النظرة إلى الآخر في الخطاب الغربي

نقد للصورة السلبية عن الشرق جهلاً وعداءً

 

نزيه خاطر

 

يتناول كتاب النظرة إلى الآخر في الخطاب الغربي، على نحو عملي، أي انطلاقاً من أعمال أدبية مصادرها الرواية والمسرح والشعر وأدب الرحلة، الصورة النمطية للحضارة الشرقية وللمجتمعات المسلمة ضمن أطرها المتوسطية، كما تراكمت لدى الفرنسيين، من القرون الوسطى إلى العقد الأول من القرن العشرين.

 

المؤلف جان جبور أستاذ في الجامعة اللبنانية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الفرع الثالث (طرابلس)، قسم اللغة الفرنسية وآدابها، مما يدل، ولو من زاوية الاختصاص الأكاديمي، على سبب اختزاله "الخطاب الغربي" بكبار الأدباء والرحالة الفرنسيين الذين عالجوا موضوعاً يتجاوز، بحكم طبيعته، البيادر الدينية والسياسية والاقتصادية والثقافية للحالة الفرنسية، إلى كل الشعوب، ولغاتها الأوروبية التي عرفت، في أعرض مراحلها، انتشاراً للعواطف ذاتها والتحاماً عضوياً للمشاعر في ما بينها.

ويطرح جان جبور مرادَه من وراء النظرة إلى الآخر في الخطاب الغربي (260 صفحة من الحجم الوسط) في الأسطر الأولى من توطئة كتابه: "فمن القرون الوسطى حتى مطلع القرن العشرين تقلبت هذه العلاقة [بين الشرق والغرب عبر العصور] من حروب دينية ضد "الكفار" إلى انكفاء وسعي حثيث لإخضاع الشرق اقتصادياً وثقافياً، قبل أن تتبلور مجدداً مشاريع للسيطرة العسكرية ابتداء من مطلع القرن التاسع عشر" – يقول جان جبور. ولا فوارق لدى المفكرين الفرنسيين، سواء كانوا منتمين إلى الإيديولوجيات الدينية أو إلى الإيديولوجيات الثورية؛ فهناك ثابت لا يتحول أبداً قوامُه "هذه المشروعية التي منحها الغرب لنفسه للهيمنة على شعوب الشرق المصنفة في خانة الضعف والجهل والتخلف" – يقول الباحث.

وجليٌّ أن لكتاب جان جبور شكل الدراسة النقدية في المواجهة المباشرة مع الأجواء الفكرية السائدة حالياً في ميادين الاستشراق، خاصة بعد صدور مقالة أنور عبد الملك المشهورة "الاستشراق مأزوماً" (1963)، وبالأخص بعد صدور كتاب إدوارد سعيد الاستشراق (1978)؛ وهي مواجهة أرادها المؤلف اللبناني "تحليلية"، أي مرتكزة على "أعمال أدبية كاملة" – يقول – بغية إبراز مراحل نمو هذه الصورة السلبية لـ"شرق متخيَّل". لذا يختار الانطلاق من بدايات التكوين لصورة الشرق في الضمير الغربي المتشاوف، أي من النص الأدبي العائد إلى مجهول في زمن لم يكن شائعاً أن يوقِّع الفنان ما ينتجه من أعمال، أي مع أنشودة رولان من نوع "أغنيات المآثر"، لكونها تهمُّه – يقول جان جبور – "من حيث النظرة إلى الآخر وتصوير معتقداته، وهي نظرة طبعُها الجهل والعداء وتداولتْها العامة في مطلع القرن الثامن حتى نهاية القرن الحادي عشر".

وكتاب النظرة إلى الآخر... يدور، في كل أبوابه الثلاثة وفصوله الستة عشر وتمهيداته الثلاثة وخلاصاته واستنتاجاته، على تأكيد شيوع هذه النظرة وتناميها، من الأنشودة... كأول عمل أدبي متكامل في أوروبا القرون الوسطى، إلى كتاب السراب الشرقي (1910) للوي برتران، الذي يدل عليه جبور بصاحب "المواقف العدائية القاطعة التي جزم من خلالها بأن الشرق مكان موبوء وموئل للتوحش وحائط مسدود في وجه التقدم [...]"، ويستنتج أنه، بالنسبة إلى الغربيين المنجذبين إليه، "وهم كبير يغذي بعض المخيِّلات المريضة بالصور الإكزوتية المفبركة" – يقول جان جبور.

***

يبني جان جبور كتابه على ركائز أدبية قوامها نماذج مختارة من روائع موصوفة في الشعر والمسرح والرواية وأدب الرحلة والدراسة الاجتماعية التاريخية، تم انتقاؤها، لفائدتها، من إنتاج اثني عشر قرناً. وقد منح معالجاتِها للنماذج الأدبية الطابعَ النقدي المنفعل إيجابياً مع موضوع صدامي في محتواه واتهامي في نكهته، كمن يعترض على المنحى التشويهي للمواقف حيال الشرق، بإبرازه المبالغات في الفكرة والصورة، المنسابة على نحو مزمن، لفرنسيين كبار، من حجم غيوم بوستيل وجان راسين أو فولتير أو فولناي، إلى شاتوبريان ولامارتين وهوغو، إلى فلوبير ورينان ولوي برتران.

وفي فصول ثلاثة، وزع كلاً منها على مرحلة من التاريخ الفرنسي، أولها للقرون الوسطى، وثانيها للنهضة والتنوير، وثالثها للقرن التاسع عشر، ينحو جبور في دراساته النقدية الأدبية، المنعقدة على هاجس حضاري في صميم الحدث الثقافي الراهن، إلى عرض موضوعي أحاديِّ التوجُّه لشبه رفض عنيف وعدواني، كأنه نهائي، أي من دون أفق، يتراوح عند الفكر الأوروبي، ثم آدابه وفنونه ودراساته، متراكماً في شكل متراص لا يترك أملاً في التحول إلى أفضل، سواء كان الزمن للإيديولوجيات الدينية أو للإيديولوجيات الثورية. لكن الأهم في النظرة إلى الآخر في الخطاب الغربي، في أبوابه الثلاثة وفي فصوله الستة عشرة، غوصُه المدرسي الواضح والدقيق في محتويات النصوص الكاملة للأعمال المختارة، مما يهب الكتاب الطابع الأكاديمي.

وثمة عرض ذكي لأجواء القرون الوسطى، من خلال تحليل "أنشودة رولان" و"أنشودة أنطاكية". وكمن يفكك بدن كتاب رحلة إلى مصر وسوريا لفولناي (1787)، وعلى نحو أشد تحريضاً على القراءة، مسرحية التعصُّب لفولتير (1741)، حيث "يكشف الكاتب [أي فولتير] القناع عن وجهه في هجومه على الديانات السماوية"، يقول جان جبور.

وتنساب في النظرة إلى الآخر... مناخات معبأة بأجواء الاعتراض الضمني على واقع أدبي فرنسي مصنوع من "بديهيات" يعوزها برهان على صحتها، ومن أحكام على "قوالب نمطية جامدة". لذا "تكونت عن الشرق صورة خاضعة لأفكار ومعايير سابقة بعيدة كل البعد عن الموضوعية" – يقول جان جبور في خاتمة كتابه. وكان المؤلف دلَّ في فصله عن الشرقيات لفكتور هوغو، على حالة فرنسية تقيم مسافة بين الموقف الانبهاري أمام الشرق والموقف السلبي من الشرقيين – وهؤلاء "قساة ظالمون ومتوحشون" – يختصر جان جبور أقوال هوغو.

ومعظم النصوص في النظرة إلى الآخر... ترى إلى الشرق أنه السلطنة العثمانية والأتراك. والفوارق، في معظم المواقف، غير موجودة بين الشرقيين المسلمين والشرقيين من باقي الديانات والمِلَل، مع لزوم الإشارة إلى حصر معظم المواقف بالوجه الواقعي لشرق لم يعرفه الغرب مواجهة أو صداقة إلا مسلماً وبين عداء وحذر.

ويتوقف جان جبور مديداً أمام انزلاق الغربيين إلى الكلام على "الطبائع الثابتة"، وعن ثنائية العقلية الغربية والعقلية الشرقية: "الأولى يحكمها المنطق وتنحو باستمرار باتجاه التقدم" – يقول – فيما تعرف الثانية "لاعقلانية سكونية تعيش حالة ركود دائم". والأمر نفسه ساد زمن الإيديولوجيات الدينية وزمن الإيديولوجيات الثورية؛ مما شجع على بروز دفع قوي في الغرب باتجاه الهيمنة الأوروبية على سائر البلدان، فانطلاق الحركات الاستعمارية المقنَّعة بأفكار حول "تمدين" الشرق، فإدخاله إلى "الحضارة".

ويشير جان جبور إلى تنامي الشعور لدى الغربيين بالتفوق على "الآخرين" مع تصاعد التطور التقني الذي يعيدون إليه التفوق الغربي على باقي البلدان، ويبررون بعد ذلك حقهم في استعمار أفريقيا وآسيا، حتى أعماق البحار البعيدة.

***

الكتاب عريض التصور، وغني التفاصيل، ومرصوص المحتوى، وواضح الرؤية؛ لكنه، أولاً، جريء في معالجته الموضوع، وسط الجدال الفكري الدائر حالياً بين غرب يقول بتفوُّقه وحقِّه في التحكم استناداً إلى تقدمه العلمي، وشرق يرى إلى الحضارة أبعد من التقدم التقني، وبكونها جوهراً ومدى وضميراً. ولم يترك لحظة متابعتَه الصراع العائد إلى احتكاك بدا كأنه انطلق منذ أن توزع المتوسط بين شماله وجنوبه وشرقه وغربه، ويدل عملياً على الغربة الكاملة التي دامت طويلاً بين شرق مسلم وغرب مسيحي: "حين تخطت جيوش المسلمين جبال البيرينيه ما بين الأعوام 715 و720 لم يكن أحد في الغرب قد سمع، ربما، باسم النبي محمد أو بالدعوة الإسلامية [...]" – يقول جان جبور في السطر الأول من التمهيد لمرحلة القرون الوسطى وبدايات النهضة، يوم سادت الحروب الدينية وتشكلت صورة الآخر.

يبدأ النظرة إلى الآخر في الخطاب الغربي من هذه النقطة – وكأنها نقطة خارج التجاوز إلى اليوم!

*** *** ***

عن النهار، الأربعاء 5 كانون الأول 2001

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود