|
مايا
سحر
الفكرة الهارب
اسكندر
حبش
يشكل تعليم الفلسفة للمراهقين
والشبان حاجة ملحة بالنسبة إلى غاردر. كما
أننا إذا وضعنا حيواتنا الخاصة والقصيرة في
بعد الإنسانية الكوني، نستطيع عند ذاك أن
نتحمل فكرة الموت. من هنا، حاول مطولاً أن
ينزع من أوهام البشر تلك الإيديولوجيا التي
تتمحور في محاكمة الناس عما يقومون به وليس
عما هم عليه في واقع الأمر. في بداية التسعينيات، تبوأ جوستين
غاردر لائحة الكتب الأكثر مبيعاً (ربما في
العالم بأسره) لمدة طويلة بفضل روايته عالم
صوفي[1]؛
وهي رواية تبدو بشكل أساسي وكأنها مخطط
فلسفي، حاول تطوير أفكاره عبر القالب الروائي.
صحيح أن عالم صوفي لم تكن روايته الأولى؛
إذ كان عرف نجاحاً كبيراً في بلاده عبر بعض
الأعمال ذات العمق المتفرد. إلا إن عالم
صوفي هي التي كرَّستْه عند النقاد والجمهور
العريض، في النرويج وفي العالم. جاءت رواية عالم صوفي لتشكل
طريقة "حقيقية" لتقديم الفلسفة إلى "المراهقين".
فكرة لاقت استحساناً ورواجاً، لدرجة أن
نجاحها – وعلى قوله – قد كبَّله. بيد أن ذلك
دفعه إلى كتابة أعمال أكثر دقة فيما بعد، أو
بالأحرى دفعه في كتبه إلى طرح الأسئلة الكبرى
التي تحيط بالبشرية، من مثل: "من أين نجيء؟"،
"لماذا نحن على ما نحن؟"، إلخ. في عام 1996 جاءت روايته Vita
brevis التي تشكل، بشكل من الأشكال،
ترجمة لرسالة بعث بها القديس أوغسطينوس
منتقداً فيها أسقف هيبو، وقد أضاف إليها
تمهيداً وخاتمة. أما في روايته مايا[2]
فيستعمل غاردر مفهوما مماثلاً؛ إلا أنه، هنا،
يستغل ذلك لكي يتحدث عن التحول المنهجي في
الحقل العلمي. مصائر إننا تقريباً على مشارف
الألفية الثالثة، في منطقة تافوني، في جزيرة
فيجي، تلك الجزيرة التي تتغير فيها التواريخ.
في هذه البقعة، تتقاطع مصائر بعض الأشخاص،
حيث نجد البيولوجي النرويجي فرانك أندرسن،
الذي هجرته زوجته بعد أن فقدا طفلتهما، كذلك
الروائي الإنكليزي جون سبوك، الذي جاء ليقضي
فترة حداد على زوجته المتوفاة، بالإضافة إلى
آنا وخوسيه، وهما "زوجان نجمان إسبانيان"
يعيشان حالة حب جارف.
قد يكون من الصعب تلخيص
تفاصيل القصة؛ إذ ثمة الكثير من خيوط الأوهام
والغموض التي تأتي لتلقي بثقلها على تفاصيل
الشخصيات، لدرجة أنها تتشابك معها وتتداخل،
لتؤلف حالة من الألغاز، أو بالأحرى من
المتاهات، التي تجعلنا نسير في داخلها، من
دون أن نعرف إلى أين تؤدي بنا حقاً. من هنا، تبدو الأفكار كأنها
نقطة القوة في الرواية؛ إذ ما من شيء غرائبي
أو "شعري" ينفتح عبر الوصف، إذا استثنينا
بالطبع شذور aphorisms اللغة الإسبانية التي يستعملها
الزوجان العاشقان. فاللغة التي يستعملها
غاردر لغة متعثرة، بمعنى أنها لغة عارية تعكس
مجدداً النظرة إلى هذا العالم، عالم التحول
المنهجي والتطور البيولوجي. لكن – وحتى في
ذلك – نجد أن الـaphorism وكأنه ينحو نحو الرطانة
البيولوجية ذات التأثير الشعري؛ أي أن كثافته
المحمَّلة بالمعنى يمكن أن تعطي انطباعاً
شعرياً، إلا أن غايته تكمن في تصفية الفكرة
الفلسفية. تتضمن مايا سلسلتين
من الألعاب: الأولى أدبية، وهي التي تطغى على
القارئ، وذلك كي تعيد التساؤل حول طبيعة
الواقع – ومن هنا، نشعر أحيانا أنه يستعمل
هذه "الواقعية السحرية" كي يضاعف تلك
الأشياء التي تفتل موضوعية العالم الحقيقي:
المتخيَّل، الأسطورة، القصة، الجنون، التسمم
(يتبدى ذلك، مثلاً، حين يتحدث عن تورط نظرية
التطور عبر "عظاية ممتلئة بالروح")؛ أما
الثانية، فنجدها تتمركز حول لعبة كلمات –
والكلمة المركزية هي ذلك التشابه الموسوم
للمرأة مايا الإسبانية التي كان رسمها غويا
عبر سلسلة من 18 لوحة. فكأن غاردر، بهذه
الألعاب، يُمَوْضِع حواراً بين عالمين: عالم
حداثي وعالم ما بعد حداثي. ثمة أخبار وتفاصيل ومشاهد عديدة
في رواية غاردر؛ بيد أن مشهداً واحداً يبدو
مركزياً يفرض "ذروة مدارية"، يشارك فيه
كل المدعوين إلى هذه الجزيرة. هنا، ثمة بداهةٌ
تفرض هدفاً خلف الإبداع، حين يشار إلى مايا (التي
تبدو كأنها آنا، الفنانة الإسبانية في
الرواية، التي تعيش وزوجها قصة عاطفية عظيمة)
على أنها مفهوم داخلي، على أن العالم
الخارجي ليس سوى وهم (كلمة مايا māyā
بالسنسكريتية تعني فعلاً "وهم") سيختفي
للأبد ما إن يتحقق العمل الذي نقوم به؛ أي أنه
جزء من هذه الروح العالمية. الشخصيات
المسيحية
قد تبدو "الفرادة
المسيحية" لهذه الرواية حقيقة ما، كما لو
أننا نقع على حجة من بين آلاف الحجج. بيد أن
موقف غاردر يبدو وكأنه لا ينجح في ذلك؛ إذ إن
الشخصيات التي يرسمها هي بمثابة فوهات يرمي
عبرها الأفكار، لأنه لا يعطي للقارئ إلا
القليل من الأبعاد العاطفية (بعيداً عن آلام
جون سبوك أو أندرسن). من هنا، لا تبدو الشخصيات
المسيحية، كأنها مسبورة بشكل جدي، أو ربما
بشكل مصطنع؛ مثلاً: شخصية إيفلين، الشابة
الأمريكية التي توصف ببساطة بأن لديها الثقة
المطلقة بالمسيح، بصفته مخلصاً للبشرية
وللعالم، أو شخصية البحار الكاثوليكي ماريو،
الذي ينتقد فقط القبول الحداثي للتطور
البيولوجي. رواية مايا هي أيضاً
تأمل عميق في البيئة. إذ تأتي لتذكِّرنا،
بشكل لعبي، بأصول الحياة على الأرض. إنها
تركيبة علمية وتربوية في الوقت عينه، حيث
تتمازج العلوم والألعاب والأسئلة
الميتافيزيائية والقصص الفردية الشخصية. بيد
أن ذلك كله يأتي عبر مسافات منتظمة: إسبانيا،
جزر الفيجي، لعبة ورق الشَّدة (52 ورقة)،
وبخاصة وجه مايا (لوحات غويا)، كما و"الوهم"
في المفهوم الهندوسي أيضاً. في رواية مايا نجد
عالم غاردر كلَّه، وبخاصة مثلما تجلَّى في
روايتيه عالم صوفي وسر التنجيم؛ لكن
ذلك لا بدَّ أن يجعلنا نطرح السؤال التالي:
هل، مع ذلك، تملك روايته هذه ذلك السحر الذي
وجدناه في روايتيه هاتين؟ أشك في ذلك، على
الرغم من كل الأسئلة التي تطرحها، بدءاً من
نشوء العالم، حتى عالم ما بعد الحداثة،
مروراً بداروين وشركاه. *** *** *** [1]
صدرت
العام 1991، وترجمت إلى العربية العام 1997
وصدرت عن دار المنى. [2]
جوستين
غاردر، مايا،
بترجمة ياسين الحاج
صالح، دار الكلمة، دمشق.
|
|
|