منطق المعرفة

 

موسى ديب الخوري

 

كلَّما أمعنَّا في التحليل نقص فهمُنا.

كريشنامورتي

العارف لا يتكلَّم، والمتكلِّم لا يعرف.

لاوتسو

العارف وما يعرفه واحد.

إكهرت

 

1

جُبِلَ الإنسان من طينة نادرة حقاً؛ أو فلنقلْ إنه عُجِنَ بخميرة نادرة، هي طاقة الوعي والمعرفة! غير أن هذا العجين لمَّا يختمر بعد، وهذه الطاقة لمَّا تتفتح، ولمَّا تتحقق بكمالها كلِّه. ويُعَدُّ بحثُنا عن شكل نهائي للمعرفة دليلاً واضحاً على أننا لا نزال أطفالاً نحبو، وعلى أننا لمَّا نستطع بعدُ الوقوفَ على أرجلنا والمشي بثبات على أرض الحقيقة.

ولكن... ألا نستطيع أن نلمح منذ الآن – لو شئنا –، أياً كان الشكل النهائي للمعرفة الكاملة، الخطَّ الفريد الذي رسمتْه البشرية في مسيرتها باتجاهها؟ وإذا كانت هذه المعرفة لانهائية وغير محدودة بشكل أو بتصور ما أفلا نستطيع، مع ذلك، أن نرى إلى تلك الخطوط الفريدة وهي تشكِّل، عبر مسيرة الإنسان التطورية، شبكة لا حدود لها من الإمكانات المعرفية الكامنة والآخذة بالتفتح؟

مما لا شك فيه أنني لا أرمي إلى عرض المعايير المتفاوتة التي يعتمدها الإنسان في تفسيره للظاهرات. كما أنني لا أقصد بشبكة الإمكانات اللانهائية للمعرفة ذلك الحدَّ الأخير الذي يقف بعضهم عنده، ظناً أن لا معرفة واحدة، بل تصوراتٌ معرفية بقدر عدد البشر. بل إنني في الحقيقة أبحث عن تلك الوحدة الخفية المنبثَّة في كافة خطوط الشبكة ومساراتها، وأحاول أن أسبر صورتها الملموسة في عالمنا الواقعي، وليس تصورها الذهني الذي يحتمل – ولا شك – تفسيرات كثيرة بعدد الخصوصيات والتجارب العقلية للبشر.

بلى، إننا نستطيع بالتأكيد أن نلمح تلك الخطوط، بل وأن نرسمها ونصفها بأشكالها المتعددة. ولعل هذه المهمة منوطة بعقلنا القادر على تمثُّل التنوع وعلى وصفه. وفي الحقيقة فإن إبداعات العقل كلها تنصبُّ في هذا الإطار؛ ونراه اليوم لا يترك فرصة إلا ويستغلها لتأكيد مقدرته هذه. وتشكل استنباطات العقل، دون شك، إحدى طرق تعاملنا مع الطبيعة. لكن السؤال الهام المطروح هنا يتعلق بالفرصة التي يمنحنا إياها العقل لكي ندرك جوهر التنوع.

*

"منطق المعرفة" ليس سوى عنوان فكرة طالما استبدَّت بي؛ وهي تتلخص بأنْ لا منطق للمعرفة! – أي بأنه ليس ثَمَّ منهج معرفي يمكن أن يقودنا إلى الحقيقة، أو بحسب تعبير كريشنامورتي، بأن "الحقيقة بلاد لا طرق فيها"! لكن علينا ألا نتسرع فنفهم هذه العبارة فهماً سلبياً؛ فهي لا تدعونا إلى التقاعس عن المعرفة، بل تضعنا وجهاً لوجه مع تلك الوحدة الخفية. إننا لسنا جزءاً منفصلاً عن الحقيقة؛ ولكي نراها "علينا أن نراها الآن وفوراً" (كما يقول كريشنامورتي أيضاً)، وأن نعرفها كاملة غير مجتزأة. فإذا لم نرَ الحقيقة في اللحظة الحاضرة لن نستطيع رؤيتها مستقبلاً أو استنباطها من الماضي. إن الـ"قبل" والـ"بعد" يوافقان تماماً منطقنا العقلي وبحثنا القائم على التصور؛ أما الـ"آن" فهو يصهرنا كلياً مع الكلِّ في بوتقة واحدة، خارج حدود أي تصور. ومما لا شك فيه أن هذا "اللامنطق" هو، بشكل أو بآخر، منطق، على الرغم من أن عقلنا قد لا يقبل به. وفي واقع الأمر أن عقلنا لا يقبل شيئاً قبولاً نهائياً؛ وهو أيضاً لا يرفض شيئاً رفضاً مطلقاً. وإذا أمعنا النظر قليلاً أدركنا أن العقل يتعامل مع إمكانات، لا مع حقائق واقعية. لكن للأمر وجهاً آخر، لو شئنا لرأيناه بمجرد قبولنا بإمكان وجود طاقة عارفة في الإنسان غير عقله! ولعل طاقة العقل نفسها ليست إلا انعكاساً لهذه الطاقة.

غير أن للعقل دوراً هاماً وأساسياً دون شك في فهم الإنسان للطبيعة ولنفسه. فلا ننكرنَّ عليه وظيفته الثنائية الجانب في دراسة ومراقبة الظاهرة ومحاولة تفسيرها، وفي طرح التصورات ومحاولة إثباتها. إن طاقة العقل تفعل في مجال الظاهرات، أو العلاقات القائمة بين مختلف الكيانات والكائنات. ومن هنا تتخذ هذه الطاقة لنفسها مناهج مستمدة من قوانين الطبيعة نفسها، وبذلك تستطيع مسايرة التشعبات اللانهائية للسيرورات الطبيعية. لكن العقل نفسه يستطيع، وسط هذا التعدد والتنوع، تلمُّس وحدة خفية هي التي تحرِّض هذه التشعبات وتغنيها. وليس أدل على ذلك من بحث الإنسان، منذ العصور القديمة، على أشكال هذه الوحدة، ومن محاولاته اليوم توحيد مختلف صورها القائمة في كافة مجالات الفكر والعلم والفن. كذا فإننا نلمس دوراً موازياً للعقل، دوراً قلما نعيره أهمية تُذكَر، ألا وهو تمثُّل فعل طاقة هذه الوحدة، ورسم المنحنيات الواضحة لكموناتها ولتفتحاتها، والمساعدة، بالتالي ،على دراسة أهم نقاط تجلِّياتها في الفرد والمجتمع، خلال التاريخ الطويل للوعي وللاوعي على كرتنا الأرضية.

ومع أن هذا الدور الموازي للعقل يشير إلى مقدرة أعمق على الفهم، إلا أنه يظل مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالظاهرة وبما تكشفه. ولعل ما تتكشَّف عنه الظاهرة في لحظات خاطفة بالنسبة للعقل، ندعوها لحظات الحدس أو الإبداع، تشير إلى إمكانية أعظم للعقل قد يكون بالإمكان تنميتها وتطويرها. ولا بدَّ لنا هنا من التمييز بين الفهم العقلي للظاهرة والمعرفة الأعمق لها؛ فالمعرفة لا تتعلق بالظاهرة بالدرجة الأولى، بل بالجوهر الذي نجمت عنه هذه الظاهرة. وفي حين يعمد العقل، ممثَّلاً له بالمنهج العلمي، إلى تحليل الظاهرة ودراستها واستخلاص القوانين العامة منها، تهتم المعرفة بالوحدة المطلقة الكامنة في مجموع الظاهرات، وتلجأ إلى تنحية كل القشور (التصورات) التي تغلِّف هذه الوحدة لتكشف عن الجوهر بشكل مباشر. بكلمة أخرى، لا يمكن لأية معرفة أن تتحقق بالاعتماد على أي منهج عقلي، نظرياً كان أم تطبيقياً. فأية ظاهرة ندرسها لا بدَّ أن تقودنا إلى نظرية ترتكز على مقدمات وعلى تصورات قبْلية a priori تتضمن بالضرورة النتائج التي سنصل إليها فيما بعد. بل إننا بمجرد قولنا "نريد أن نعرف الحقيقة"، بكل ما في ذلك من إطلاق، نحدد هذه المعرفة، وبالتالي النتيجة التي نريد التوصل إليها سلفاً. وإذا تأملنا هذا القول بإمعان، رأينا أننا نضع فعلاً تصوراً قبْلياً للمعرفة، وإن كان مبهماً، ونحاول إكسابَه الصورةَ التي نراها مناسبة بحسب طريقة تفكيرنا. فبنية عقلنا نفسها وبنية تفكيرنا ترتكزان على المنطق السببي؛ ولهذا فإن أية بذرة نبذرها في حقل العقل ستثمر من نوعها، وأي تصور نزرعه فيه سيُنبت نظرية موافقة له ومتضمنة فيه.

كذا فإن علومنا الحديثة تتقدم باستمرار، وتتعرف يوماً بعد يوم على قوانين طبيعية جديدة، لكنها تُبنى في الجوهر على مفاهيم وتصورات غير محددة ولا يمكن التحدث عنها في الصميم. ما الكتلة؟ ما الشحنة؟ ما الطاقة؟ ما الزمن؟ ما الحياة؟ ما الدفق؟... إنْ هي إلا مفاهيم نحاول، من خلال بناء شبكة لا تنفك تتسع وتتعقد، شرحها وتعريفها والتوصل إلى مضمونها، إنما دون جدوى!

ولا يغرنَّنا ما يتوصل إليه علمُنا اليوم من إنجازات تطبيقية. ذلك أنه كان لا بدَّ للإنسان من الوصول إلى هذه الإنجازات على مرِّ العصور. والدراسة المعمقة للتاريخ تؤكد لنا المقدرات المتنامية للبشر في كافة المجالات، وقدرتهم على استخلاص آليات معقدة من الطبيعة نفسها بشكل مستمر، وعلى تطوير تقنيات بسيطة إلى درجات كبرى. سوف نعود إلى هذه النقطة لاحقاً لأنها تتعلق بصميم موضوع المعرفة الإنسانية؛ إنما يهمنا الآن التأكيد على أن علومنا ليست علوماً معرفية، وذلك لأنها تتعلق بالظاهرات وليس بالجوهر. وربما كان أسمى ما بلغه العلم هو محاولاته (التي لا تخلو من التأمل الفلسفي ومن التصورات المسبقة) لتوحيد النظريات. ولكن حتى هذا التوحيد – لو تمَّ – سيتضمن مفاهيم غير محددة بالتأكيد. ومن جهة أخرى، فإن تحقيق معرفة شاملة لا يمكن أن يتمَّ من خلال معرفة الأجزاء، حتى لو درسنا الأجزاء اللانهائية كلَّها. وخبراتنا العقلية تؤكد هذه المقولة تأكيداً تاماً.

إن منطق المعرفة يعتمد على إلغاء كل تصور وإدراك مسبقين، ثم على حذف كل تصور وإدراك ناتجين! وبعبارة أخرى، فإن هذا المنطق يقودنا إلى إسقاط كافة تصوراتنا عن الموضوع، ثم إلى تجريد الموضوع نفسه من كافة أشكاله المتنوعة. وهكذا فإنه يعمد، بشكل غير ملحوظ للوهلة الأولى، إلى إسقاط كافة إشراطاتنا المسبقة، مما يؤدي إلى الكشف عن الحقيقة فينا. وهكذا تنعكس كل معرفة حقيقية في معرفة النفس.

*

ثمة أسئلة لا تحتمل طبيعتُها إجاباتٍ كاملة. من هذه الأسئلة سؤال لطالما طرحتُه على نفسي، ولطالما وجدتُ صعوبة حتى في إيجاد إجابة جزئية عليه. وهذا السؤال يتعلق بقدرتي كفرد على معرفة الحقيقة كاملة. إلا أن الإجابة الجزئية هذه كانت تأتيني إيجابية باستمرار. فعلى مستوى العلم كان الإبداع الفردي هو قائد مسيرة التقدم – وإن جاء تتويجاً لجهود جماعة من العلماء في معظم الأحيان. وفي نطاق الفلسفة، كان تعميق الأسئلة وطرح الحلول المناسبة منوطاً دائماً بالمقدرات الفردية على إدراك الأمور بأشكال جديدة. أما مدارس الحكمة القديمة، فقد فاجأتني بدورها بتركيزها على النخبة القليلة، وبتأكيدها على أن الذين يبلغون المعرفة الكاملة هم الصفوة النادرة! وأما مجالات الفنون، فقد كانت دوماً تعبيراً مجسِّداً للإبداع الفردي. ولما كنت ممَّن لا يحب التشبث بأفكاره وبتصوراته المسبقة فقد ركنتُ على مضض إلى المقدرة الفردية. إلا أن شعوراً عميقاً فيَّ ظل يشدني إلى الفعل الجماعي والطاقة الجماعية بخيط خفي.

وهكذا ظل صدى هذا السؤال يترجَّع في عقلي بين الحين والآخر، طارحاً بأشكال مختلفة مسألة العلاقة المعرفية بين الفرد والمجتمع. ترى، لو أن إنساناً عرف الحقيقة وباح بها للناس، كيف سيكون ردُّ فعلهم، وماذا ستكون الخطوة التالية؟ وكان الجواب يأتيني دائماً على الشكل التالي: "لو قُدِّمَت الحقيقةُ للإنسان كاملة، لما قبلها ولما اعتنقها، ولعمل على دحضها وتكذيبها." ألا نلمس ذلك حقاً من تجاربنا وخبراتنا الذاتية؟ بلى. فكثيراً ما نرفض شيئاً لأنه يبدو غريباً عنا ليس إلا، أو لأنه لا يوافق مشاعرنا، أو لأنه يعارض تصوراتنا، أو لأسباب أخرى كثيرة.

إلا أن إيماني بقدرة الجماعة سرعان ما أخذ يتعزز من خلال خبرات مختلفة، إضافة إلى وقائع ما كان بإمكاني تجاهلها، دعمتْها اطِّلاعاتي التاريخية، الآثارية منها بشكل خاص. ولعل أهم هذه الوقائع ما يتعلق منها بمسألة التعبير عن المعرفة. فتحقيق الفرد للمعرفة قد يعني عدم قدرته على نقلها للآخرين. ومن جهة أخرى، على افتراض أننا سلَّمنا بقدرة الإنسان العارف على التعبير عن الحقيقة، فإن مقدرة الآخرين على تقبُّلها لا تزال ناقصة، وإشراطاتِهم النفسية والفكرية لا تزال تصدهم عنها. من هنا، لا بدَّ لنا من الاعتراف بخطٍّ جماعي، كلِّياني holistic، ضمن النسيج المعرفي، خطٍّ يفيد من المعرفة الخاصة بطريقة لا نزال نجهلها، لكنه يتألف، بشكل أساسي، من مجموعة هائلة من الخيوط والجدائل التي تمثل خبرات الإنسان المتراكمة حتى اللحظة الحاضرة. وبصورة أخرى، فإنه يبدو أن أيَّ إبداع فردي هو في جوهره، وبالدرجة الأولى، من نسيج الجماعة المحيطة بالفرد، ومن تراكم السيرورات الاجتماعية والعقلية والنفسية في هذا الفرد، إضافة إلى مجهوده الخاص وأسلوبه المميز بالتأكيد في بلورة وصياغة هذه الصيرورة الكلِّية. من هنا، يبدو أن دور الفرد دور أصيل بقدر أصالة دور الجماعة. ولعل دراسة العصور التاريخية الموغلة في القدم تقدم لنا خير دليل على هذه المقولة.

لكنني أحب، قبل الولوج إلى عالم الماضي، أن أشدد على نقطة هامة سبق وألمحت إليها؛ وهي تتلخص في أن الإنجازات الإنسانية، الفردية منها والجماعية، ليست بالضرورة إنجازات معرفية. أي أننا لا نخطو بالضرورة قُدُماً على درب المعرفة عندما نتوصل إلى اختراع ما. فالتكنولوجيا أو اختراع الأداة ليس الهدف الجوهري للمعرفة. ولعل أهمية اختراع تكنولوجيا ما تكمن في العامل النفسي والفكري والاجتماعي الذي تُمِدُّنا به هذه التكنولوجيا، بالإضافة إلى التجربة النفسية–التطورية التي مررنا بها حتى توصلنا إلى إنجازنا هذا؛ ومن بعدُ في التجربة التي سنخوضها بعد لتعميم هذا الإنجاز. إننا نلاحظ دون شك أن نتائج هذا الاختراع هي نتائج جماعية في النهاية. وفي صلب الحقيقة أن ذلك ينطبق على مجمل اختراعاتنا وعلومنا وفلسفاتنا وثقافاتنا؛ فأهميتها الحقيقية تكمن في المخاض الذي أفضى إليها، وليس في نتائجها المباشرة. ولهذا ليس عيباً أن يؤمن الإنسان بالعقل، أو بالمادية، أو بالعلم، أو بأي منهج فكري، ما دام ذلك يندرج ضمن سلسلة تجربته التاريخية والتطورية؛ لكن من غير المقبول على الإطلاق أن يتنكَّر الإنسان لماضيه، فتغرُّه بعض الإنجازات الحاضرة وتُقعِده عن متابعة بحثه بإخلاص، فيكبت شعوره الداخلي وحاجاته المعرفية، معوِّضاً عنها بنزواته وبرعونته في استنزاف موارد الطبيعة ومواهبه الإبداعية على حدٍّ سواء.

*

تقدم لنا التجربة البشرية، عبر تاريخها الطويل، صورة رائعة لتمثُّل هذه المعرفة التطورية عبر ولادتها ونموِّها. فلقد ترافق التطور الإنساني إبان آلاف السنين بنمو المعرفة وبتفتحها. وكانت المعرفة دوماً سيرورة ديناميَّة تنعكس على الفرد وعلى الجماعة، وتتجلَّى من خلال سلوك الإنسان وأدواته وفنونه إلخ. ولهذا، فنحن لا نشك مطلقاً بأن هذه المعرفة لم تكن معرفة عقلية واعية؛ فهي لم تكن قادرة على محاكمة نفسها، لكنها كانت قادرة على التعبير عن تطور أصيل في مجالات شتى. مثال ذلك اللوحات الرائعة التي وُجِدَت على جدران المغائر في عدة مواقع ما قبل تاريخية في أوروبا ترجع إلى ما يزيد عن 15000 سنة؛ ففي ذلك العصر السحيق توصل الإنسان إلى الرسم بأسلوب فني متميز، وكان لا يزال يطارد الحيوانات ويصيدها ويلتقط الثمار ويعيش ضمن جماعات بسيطة. وقد ترك لنا مشاهد رائعة، محمَّلة بعبق شعوره بالطبيعة وبالحياة، وبذلك الإحساس الدفين في صدره بأنه يحمل في أعماقه مقدرات كبرى وطاقات عظمى. أما اليوم، فإننا نستطيع دراسة جداريات هذا الإنسان القديم، لا بل وتحليل أبعادها الفنية والنفسية؛ لكنْ تغيب عن ذهننا ضرورةُ أن نرى فيها إفصاحاً كاملاً عن معرفة قصوى حققها ذلك الإنسان، معرفة لا تقل أبداً عما نلمسه اليوم في الكثير من معارفنا الفنية. وإذا تأملنا بدقة بعض التماثيل الطينية الصغيرة المكتشفة حديثاً في فيستونيتشه Vestonice في تشيكوسلوفاكيا التي ترجع إلى نحو 30000 سنة ق م فإننا سنعجز عن وصف ذلك الكمال في التعبير الفني الذي بلغه "فجأة" ذلك الإنسان "البدائي"، كما يحلو لنا أن نسميه. ولو عرضنا هذه الآثار على ناقد فني من نقاد الحداثة لراح دون شك يُعمِل فيها مبضَعه الغليظ تشريحاً وتفصيلاً، مستخدماً أرقى ما توصل إليه من مصطلحات ومفاهيم فنية. لكن هذا الناقد لن يستطيع أبداً، ولا بأية حال من الأحوال، سبرَ هذا العمق الأصيل وإدراك أن ذلك الإنسان القديم حقق معرفة متفوقة لا نستطيع قياسها بمعاييرنا الحالية.

*

ظهر النوع البشري، بحسب الأبحاث الباليونتولوجية والآثارية، في أفريقيا قبل نحو ثلاثة ملايين سنة. وتدل الأبحاث والاكتشافات الحديثة التي تمت في المغرب وفي إثيوبيا وفي مناطق أخرى من أفريقيا أن جذور هذا الإنسان ترجع إلى ملايين السنين، عندما كان لا يزال كائناً محدود الذكاء بفطرته وبغرائزه الكامنة. ومنذ نحو مليوني سنة أخذ هذا الكائن يتطور في مناطق مختلفة من أفريقيا وينتشر فيها ويعبرها إلى آسيا وأوروبا. ومع أن هذا الإنسان لم يعبر إلى القارة الأمريكية إلا منذ نحو 30000 سنة فقط إلا أن آثاره في أوروبا وآسيا ترجع إلى أكثر من مليون سنة. وعلى الرغم من وجود حلقات ضائعة كثيرة في سلسلة تطور الإنسان القديم وانتشاره، لكنها لم تعد تشكل عائقاً أمام العلماء حين يشرعون برسم المخطط العام لهذا التطور ولهذا الانتشار.

كذا فقد بات بإمكاننا رسم إطار عام لحياة الإنسان القديم في العصور الباليوليثية. ولئن كان من الصعب تحديد البنية الاجتماعية والاقتصادية لمجتمعات تلك العصور بشكل دقيق إلا أن الخطوط الرئيسية بدأت تتجمع لدينا من خلال تجميع كافة المعطيات التي تقدِّمها لنا مختلف العلوم. لقد عاش إنسان الباليوليثي paléolithique (أي العصر الحجري القديم) الأدنى، الموسوم بـ"الإنسان المنتصب" Homo erectus على الموارد الطبيعية المتوفرة في مناطق وجوده، فاقتات على النباتات البرية التي كان يجمعها غالباً بيديه، وصاد مختلف أنواع الحيوانات، ومن بينها الفيل والماموث وحيوانات أخرى كبيرة. ومع الزمن، طوَّر هذا الصياد أدواتِه وتقنياتِه حتى تمكن من قتل حيوانات شرسة، كالحصان البري ودب المغائر والفيل وحمار الوحش. بل إنه أخذ يهاجم القطعان وينصب لها الفخاخ ويحاصرها. وتعلم شيئاً فشيئاً سلخ جلود الحيوانات وكشطها وتنظيفها، وشيَّ الطعام، واستخدام العظام إلى جانب الحجارة والخشب في صنع أدواته. وكانت النقلة الكبيرة التي قام بها تتمثل في تخليه عن الكهوف وعن الملاجئ وفي تحرره من خوفه من العراء خلال الباليوليثي الأوسط والأعلى؛ فبنى أكواخه من الحجارة والأغصان والجلود في مناطق مكشوفة قرب الأنهار أو في المواقع التي تكثر فيها الطرائد والنباتات البرية.

إننا لا نستطيع المرور بسهولة وببساطة على هذه العصور الطويلة دون أن نقف ونتأمل هذا التطور البطيء، وانعكاساته الاجتماعية والروحية، والمراحل الطويلة والغنية التي استغرقت الإنسان حتى بلغ عتبة مرحلة جديدة. ومع أننا لا نستطيع إيجاز هذه التطورات البطيئة التي حدثت قبل عشرات آلاف السنين – ومجرد استعراضها يتطلب العديد من المجلدات – لكننا نستطيع التأكيد على الجانب الداخلي لها. كان هذا الإنسان "البدائي"، الذي يتأهب للانتقال إلى مرحلة الباليوليثي الأعلى، يراكِم خبرات أسلافه البسيطة والمتواضعة، إنما العظيمة الأهمية بالنسبة له، لكي يضيف إليها شيئاً بسيطاً وجديداً. كان، مثلاً، قد تعلَّم نحت الصوان بأسلوب معين؛ لكن هو ذا يتعلَّم كيف يصقل هذا الأسلوب ويشذِّبه، فتصير الأداة أكثر فاعلية ومرونة بين يديه. بل إنه كان في كثير من الأحيان يطوِّر أسلوب النحت أو الأداة نفسها، أو يغير المادة الخام، فإذا به ينتج أداة ذات مواصفات جديدة. وكانت هذه الإضافة المبدعة تتراكم، بدورها، لتشكل مع غيرها نسيجاً تحوكه خيوطٌ غزلتْها التجاربُ الكثيرة الكثيرة، وجَدَلَتْها تلمُّسات واختبارات على مرِّ العصور لا تحصى. ولم يكن هذا الإنسان، الذي عاش في ظروف صعبة، ليفكر في مستقبله البعيد، أو في ابتكار أشياء جديدة كل الجدَّة. فكل ما كان ينجزه كان وليد تماسه المباشر مع الطبيعة. إلا أنه لم يكن ليستطيع بعد تأمل الجمال الوحشي للطبيعة، أو الاستمتاع بالهدوء وبالسكون في أثناء راحته، ليلاحظ الظواهر المتعددة من حوله. بل لعله كان قادراً على ذلك؛ إلا أن مشاغله كانت كثيرة دائمة. وكان قلقاً لسبب يجهله، وكان قلقه هذا يحفزه للعمل باستمرار. كانت غريزته الطاغية – هذه الغريزة التي كانت تتمخض عن ثمرة جديدة تحمل بذور العاطفة والشعور والإدراك – تنهاه عن الاستسلام وعن التقاعس عن الاستمرار. إن غريزة البقاء التي كانت تدفعه دوماً إلى الأمام كانت تهبه، في المقابل، سروراً غامضاً عندما كان يتغلب على صعوبة ما تصادفه. ونحن لا نعرف بالضبط كيف كانت تتفاعل في داخله الأحداثُ الخارجية، إلا أنه كان قطعاً يشعر بها بطريقة ما؛ ولعله كان يشعر بها بعمق يوازي، لا بل يتفوق على عمق شعورنا بها، غير أنه لم يكن يعرف كيف يعبِّر عنها.

ومسألة التعبير هذه بالذات هي المنعطف الأساسي التي كان على الإنسان دائماً أن يعبره كلما حانت مرحلة تطورية جديدة. ولعل الحركات والأصوات كانت أولى تعبيراته وأهمها. لكننا لا نعرف عنها شيئاً اليوم. وعلى الرغم من صعوبة التأكد من مدى تطور لغات الجماعات القديمة، التي لم يكن يتجاوز عدد أفرادها عشرين شخصاً أو أقل أحياناً، فإن ثمة دلائل لدينا تشير إلى أن هذه الجماعات كانت تتكلم لغات أو لهجات صوتية كافية للتخاطب فيما بينها ولتبادل المعلومات. لكننا نشك بالطبع في أن تكون تلك اللغات قد بلغت مرحلة تغطي معها كافة الأمور المراد التعبير عنها في الحياة اليومية – هذا دون الإشارة إلى المفردات التي كانت تنقصها للتعبير عن المجرَّدات أو عن العواطف. إن إنجازات، كاللغة والفن والطقوس والمعتقدات وصناعة الأدوات، ما كانت لتتحقق خلال فترة بسيطة، بل كان يلزمها فعلاً هذا الاتساع الزمني لتنضج؛ وكان عامل الزمن هذا كفيلاً بالطبع بتحقيق التوازن المطلوب على كافة الأصعدة وخلال كافة المراحل.

خلال الباليوليثي الأوسط (الممتد بين نحو 100000 و 35000 سنة ق م) تابع الإنسان تطوره مع ظهور إنسان نياندرتال Homo sapiens neandertalensis. وقد تميزت هذه الفترة بتطوير كبير للأدوات الحجرية. فقد صنع إنسان نياندرتال الحرابَ ذات الأسنَّة الحجرية وصاد بها الحيوانات؛ كما استمر في الاعتماد على جمع والثمار وقطفها. لكن حياته أصبحت أكثر أماناً، وأصبح أكثر ثقة بنفسه، فأخذ يعتني بلباسه الذي بات يصنعه من الجلود. وقد عُثِرَ على مخارِز وإبَر تدل على أنه قد طور الثياب. ولعل أهم ما حققه إنسان نياندرتال كان التجانس الذي طوره عبر الاتصالات بين مختلف جماعات المنطقة الواحدة، وبخاصة في بلاد الشام. وإن لم تكن لدينا أدلة كافية على ممارسة هذا الإنسان للفن، أو لعبادة معينة، لكننا نملك إشارات كثيرة تدل على اهتماماته الواضحة بمجالات الفنون والدين.

ومع ظهور إنسان كرومانيون Cro-Magnion منذ نحو 35000 سنة، دخلت البشرية عصراً جديداً استمر حتى نحو 12000 سنة ق م وأطلِقَ عليه اسم الباليوليثي الأعلى. وقد ظهر خلاله "الإنسان العاقل" Homo sapiens sapiens الذي يعتقد علماء كثيرون أنه تطور عن الإنسان النياندرتالي الفلسطيني. وعلى الرغم من ظهور هذا الإنسان في بلاد الشام، لكنه هاجر لأسباب (يُرجَّح أنها بيئية) إلى أوروبا، حيث طور حضارة رفيعة ومتقدمة. وكانت أولى إنجازات هذا الإنسان ابتكارُه لأدوات حجرية متقنة وفعالة، كانت بينها رؤوس صوانية صنع منها حراباً للصيد وقذفها بالقوس على الأرجح، وليس باليد. وقد استخدم بكثرة المكاشط والأزاميل والمخارز والسكاكين الحجرية، كما أتقن تصنيع الأدوات العظمية، وبخاصة تلك التي صنعها من قرون الحيوانات. ومن أهم أدواته العظمية السنانير والخطافات والإبَر والمخارز. وظهر خلال هذا العصر نوع من التخصص في صيد الحيوانات؛ فصيدت الرنة في أوروبا، والبقر الوحشي في أفريقيا، والماعز البري في بلاد الشام، بينما تراجع الإقبال على حيوانات أخرى كانت مرغوبة في السابق، مثل الدب والحصان والماموث. وباتت الطيور والأسماك تلعب دوراً هاماً في الغذاء. وقد عاش إنسان هذا العصر في مواقع كثيرة في مساكن كبيرة بناها من الطين والحجارة والأغصان وفق أشكال بيضوية أو دائرية، فرصف أرضها بالحجارة، وجزَّأها في الداخل إلى غرف للنوم، لإلقاء الفضلات أو لصنع الأدوات؛ وقد زُوِّدَت هذه المساكن بالمواقد المنظمة، وكانت تعيش فيها عدة أسر. غير أن ذلك لم يمنع ولم يكفِ إنسان ذلك العصر من العيش في المغائر أو في الملاجئ تحت الصخرية التي رتَّبها وأضاءها بالسُّرُج المنارة بشحوم الحيوانات. أما أعظم إنجازات هذا العصر على الإطلاق فكانت الفنون، من رسم ونحت وحفر. وكان إنسان الباليوليثي الأعلى هو أول من عبر قارتي أمريكا وأستراليا، حيث أنشأ هناك حضارات أصيلة.

لقد أدى التطور البطيء والطبيعي للإنسان العاقل، الذي جرى على المستويين النفسي والعقلي، كما وعلى المستوى الفسيولوجي والمادي الخارجي، إلى ولادة مرحلة جديدة هي المرحلة النيوليثية néolithique (العصر الحجري الحديث)، هذا العصر الذي شكل قفزة رائعة على سلَّم التطور الإنساني. لقد تطلب الأمر نحو 2000 سنة من الإنسان العاقل لكي يتوصل إلى الزراعة؛ لكن الأمور ما لبثت أن تسارعت منذ ذلك الحين. كان الإنسان قد توصل إلى تعامُل متميز مع الطبيعة، وأصبح أكثر التصاقاً بها وفهماً لها، فتعلَّم الزراعة تدريجياً، ودجَّن العديد من الزروع، كما عرف تدجين الحيوانات وصناعة الفخار. وسرعان ما تطورت أدواتُه، وانتشرت بيوته، وظهرت أولى القرى الدائمة في مناطق الشرق الأدنى القديم. بل إن استقراره أمَّن له البحث عن موارد جديدة في الطبيعة؛ فما لبث أن اكتشف المعادن وتعلَّم التعدين. ولا شك أن هذه البيئة الآمنة والمستقرة نسبياً وفَّرت له إمكان تحقيق القفزة الجديدة، الانطلاقة الهائلة، التي أفضت به إلى رسم الأشكال بصور أقرب إلى التجريد منها إلى الواقعية. وكانت تلك هي حقاً بداية تعلُّم الإنسان للكتابة.

كانت المعرفة بالنسبة للكائن البشري، إبان تلك الأزمنة السحيقة، تتمثل في العيش المتناغم مع الطبيعة، بما يوفره له من فرص للتعلُّم وللتطور. ولا شك أن الدراسات المستقبلية – الآثارية منها والإثنوغرافية والإثنوأركيولوجية والأنثروبولوجية والباليولنتولوجية وغيرها – ستوسِّع معلوماتنا توسيعاً كبيراً. إلا أن ثمة فجوة قد لا نستطيع ردمها أبداً، لأنها تتعلق بطاقات الكائن الإنساني الأعمق وبوحدته مع الطبيعة. ولئن كانت مقدرات الإنسان قد تطورت ونمت خلال الباليوليثي الأعلى نمواً وتطوراً متوازنين لا يفسِّر ذلك هذه القفزة الهائلة في الفن وفي إدراك الطبيعة. ونحن لا نزال بعيدين جداً عن الصورة الشاملة التي قد لا تكتمل أبداً لهذا الإنسان؛ وتساؤلنا حول هذه التحولات الغامضة التي عانى منها على كافة المستويات الجسمانية والنفسانية سيظل دون إجابة كاملة. ذلك أن التطور الإنساني لا ينفصل عن التطور الطبيعي الكلِّي. ونحن، إلى اليوم، لا نعير هذه الناحية أية أهمية.

لقد وجدت آثار رائعة لجداريات على صخور المغائر، رسمها إنسان الباليوليثي الأعلى منذ أكثر من عشرين ألف سنة. ولدينا دلائل آثارية تشير إلى أن هذا الإنسان قد حاول العدَّ، بل مارسه بطريقة بدائية منذ الباليوليثي الأعلى. وكان قد بدأ بمراقبة القمر والشمس وبتحديد الأيام والشهور. وإن كنا لا نستطيع التكهن بحاجاته، ولا بالظروف الدقيقة التي كانت تدفعه إلى ذلك، لكننا نعلم أنه لم يكن قد أصبح مستعداً استعداداً كافياً لمتابعة هذه الملاحظات إلا بشكل بطيء ومتعثر. فمقدراته العقلية لم تكن قد بلغت بعد مستوى محاكمة هذه النتائج والملاحظات التي توصل إليها؛ بل إن إنجازاته كلها كانت تحقيقات طبيعية تتم فيه ومن خلاله في آن واحد. لكننا نفاجأ بعد ذلك بأنه استعاد كافة هذه المواهب والاستعدادات الأولية خلال تطوره المتسارع في العصر النيوليثي.

إن الإنسان القديم يعلِّمنا درساً قد نكون بأمس الحاجة إليه اليوم، نحن الذين نعدُّ أنفسنا أبناء العلم والفن والمدنية. ويتلخص هذا الدرس بعبارة بسيطة طالما رددها الحكماء: "لا تستعجلوا الأمور: كل شيء يكون في أوانه." لقد ظل الإنسان القديم على تماسٍ مباشر مع الطبيعة، وكان يتناغم معها بشكل عجيب. وما ذاك إلا لأنه ظل تلميذاً لها في كافة الأحوال. كان يتعلَّم منها دائماً، حتى في صراعه مع وحوشها ومع أنوائها ومع كوارثها، وكانت دائماً تغذي فيه القوة على الاستمرار. كذا كان الإنسان يعيش فيها كأي عنصر من عناصرها؛ وبذلك كان يتفوَّق في مدرستها.

يكشف لنا هذا العرض الموجز عن جماعية المعرفة، ضمن سياقها التطوري والطبيعي. ويبدو أن هذه الجماعية، أو الكيانية، تتعلق بديناميَّة طبيعية خفية عن أنظارنا؛ دينامية قادرة على تعميم المعلومات والإنجازات بين الشعوب، حتى وإن لم يكن ثَمَّ اتصال واضح فيما بينها؛ دينامية منطق طبيعي في المعرفة يرتكز على الوحدة الجوهرية وعلى الطاقة الكلِّية الفاعلة في الوجود.

إن التسلسل المتوازي للعصور ما قبل التاريخية في كافة مناطق العالم يُعَدُّ برهاناً حاسماً على هذه الدينامية. فلقد صنَّف علماء الآثار المراحل التطورية للإنسان القديم من خلال تطور أدواته الحجرية التي وجدوها في طبقات متناضدة فوق بعضها بعضاً. وعندما قارن هؤلاء العلماء بين السويَّات المتوازية زمنياً وستراتيغرافياً (أو طبقاتياً، من الستراتيغرافيا stratigraphie) وجدوا تشابهاً عظيماً في أساليب نحت الأدوات. وعلى الرغم من بعض الفروق ومن بعض الخصوصيات التابعة لموقع أو لمنطقة ما فإن العلماء لم يترددوا أبداً في إطلاق اسم موقع، في فرنسا مثلاً، على صناعة سادت قسماً كبيراً من أوروبا وآسيا وأفريقيا خلال فترة معينة. أما فيما يتعلق بالعصور ما قبل التاريخية الكبرى وتقسيماتها الأساسية فإنها تكاد تكون متطابقة في كافة أنحاء العالم. ولا يُعَدُّ اختلافٌ في بضعة آلاف سنة في بعض الأحيان دليلَ اختلاف جذري مادامت هذه الأحقاب تقاس بعشرات آلاف السنين وحسب. وإذا أردنا أن نعطي مثالاً واضحاً فإننا نشير إلى أن بداية عصر النـَّوْلـَثـَة* كان متوازياً في الشرق الأدنى وفي الصين وفي القارة الأمريكية. ومما لا شك فيه أن الثقافات التي تطورت في أمريكا منذ نحو 30000 سنة تطوراً منعزلاً عن ثقافات العالم القديم تمثل ما ندعوه بشاهد الاختبار في تجاربنا المخبرية. ولعل المثال الأكثر إثارة يتعلق بظهور أنظمة العدِّ وأولى أشكال الكتابة التصويرية في حضارات العالم القديم ظهوراً متزامناً إلى حدٍّ كبير. وإن كان المجال لا يتسع لنا للتفصيل في ذلك فإننا نكتفي بالإشارة إلى أن هذه البدايات كانت إنجازات جماعية دون شك، ولم نلحظ التأثير الفردي فيها إلا خلال فترة متأخرة.

ومع ظهور المدنيات الأولى كان الفكر قد تمايز ونضج، وكانت الجماعات الكبيرة نفسها قد تمايزت بنموها الديموغرافي من خلال كافة مظاهر ثقافاتها، وبخاصة من خلال لغاتها. وكان ذلك إيذاناً ببداية تأثير واضح للإبداع الفردي في المجتمع. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن الأسطورة نشأت في تلك العهود السحيقة من تزاوج الفردي والجمعي في المجتمعات. وكان ذلك تجلياً لتطور نفسي أعمق انعكس ليس فقط في الأسطورة والدين والفن والثقافة بكافة مظاهرها، بل وفي الرموز الجماعية التي اعتمدتْها الشعوب القديمة كأشكال تعبِّر عن مدلولات روحية عميقة. وفي الحقيقة، لم تكن هذه الرموز سوى تعبيرات عن الصورة النفسية التي كان يمكن للفرد أن يدركها في الجماعة، صورة الكل. ومثال ذلك مدلولات الأرقام التي أوْلَتْها كافة الشعوب القديمة أهمية خاصة؛ لكن من المذهل دون شك أن تتفق تلك الحضارات كلها على معانٍ خاصة بأرقام معينة. وكذلك هو الأمر بالنسبة لظهور المعابد وأنماطها، حيث نجد تصريحات واضحة في النصوص القديمة عن تطابق هندستها وبنائها مع الهيكل الإنساني والكوني. أما الأشكال الهرمية المختلفة فهي الأخرى صور رمزية في تلك الحضارات لمعنى يربط الإنسان بالطبيعة؛ وهي رموز أنجبتها الأسطورة الجماعية دون شك. ونجد هذه المعابد والأهرام في أمريكا الوسطى ومصر وبلاد الشام والرافدين والهضبة الإيرانية ووادي الهند وهضبة التيبت وأماكن أخرى من العالم. ولعل أكثر رموز هذه المعرفة شهرة هو رمز الصليب. فقد ظهر هذا الرمز في معظم الحضارات القديمة منذ العصر البرونزي على الأقل. ونجد الصليب المعقوف أو السفاستيكا swastika بكثرة في الفن السكندينافي القديم، كما وفي الفن الهندي القديم. وكذلك نجد الصليب في مصر، حيث كان يرمز لخلود النفس، وبخاصة الصليب ذا العروة ankh، وكان يرمز للبعث ويسمى "مفتاح الحياة". ومع مجيء المسيح، عاد الصليب فأصبح رمزاً للخلاص بعد أن جعله اليهود رمزاً للعار. أما الصينيون فقد مثلوا رقم 7 في رموز أرقامهم بشكل صليب، وأعطوه معنى جليلاً. وإن كنا لسنا بصدد طرح طبيعية هذه الرموز على بساط البحث، لكن علينا الإشارة إلى كون هذه الرموز تحقيقات لجماعية المعرفة البشرية، وليست إبداعات فردية تعمَّمت على مرِّ الزمان.

وبشكل أعم، نستطيع أن نخلص إلى نتيجتين أساسيتين:

أ‌.       إن كافة إبداعات وإنجازات الإنسان الموغلة في القدم ذات طابع جماعي وكلِّياني.

ب‌.  إن دور العقل في جوهره دورٌ جماعي يرتكز على استيعاب وعلى هضم الفعل الجماعي في الفرد.

غير أن تفتح الطاقة العقلية منذ الألف الثالث ق م أبرز دوراً جديداً للعقل، دوراً فرديَّ الطابع بشكل أساسي؛ وسنحاول أن نرى إلى هذا الدور في القسم الثاني من هذه الدراسة.

***

2

كان لظهور الكتابة ولتطور اللغات منذ نحو ثلاثة آلاف سنة ق م دور حاسم في إبراز مقدرات الإنسان الفكرية والتعبيرية في آن معاً. ومما لا شك فيه أن هذه السيرورة تبرهن برهاناً قاطعاً على العلاقة المتبادلة الأكيدة بين التطورين الشكلي والجوهري (المادي والروحي أو البرَّاني والجَوَّاني) في الإنسان. فالتطور الشكلي والتعبيري ليس مجرد انعكاس للتطور الروحي؛ وبالتالي فإن الشكل نفسه يساهم في فهم الشكل؛ مما يعني أنه ساهم في تفتح الطاقة الداخلية، طاقة الوعي والمعرفة. غير أن ذلك لا ينتقص بالتأكيد من دور التحقيق الجماعي، حتى وإن تجلَّى من خلال إنجازات فردية. ولدينا أمثلة لا حصر لها على تزامن مثل هذه الإنجازات في مواقع متباعدة عبر مسيرة التطور الفكري. غير أن التزامن لا يبدو هنا عظيم الأهمية قياساً إلى حتمية ظهور الإنجاز عبر الفرد أو عبر الجماعة. ذلك أنه عندما يبلغ التطور درجة قصوى يصبح من المحتم إنجاز الخطوة الأخيرة. ومثال ذلك على المستوى الجماعي ظهور الكتابة في معظم مناطق العالم بشكل شبه متواقت. أما على المستوى الفردي فإننا لا نزال حتى اليوم ندهش من تزامن توصُّل أكثر من مخترع إلى الاختراع نفسه ضمن ظروف منفصلة أو متباعدة. والمثال الشهير على ذلك توصُّلُ كلٍّ من نيوتن ولايبنتس إلى التحليل التفاضلي بشكل مستقل عن الآخر خلال الفترة نفسها.

لقد أدى هذا الدور المزدوج للعقل إلى ظهور طبقة متفوقة خصَّت نفسها بالمعارف، وذلك في كافة الحضارات القديمة، من مصر إلى الصين مروراً ببلاد الشام وبالهضبة الإيرانية وبالسهوب السيبيرية وبالهند وبمناطق أخرى كثيرة من العالم. غير أن هذه الطبقة نفسها سرعان ما انقسمت إلى مدرستين أساسيتين: إحداهما ركزت على المعرفة الجماعية، والثانية أكدت على المعرفة الفردية. ونلمس هذا التمايز أكثر ما نلمسه في الصين من خلال المدرستين الطاوية (الفردية) والكونفوشية (الجماعية). وعلى الرغم من عدم اختلاف المدرستين في الجوهر إلا أن منهجيهما المتميزين أدَّيا إلى تفوق إحداهما على الأخرى خلال مراحل مختلفة، وذلك بحسب الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي كانت تمرُّ بها البلاد. وبشكل عام، كانت المدرسة الطاوية أكثر قرباً من بلاط الحكام، غير أنها كانت سرعان ما تجد لها منفذاً إلى الجماعات الواسعة إبان المجاعات وأوقات الشدة؛ بينما كانت الكونفوشية هي التي تتسلم الدفة خلال فترات الازدهار.

وفي الحقيقة أن تاريخ المعرفة البشرية انقسم دائماً إلى اتجاهين متسايرين: أحدهما خاص والآخر عام. ومثال ذلك الجانب الصوفي في الدين والجانب التشريعي فيه. فالجانب الأول يختص بغنوصية المعرفة، وبمقدرة الإنسان الفردية على تحقيق الكمال؛ أما الجانب الثاني فينعكس على الجماهير الواسعة. غير أن التجربة العميقة في كلا الاتجاهين تقود إلى الهدف نفسه. وهكذا نجد أن الطاوية والكونفوشية اتفقتا حول نقطة جوهرية، على الرغم من اختلافهما في الأسلوب. فبالنسبة للطاوي أو الكونفوشي ليس هنالك تعريف مسبق للتعبيرات أو للمفاهيم؛ بل إن هذه الأخيرة تحرِّض واقعاً موضوعياً نعرفه بخبرتنا المشتركة معه. وبذلك فإن العلاقة لا تكون أبداً وحيدة الاتجاه بين العارف والموضوع؛ وبالتالي فإن هذه العلاقة المتبادلة تعبر عن واقع ديناميٍّ يفعل في الحدين معاً. لهذا يوصي معلِّمو هاتين المدرستين أنه يجب دوماً الاحتراس والحذر من الفعل الصنعي وي wei، والمقصود به التجربة. فهذا الفعل، فضلاً عن أنه يبدو وحيد الاتجاه من العارف إلى المعروف، أو من المجرِّب إلى المجرَّب عليه، فإنه يشكل وهماً آخر بحد ذاته إذا اعتبر المجرِّب أن نجاح تجربته يمكن أن يقود إلى المعرفة. ويؤكد أتباع الطاوية بشكل خاص على ضرورة تمييز التجربة الذاتية ضمن حقل أوسع بكثير يشمل الكل. ولهذا، كما نجح الكونفوشيون في تطبيقاتهم الاجتماعية وفي الحكم، نجح الطاويون في جهودهم الفردية في المجال الحيوي–النفسي والصحة النفسية والبدنية، وذلك بالحفاظ على توازن دقيق بين المعرفة الخاصة وتطبيقها العام، وطريقة تطبيقها وممارستها.

ضمن هذه الرؤية نرى إلى السبب الحقيقي لعدم اتجاه الفكر الصيني نحو المساس بالطبيعة بشكل تجزيئي. فلقد كانت علومهم الرياضية تتضمن بعداً رمزياً إلى جانب البعد التطبيقي، وكان هذا البعد السرَّاني هو الذي يوجِّه ويقود البعد العملي، بحيث يحافظ هذا، قدر الإمكان، على التناغم مع الطبيعة ومع المعتقدات الدينية والروحية. وفي مجال الفيزياء أيضاً نلحظ أن الصينيين كانوا يفضلون التعامل مع الظاهرات ذات التأثير عن بعد، مثل الفعل المغناطيسي أو مثل الرنين في الطبول البرونزية، بينما نجد أنهم لم يحاولوا أبداً تطوير الصدم الميكانيكي. ونلحظ هذا الاتجاه العام لدى الصينيين أكثر ما نلحظه في معارفهم العميقة والقديمة بالنباتات واستخدامهم الوخز بالإبر، مقابل انصرافهم عن العمل الجراحي.

ومع ذلك، لم يكن ثَمَّ ما هو خارق للطبيعة بالنسبة للصينيين، أو ما هو متعالٍ لا يمكن إدراكه. فالإنسان والمجتمع هما موضوع المعرفة؛ غير أنه لا يمكن التعبير عن هذه المعرفة إلا بالرمز. أما الاستدلال الرياضي فإنه لا يمكن أن ينقل إلينا سوى صورة موافقة لعقلنا؛ لكن هذه الصورة لن تكون كاملة أبداً. وبشكل عام، فإن أي عنصر ندرسه ليس سوى نتيجة لمجموعة من التصورات العقلية التي ترمينا بعيداً عن دراسة جوهره إلى دراسة مجموعة من العلاقات بين هذا العنصر وعنصر آخر. أما المعرفة الحقيقية فترى مباشرة إلى كلِّية هذا العنصر. والتعبير عن هذه الكلِّية لا يتم إلا بالرمز. وكلما كان هذا الرمز أقرب إلى الطبيعة كان أكثر كمالاً، لأن الطبيعة هي الرمز الأعظم. وبشكل آخر، فإن هذا الرمز هو صورة حقيقية يتفاعل معها الإنسان، وليست خبرة عقلية مجردة. ومن هنا كانت الكتابة الصينية أشبه بالطقس المعرفي، وكانت بالنسبة للصينيين محمَّلة بقوة فاعلة، تماماً مثل الرموز الهيروغليفية بالنسبة للمصريين القدماء. وبشكل عام، كانت الفنون والمعارف والأعداد والعلوم والكتابات وكافة المظاهر الثقافية تمثل بالنسبة إليهم رموزاً لتجلِّيات الوحدة الكبرى. ولا نغالي إذا قلنا إن هذا التناغم المعرفي بين الفرد والكل، أو بين الطبيعة والروح، كان سمة كافة مناهج وفلسفات وديانات العالم القديم.

*

في خضم إنجازات العلم الحديث خلال القرن العشرين ننسى أو نتناسى أن التطور المعرفي استغرق مئات آلاف السنين؛ بل ويغيب عنا أن عجلة التطور لم تتوقف بعد، وأنها لم تبلغ ذروة تحقيقها مع بعض الإنجازات العلمية التي لن تشكل بالتأكيد أكثر من ذرى تافهة في خضم الإبداعات التي ستظهر عبر آلاف السنين القادمة. وعلى الرغم من أن عمر العلم لم يتجاوز القرون القليلة، ترانا نعلن، بكثير من الغرور والصلف، أننا بدأنا نخطُّ درب المعرفة الكاملة ممثَّلة بالعلم، وبخاصة بالمنطق الرياضي. ومما لا شك فيه أن المنطق الرياضي يشكِّل مرحلة من مراحل التطور المعرفي الطبيعي والكلِّي، وأنه سوف يترك أثره على الإنسان؛ لكن علينا أن نرى، منذ الآن، إلى طبيعته وإلى حدوده التي تقيِّدنا.

وعلى الرغم من أن كافة الإبداعات العلمية تقوم على خلفية جماعية فإننا لا ننكر الدور الأساسي للمواهب الفردية في إبرازها على هذه الخلفية. ومن جهة أخرى، فإن طبيعة هذه الفردية تتجلَّى في الخط وحيد الاتجاه الذي سلكه تطور المنطق العلمي عبر مراحله كافة. فبناء المنطق المترابط اعتمد دوماً على وضع صيغ مبدئية يؤسِّس عليها كافة مقارناته ومحاكماته التي تكون على الشكل التالي: نفترض أن لدينا آ (حيث آ ظاهرة أو شيء أو حادث ما)؛ ثم نفترض أن لدينا ب، وأن ب ليس آ نفسه؛ ثم نحاول استخلاص صورة للعلاقة القائمة بين آ و ب. فإذا استطعنا فيما بعد تمييز الصلة نفسها بين عدة ثنائيات أخرى (آَ و بَ) فإن ملاحظاتنا السابقة تتحول إلى قانون أو إلى نظرية نعمد إلى برهانها بشتى الطرق.

وهكذا فإننا نلاحظ بشكل واضح أننا بتنا نبحث في معظم الأحيان عن أشياء توافق منهجنا المضبوط، بدلاً من البحث عن تصورات توافق الظاهرة في كلِّيتها. وهذا ما يحدث اليوم مثلاً في بحث العلماء عن توحيد القوى الأساسية الأربع في الطبيعة (النووية القوية والنووية الضعيفة والثقالية والكهرطيسية)، حيث يجري وضع تصنيفات محددة دون أن يترافق ذلك بأي تصور عام. وليس من الخطأ الاعتماد على التصنيفات بالتأكيد، غير أن العلماء أنفسهم بدؤوا يتساءلون عن جدواها؛ بل ونرى بعضهم وقد بدأ يطرح السؤال التالي بجدية تامة: "هل سيكون لتوحيد القوى الأساسية أي معنى على الإطلاق؟"

يعكس هذا السؤال بالتأكيد الحالة النفسية التي يعيشها العلم والعلماء اليوم. والحق يقال إن الفيزياء هي علم نفس بجوهرها، مادامت أحاسيسنا وتصوراتنا هي موضوع الدراسة في نهاية الأمر. ولهذا يمكننا إعادة طرح السؤال السابق بشكل آخر: "أي معنى سيكون لأي إنجاز علمي جديد مادمنا لا نزال نُقصي انعكاساته المباشرة أو غير المباشرة علينا؟" وبشكل آخر، كيف لنا أن نتوقع تحقيق إنجاز معرفي جديد وأصيل مادام منهجنا العلمي لا يزال يُبقي العارف بمعزل عن معارفه؟!

كذا، وعلى الرغم من صرامة المنهج العلمي، لا بدَّ من القبول بإمكانية معرفية أوسع منه، ويمكنه هو نفسه استقراؤها من التاريخ. إننا لا نستطيع اليوم إلا أن نتعلم كيف نفهم الحقيقة بطريقة لاعقلية، بطريقة حدسية أو رؤيوية كشفية، فنؤسِّس مثال المعرفة التي نستهدفها على الرؤيا، هذه الرؤيا التي تغذي منطق الوحدة، وليس منطق الثنائية والمقارنة. ولعل أقصى ما تستطيع التجربة الفردية تحقيقه على المستوى العقلي المحدد بالمنهج العلمي هو الإفصاح عن هذه الرؤيا والتعبير عنها بطرق شتى. ولا شك أن إيليا بريغوجين كان يعبر عن رؤيا الوحدة هذه في قوله: "لقد توصلنا، مع تعميم الترموديناميكا، إلى فهم أن الحياة هي القاعدة في شروط معينة، وأنه قد تمَّ تجاوز ثنائية الضرورة والمصادفة."

*

إن التطور الطبيعي، البطيء والمتوازن، لا يزال مستمراً على الكرة الأرضية. تلكم حقيقة لا نستطيع إلا أن نقرَّ بها؛ وأملنا في تحقيق المعرفة يرتكز على هذه الحقيقة. ومقابل هذا المنطق الكلِّي القاهر للطبيعة، تبرز لنا إمكانية الرؤيا كسبيل فرداني وحيد لتحقيق المعرفة. وقد اتفقت كافة المدارس والتجارب الروحية على مرِّ الأزمنة على أن هذه الرؤيا لا تخضع لأي إشراط من إشراطات العقل؛ بل إنها على العكس لا تتحقق إلا عندما يسكن العقل ويهدأ. يقول الحلاج:

أسرَحَهُ في حيرة يلهو

من رامَهُ بالعقل مسترشداً

ولعل عدم خضوع هذه المعرفة للمنطق العلمي (بعكس الشرائع التي رافقت الأديان والتي كانت تغطي هذه الحاجة لدى الجماعات والأفراد) هو الذي كان يدفع بالرأي العام إلى نبذ معارف هؤلاء الرائين، وبالرائين أنفسهم إلى الانكفاء وسط جماعات خاصة. يقول علي الرضا أحد أحفاد علي بن أبي طالب:

لقيل لي أنت ممَّن يعبد الوثنا

يا رب جَوْهرُ علمٍ لو أبوح به

وهكذا نجد أن المدارس الروحية كلَّها عبر التاريخ لجأت إلى الرمز والأسطورة لتشير إلى الطريق المنهجي الفردي الذي يمكن للسالك فيه تحقيق الوعي. ومع اختلاف مناهج هذه المدارس على مرِّ العصور، نجد أنها كانت جميعاً تركز على نقطة مشتركة، ألا وهي غيبة العقل. يقول كريشنامورتي: "إننا نرى دروب العقل، لكننا لا نرى درب المحبة." ويمكننا بالتأكيد أن نرى في رؤيا المحبة منطق المعرفة، لأن قانون المحبة ومنهجها هو الوحدة.

يتجسَّد هذا المنهج اللاعقلي أكثر ما يتجسد في بوذية زِنْ Zen. ويعرِّفها د. ت. سوزوكي بالكلمات التالية: "الزِنْ في جوهره هو فن الرؤيا في طبيعة الكيان. إنه يشير إلى الطريق الذي يقود من العبودية إلى الحرية." وفي صلب الحقيقة أن الزِنْ لا يفسَّر أبداً... إنه يشير فقط؛ وفي إشارته دوماً إعجاز للعقل. كذا فإنه يطرح دوماً مسائل لا يمكن إدراكها بصورة عقلية، إنما يمكن قبولها برؤيا لاعقلية؛ وهذه الرؤيا هي طاقة القلب وقد تفتحت. أما إذا حاولنا فهم هذه المسألة وتحليلها بطريقة عقلية فإننا نبتعد عن جوهرها تماماً؛ ذلك أن الفهم الداخلي لهذه المسألة يتطلب منا تحولاً روحياً عميقاً. وبما أن الرؤيا، بطبيعتها الخاصة، لا ترتبط بأي مستوى وعي خاص نستطيع تحديده منطقياً أو نسبياً كشيء ما فإن معلِّمي الزن يشيرون إليها بتعابير من نحو اللافكر أو اللاعقل (وو نِيِن wu-nien أو وو هْسِن wu-hsin)، وذلك لأن الرؤيا تكون رؤيا حقيقية فقط عندما تكون لافكراً أو لاعقلاً.

كان ياو شان وي يِنْ جالساً يوماً في وضعية التأمل وقد صالب ساقيه، فجاءه تلميذ وسأله: "بماذا تفكر وأنت في هذا السكون؟" فأجاب ياو شان: "أفكر بما هو فوق الفكر." وسأل التلميذ مجدداً: "كيف تفعل لتفكِّر بما هو فوق الفكر؟" فأجابه ياو شان: "بألا أفكر!" وفي مقام آخر سأل راهبٌ المعلِّمَ باو شي: "ما هو الطاو؟" فأجابه المعلِّم: "ادخلْ!" فقال الراهب: "لا زلت غير قادر على الفهم!"، فجاءه جواب المعلِّم: "اخرجْ!"

إن الهدف الأساسي في الزِنْ هو تهدئة العقل الذي يشبَّه بمرآة تنعكس عليها الحقيقة؛ فإذا لم تكن هذه المرآة صافية لم تنعكس عليها سوى ظلال الأوهام. يقول المعلم شِنْ هوي: "عندما يكون العقل نقياً من كل شيء فإنه يشعُّ بجوهره، ويكون النور في طبيعته، وينير الأطراف القصية للكون." وعندما سئل: "متى يتم بلوغ هذه الاستنارة؟" أجاب: "انظروا فقط في الفراغ." ويشير كريشنامورتي إلى الفكرة نفسها عندما يقول: "عندما أريد معرفة شيء، لا أفكر فيه، بل أنظر إليه فقط." وقد أكد الحلاج أيضاً في طواسينه على هذا الامِّحاء للعقل ولدوره بقوله: "المعرفة في ضمن النكرة مخفية، والنكرة في ضمن المعرفة مخفية. النكرة صفة العارف وحيلته، والجهل صورته. فصورة المعرفة عن الأفهام غايبة آيبة. "كيف" عرفه ولا كيف، "أين" عرفه ولا أين، كيف وصل ولا "وصل"، كيف انفصل ولا "فصل". ما صحَّتْ المعرفة لمحدود قط، ولا لمعدود، ولا لمجهول، ولا لمكدود." ويقول ابن عربي: "حسبي من معرفتك جهلي، وأنت كما أعلم ووراء ما أعلم بما لا أعلم...". وضمن السياق نفسه يقول النفَّري في مواقفه: "أوقفني في معرفة المعارف، وقال لي: هي الجهل الحقيقي من كل شيء بي." ويقول: "وقال لي: ما تعرَّفتُ إلى قلب إلا وأفنيته عن المعارف." ويقول في مخاطباته: "يا عبد، ألقِ علمك وجهلك في البحر، أتخذك عبداً وأكتبك أميناً." ويقول: "يا عبد، لا تحمل العلم والمعرفة في طريقك إليَّ، تعترضك الدنيا والآخرة. فإن كان طريقك فيهما حبساك، وإن لم يكن طريقك فيهما فقد وصلت، لا تَسِرْ." ولعل الحلاج كان أبلغ المتصوفة المسلمين قدرة على التعبير، بلغة الزِنْ، عن تلك الحالة من الدهشة والعجز العقليين، حالة الرؤيا المباشرة التي لا تمرُّ عبر أية قناة مُشرَطة، في بيتيه الشهيرين:

عليه في كل حال أيها الرائي

ما يفعل العبد والأقدار جارية

إيَّاك إيـَّاك أن تبتل بالمـاء

ألقاه في اليمِّ مكتوفاً وقال له

***

كذا تتبدى لنا دربان للمعرفة: درب جماعية كلِّية تمتد عبر الزمان كلِّه، ودرب فردية لا تقاس بزمان ولا يحدُّها شيء. ومع ذلك، فإن منطق هذه المعرفة الفردية هو منطق كلِّي في جوهره، منطق الاتحاد بالكلِّ وتحقيقه بالفناء فيه. وفي الحالتين معاً، يتجلَّى لنا فعل طاقة الكلِّ في الفرد والجماعة، مما يُسقِطُ أية قيمة يمكن أن نعطيها لمنهج فردي أو جماعي. ذلك أنه ليس ثمة ديانة، أو شريعة، أو فلسفة، أو معرفة، أو منطق، أو منهج، أسمى وأعظم من الحقِّ نفسه.

أحبُّ أن أختم هذه الدراسة التي اضطررت لاختصار قسمها الثاني (الذي أرجو أن تتاح لي فرصة التوسع فيه) بثلاثة أقوال لرائين كبار:

ليس بإمكانك اختيار الحقيقة؛ فالحقيقة هي التي تختارك. (كريشنامورتي)

يُجبَر الله على الفعل وعلى الانسكاب فيك ما إن يجدك مستعداً. (إكهرت)

إن المعشوق هو كل ما يحيا؛ أما العاشق فشيء ميت. (جلال الدين الرومي)

*** *** ***

 
المراجع الأجنبية

-          “Early History of the Middle East,” in The Cambridge Ancient History, vol. I, part 2, Cambridge University Press, 3rd edition, 1985.

-          « Histoire des techniques », in Encyclopédie de la Pléiade, Éditions Gallimard, Paris, 1878.

-          CHEVALIER, Jacques, Histoire de la pensée, « I. La pensée antique », Éd. Flammarion, Paris, 1955.

-          Encyclopædia Universalis, 18 tomes.

-          Grand dictionnaire encyclopédique Larousse (GDEL), 10 vols., Librairie Larousse, Paris, 1982-1985.

-          HUXLEY, Aldous, La philosophie éternelle (Philosophia Perennis), Librairie Plon-Éditions du Seuil, 1977.

-          KRISHNAMURTI, La première et dernière liberté, Stock+Plus, Paris, 1979.

-          LAO-TSEU, Tao-tö-king, Éd. Gallimard, 1967.

-          LARRE, Claude, Les Chinois, Éd. Lidis, Paris, 1981.

-          PRIGOGINE, Ilya & Isabelle STENGERS, « Hasard et nécessité », Encyclopædia Universalis, Symposium, p. 324, Paris, 1985.

-          RACHET, Guy, Dictionnaire de l’archéologie, Bouquins, Robert Laffont, 1983.

-          SUZUKI, D. T., Essais sur le bouddhisme Zen, 3 vols., Éd. Albin Michel, Paris, 1972.

-          SUZUKI, D. T., Le Non-mental selon la pensée Zen, Le Courrier du Livre, Paris, 1980.

-          TATON, René, Histoire générale des sciences, tome I, PUF, Paris, 1957.

-          WHITE, E., Les premiers hommes, Time-Life International, Nederland, 1978.

 
المراجع العربية

-         برينتس، بورهارد، نشوء الحضارات القديمة: من شانيدار إلى أكاد، بترجمة جبرائيل يوسف كباس، الأبجدية للنشر، دمشق، 1989.

-         الحلاج، أبو المغيث الحسين بن منصور بن محمد البيضاوي، الديوان، صنعه وأصلحه كامل مصطفى الشيبي، بغداد.

-         الحلاج، كتاب الطواسين، بتحقيق لويس ماسينيون (النص موجود في الكتاب باللغتين العربية والفارسية، بالإضافة إلى الترجمة الفرنسية):

Kitāb al-Tawāsīn, écrit par Abou al-Moughith al-Hosayn Ibn Mansour al-Hallaj al-Baydawi al-Baghdadi, Librairie Paul Geuthner, Paris, 1913.

-         محيسن، سلطان، بلاد الشام في عصور ما قبل التاريخ: الصيادون الأوائل، الأبجدية للنشر، دمشق، 1989.

-         محيي الدين بن العربي، الفتوحات المكية، المجلد الأول، دار صادر، بيروت.

-         محيي الدين بن عربي، توجهُّات الحروف، مكتبة القاهرة.

-          موسوعة آثار العالم، بترجمة موسى ديب الخوري، ستصدر عن المديرية العامة للآثار والمتاحف، وزارة الثقافة، دمشق. عنوانها الأصلي:

Grand Atlas Universalis de larchéologie

-         الناضوري، رشيد، المغرب الكبير، الجزء الأول: العصور القديمة، دار النهضة العربية، بيروت، 1981.

-         النفَّري، محمد بن عبد الجبار، المواقف والمخاطبات، مكتبة المتنبي، القاهرة، 1935.


* النولثة مصطلح آثاري يشير إلى مجمل العمليات والإنجازات الثقافية التي أدت لظهور العصر النيوليثي.

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود