تعال وانظر

طغيان المؤسسة وغياب الإيمان الحقيقي

 

رينه أنطون

 

صدر الكتاب الأول عن "تعاونية النور"، وهو بعنوان تعال وانظر للدكتور جورج نصري نحاس. يقارب الكتاب واقع الكنيسة الأرثوذكسية، مستعرضاً الانعكاسات السلبية للمَأسَسَة في الكنيسة – في مفهومها السلبي – التي تؤدي إلى طغيان الأشكال الدنيوية وتغييب الأبعاد الحقيقية للإيمان.

 

مَن يعرف الكاتب يعرفه، في بحثه عن الحقيقة، رجلاً ساعياً لتحريك كل ثابت لا يطاول العقيدة الإيمانية، مذكِّراً بأن المدى المرجو للتألق الإنساني، بعد الفداء، هو التألُّه. وقد دفع به هذا السعي إلى خطِّ كتابه – الذي هو ثمرة عقود من الجهاد الكنسي – داعياً من خلاله إلى التنبُّه للمزج القائم، في كنيسته، بين التقليد tradition، من جهة، وبين الجمود المعوِّق لمقاربة الكنيسة تحديات العصر، من جهة أخرى.

عالج جورج نحاس موضوعات كتابه بروح جريئة لم تخشَ المسَّ بمسلَّمات كنسية باتت شبه مقدسة في نظر كثيرين. ولعل في صيغة التساؤل المردَّدة في كثير من المواقع محاولةً منه للتخفيف من وطأة هذا المسِّ، ولتلافي الخروج بموقف شخصي نهائي من القضايا المطروحة، قبل أن تنبري جماعتُه الكنسية للإجابة عن هذه التساؤلات والتفاعل معها، كما يوحي في مقدمة كتابه.

انطلق الكاتب في معالجة موضوعه من التركيز على أن أول مظاهر المَأسَسَة تكمن في تعامل المعنيين مع المسارات التعبدية والتقديسية، كالصلاة والصوم وأسرار الكنيسة والأعياد، كغايات مقدسة؛ في حين ليست هذه المسارات، في رأيه، سوى وسائل لتقديس الشخص في الكنيسة والجماعة. أما أهم الانعكاسات السلبية للمَأسَسَة فهي تغييب صدارة الفقير في وجدان الكنيسة، وغرق جماعة المؤمنين في المظاهر الدنيوية، مما أفقدها كل خصوصية. وهذا ما حثَّه على تذكير مُقدِّسي الأشكال بأن الكنيسة التي لا تتزعزع هي الكنيسة التي يحكم فيها المسيح فقط، وبالتالي هي غير الكنيسة التاريخية التي لها من الكنيسة الشكل الخارجي.

لقد ناءت الأشكال بثقلها على الأعياد الكنسية، وأفرغتْها من مضامينها، فعادت شبيهة بغيرها من أعياد ما قبل الميلاد. وهذا ما آل بالجماعة الكنسية المعنية بها أن تصير جماعة استهلاك، شيَّأت نفسها في خدمة تطلعات دنيوية، وفقدت بذلك خصوصيتها في كونها جماعة مفتداة أُعطِيَتْ أن تعرف الإله الحقيقي.

أما على مستوى الأسرار، فقد ساهمت قدسية الأشكال في تغذية النزعة الفردية المعوِّقة لوحدة الجماعة الكنسية وتفاعلها في آن واحد. وهذا ما غيَّب البعد الحقيقي للعلاقة المرجوَّة بين الشخص والجماعة. فرادة مفهوم الجماعة الكنسية تكمن في كونها جماعة شكرية تستمد وحدتها من وحدة الكأس المقدسة. وهذا ما يتخطَّى المفهوم الدنيوي للجماعة بكونها اجتماع أفراد.

غير أن أبرز ما يدفعك لتبنِّي نظرية الكاتب في تحرير الكنيسة من متحفيَّتها، هو ما آلت إليه الحالة الصلاتية عامة. فالصلاة، التي هي وسيلة لتلافي القضاء على خصوصية المؤمن، والتي رتَّبها آباء الكنيسة بهدف تقديس الإنسان في يومه وسنته وحياته الشخصية، باتت تمارس اليوم كلغو. لغة صلاتية متداولة ونصوص طقسية تساهم في تغريب المؤمن عن عالمه. أوقات للخدمة "تخدم" تفريغ الكنائس من المؤمنين. أعياد شفعاء قديسين تقام من دون الالتفات إلى المختصين بها، وكأن لا دور لهؤلاء المختصين في مدِّ هذه الشفاعة إلى عالم اليوم. طقوس استحالت فولكلوراً بسبب من صَنَمية الكلمة واللحن والأداء، وأخرى باتت عبئاً على غير الرهبان بسبب من أنماط رهبانية سائدة عليها. والأهم فصل مصطنع بين سرِّ الشكر (الإفخارستيا) وباقي الأسرار، واستحالة هذا السر إطاراً لاحتفالات دنيوية غيَّبت عنه ماهيَّته كمنبع ومصبٍّ لكل الصلوات.

هذا التغيير في اتجاه تفعيل الروح وسيادته على الأشكال تراه هدفاً يسعى إليه الكاتب أيضاً بإزاء موضوع الصوم الذي طالتْه، كغيره من المسارات التعبدية، الانعكاسات السلبية للمَأسَسَة. فمع التشديد على الانضباط، نرى تساؤلاً يعكس استغراباً أمام تقزيم اهتمامات الله، إلى حد الاهتمام باللحم والجبن والسمك. فتشعر وكأن الكاتب شاء أن يسترسل بتساؤله ليقول: أليس هذا التقزيم، خدمةً للأشكال، هو المس بالمقدسات؟ فالصوم، في نظره، وسيلة في خدمة النمو في المسيح وليس غاية. أما أول وجوه المَأسَسَة فتبرز في أن يمسي الصوم، بالنسبة لبعضهم، غاية في ذاته، وأن يعبِّر هذا البعض عن ماهية الصوم بالتزامه مفهوم قهر الجسد المتناقض والرؤيةَ الأرثوذكسية للإنسان وعلاقته بجسده. هنا تبرز قضية اللحم والجسد التي يحسمها الكاتب، مميزاً بين اللحم المدعو إلى الانحلال، والجسد هيكل الروح القدس المدعو إلى المجد. ولذلك يتجسَّد البعد القيامي للصوم ويتكامل بالانتصار على "اللحمية" – التي هي كيانية أيضاً – المتمثِّلة بالكبرياء البشرية، والأنانية، والتملك، وحب المال.

هذا ما يعيد إلى الفقير أولويته في مسار الصوم، بعدما غيَّبت المَأسَسَة هذه الأولوية من خلال جعل الصوم مقتصراً على التزام بترتيب فقط. وقد رُسِّخت هذه الأولوية من خلال خلاصة، تتفق والكاتبَ عليها، وإن اختلفتَ معه في السبل إليها، ومفادها أنه ما دام في العالم بائس، وما دام في العالم مظلوم لم نسعَ لإطعامه ولرفع البؤس عنه، فصيامُنا محرقة، لكون "خدمة الفقير هي المحك الوحيد لترجمة المحبة" في عالم "إيماني" يتصدَّره الأغنياء.

جذرية هذا الموقف تلحظها أيضاً في مقاربة الكاتب لموضوع المال في الكنيسة. فالمال الذي هو في الكنيسة غير المال الذي هو في العالم – وُجِدَ ليخدم ويُطوَّع. ولعل هذا ما يشرح قول الرسول "أن نملك وكأننا لا نملك".

وليس بعيداً عن دعوته لبثِّ الروح في الأشكال الكنسية، تبرز أفكار الكاتب حول أوجُه العلاقة بين أطراف الخدمة الكنسية، من جهة، وآلية تناغمهم في خدمة هذا الجسد، من جهة أخرى. فالجماعة الشكرية في الكنيسة هي جماعة مَواهِبية، للكل فيها موهبة والحاجة هي إلى الكل، نَزَعَتْ عنها الممارسةُ القائمةُ اليوم هذه الصفة لتأثير غربي أحلَّ الهرمية مكان الدائرية، بعدما مهَّد له بتشويه مفهوم الطاعة في الكنيسة، وجعلها للشخص بدل أن تكون للمسيح الذي يحمله هذا الشخص.

تعال وانظر كتاب ينقلك إلى واقع يحرِّك فيكَ المواجهةَ مع الذات لأنك، بسبب مرارة هذا الواقع، تعي حجم المَأسَسَة التي تتآكل فكرَك وتوثبك لكل ارتقاء.

*** *** ***

عن النهار، الجمعة 15 شباط 2002

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود