|
القيمة
والمعيار
مساهمة
في نظرية الشعر
أديب
حسن محمد
يتابع الناقد المتميز يوسف سامي اليوسف في
كتابه القيِّم القيمة والمعيار مساهماته
النقدية اللافتة والمتلفتة التي تزيح الغبار
عن العوامل الفطرية لحياة النص الشعري،
التي أُهمِلَت إهمالاً شبه كامل في الشروح
النقدية الأكاديمية الجافة، المعتمدة على
الرموز والإشارات والحسابات اللغوية أكثر من
اعتمادها على المعطيات الذاتية الداخلية
للنص الشعري. بقول آخر فإن النقد الأكاديمي
يقرأ ويحلِّل النص كما يريد هو، لا كما يريد
النص الشعري.
من
هذه الثغرة بالذات تنبجس أفكار الناقد يوسف
سامي اليوسف الذي حاول الاعتماد على معيار
"الذائقة الفطرية" لانتشال النصوص
الشعرية الجيدة في هذه المرحلة التي تعاني من
فراغ نقدي كبير، ومن استسهال لكتابة الغث
ونشره، ومن غياب القراءة المبدعة، ومن فقدان
الشعر لهيبته وخصوصيته، بحيث أمسى الشعر
ملعباً لكل من هبَّ ودبَّ من مدَّعيي الإبداع.
هذا كله ولَّد حاجة ماسَّة لوجود نقد جديد،
متأصِّل، متكامل، ينطلق من أعماق النص
الشعري، كشفاً، وتفكيكاً، وتجميعاً، وإضاءات. فالنقد
الأدبي لا يصير نقداً أُفعِمَ بالحيوية ما لم
يهدف إلى اكتشاف العناصر الذوقية المحايثة
لكل نصٍّ متميز، والنقد، في الجوهر، تنقيب عن
التفرُّد أو عن المزيَّة والخصوصية. وهذا
يعني أن النص إما أن يُشبِع الذائقة، وإما أن
يخفق في إنشاء وكر له داخل روح القارئ. وبذلك
فإن اليوسف يراهن على التلقِّي الشفاف
والماتِع للنص الأدبي معياراً لتقرير جودته
من عدمها. إن
أول ما يتبادر للذهن بعد الفراغ من قراءة هذا
الكتاب هو ذلك الإقصاء الذي يمارسه لكمٍّ
كبير من النصوص المتوهَّمة المنشورة في
الدوريات. يتم هذا الإقصاء عن دائرة الشعر
الجيد بتطبيق مفهومي "القيمة" و"المعيار"
اللذين بتنا في مسيس الحاجة إليهما انطلاقاً
من كون نظرية الشعر تشكل تحدياً كبيراً للفكر
العربي المعاصر، ومن وجود حاجة ماسَّة لـ"منطلقات
نظرية" شعرية نقدية من شأنها أن تعيد
التوازن إلى كفة الميزان النقدي التي مالت
باتجاه الشروح النقدية التطبيقية، وكذلك
للإجابة على الأسئلة الملحَّة والمعضلات
النقدية المرافقة لإبداع الشعر. الشعر
وسؤال القيمة
يطرح الناقد في
المقالة الأولى من الكتاب، المُعَنْوَنة بـ"الشعر
وسؤال القيمة"، مجموعة من الأفكار التي
تحاول جاهدة تضييق الخناق على مفهوم "القيمة"
في حقل الشعر، فيرى أن اندحار المثالية أمام
المادية كانت أكبرُ نتائجه وأولاها مؤثرةً
على الشعر وحده. فالمتعة الأدبية
هي أساس نقد الشعر، وأول شرط من شروط نجاح
القصيدة. ونلاحظ هنا أن الناقد اليوسف يدور
هنا في فلك أفكار رولان بارت في كتابه الذائع
الصيت لذة النص، حيث يعتبر اليوسف أن أول
واجب من واجبات القصيدة هو أن تخلق شعوراً
أصيلاً في وجدان المتلقِّي، بحيث تجعله
يتلمَّس إنسانيته. أي أن غاية القصيدة هي
معيارها نَفْسُه – أي إنتاج شعور أصلي أو
عميق – كما وقدرتها على الوصول إلى سويداء
الفؤاد، دون أي تريث أو إبطاء، من خلال
المحتوى الجوهري للشعر الأصيل، وهو: العاطفة
الوجدانية ذات المحتوى العيني. إذ إن الشعر
يتخمَّجُ حيث يكفُّ الشكل عن استضافة أي
محتوى سوى التجريد الشاحب. ويرى الناقد أن التصوير
وحده لا يصير أدباً عظيماً إلا حين يوظِّفه
الشاعر في نصٍّ حميم. وهنا يطرح فكرة
في غاية الأهمية: كلما كان النص أكثر إيغالاً
في دخيلة الإنسان كان أعظم وأجْوَد، وأَعْلق
بالنفس، وأكثر قدرة على التأثير فيها. وكلما
كان تأثير القصيدة ناجماً عن مجمل مناخها،
كانت قيمتها أعظم، ومزيَّتها أنْفَس،
وصمودها في وجه الزمن أصلب وأمتن. وبهذا ينتصر
الناقد اليوسف للنصوص الشعرية ذات البُنى
المتكاملة والمتضافرة، ولاسيما النصوص
الشعرية الطويلة ذات البناء الملحمي، حيث
تتناسل اللغة تناسلاً صُوَرياً، بحيث يكتب
الشاعر تأليفاً صُوَرياً لا صُوَراً شعرية
مفردة ومجتزأة. ثم ينتقل الناقد
إلى فكرة جوهرية وشديدة الأهمية، وهي التناسب
الطردي الملحوظ بين قيمة القصيدة وبين مقدار
"التوتر" الذي تزخر به والذي يمكِّنها من
اكتشاف الحقائق الروحية الأصيلة التي هي
أمَّهات الحقائق كلِّها. من خلال هذا
الفهم، يصل الناقد إلى تعريف جديد للشعر،
بوصفه ذلك الأثر الذي يأخذ بأيدي الناس
ليقودهم إلى داخل أفئدتهم؛ أي هو الوسيلة
التي تمكِّن الإنسان من التعرف على مجاهله
وأعماقه. إذ ثَمَّ ترابط متين بين وضع الشعر
في الحياة الاجتماعية وبين وضع القيم الروحية
جملةً، بحيث يظل الشعر معافى ما ظلت القيم
معافاة. من جانبنا نرى أن
مثل هذا الحكم عمومي ويفتقر إلى الدقة. إذ إن
الشعر الأصيل ظل على الدوام ممثلاً للنزوع
الأخلاقي الخيِّر والمُجابِه لمظاهر السقوط
والانحطاط؛ لا بل إن الشعر العظيم لم يكن إلا
وليد تلك الفترات المأزومة من حياة الإنسانية. ثم يعرج الناقد
على دور الخيال الذي يظل بلا قيمة مادام
ليس موحياً وبعيداً عن التكلف والتصنُّع.
وكذلك على ظاهر الرموز التي هي محاولة
للتعويض عن الفحوى المفقود؛ وهي من علامات
شيخوخة القصيدة. كما أن قلة رواج الشعر الحديث
بين الناس مردُّه – حسب الناقد اليوسف – إلى
فقدان القدرة على الإيحاء، والافتقار إلى
التلقائية، وعدم وجود بؤرة جاذبة تتحلَّق
بنيةُ القصيدة حولها، مما يحوِّلها إلى نصٍّ
متبعثر وفوضوي. هنا أيضاً نقف
متسائلين: كيف يغدو الرمز من علامات شيخوخة
القصيدة؟ وكيف تفتقر القصيدة الحديثة إلى
القدرة على الإيحاء؟! فمن المعروف أن الرمز
الموظف بإتقان من علامات رفعة النص الشعري
وتعدد القراءات الممكنة له، وبالتالي، توسيع
الحقل الدلالي له. وفي نهاية البحث
الأول هذا، يؤكِّد الناقد على أن وظيفة النقد
الأدبي في هذه الأيام ينبغي أن تكون "سدانة
السواء"، أو "صحة الفطرة"، أي حراسة
النص من النزوع إلى التجريد العمائي الذي لا
يشبه إلا رقص الأشباح. هكذا يُجمِل
الناقد في بحثه الأول "الشعر وسؤال القيمة"
تصوراته النظرية حول جودة النص الشعري بتوفر: -
المتعة الأدبية، -
المحتوى
العاطفي الوجداني، -
ملامسة
الداخل الإنساني وتعريف الإنسان على نفسه، -
الفحوى
الشمولية للنص، -
الإيحاء
والتلقائية والتحلُّق حول بؤرة جاذبة (عكس
التشتت)، -
مقدار التوتر في
النص. الشعر
والذائقة
في البحث الثاني
يتطرق الناقد اليوسف لمفهوم "الذوق"
الذي يُعَدَّ من المفاهيم المجردة، كالحب
والحرية والجمال. ومن الصعوبة بمكان تحديد أو
تعريف هذا المصطلح تعريفاً موحداً. ومع ذلك،
يغامر الناقد بطرح تعريف شخصي للذائقة التي
هي: "الانفعال بالوسيم أو اللطيف على نحو
ممتع أو منعش، بحيث يحذف كل فرق بين الذات
الذائقة وبين المحتوى الذي يُذاق." فأن
تتذوق نصاً أدبياً يعني أن تتماهى معه، وأن
تتمثَّله، فتجعله جزءاً من ماهيَّتك الخاصة
– مع ملاحظة أن الذات لا بدَّ لها من بذل جهد
داخلي كبير بغية الحصول على التأثير المنشود. بهذا المفهوم فإن
الأدب – حسب الناقد اليوسف – لا يسعه أن يؤثر
في من يتلقُّونه إلا إذا كان قادراً على
الإمتاع والمؤانسة والاجتذاب، أي إلا إذا كان
صالحاً للتذوق. ويميل الناقد إلى القول بأن رغبة
النفس في التعرف على محتوياتها هي بالضبط ما
يحث المرء على مقاربة الشعر. وبذلك لا تكون
القصيدة جيدة إلا بمقدار توافقها مع هوية
النفس، بحيث تخلق نوعاً من الألفة يشعر معها
القارئ بأنه كان يعرف تلك القصيدة، واقتصر
دور الشاعر على إيقاظها من غفوتها في نفس
المتذوق. إلا أنه لا بدَّ
من وجود توازن دقيق بين الذوق والمعيار
اللذين يتنازعان السلطة على النص الأدبي، مع
ملاحظة أن غاية الشعر تغذية الروح والسمو به
إلى أسمى الآفاق، وبالتالي الابتعاد عن
التشيُّؤ. ولكي يتحقق هذا
المقصد السامي للشعر أو للقصيدة، لا بدَّ من
وسيط ناقل، وهو اللغة الاستثنائية أو
الأثيرية التي تعني الصفاء الخالص،
المتأتِّي في الأساس عن: -
الخيال البصري، -
اللحن
العذب الموظَّف، -
التناسب
بين المعجم والمحتوى. ورغم أن كلاً من
هذه المرتكزات يتطلب بحثاً وشرحاً مستفيضاً
فإن الناقد يكتفي بكلمات قليلة ولمَّاحة لا
تُشبِع الموضوع. ويتحول الناقد
الأدبي – حسب مفهوم اليوسف – إلى "منقِّب"،
ويتحول النقد الأدبي إلى نوع من التنقيب عن
العناصر الذوقية المحايثة لكل نص متميز، لأن
النقد، في جوهره، هو "نوع من التنقيب عن
التفرُّد، أو عن المزيَّة والخصوصية". وهذا
تعريف لطيف لنقد أدبي مبدع وخلاق، لا يعترف
بالقوالب الجاهزة، بقدر ما ينطوي على حركة
مستمرة باتجاه النص الأدبي من أجل ملامسة
مستوياته المختلفة من حيث يريد النص؛ أي
النقد من داخل النص وليس من خارجه. بهذا يكتسب النقد
مصداقية أكبر ورصيداً أوفر في تصيُّد هواجس
النص الأدبي، بحيث يرتفع باللغة إلى أفق
السمو. ولا يتأتى ذلك إلا بالتلازُم بين نص
أدبي نازح عن التكلف والاصطناع والتلاعب
باللغة، وبين نقد متلفت وبعيد عن مجانية
الكلام، ويعتمد على ذائقة ديناميَّة حيَّة
وشديدة القدرة على الاستبصار والاكتشاف.
وتهدف هذه الذائقة إلى الالتقاء بالعناصر
الجمالية الصانعة للمزيَّة في كل نص أدبي
تلامسه. ورغم
نفور الناقد اليوسف من الشروح النقدية
التطبيقية فإنه يقدِّم نموذجاً تطبيقياً
للنقد المعتمِد على الذائقة من خلال استعراض الكوميديا
الإلهية لدانتي، ويحاول استخراج العناصر
الذوقية المكنونة فيها. وللتمييز بين
المسطَّح والعميق، وبين التلقائي
والمتكلَّف، يقترح الناقد تآزر الذائقة
الناضجة مع الاستبصار الاختراقي ذي الشوط
الطويل، ليصل إلى حكم قيمة مفاده أن الطور
الراهن طور نثري بالدرجة الأولى، حيث تفتقر
الكثير من أشكال الكتابة – حتى ولو كانت
شعراً – إلى الشاعرية والإيحاء وحرية
الانبثاق والحركة الطوعية التلقائية. ومرة
أخرى، لا يقدم الناقد تفصيلاً يجلِّي
إيحاءاته، وشرحاً يُشبِع أفكاره اللمَّاحة. وللتأكيد على
عامل الذائقة ودوره في طروحات النقاد
التراثيين، يعرض الناقد لبعض النقاد
القدماء، مثل القاضي الجرجاني وابن طباطبا
وشروحاتهم المتعلقة بالذائقة الأدبية، ليؤكد
على أن التنقيب عن ماهية الذوق هو من أهم
واجبات النقد في زمن فساد الأذواق، حيث إن كل
قصيدة لا تستجيب للمطلب الذوقي إنْ هي إلا جهد
مجاني لا قيمة له، ولا يجوز الالتفات إليه. بهذه المفاهيم
"الذوقية" يبتعد الناقد اليوسف عن
الأكاديمية والنظريات النقدية الجاهزة، التي
تُعامِل النص الأدبي بالمقاييس الكمية، إلى
محاولة تأسيس نقد أدبي جديد يستند على إزاحة
الغبار عن القيمة النفيسة للذوق الإنساني،
وعلى إعطائه الدور الأكبر في تقرير قيمة النص
الأدبي وجودته. وظيفة
الشعر
ثم يأتي هذا
السؤال–التحدي الذي ظل يتردد على مدار
الأزمنة بإلحاح: ما هي وظيفة الشعر؟ في الفصل الثالث
– أو المقالة الثالثة – من هذا الكتاب يحاول
الناقد مقاربة وظائف الشعر من خلال العلاقة
بين الشاعر واللغة. ويجب على الشاعر في هذا
السياق: -
اكتشاف الرصيد
الروحي للغة وإعادة خلقها، -
ترفيع
اللغة إلى أفق كمالها، -
إخراج اللغة من
وظائفها التقليدية إلى مستواها اللانفعي. وهذا يعني أن
اللغة الشعرية – بسموِّها – تتداخل مع الروح
حتى يغدوان شيئاً واحداً ينتصر على كثافة
المادة وثقلها وعجزها عن الإفصاح. والشاعر هو ذلك
الإنسان الذي يجعل اللغة زاكية، مترعة
بالطيبة، وصالحة للمتعة الذوقية. وهو (أي
الشاعر) لا يبتكر أية قصيدة عظيمة إلا إذا
التقى فعلاً بمحتويات روحه، أو بكنوزها
ومضمراتها، الجميلة والجليلة في آن واحد.
ويغدو الشاعر، بهذا المعنى، صديقاً حميماً
ومشتركاً لدواخل نفسه، من جهة، وللُّغة، من
جهة أخرى – تلك التي يمتطيها الشاعر وسيلة
لبلوغ غاية الشعر. وبدورها تنقسم
اللغة إلى شعبتين متباينتين: لغة الدنو ولغة
العلو؛ ويغدو الشعر نوعاً من إضفاء القيمة
على اللغة ورفعها إلى أفق العلو. يعود الناقد،
مراراً وتكراراً، إلى الموقف المأساوي الذي
يذكي ويحرض ويلهم الذكاء، على عكس الموقف
العبثي الذي يطفئ مصباح العقل ويطمس تلألؤ
أنواره. وهكذا يكتسب الشعور قيمة جلَّى حين
يتعاطف مع آلام الإنسان بحنان، دون التعالي
عليها. ومحاولة فهم هذا الشعور السامي لا
تتأتَّى إلا عن طريق منهاج "التوسُّم"
الذي هو أرقى مناهج الاقتراب من أي شعر جدير
بالاحترام. وهذا يؤدي بدوره إلى أن مفهوم
الناقد الأدبي يتحول إلى الارتكان إلى الطبع
أكثر من الارتكان إلى الذهن؛ أي أن الناقد
الأدبي قادر على إعفاء نفسه من الالتزام بأي
منهج مسبق الصنع، أو بأية نظرية جاهزة
الصياغة. هذا الارتكان
النقدي إلى الطبع يوازي النصوص العظيمة التي
تتطلب كتابتُها تعطيلَ المنظومة الفكرية
الذهنية المنطقية، ليتسنى للخيال ممارسة
دوره ووظيفته الأولى، ألا وهي "التحرش
بالمحال"، كما يقول ابن عربي. ورغم أن
القصائد التراثية القديمة كانت تفتقر إلى
عنصر الخيال إلا أنها عوضت عن هذا النقص
برصانة الأسلوب وأصالة الوجدان. أما الشعر
الراهن فيعتمد على الخيال لا على الوجدان؛
وبالتالي يفقد وظيفة إنعاش الروح بما يبتكر
ويبدع، ويمتنع عن إحدى وظائفه، ألا وهي
إخراجنا من زماننا ليولجنا في زمانه الخاص،
حتى يغدو اندراج زمن القراءة في زمن الكتابة
هو الاتصال النموذجي بالقصيدة. ويتطرق الناقد
بعدئذٍ إلى فكرة التلقِّي الذي يمثل استجابة
القارئ لغريزة التعبير والصياغة والتشكيل،
التي تستحضر المحتويات الداخلية على هيئة
أقوال وأشكال فنية سامية، ويمثل هروباً من
الواقع الراكد، أو فراراً من الحياة المريرة. أما الحاجة إلى
الشعر – هذا السؤال المثير للجدل،
والمتردد بإلحاح على مرِّ الأزمنة والعصور –
فيجيب عليه الناقد اليوسف بأننا نحتاج
الشعر ليكون مرآة تنظر النفسُ فيها فترى
محتوياتها أو أعماقها التي لا تعرفها إلا
بالحدس؛ وبشكل أدق: عَرْضُ النَّفْسِ على
النَّفْس، بشرط أن يقول الشعر ما لا يقوله
الذهن والمنطق والنظريات والعلوم، وعلى ألا
يستأصل مبدأ المحايثة، والاستفادة من
التجارب والموجودات الخارجية بعد أن تصير
شعوراً، أي برهة في النفس. وبهذا يتمكَّن
الشعر من تزويد الناس بجرعة منعشة، مبتعداً
عن التشاؤم المجاني غير المثمر، وممتنعاً عن
استضافة الإحساس المعتل بكل ما هو هابط أو
موهون. ولعلنا اليوم في أمس الحاجة إلى شعر
قادر على أن يتحسَّس حنين الإنسان إلى ما هو
صلب ومتماسك في زمن يخور، ويتهافت، ويتفكك. ويحدد الشاعر في
نهاية هذا البحث وظائف الشعر: -
الاتصال بالآخر
عبر الاتصال بصميم الحياة، أي البلوغ إلى
الأماكن النائية والأزمان التي لم تبدأ بعد، -
تحويل
اللغة من الألفة إلى الغرابة، -
إطلاق سراح النفس
أو تحرير القوى المحبوسة داخل الإنسان. وفي خاتمة الكتاب
يعود الناقد اليوسف ليؤكد على مسألة التفاعل
العميق بين الداخل والخارج، بين النفس وبين
الواقعين الاجتماعي والطبيعي كليهما، وما
ينتج عن هذا التفاعل من اختلاجات راعشة هي
جوهر الشعر الذي هو بنية واحدة تتألف من مزج
هذين العنصرين، وتعتمد على إحياء اللحظات
الشعورية والوجدانية ضمن قالب لغوي مغاير. القيمة
والمعيار
مفتاح لا غنى عنه لكل متذوق للشعر العظيم،
راغب في استبار أسراره. ***
*** ***
|
|
|