|
حالة
حصار
جماليات
الحقيقة
نديم
دانيال الوزَّة
ليس
جديداً القول إن قدرة الشعر على قول الحقيقة
تحتمل أكثر من بُعد. لكن يمكن القول في حالة
حصار، عمل محمود درويش الأخير، إنه يحتمل
بعداً مختلفاً نوعاً ما، يتمثل في أخلاقية
القول، أو جدواه الوظيفية أو العملية، ولا
سيما في صراع معروف في تباين خطابه وتعدده.
هذا البعد لم يغبْ
عن أشعار محمود درويش السابقة. بل أستطيع
القول إنه سمة تتردد في تجربته منذ البداية،
بدايةً من تعرية الشجر من الغصون الزائفة،
وصولاً إلى الاعتراف بأن الشاعر غالباً ما
يكذب: أولاً، لأنه يستجيب لهذا القدْر من
المبالغات والبلاغة في التعبير عما لا ضرورة
له؛ وثانياً، لأنه يستسلم لهذا الكم الهائل
من الثرثرة الكبيرة. ولا شك في أن قارئاً لـكتاب
الشعر الفرنسي لبول شاوول يتذكر أن صفة مثل
هذه إنما قورنت بأشعار أراغون؛ وربما هو
يوافقني أن هذا القدْر من الثرثرة هو صفة تغلب
على شعراء العربية في معظمهم بما يدعو
للتساؤل حقاً! هذه الرؤية التي
هي نقدية إلى هذا الحد الذي تتكئ فيه على
مُنجَز يقارب الخمسين عاماً ليست غائبة عن
قصائد درويش إذاً. لكنها – والحق يقال – لا
تشكل رؤية شعرية بارزة عنده، لكي يتجاوز
المرء شعراء مثل سعدي يوسف وممدوح عدوان
ومريد البرغوثي، لسبب يخص هذه الحقيقة، أو
لسبب يخص كيفية صوغها. كما أن محمود درويش هو
ما هو لشيء آخر قد يكون أكثر أهمية يتعلق
بأعمال أخرى، مثل غنائياته الأولى، وورد
أقل، وأحد عشر كوكباً، وحتى جدارية. لكنْ لا أريد أن أبتعد الآن عن هذه
المغامرة الإبداعية في حالة حصار، وخاصة
أن لدرويش ما يضيفه في هذا الجدل الواضح بين
مغامرة القول وفنيَّته، أو جماليته بالأحرى. فقد
يتمثل هذا الجدل في الحقيقة أو في قولها؛ وهذا
قد يستدعي شيئاً آخر هو الواقع. وربما لا أكون
مبسِّطاً للأمور إذا ما اعتبرت أن الواقع
الذي ينطلق منه الشاعر هو واقع شعري بطبيعته،
محيلاً إلى تأمل انزياحي للحياة، على افتراض
أن تقنيات الشعر هي تحصيل لا خلاف عليه، لدى
محمود درويش على الأقل. الأشياء
على حقيقتها
من هنا، لا غرابة
أن ينتظر المتلقي، أو يتوقع، أشياء يقولها
محمود درويش ويرتاح إليها، وربما يجعلها
عبارات دعائية. غير أن محمود درويش أكثر
تواضعاً؛ أو قل إن نصه الذي لم يخرج عن إرادته
يبدو كذلك. هذا التواضع ليس توصيفاً
اجتماعياً – بالمعنى المتداول على أية حال –
بل هو تعبير ينسجم تماماً مع هذه الرؤية التي
تجعل من الشاعر فلسطينياً يعيش في "حالة
حصار" ليس لادِّعاء الكلام أي مجال فيها: قالت
الأم: لم
أره ماشياً في دمه لم
أرَ الأرجوان على قدمه كان
مستنداً للجدار وفي
يده كأس بابونج ساخن ويفكر
في غده جميل أن ترى
الأشياء على حقيقتها، أو لأقُل: إن جمالية
الحقيقة قد لا تعني شيئاً آخر سوى هذا الكشف
عن قبح التجميل لما هو بشع حقاً. هل ثمة أبشع
من الموت أو مما يتركه من أثر؟ طبعاً الإجابة
حاضرة في هذه القصيدة. فالنقد ليس فقط
مركَّزاً على قيم لم تعد صالحة، أو هي أصلاً
تعبِّر عن مرحلة من التفكير ماضية، وليس من
الضروري أن تكون صحيحة؛ بل ثمة دعوة إلى
الحياة، إلى السلم، ضد الحرب ودلالاتها، من
نصر وهزيمة وما يتأوَّل عنهما. الكثير من
الإجابات والمقولات تحضر، حتى ليبدو لي أن
محمود درويش يحاول أن يناقض مرحلة ماضية
برمَّتها، مرحلة من الحياة ومرحلة من الشعر
أيضاً. فالقارئ المطَّلع قد يتلمس أصواتاً
كثيرة تنكسر غير تلك التي ذكرتها: أدونيس، وعز
الدين المناصرة، وربما شاعر مجهول أو أكثر،
كما يتلمس صوت الشاعر نفسه وقد تخلَّى عن نبرة
المديح وحدَّته. وكنت أتمنى لو أذكر شيئاً عن
الاقتصاد اللغوي، لولا أن ذلك يتعذر لأنه ليس
من لغة درويش الشعرية. لكنْ ثمة شيء بدأ
يُختصَر... هذه المراجعة
النقدية قد تكون مملة عادة، لولا هذه الحاجة
الوجودية للتأنيب والرفض للأسلوب القديم في
المواجهة، ولولا هذه الإضافة الضرورية من
خلال هذا الخرق للخيالي، بما يعنيه من تجاوز
للمصالحة إلى مساءلة الواقع والاحتكام إليه.
وأيضاً ربما لا أنسى هذه السخرية المضمرة من
الفن، ما دام الموت ليس شيئاً مجرداً هنا. المواجهة مع عدو
يحاول الشاعر أن يجعله خصماً، بتعبير رونيه
شار، أو شريكاً في الحياة وصديقاً في ما بعد،
تواكبُها مواجهات مختلفة، على أكثر من صعيد
وطرف، ذكرت بعضاً منها، ويمكن أن أذكر هذه
المحاولة للجدل بين نقائض الحياة ذاتها، وما
يتجلَّى عنها من صيغ جديدة للقول والبناء.
وربما أكتفي بالإشارة إلى هذا التخلِّي عن
سطوة البلاغة والموسيقى العالية في قصيدة "مأساة
النرجس وملهاة الفضة"، لكي أتوقف أمام هذه
الفسحة الجديدة التي تتجانس فيها الملهاة
والمأساة، وربما تتماهيان، تعبيراً صادقاً
عن واقع لم يزل سديمياً في تكوينه: الرغبة في
السلم وسط الحرب شيء، وعيش السلام شيء آخر! هذا الواقع هو ما
يفترض الشك في الحلم، وفي الخيال أيضاً. وهو
ما يجعل محمود درويش بارعاً في تعرية مرحلة
جمالية شارك فيها بدور ما؛ وهو ربما لا
يتخلَّى عنها، بقدر ما يحاول شيئاً. هل يمكن
القول، إضافة إلى ما تقدم، إن هذا الشيء ليس
سوى محاولة لجعل النظم شعراً؟ ربما. فإن هذا
الشاعر هو من القلائل الذين يتدفق نظمهم
عفوياً، تلقائياً، كالنثر تماماً. *** *** ***
|
|
|