قراءة في كتاب

المعتزلة والفكر الحر

 

جورج جبور

 

1

يتألف كتاب المعتزلة والفكر الحر[1] للدكتور عادل العوا، أستاذ الفلسفة والرئيس الأسبق لقسمها بجامعة دمشق، من تمهيد (ص 5-21)، وبابين، أولهما بعنوان "المعتزلة" (ص 25-154)، وثانيهما بعنوان "مفكرو المعتزلة" (ص 157-337)، وخاتمة بعنوان "تأثُّر المعتزلة وتأثيرهم" (ص 339- 379)، وقائمة بالمراجع (ص 381-385) – وكلها كتب عربية لم تُذكَر أسماء الدور الناشرة لها (أي للكتب)، ومن جدول محتويات أُسمِيَ "فهرساً" (وحبذا لو يميِّز مؤلِّفونا وناشرونا بين الأمرين). نذكر هذا ونقول، بدايةً وبداهةً، أن الكتاب قيِّم وكبير الحجم، يستحق فهرساً للأعلام والمواضيع. ثم حبذا لو أن الناشر خَتَمَه بقائمة مؤلفات د. العوا، بالإضافة، طبعاً، إلى ما ختم به، وهو قائمة منشورات دار الأهالي.

 

2

يبتدئ التمهيد بجملة قاطعة: "الفكر الحر – في نظرنا – هو أن يبدع الإنسان حقائقه التي يؤمن بها، ويبتكر قيمه التي يقرها ويتبع هداها." بعد هذه الجملة القاطعة يأتي بنا المؤلف إلى لمحة وجيزة للمسيرة التاريخية لما دعاه بـ"الفكر الحر"، الذي "استوى على ساقه بالمعنى الدقيق في القرن الثامن عشر الأوروبي" (ص 5)، مبرراً لمحته الوجيزة هذه بأن المعتزلة أسهموا في "إذكاء معركة الفكر الحر في الثقافة العربية والإسلامية وتطويرها" (ص 6). وفي هذه اللمحة يتابع موضوعة الفكر الحر لدى اليونان، فالرومان، فالمسيحية الأولى، فمحاكم التفتيش، فحركة الإصلاح الديني التي أتى بها لوثر، فموقع الفاتيكان في مسيرة حرية الفكر، وموقع إنجلترا وبروسيا وفرنسا والولايات المتحدة، لينتهي إلى "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" الذي صدر في 10/12/1948، وليس في 10/11، كما يذكر المؤلف بخطأ نظنُّه مطبعياً (ص 19). ثم يختتم المؤلف هذا التمهيد بشرح خطة كتابه، ويخبرنا أنه وجد أن "أفضل – وأحدث – مصدر [...] لدراسة مذهب المعتزلة [...] هو الكتاب الأساسي الذي نُشِرَ منذ سنوات معدودات للمعتزلي الشهير القاضي عبد الجبار، وهو كتاب شرح الأصول الخمسة" (ص 20).

ولا يخفي المؤلف شغفَه بالمعتزلة حين ينهي تمهيده بقوله إنه أنهى كتابه "بالإشارة إلى "صيحات" شتى من الأسى والأمل: الأسى على اضمحلال الاعتزال تاريخياً، والأمل بانبعاث روحه العقلية المتحررة مجدداً في غد الأمة العربية، صيحات أطلقها غير واحد من كبار الباحثين في عصرنا عند نظرتهم إلى الغد" (ص 21).

3

الفصل الأول من الباب الأول يبحث "ما قبل المعتزلة" (ص 25-43)؛ وفيه يستعرض المؤلف "الخلافات الكلامية"، أي تلك الناشئة من تطبيق العقل على النقل، ثم يتقدم ليبحث في الفِرَق الكلامية الأولى  الثلاث الرئيسية، وهي: "الصفاتية" و"الجبرية" و"القدرية".

ويختص الفصل الثاني بـ"نشأة المعتزلة" (ص 45-63)، وما يحيط بهذه النشأة من غموض في أصل التعبير. ولن نشير إلى الآراء الكثيرة بهذا الصدد، كما لن نرجِّح واحداً منها على الآخر، لأننا في هذا لن نقدم جديداً لم يأتِ به المؤلف الذي عالج موضوع غموض النشأة والاسم بعناية، ليخلص إلى أن المعتزلة "حركة فكرية تنمُّ عن تطور الفكر الكلامي الإسلامي باتجاه مزيد من الوعي والعمق والتعقل الذي يأخذ بمفهوم الإنسان: كيانه ومسؤوليته بإزاء مفهوم إرادة الله وقدرته وسلطانه على الكون والبشر" (ص 51).

وفي هذا الإطار من الأفكار، يأتي المؤلف إلى الاسم الذي كان يطلقه المعتزلة على أنفسهم وهو "أهل العدل والتوحيد"؛ ثم يورد المؤلف ما أورده المقريزي عن أسماء أطلقت على المعتزلة مخاصمة لهم، وهي: "الحَرْقية" و"المُفنية" و"الواقفية" و"اللفظية" و"الملتزمة" و"القبرية" و"الثنوية" (ص 55). ونحن، إذ نورد هذه الأسماء هنا، فذلك استثارةً لفضول القارئ، فيعود إلى الكتاب، أو إلى مَراجعه، ليستزيد وليشاركنا العجب من "حذلقة" صنعة المخاصمة و"تقدمها" في تاريخنا الفكري! أفما أقول في دراسات في السياسة العربية الراهنة: "تكاد اللغة السياسية العربية الراهنة تفقد قدرتها على التفهيم المتبادل لكثرة ما فيها من اصطلاحية تمجيد وتحقير"؟ فلينظر القارئ، إذن، في تنوع ما أطلقه خصوم المعتزلة عليها من أسماء! ثم إن فرق المعتزلة عديدة أيضاً، يعدد منها البغدادي في فرقه ست عشرة، وغيرُه غير ذلك. أما طبقاتهم فجعلها بعضهم في اثنتي عشرة. ولكن المؤلف، ببراعة تُذكَر فتُشكَر، يُجمِل كل ذلك في مدرستين، هما: مدرسة البصرة، ومدرسة بغداد (ص 62-63).

عنوان الفصل الثالث "درب التحرر" (ص 65-102)؛ وفيه يبتدئ المؤلف برسم ملامح المعركة التي خاضها المعتزلة، وما تعرَّضوا له من تجريح – بل وتكفير! – على أيدي خصومهم من أهل السنَّة والجماعة خاصة. وتحفل الصفحات 66-70 باستشهادات من قادة رأي متَّهِمة المعتزلة بالزندقة والمجوسية والكفر؛ بينما تحفل الصفحات التالية بردود المعتزلة على خصومهم وتكفيرهم لهم. ومن المفيد تسجيل النموذج التالي لهذا التكفير (الخاص برؤية الباري، عزَّ وجل – ومن المعلوم أن المعتزلة منزِّهة). يقول أبو موسى المردار الملقب بـ"راهب المعتزلة": "[...] كل من قال بجواز رؤية الباري سبحانه فهو كافر، ومن شكَّ في كفره فهو كافر، ومن شكَّ في كفر من شكَّ في كفره فهو كافر، لا إلى غاية." (ص 71-72)

وبالطبع، فما اتهام المعتزلة بالتكفير إلا لإغراقهم في التأويل، الذي يرى المؤلف أنه (في حالتهم) إنما "يبعد عن الاتجاه التقليدي ويقترب أشد القرب من الفكر الحر المؤمن بالإنسان، وقدرته على الوصول إلى الحقيقة بهدى من عقله وتفكيره "(ص 74).

وإذ تميَّز المعتزلة بمنزعهم العقلي، فقد رأى واحد من روَّادهم – وهو القاضي عبد الجبار – أن أول ما أوجبه الله على الإنسان معرفتُه "بالتفكر والنظر" (ص 75). ومن هذا الإصرار على "التفكر والنظر"، تحفَّظ على أتباع التقليد الذي يمتنع "على الإنسان الجدير بسمة الإنسانية، أي بقدرته العقلية على النظر والتفكير" (ص 79). وهذا المنطلق، الذي عنه يصدر المعتزلة في أن "الشرع لا يخالف العقل" (ص 83)، تُبنى عليه استدلالات قادت فيما قادت إليه إلى اعتبار الإنسان "خالق أعماله"، وأنه بذلك "مسؤول" (ص 89). "فالله جعل الإنسان حراً لأنه عاقل في نظر المعتزلة." (ص 91)

وإذ يستعرض المؤلف آراء المعتزلة هذه، يتقدم فيُثبِت آراء أخصامهم، ولا سيما الأشاعرة؛ وخلاصتها أنه "لا يكون في الأرض خير ولا شر إلا ما شاء الله" (ص 94). وهكذا، فبينما ""يجرؤ" المعتزلة، بل تبلغ بهم "القحة"، أن يوجبوا ما يوجبوا على الله نفسه، بدعوى استنتاجاتهم المنطقية، ينفي ذلك الأشاعرة ويرون أنه "لا يجب" على الله شيء" (ص 100).

أما الفصل الرابع فخاص بـ"الفكر الانتقادي" (ص 103-127)؛ وفي هذا المجال يستفيض المؤلف في تبيان مهاجمة المعتزلة "انحراف" العلماء في مجالات التفسير والحديث عن جادة "المعقول" (ص 105)، وتدقيقهم في وقائع التاريخ وتقييمها بحسب ما يمليه العقل، وآرائهم في الغيب التي "قد تكون جريئة بإسراف في كثير من الأحوال" (ص 109). فليس كل من مات، مثلاً، مات بأجَلِه، كالمنتحر، وليست الأرزاق والأسعار بقضاء الله (ص 114-115). وبالطبع، فمن شؤون الغيب المَعادُ؛ وبه شُغِفَ المعتزلة أيما شغف، فعالجوا مسائل، مثل موت الطفل والألم الذي ينزل بالأطفال، وما يستتبع هذا الشغف بالمعاد من الانشغال بمسألة هي ذروة الغبطة لدى العبد بمعاينته الله في الجنة. والمعتزلة أنكرت تلك الرؤية، بما يتضمن ذلك من تأويل آيات قرآنية، مثل قوله تعالى: "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة" [القيامة 22-23] (ص 125-126).

ثم إن خاتمة فصول الباب الأول (وهو الخامس)، مكرَّس للـ"فكر العلمي" لدى المعتزلة (ص 129-154)، حيث يقدم المؤلف في بداية هذا الفصل رأي الأشاعرة في العالم، ثم يعارضه برأي بعض أشهر المعتزلة، كالعلاف والنظَّام والجُبَّائي والقاضي عبد الجبار. وبالطبع تختص هذه الآراء بكيفية إحاطة الفلسفة بمدركات العلم – كما كان آنذاك –؛ وهي بهذا تبدو لنا، مقارنةً بمدركات علم اليوم، بعيدة عن نطاق الاهتمام المسؤول.

بخطأ مطبعي يبتدئ الباب الثاني، وعنوانه "مفكروا المعتزلة" (فلنسجل لصالح الناشر ضرورة حذفه ألف الواو في طبعة ثانية‍‍‍‍‍‍)، وفيه ثلاثة فصول عن معتزلة مدرسة البصرة، فمدرسة بغداد، فالمعتزلة المتأخرين.

ففي الفصل الأول الخاص بـ"مدرسة البصرة" (ص 157-243)، يبتدئ المؤلف بالحسن البصري (م 110 هـ)، ويتبعه بواصل بن عطاء، فعمرو بن عبيد، فأبي هذيل العلاف، فإبراهيم بن سيار النظَّام (ص 185-212) – والتعريف به هو الأطول، وبحق – فتلاميذه (ابن خابط، والحدثي، والأسواري، فالجاحظ، فمعمَّر بن عبَّاد السلمي، فهشام بن عمرو الفوطي). وفي التعريف بكل واحد من أعلام المعتزلة هؤلاء يتوقف المؤلف، قدر ما يجب، عند أهم ما اقترن باسم كل منهم من مسائل.

وكذلك يفعل في الفصل الثاني الخاص بـ"مدرسة بغداد" (ص 245-283) التي تأخرت زمنياً عن مدرسة البصرة. وفي هذا الفصل يورد المؤلف أسماء كل من بشر بن المعتمر، وثمامة بن أشرس، وأبي موسى المردار، والجعفرين (جعفر بن مبشِّر الثقفي، وجعفر بن حرب الهمداني)، وأبي جعفر الإسكافي، وأبي الحسين الخياط، والبلخي الكعبي، منتهياً بأحمد بن أبي داؤد، الذي اختصَّه المؤلف بالنصيب الأوفى من الصفحات (263-283).

ولي على أحمد أبي داؤد هذا مأخذٌ – أقول: بل ثأر! – عمرُه ثلاثون عاماً منذ عرَّفني عليه أستاذنا العوا، فدأبت أتابعه فيما أنزل بأخصامه – وبنا! – من محنة. فالفكر الحر الذي ابتدأ به المعتزلة، فأبدعوا، انتهى عند صاحبنا إلى نفوذ لدى المأمون والمعتصم والواثق، بكلِّ ما يعنيه المفكِّر لدى الحاكم من ميل لفرض مدرسة فكرية بعينها على كل المفكرين. كيف لي أن أنسى مناقشة المفكر المقرَّب النافذ مع أخصامه وهم "في الحديد"؟! كيف يقبلها على نفسه، تلك الفعلة، مفكرٌ حر؟! وتلك الشجاعة الفكرية التي أبداها أحمد بن حنبل في مواجهته، أين منها – وهي زاد لكلِّ مفكر في العالم بأسره – كل ما يمكن أن يزودنا به "علم" ابن أبي داؤد وفكره المعتزلي "الحر"؟! لن أخوض هنا في مسألة خلق القرآن (التي تبدو لي في جوانب منها مشابهة لمسألة "الطبيعة والطبيعتين" في المسيحية)، وفي فلسفتها، بل عن محنتها أتكلم. فحبذا لو أفرد لها (للمحنة) د. العوا أكثر مما فعل؛ وحبذا لو نشجع التأليف عن أحمد بن أبي داؤد هذا. فقد عدت إلى حواشي المؤلف عنه، فما وجدت بها عملاً مفرداً له؛ بل ما وجدت بها إشارة إلى مرجع رجع إليه بشأنه يعود تاريخه إلى ما بعد عام 1960.[2]

يعرِّف المؤلف في الفصل الثالث بـ"المعتزلة المتأخرين" (ص 285-337): بأبي علي الجُبَّائي، وابنه أبي هاشم، ومختتماً بالقاضي عبد الجبار؛ وعنه يشرح "الأصول الخمسة" للاعتزال في "التوحيد" و"العدل" و"الوعد والوعيد" و"المنزلة بين المنزلتين" و"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" (ص 305-337).

4

جعل المؤلف خاتمة كتابه "تأثر المعتزلة وتأثيرهم" (ص 339-379)، فبدأ بتأثُّرهم، مورِداً بدايةً رأي مؤرخي الفرق، كالأشعري والباقلاني والبغدادي والإسفراييني والجويني والشهرستاني. ثم يورد "رأي الباحثين المحدثين" (ص 348-352)، وهم من يهمنا رأيهم هنا، خاصة، رغم أهمية رأي مؤرخي الفرق؛ فلنقف عند هذا الرأي هنيهة.

يقول المؤلف إن الباحثين المحدثين ينسبون إلى بعض المؤرخين العرب ما يمكن أن يُستخلَص منه أن المعتزلة تأثروا باليهودية، وتأثروا (خاصة) بالمسيحية، ولا سيما بما أتى به يحيى (يوحنا) الدمشقي (ص 349-350). ثم يورد المؤلف رأي د. عبد الرحمن بدوي من أن هذا التأثُّر ليس كبيراً.

ثم يتابع المؤلف أثر الفلسفتين اليونانية والهندية على المعتزلة، لينتهي من كل ذلك إلى "أصالة" المعتزلة في النمو الفلسفي والفقهي الإسلامي؛ ذلك أن "الحاجة الجمعية للثقافة العربية الإسلامية هي التي جاء علم الكلام الإسلامي لتلبيتها بالدرجة الأولى. ومن تطور هذه الحاجة في تضاعيف التاريخ ولَّدت فرق الكلام" (ص 352).

أما "تأثير المعتزلة" (ص 352-379)، فتتبَّعه المؤلف تحت 13 عنواناً، نتوقف عند أوليْها وخواتيمها الأربعة، وهي على التوالي: أهل السنة، والشيعة، والكندي، والسجستاني، وإخوان الصفا، والمعري، والتوحيدي ومسكويه (في عنوان واحد)، وابن طفيل، والثقافة الأدبية واللغوية، بالإضافة إلى الخواتيم الأربعة التي سنتوقف عندها وسنذكرها آن التوقف.

تأثير المعتزلة على السنَّة تمثَّل – كما يقول المؤلف – سلبياً في الجمود الفكري الذي هيمن بعد كسوفهم أيام المتوكل، كما تمثَّل إيجابياً في حذلقة واحد منهم عاد إلى موقف السنَّة الذي يتوسط بين غلوِّ الاعتزال وغلوِّ أهل السلف، هو أبو الحسن الأشعري؛ وهي سلفيةٌ واعيةٌ ذاتَها، تدافع عن ذاتها بالعقل، أفرزت في مرحلة لاحقة الماتريدية (نسبة لأبي منصور الماتريدي)، التي أُطلِق عليها أحياناً اسم "المعتزلة المتسترين". وأما تأثير المعتزلة على الشيعة فتمثَّل في ميل البويهية للاعتزال، وفي اقتباس الشيعة عن المعتزلة "أصول الكلام وأساليبه"، حتى أكد المقريزي – كما يذكر المؤلف – أنه "قلما يوجد معتزلي إلا وهو رافضي" (ص 355).

وأما الخواتيم الأربعة (وكلمة "خواتيم" هذه مني وليست من المؤلف)، فتبتدئ بتأثير المعتزلة على "الثقافة الإسلامية غير العربية"، كما في الهند الحديثة مثلاً، حيث ثمة "معتزلية جديدة" – حسب تعبير غولدتسيهر، الذي ينقله المؤلف – تُوِّجَت بإيجاد "الكلية الإسلامية الإنجليزية الشرقية" في عليكرة (1877).

وأما تأثير المعتزلة على الثقافة العربية الإسلامية، فيتمثل خاصة في محمد عبده، صاحب رسالة التوحيد. وينقل المؤلف عن سليمان دنيا قوله: "بلغ الشيخ الإمام [محمد عبده] في تعويله على العقل مبلغاً يجعله في عداد المفكرين الأحرار." (ص 374)

وأما تأثير المعتزلة على الفكر اليهودي، فينقل المؤلف عن الشهرستاني القول بأن "الربانيين في اليهودية كالمعتزلة في الإسلام"؛ كما ينقل عن المقريزي قوله إن "الربانيين يعوِّلون في أحكام الشريعة على التلمود، ومنهم طائفة يقال لها الفروشيم، ومعناه المعتزلة" (ص 374). ويختم المؤلف هذا العنوان (الثالث) بشيء من الشرح عن دور ابن ميمون كجسر تأثُّر وتأثير.

أما خاتمة الخواتيم في تأثير المعتزلة، وفي الكتاب كلِّه، فعنوان معبِّر هو "التطلُّع إلى الغد"، وتحته صفحتان تقريباً؛ وفيه يوضح المؤلف أن الاعتزال، وقد اضمحل مذهباً، "بقي روحاً وموقفاً" (ص 378). ويورد في هذا النطاق من الأفكار أقوالاً لأحمد أمين، وزهدي جار الله، وقدري حافظ طوقان؛ وعن هذا الأخير يقتطف مطولاً،[3] قبل أن يختم بالتأكيد على أن ثمة حاجة "إلى الانفتاح العقلي المتحرر على الوجود، وهو [أي هذا الانفتاح] نتيجة أصلية وثمرة يانعة من نتائج الفكر الاعتزالي العقلي..." (ص 379).

5

الكتاب قيِّم، لا شك في ذلك، شأنه شأن جميع كتب د. العوا، الذي هو من أغزر – وربما أغزر – أساتذة الدراسات الفلسفية والاجتماعية إنتاجاً في جامعة دمشق. وفي الكتاب يتجلَّى أسلوب د. العوا في التأليف: الجملة سهلة مفهومة، والسياق سلس غير منقطع، والاستشهادات وافرة تدل على اتساع الاطلاع وتنوعه.

ثم إنني لن أتوقف عند نقاط كثيرة لا بدَّ أن يثيرها الكتاب في الذهن؛ لن أتوقف لأنني لست صاحب اختصاص دقيق في هذا الحقل، رغم أن كلَّ معنيٍّ بشؤون الفكر العربي لا بدَّ له إلا أن يأخذ تجربة المعتزلة بعين الاعتبار و"يتخصَّص" بها، إذا جاز القول. وإذا كان لي أن أدَّعي العناية بشؤون الفكر العربي، فلأقل أنني مدين في جزء (على الأقل) من هذه العناية إلى د. العوا في تدريسه لنا المعتزلة أيام الطالبية قبل نيف وثلاثة عقود. منذئذٍ وأنا أتابع المعتزلة خاصة، وأجمع ما يُكتَب عنهم.

وأتوقف عند نقطة ثانية: ما الذي جعل دعاة حرية الفكر في تاريخنا أقسى ممارسي القمع الفكري (وإلى عام "المحنة" أشير)؟ وأن يتم انقلابهم هذا في فترة زمنية قصيرة؟ هل هذا التحول وقفٌ علينا في حضارتنا العربية والإسلامية، أم هو مشاع لدى جميع الحضارات، وبنفس درجة عنف القمع؟ – وعندي أنه مشاع. هل هذا التحول من تاريخنا، أم أنه حي في حاضرنا أيضاً؟ – وعندي أنه حي. ولأسأل د. العوا سؤال تلميذ لأستاذه: هل وقع في مطالعاته الواسعة على من انتقد من المعتزلة أسلوبهم في المحاجَجَة حين كانت لهم اليد العليا؟

وتتكاثر النقاط، ولن أشبعها بحثاً: هذه "الإبستمولوجيا الدينية" كيف نقاربها؟ هل ثمة "مُحكَمات" إلا ويستطيع "التأويل" أن يجعلها "متشابهات"؟

رياضة فلسفية أمارس، إذ أنثر النقاط. وليست لدي حتى الآن – وأوشك على اقتحام باب العقد السادس من العمر – إجابة فلسفية عنها كلها تقنعني، لأستطيع بها أن أقنع غيري. وما كانت هذه النقاط لتثار لولا كتاب د. العوا. أفليس بهذا المعنى يُمدَح أحسن الكتب بأنه "مثير للذهن"؟ ثم ما كانت النقاطُ لتُنثَر لولا أنني، منذ درست على د. العوا، عرفت فيه محاوِراً ممتازاً. وبهذا المعنى أرجو أن تكون السطور السابقة عرفاناً بجميل الأساتذة، واستجلاباً لحوار مفيد.

*** *** ***


[1] د. عادل العوا، المعتزلة والفكر الحر، دار الأهالي، دمشق، 1987؛ 389 ص.

[2] وهو كتاب عبد المتعال الصعيدي، القضايا الكبرى في الإسلام، ط 2، القاهرة، 1960.

[3] من كتابه مقام العقل عند العرب، القاهرة، 1960.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود