|
مفهوم
الكونيَّة
ندره
اليازجي
أحبُّ
أن أبدأ هذه الافتتاحية بطرح الأسئلة الثلاثة
التالية التي تهيِّئ للولوج إلى المبدأ
الرائس لجوهر مفهوم الكونية: 1.
ماذا أعني عندما
أقول: أشعر بألم أو بفرح في أعماق كياني؟ ماذا
أعني عندما أعبِّر عن نفسي أو شعوري قائلاً:
إني أتأمل أعماق الكون، والأجواء
اللانهائية، والوجود والحياة؟ ماذا أعني
عندما أقول: إني أتأمل عمق كياني، وأقف
متعجِّباً أمام معجزة وجودي وسرَّانيته؟ هل
أعتبر هذه الأعماق الكونية الماثلة في الوجود
والأعماق الإنسانية الماثلة في كياني حقيقة
واحدة؟ وهل إن العمق الكامن في الإنسان هو
العمق الذي نتحدث عنه ونحن نطرح قضية الكون
والوجود والحياة؟
علمت – وأنا الآن
أعلم – أن الإنسان هو الكون الصغير الذي
ينطوي فيه الكون الكبير؛ هو اللانهاية الصغرى
التي تنطوي فيها اللانهاية الكبرى؛ هو الجزء
الذي ينطوي فيه الكل. وإذ أدركت – وأنا الآن
أدرك هذه الحقيقة – رأيت نفسي أتَّجه إلى
إقامة الدليل على الألفة أو الاتِّصالية أو
التواشج القائم بين الإنسان والكون. ويتمثل
اتجاهي في فهم آراء ونظريات العلماء
العرفانيين والباحثين الحكماء الذين أكدوا،
أو مالوا إلى التأكيد، في دراساتهم
الاختبارية، على وجود الاتَّصالية بين الكون
الأصغر والكون الأكبر ضمن وحدة كونية
متماسكة، عبر مستويات يشتمل أعلاها على
أدناها، ليصبح المستوى الأدنى متضمَّناً في
مستوى أعلى يشتمل عليه، حتى تتحقق وحدة
المستويات في كيان كوني واحد وكلِّي. لقد أشار العلماء
العرفانيون والإنسانيون إلى أن التعمق في
دراسة الكون الأصغر تؤدي إلى ولوج نطاق الكون
الأكبر ومعرفة أسراره، وأن التعمق في دراسة
اللانهاية الصغرى تؤدي إلى دراسة اللانهاية
الكبرى، وأن دراسة الجزء تعني دراسة الكل،
وأن دراسة المادة تعني دراسة الحياة والروح.
وعلى نحو مماثل، أشار العلماء الحكماء إلى أن
دراسة الكون الأكبر واللانهاية الكبرى تؤدي
إلى دراسة الكون الأصغر واللانهاية الصغرى. وإذ تبيَّنتْ لي
حقيقةُ هذا التآلف التكاملي، واتضحتْ
معالمُها التوحيدية، سعيتُ إلى إعلانها في ما
كتبت في فلسفة العلوم. ويسعدني أن أقول بأن
مضامين كتاباتي في هذا المجال مقتبسة من
علماء أفذاذ، أمثال كابرا، بريغوجين،
شلدريك، جينز، إدنغتون، شرودنغر، أينشتاين،
باولي، تيار دو شاردان، كوزيرف، هويلر، غودل،
دافيس، وغيرهم، ومن علماء نفس الأعماق وعلماء
النفس العبرشخصيين، أمثال يونغ وويلبر، ومن
فلاسفة مرموقين وحكماء وأخلاقيين عظماء. في هذا التأليف
القائم بين كونين ولانهايتين اكتشفتُ كونية
الإنسان، بوصفه بؤرة أو عقدة لقاء
اللانهايتين، وأدركت أن السرَّانية العظمى
تكمن في فهمي – أو في فهمنا – للكونية في
طيفها الأوسع. ومن جانبي، لا أستطيع أن أتحدث
عن كونية كبرى ولانهائية تخرج عن نطاق كونية
الوجود الإنساني الصغرى والمضمونة في
لانهائية الكونية الكبرى. وبالمثل، لا أستطيع
أن أتحدث عن كونية الوجود الإنساني الصغرى
بمعزل عن كونية الوجود الكبرى – وهذا لأنني
أحترم الوجود الإنساني وأجِلُّه وأحبه، ولأن
محبتي للكون الأكبر لا تعني شيئاً إن كنت أكره
الإنسان أو أقلِّل من شأنه ومن شأن الوجود
الأرضي. لذا لا أستطيع أن أدَّعي بأنني إنسان
كوني، أو باحث في مفهوم الكونية، أو عالم
بحقيقة الكونية، أو مدافع عن العالم في
كونيَّته، ما لم أكن كونياً في عمق كياني
وجوهري وحقيقتي وفي سرَّانية وجودي. ففي هذا
المنظور عاينتُ الكونية في الكون كلِّه، وفي
العالم الأرضي المتصل بهذه الكونية، وفي كل
عمل إبداعي أو إنجاز إنساني، أكان إنجازاً في
نطاق الطب، أو البيولوجيا، أو الكيمياء، أو
الفيزياء، أو الأدب، أو الفلسفة، أو علم
النفس، أو علم الاجتماع، أو الاقتصاد، أو
الرسم، أو الموسيقى، أو الفكر المستنير، أو
في أنواع السلوك التي نعتبرها بسيطة، كالخدمة
والتضحية إلخ. لقد علمت أن ما هو إنسانيٌّ في
حقيقته هو طبيعيٌّ وكونيٌّ في جوهره.
فالقوانين الطبيعية هي قوانين كونية سعى
الإنسان جاهداً إلى معرفة رموزها وتبنِّي
قواعدها لتكون عوناً له على معرفة نفسه وسرِّ
وجوده. والقوانين الإنسانية هي قوانين طبيعية
وكونية تدعو الإنسان إلى تطبيقها لكي يتَّحد
مع الوجود الكلِّي. وهكذا لم أستطع أن أفصل
الإنسان عن الكون، أو أن أفصل العقل الإنساني
عن العقل الكلِّي الشامل؛ إذ علمت أن هذا
الفصل معضلة تشير إلى أنني كوني زائف وباطل.
وهكذا أدركت القيمة والمعنى المضمونين في
وجودي. والحق إن أيَّ انتقاص من كونيَّتي هو
انتقاص من كونية الوجود. في كتاب وضعه
عالم فلكي كبير قرأت العبارة التالية: ماذا
تفيد معرفتي أو علمي بجرم من الأجرام، أو
بكوكب من الكواكب، أو بمجرة من المجرَّات، إن
كنت أسمع – متألماً – الأنينَ المنبعثَ من
صدور البؤساء والمعذَّبين والجائعين
والمظلومين؟ ألا يعني هذا أن الكون كلَّه
يضطرب، في عمقه، لآلام البشر الذين فقدوا
كونيَّتهم، فكانوا ظالمين ومستبدين وجاهلين
بحقيقة مغزى وجودهم، أو جُرِّدوا منها،
فكانوا تعساء ومنبوذين ومحرومين من نعمة
الحياة؟ على نحوٍ موازٍ،
ردَّدت في أعماقي الحكمة التالية التي
أعتبرها حجر الزاوية في هيكل سرَّانيتي: لن
ترتاح نفسي، ولن يطمئن قلبي، وأنا أعلم أن
إنساناً واحداً يعاني من الألم السلبي ومن
اغترابه عن كونيَّته ويشعر بضآلة قيمته
وتفاهة وجوده وكيانه. ***
*** ***
|
|
|