يمكن ألا نعجب
بشعر هؤلاء، لكن لأسباب أخرى لا تتصل بالوزن. ربما، حين
أتكلم بلسان المتنبي، يحس القارئ أحياناً بما
تشير إليه – بالتكامل وبالتماهي مع الذات
والطموحات. لكن في معظم النصوص لا نحس إلا
بالقلق والتساؤل والشك والعبث والتبعثر
والتفكك. اقرأ الهوامش الخاصة بالشعراء
والمفكرين؛ اقرأ نصوص الحرب بين العرب
والروم؛ اقرأ مذكرات سيف الدولة؛ اقرأ أوراق
خولة؛ اقرأ دفاتر المتنبي نفسه... لن تجد غير
التأرجح فوق الهاوية – هاوية القلق والشك
والتساؤل. أجدني هنا
مضطراً أن أشير إلى البنية التشكيلية الفنية
في الكتاب – وهو ما لم تطرح حوله، حتى
الآن، أي سؤال، وهو مما أستفسر به – خصوصاً
أنها بنية لا يعرفها الشعر العربي. ففي تكوين الكتاب،
تشكيلياً، تتلاقى الأزمنة والأمكنة في
الصفحة الواحدة: لحظة الذات ولحظة الآخر،
لحظة الشيء والوقائع، لحظة الماضي ولحظة
الحاضر، ويزدحم فيها العبث والفوضى
واللايقين. وهذا يعكس التنوع والتناقض: في
الشخص، وفي المكان والزمان، وفي التاريخ
والمجتمع. مع اعترافي بأن هذه
اللحظات – بتواجهها واجتماعها – تعطي
ديناميَّة وجدلاً للنص، لكني أبقى أحس وكأن
موقف الوزن – إذا جاز التعبير – موقف أساسي
في شعرك، باعتبار أن الشاعر هو، إلى حدٍّ
كبير، إنسان أعلى، والشعر، إلى حدٍّ كبير، هو
خلاص، هو نوع من ذاكرة حية. يبدو موقف الوزن
وكأنه موقف الشعر؛ بينما في موقف النثر شكوك
عميقة في الشعر وفاعليته وفي قيمته، وحتى في
إمكانه. لكن، في
التحليل الأخير، يقوم شعري كلُّه، سواء في
وزنه أو في نثره، على الشك العميق، لا حيال
العالم وحده، بل في ما يُفترَض أنه الملاذ
والملجأ – أي الشعر. وهذا مما يأخذه عليَّ،
أساسياً، بعضُهم – أولئك الموقنون المؤمنون
– وذلك بدءاً من أغاني مهيار؛ حتى إن من
الممكن قراءة كتاباتي كلها في ضوء هذا السؤال:
ماذا يقدر الشعر أن يفعل في ظلام العالم؟ الرؤيا لكن أغاني مهيار
فيه بطولة، فيه تشخيص، فيه قيمة الشعر، وقيمة
التحول. وسؤالي هنا هو: إلى أي مدى وأنت تكتب
نثراً – إذا جاز التعبير – يتحول موقفُك
نثرياً بمعنى ما. فهل موقفُ النثر في الشعر
يختلف عن موقف الوزن – النثر دائماً فيه يأس
وسوداوية، وربما فيه شكوك أكثر من الوزن الذي
تظل فيه حماسة؟ أستعير
هنا تعبيرك الجميل، وأقول "الأمل"، يا
عزيزي، مَرَض الشعر – سواء في وزنه ونثره؛
وقد تكون "الحماسة" غطاءً أو تمويهاً
لحزن لا يُدرَك قراره. دائماً هناك كلام
على الشعر، هناك سعي لتعريف الشعر: "ما
الشعر إن لم يرَ الجذرَ/إن لم يُضِئْنا"،
الذي تكرره دائماً في كلامك على الشعر. هو
الرؤيا، هذه الرؤيا التي أسلِّم بها، من حيث
المبدأ. لكن السؤال: إذا
كانت الرؤيا باستمرار أمراً غير ممكن
التحديد، ألا تتحول إلى نوع من ميتافيزيقا
الشعر، فنقول في الآخِر: أين هي الرؤيا؟ هل
هناك حدود للرؤيا؟ هل نستطيع القول إن هذا
الشعر فيه رؤيا، وذاك الشعر ليس فيه رؤيا؟ أي
دليل نملكه؟ أي حدود نستطيع أن نرسمها؟ كل شعر هو،
بمعنى ما، رؤيا. لكن هناك رؤيا متكاملة حول
العلاقة بالوجود، وحول المصير؛ وهناك رؤيا
خاصة ومحدودة في ما يتعلق بالحياة اليومية،
إلخ. الفرق هنا فرق في الدرجة، لا في النوع.
الشعر كله نوع من الرؤيا؛ الكتابة كلها نوع من
الرؤيا. لذلك من الصعب الجواب عن ذلك إلا حين
يأخذ المرء حالة معينة ويدرسها، ويرى إلى أي
درجة هي متكاملة، إلى أي درجة تقدم شيئاً
مختلفاً، إلخ. لكني لا
أستطيع أن أتصور شعراً يعطيك شيئاً، ويغنيك،
وله قيمة، إلا إذا كان يقدم عن علاقتنا
بالعالم والأشياء نوعاً من الرؤيا، أو رؤيا
ما. أنا لا أقدِّر شعراً ليس له بعد
ميتافيزيقي، لأن الحياة لا تقوَّم بالفعل إلا
تراجيدياً؛ وإذا لم يكن هناك من بُعد
ميتافيزيقي، فليس هناك تراجيديا. لذلك أحس
بأن الشعر، بدون بُعد ميتافيزيقي، ثانوي
وزخرفي، لأنه لا يثير أية مشكلة كيانية. العمود أسألك عن عودتك إلى
الشعر العمودي في هذا النص؛ بينما بدا وكأنه
فتحت معركة مع الشعر العمودي؟ هناك بعض
القصائد لا أسميها عمودية، بل أسميها "تفصيلية".
العمود مصطلح نقدي خاص، نستخدمه أحياناً بدون
تدقيق. فأركان العمود متعددة؛ أما الأوزان أو
التفاعيل فشيء مختلف. خذ البحر الطويل،
مثلاً، عند امرئ القيس، وخذه عند المتنبي.
فهو، مع أنه بحر واحد، تحس أنه عند المتنبي
شيء، وعند امرئ القيس شيء آخر. فليس البحر هو
ما يحدد هوية الشعر، بل حركة الشاعر داخل هذا
البحر أو معه. لو كان البحر هو ما يحدِّد لكان
جميع الشعراء الذين يكتبون على بحر واحد
متساوين. ولذلك ليس المهم الوزن في ذاته؛
وإنما الأساس هو حركة الشاعر الروحية أو
الإيقاعية داخل الوزن؛ المهم هو نظام الرؤية
ومنطق العلاقات. نجد ما
يشبه هذه المشكلة لدى كتَّاب قصيدة النثر.
فالحق أننا نجد عند بعضهم جملة واحدة، وصيغة
واحدة، وتكويناً واحداً، تتكرر جميعاً على
مدى كتاباتهم كلِّها: إما جملة اسمية، أو جملة
فعلية (نادراً)، وعلاقة الفاعل بالمفعول،
والضمير بغيره، والكلمة بغيرها... هي تماماً
بنية واحدة تتكرر على مدى القصيدة. وهذه تظهر
في النثر أسوأ من الوزن. فالوزن تنقذُه
الموسيقى قليلاً؛ الوزن يغطي ويحجب ويموِّه.
أما في النثر فتبدو هذه الأمور بشكل جلِّي
فاضح. وأكرر أن المسألة ليست مسألة الوزن، بل
هي مسألة الحركية فيه، والأبعاد الموسيقية،
وتكوين العلاقات بين الكلمات والأشياء. هل ما بُني نقدياً
في فترة بدايات القصيدة الجديدة، هل ما بُني
على نقد العمود الشعري وما نُسِبَ لهذا
العمود الشعري، هل هو خطأ برأيك؟ لا،
إطلاقاً. لكن يجب أن نميز بين المتنبي ومن
قلَّد المتنبي. في كتابتي لم أكن مرة ضد
الأوزان بحدِّ ذاتها. الخليل عبقري: اكتشف ستة
عشر إيقاعاً ليس لها مثيل! هذه عبقرية كبرى،
مقارنة باللغات الأخرى وموسيقى اللغات
الأخرى. لكن أين الخطأ؟ الخطأ أن تنسج على
منوال الآخرين. نحن في نقد العمودية كنا ضد
تقليد العمودية، ولم نكن ضد الأوزان أو
البحور في حد ذاتها، إطلاقاً. اسمح لي
هنا بأن أستغرب تركيزك على بضعة مقاطع
كُتِبَتْ على الوزن، تبعاً لنظام الشطرين،
وعدم انتباهك إلى أن أشكالاً متعددة من
الكتابة الشعرية، وأنواعاً كثيرة من
الإيقاعات، تتجاور وتتلاقى في الكتاب.
النثر فيه حاضر إلى جانب القصيدة التفعيلية.
فهل ترى في هذا الحضور رفضاً لقصيدة النثر؟ أم
أن المسألة على العكس من ذلك؟ هناك، اليوم، من
يكتب بالبحور نفسها... طبعاً،
لكن مع غلبة النمطية. وهذا ما نقدتُه في
مقالتي عن الجواهري. فقد بقي إجمالاً داخل
النمطية الوزنية، شكلاً وإيقاعاً. عندما
تقارنه، مثلاً، مع المتنبي، أو مع أبي نواس،
أو مع أبي تمام، فإنك تجد أن حركية هؤلاء
الفنية–التقنية داخل الوزن، وقياساً إلى
معظم الشعر الجاهلي، أغنى وأعمق وأكثر حيوية
من حركية الجواهري، قياساً إليهم. هل لأن الجواهري
تقليدي، أم لأن القصيدة العربية استُنفِدَت؟ بل لأن
الجواهري متمسك بوزنية كلاسيكية صارمة
ومنمَّطة. الشعر لا يُستنفَد؛ وكذلك الوزن.
التنميط هو الذي يُستنفَد. القصيدة
العربية، نمطياً، فخ حقيقي، كمثل قصيدة النثر
اليوم. فما إن يبدأ الشاعر العبارة الموزونة
نمطياً حتى يسقط في البنى التقليدية كلها. لقد
صارت نمطاً من التفكير والتذوق يصعب الفكاك
منه، إلا بسيطرة كاملة على الوزن واللغة
وإيقاعاتها جميعاً – وإلا فبالقدرة الثقافية–الإبداعية
على الفصل بينه وبين البنى الفكرية التي
اقترنت به. وآنذاك يمكن الكتابة بالوزن دون
الوقوع في النمطية أو التقليد. غير أن التخلص
من هذه القيود، مع استغلال أو استثمار الغنى
الإيقاعي في اللغة، معادلةٌ صعبة، لا تنجح
دائماً؛ لكنها، إذا نجحتْ، فتحتْ أبواباً
جديدة لموسيقية الكتابة الشعرية. وهذا نوع من
التحدِّي والاختبار. فيما
يتعلق بالنصوص القليلة جداً، الموزونة
خليلياً، في الكتاب أو في غيره من كتبي،
فلا يمكن لمن يعرف الوزن معرفةً حقيقية أن
يصفها بالنمطية أو التقليدية أو العمودية.
ولقد لجأت في الكتاب عامداً إلى كتابة
الموزون خليلياً لكي أقيم، أحياناً، حواراً
مع المتنبي في حركية الوزن عنده، أو لكي أقيم،
أحياناً، تجاوراً بين أشكال من الكتابة
متباعدة ومتناقضة. وفيما
يتعلق بالجواهري فإن ما كتبتُه عنه لم يكن
نقداً له بقدر ما كان توكيداً على أن التذوق
التقليدي والمعايير التقليدية لا تزال
راسخة، وعلى أن جانباً كبيراً من مكانة
الجواهري كانت نتيجة لسيادة الجمالية
التقليدية أكثر مما هي نتيجة لشعريَّته بحدِّ
ذاتها. أدونيس، تقول في
أحد مقاطعك: "خُذِ الشعرَ، أنتَ أيها
المأخوذُ بالمرئي. ارفعْه بيتاً، وأَقِمْ فيه.
سيكون حتماً عليك آنذاك أن تسكنَ في الجانبِ
الآخر غير المرئي." هل هذا استكمال
للسِّجال بينك وبين شعراء من جيل آخر، جاؤوا
بعدك، وأعطوا اعتباراً كبيراً للعالم
المباشر، العالم المرئي والواقعي والحدثي؟
يبدو كأن هناك سِجالاً بينك وبين هؤلاء
الشعراء الذين يعتبرونك أقل اكتراثاً
بالجانب المرئي والمباشر والحي والوقائعي.
فهل هذا جزء من سِجالك مع هؤلاء؟ أولاً،
أحترم نتاج كثير منهم احتراماً كبيراً. وهذا
الاحترام هو نفسه الذي يجعلني أحب أن يكون
بيني وبين بعضهم سِجال. من جهة ثانية، لا
أعتقد أن هناك قطيعة، كما يحاول بعضهم أن يرى،
بين ما نراه وما لا نراه من الأشياء. وأعتقد
أيضاً أننا، لكي نفهم الجانب المرئي من
الأشياء، لا بدَّ من أن نفهم الجانب غير
المرئي، لأن الجانب المرئي عابر، ولا يُفصِح
عن الشيء – والشعر ليس من جانب العابر؛ الشعر
يلتقط العابر لكي يمسك بغير العابر. لذلك
أعتقد أن هذا النوع من السِّجال بيني وبينهم،
هو سِجال غني ويغني الحركة الشعرية. لكن هناك فلسفتين
للشعر. فهؤلاء الشعراء قد يعتبرون أحياناً –
بشكل أو بآخر – أن ما تراه عابراً هو أساسي في
عالم محكوم. أحترم
وجهة النظر هذه، ولكني لا أفسِّر الاتجاهات
الشعرية العربية بقسمة الشعراء إلى بعض يهتم
بالعابر، وبعض آخر يهتم بغير العابر؛ لأنه
حتى الذي يهتم بغير العابر مُلزَمٌ بأن يهتم
بالعابر، لكن بدرجة أو بطريقة أخرى مختلفة.
أقسم الشعراء العرب، بالأحرى، إلى قسمين
كبيرين: شعراء يكتبون داخل المعطى، أياً كان
هذا المعطى – المعطى المباشر أو المعطى غير
المباشر، المعطى التاريخي أو الاجتماعي، إلخ
– ويحاولون أن ينقدوه، أو يتأملوا فيه، أو
يتفجعوا، بشكل أو بآخر، أو يصلحوه، بشكل أو
بآخر، أو يعطوا عنه صوراً، بشكل أو بآخر، لكنْ
يكتبون داخل المعطى القائم. إذاً هناك شعراء
يقبلون المعطى، لكنهم يعملون على إصلاحه.
وهناك شعراء آخرون يعيدون النظر جذرياً في
المعطى، ولا يكتبون من داخله، وكأنهم يحاولون
أن يخلقوا عالماً جديداً مختلفاً كلياً عما
هو سائد. وأنا، من جهتي، أسير في هذا الاتجاه.
أنا أرى إلى الشعر العربي من هذه الزاوية. وجود وجهة أو تيار
معني أكثر بالعالم الذي سميته مرئياً (وقد
نختلف على هذه التسمية)، ألم يجعلك تنتبه أكثر
إلى هذا المكان في العالم، في الحياة، في شعرك
نفسه؟ شعرياً،
المهم، أولاً، كيف ترى، وليس مجرد أن ترى. ولا
أظن أنني تخليت كثيراً عن المرئي، لأني حين
أقرأ شعري، حتى من أغاني مهيار الدمشقي وقصائد
أولى وأوراق في الريح، أجد أن كل هذا
الشعر قائم على المرئيات؛ لكن نظرتي إلى هذه
المرئيات مختلفة، بمعنى أنها ليست وصفية.
وأنا ميال إلى الشعر الذي يخترق المرئي
عمودياً، ويُخَلْخِلُه، ويقدم شيئاً مختلفاً. هذا يجعلنا ننتقل
إلى علاقتك بالأجيال التالية – ولن أسميها
"جديدة" لأنها لم تعد كذلك – هل تلاحظ
مثلي أن الشعر الموزون متدهور إلى حدٍّ بعيد
في الأجيال التالية؟ جداً. هل لهذا دلالة
عندك؟ طبعاً له
دلالة. أولاً، لا أحد يمتلك حقاً، بشكل كياني،
معرفةَ الوزن العربي وموسيقاه. فكيف يمكن ألا
يكون الشعر الموزون الراهن متدهوراً؟ كيف
يمكن أن نخلق إيقاعات جديدة بلغة لا نعرف
موسيقيَّتها، وعناصرها، وتاريخها الفني
الجمالي؟ كمياً، على سبيل المثال، قُلِّصت
الإيقاعات الشعرية العربية إلى أربعة أو خمسة
أوزان، وأُهمِلَت أكثر من عشرة. ألم يكن
حَرِياً بالحداثة الشعرية، مثلاً، أن تُغْني
الموسيقى الشعرية العربية، بدلاً من أن
تُفقِرَها؟ هذه مسألة للبحث. ولماذا ننسى أن
هناك أشخاصاً، يجايلونني ويجايلونك ويجايلون
الأصغر منا سناً، يكتبون شعراً بالتفعيلة
الخليلية، ولا يقلون أهمية عن الشعراء الذين
يكتبون قصيدة النثر؟ الأجيال
التالية أدونيس، بدا لي
دائماً أنه ليس عندك تقدير كبير للشاعر الذي
جاء بعدك من الأجيال التالية... اسمح لي
بأن أقول أن انطباعك هذا خاطئ تماماً. فإذا
كان هناك شاعر، بعد يوسف الخال، امتدح
الشعراء الذين أتوا بعده، واحتضنهم ونشر لهم،
فهو أنا. ولقد أنشأت مجلة مواقف للتبشير
بالشعراء الشبان. ومعظم الذين رسخوا في
كتاباتهم، حتى الآن، مروا فيها؛ وبعضُهم بدأ
بها وفيها. لا شك برعايتك
للشعراء الشبان. لكن الآن يبدو لي كأنك لا
تشعر بأن هذا الشعر مهم. فهل هذا صحيح؟ – وهذا
ليس اتهاماً أبداً. على العكس.
الشعر في العالم كلِّه اليوم لا أشعر أنه مهم
– وليس لأني أحس بأن الشعر العربي غير مهم.
فإذا كنت لا أتكلم باستمرار على الشعر العربي
الذي أشرتَ إليه فلأني أعتبر أني تكلمت عليه،
وعملت من أجله، بما فيه الكفاية، وأوضحت أن
هذا الشعر هو شعرنا وشعر مستقبلنا. لكن إذا
وضعناه في إطار الشعر الذي يُكتَب اليوم فأنا
أعتقد أن الشعر اليوم في نكسة في العالم كلِّه.
وأنا لست ضده إطلاقاً، بل أحبه. يكفي أن أحبك
أنت وبعضاً آخرين. الحب ليس للكم، بل للنوع.
فهناك اليوم نوعٌ من التعبير بالشعر وبالنثر
أعتقد أنه هو شعرنا – وهو شعر مهم؛ وهذا ما
قلته وأكرره مرات ومرات. لكن، بشكل عام، الشعر
اليوم غائب في العالم كلِّه، وليس عند العرب
وحدهم. ليس هناك من شعر اليوم يمكن أن تقرأه
ويعطيك شيئاً لا تعرفه، أو يطرح عليك أسئلة
ويفاجئك، أو يفتح لك أفقاً جمالياً ومعرفياً
جديداً. لبنان
الجنسية، لبنان الشعر أستطرد لأسألك عن
تقديرك للشعر اللبناني الراهن – وأنا أعتبرك
شاعراً لبنانياً، شئت أو لم تشأ! بعضهم في
الأوساط الشعرية والأدبية لا يعدُّني
لبنانياً. المهم هو ماذا أعد نفسي. ليس الخارج
هو ما يحدد انتماءك؛ إذ لا يكون الانتماء
بصكوك يوزعها أصحاب امتياز لمن يشاؤون. هذه
مسألة مدعاة للسخرية لأن لبنان هو أكثر من
جغرافيا. لبنان، كما أفهمه وأحبه، مشروع
إنساني وحضاري، وثقافة تفيض عن حدوده؛ أو
لأقل: هويَّته الإبداعية تتجاوز حدوده
السياسية–الجغرافية. ماذا يمكن
أن نستنتج لو تساءلنا: لماذا لم يشكك هؤلاء
أنفسهم بلبنانية يوسف الخال، مثلاً، وهو في
رأيي أكثر لبنانية من أي لبناني – بالمعنى
الثقافي الذي أشرت إليه – مع أنه، كما يعرف
الجميع، من أصل سوري؟ ويمكن أن أسمي أسماء
أخرى كثيرة، وفي مختلف الميادين – الآن،
وأمس، وقديماً. لكن، مرة ثانية، هذه مسألة
بائسة، وأعدها ضد لبنان في المقام الأول. رأيك في الشعراء
اللبنانيين ليس رأياً "آخر". وبهذا
المعنى أشعر بأنك لا تملك تقديراً عميقاً
للشعر اللبناني. ليست
المسألة على هذا النحو. وربما لا تقصد بسؤالك
إلا الشعر اللبناني الراهن. ثم إنني لا أعتقد
بوجود كتلة موحدة واحدة اسمها الشعر اللبناني
أو المصري أو العراقي أو ما أشبه. هناك شعر
عربي، بلغة عربية واحدة، وشعراء ينتمون إلى
هذا البلد العربي أو ذاك. في كل حال، أقول إن
معظم الشعراء اللبنانيين – وأنت في مقدمتهم
– تربطني بهم علاقات شعرية وصداقية
وإنسانية، وأكنُّ لعدد منهم تقديراً كبيراً. غير أنني،
على صعيد التقويم، أتحفظ كثيراً. ذلك أن
العالم الذي يسير فيه الشعر في لبنان، وفي
البلدان العربية بعامة، ليس عالمياً. وطبيعي
أن لكلٍّ حريته في اختيار الطريق التي يشاء.
شواغلي الفنية والفكرية آخذة بالاختلاف،
جذرياً وكلياً، عن شواغل معظم الشعراء في
لبنان – ومن هنا يجيء تحفُّظي. فأنا أخشى في
الكلام عليهم، بسبب اختلافاتنا هذه على جميع
المستويات، ألا أكون عادلاً، أو ألا أكون
موضوعياً. بالعودة إلى الكتاب،
هل ترى أن الكتاب من زاوية شعرية هو أيضاً نوع
من خلاصة شعرية لك. فأنا أحس بأن كل شعرك
موجود، بدرجة أو بأخرى، في مراحل مختلفة في
هذا الكتاب – حتى إني أرى أن كثيراً من
شعرك الوزني وشعرك النثري موجود في هذا الكتاب.
هل هناك شيء من هذا؟ لا أعتقد
أن كتاباً شعرياً يلخص كتباً سابقة. وعلى
الرغم من حضور شواغل مستمرة في أعمالي، كما هو
الشأن بالنسبة إلى أي شاعر، فإن كل كتاب يبقى
لحظة متميزة. وفي ظني أن الكتاب هو، بين
كتبي، الأكثر شمولاً والأكثر نضجاً. في هذا الكتاب
الضخم الذي أصبح حتى الآن مكتوباً فيه حوالي
ألف ومئتي صفحة، تُطرَح مشكلة البناء. كيف
يمكن أن ترى بناء هذا النص. والشكل – كيف يمكن
لهذا الكتاب أن يملك شكلاً؟ كيف تتصور معمار
هذا النص؟ هو، كما
يبدو لي، أمواج متلاحقة في محيط واحد. ربما
تبدو في القراءة السريعة رتيبة؛ لكن بقدر ما
تبدو ظاهرياً كذلك، فإنها تخبِّئ تنوعاً
كبيراً، بحيث إنه ليس من الممكن أن نجد موجة
تشبه الأخرى – فيما إذا قُرِأَ بدقة وبعمق –
خصوصاً أن هناك تعددية شكلية: نص موزون، نص
منثور، شذرة موزونة أو منثورة، نص سردي، إلخ،
بتكوينات متداخلة أو متوازية، في مزيج ضخم من
أشياء العالم وأشياء الذات، أشياء التاريخ
وأشياء السياسة، إلخ. ولا أتحدث عن التقنية
الشعرية، مع هذا كلِّه. ما هو المجلد
الثالث؟ الجزء
الثالث هو الذي سيكشف هوية الكتاب
الحقيقية – لا هويته على صعيد الرؤيا والفكر
والعلاقة بالتاريخ، وإنما هويَّته على
الصعيد التشكيلي وعلى الصعيد الفني. وقد يكون
هذا الجزء أهم جزء. هل اشتغلت على شيء
منه؟ نعم،
أشتغل فيه، وأرجو أن أنتهي منه بسرعة ليكتمل الكتاب. هل هذا – كما أعرف
– آخر ما تكتب شعراً؟ ربما. إذا
كان النثر لا يُعَدُّ شعراً، أظن أن الشعر لا
يُهجَر، لا يمكن التخلِّي عنه. لكن لدي
مشروعات نثرية عديدة، بدأتُ بعضَها ولم أستطع
أن أكمله. لذلك سأخصص معظم وقتي لإنهاء هذه
المشروعات. أما الشعر فيقتحم بابك – ولو
أغلقتَه وتحصَّنتَ وراءه – كلما شاء، وحينما
يشاء. كيف تكتب كتاباً
ضخماً من هذا النوع؟ بأي تواتر؟ كم ساعة في
اليوم؟ أشتغل
وأكتب كما أقرأ وكما أحلم، وكما أفكر وأتنفس. هل خططتَ للعمل
قبلاً، أي أتيت بالاستشهادات والوقائع
والأشياء التي أردت التكلم عليها؟ هل تم
التخطيط لها من قبل، أم تفعل ذلك في أثناء
الكتابة؟ قسم منه تم
التخطيط له مسبقاً، وخصوصاً الوقائع؛ لكن ليس
في الأمور الأخرى التي تكون بدون تخطيط. هل تنكسر خطةٌ ما
عادة؟ نعم،
تنكسر وتتغير وتُقلَب... هل تكتب لساعات
متواصلة، أم في أوقات محددة من أجل إنهاء الكتاب؟ ليس هناك
من ساعات محددة. لكن أحياناً تمر أيام عديدة
لا تتسنى لي فيها كتابة حرف؛ وأحياناً أكتب
عشر ساعات في اليوم الواحد. وتستطيع ذلك؟ ألا
يرهقك ذلك؟ أبداً.
وليس عندي نظام في الكتابة. وأكثر ما أكتبه هو
في المقاهي، وليس وراء طاولة. أو أكتب وأنا
مستلقٍ (مثلك الآن) – ولم أكتب قصيدة في عمري
وأنا وراء الطاولة. ينبغي أن أكون خارج النظام
لأكتب شعراً. *** *** *** أجرى الحوار: عباس بيضون *
كل الامتنان للصديق جبران سعد على تزويدنا
بنص هذه المقابلة الهامة (المنشورة أصلاً
في السفير الثقافي، العدد 8011، الجمعة 5
حزيران 1998) من أرشيفه الشخصي، بما يضعها في
متناول المهتمين بالشعر الرفيع، وبالإبداع
إجمالاً. (أسرة التحرير)
|
|
|