|
قمر يمشي ولا يتعبنعمة
الكتابة بالضوء
بشارة
متى
هلا
تأتَّى
لك يوماً أن تقرأ شعراً من نور؟ وأنَّى
للضوء أن ينسكب في قصيدة ولا يتفلَّت خارج
أسوار الكلمات؟! هيا
طارق زيادة كان لها ذلك، فعاشت نعمة الكتابة
بالضوء، وجرى القمر على أناملها ولم يتعب! في
كتابها قمر يمشي ولا يتعب،*
تتداولُه على مدى سُبحة من اللوحات لا تنتهي،
حتى لتحار من شدة قربها منه، كيف تحول هذا "الساحر
السابح في الفضاء" واسطة العقد في فضاء
شعري مرصَّع بزهر الياسمين؛ فإذا النجوم تشع
عطراً وضوءاً. إلا
أن جماليات القصائد النجوم ليست المتعة
الوحيدة بقدر ما هو العمق الإنساني المنساب
في شِعرها على حبال الصمت المشدودة إلى
الأعلى. فإذا بالقمر يضيء الأعماق، في خشوع
المصلِّين. لكأن الصلاة، عندها تتم من دون
طقوس – اللهم إلا طقوس الصمت –، أوانُ العودة
إلى الذات، والغوص في الأعماق، حتى التوحُّد
مع "السابح في الفضاء" على وقع الصمت
الذي لا يسمعه إلا الشعراء. فهي "على عتبة
الصمت ترتاح": في الصمت / أحمل دوماً
/ كلاماً / لا ينتهي. يرفعني الصمت / إلى
عمق الحياة / الصمت دعوة إلى / تأمل الذات /
لذاتها. في الصمت / نرتاح / على
عتبة الوقت / لنفتش في زوايا العتمة / عن ذاتنا
الضائعة. وعبر
الصمت يتم التواصل مع القمر. تواصُل يعيد
الاعتبار إليه، بعد التسخيف الذي ابتُلي به
في بعض الشعر، وفي بعض الاستعارات. فهو "قمر
يوزع المرايا على الناس": بعد المطر / ترحل
الغيمات / تاركة المكان / لقمر / يوزع المرايا
على الناس. وهو
قمر مؤَنْسَن: قمر يختبئ خلف سحابة /
يحمل أرقاً وتعباً / للذين هم في الانتظار /
فيما القمر في أسفاره / يمشي ولا يتعب. وهو
القمر الأمل: يضيء القمر / خيبة قلب
هجره العشق / فتولد / من أعماق الحزن / حكاية
أخرى / تلغي / كل الحكايات. ولأنها
تكتب بالضوء، فهي لا تنسى الشمس في قصيدة "ضفائر": تسلَّمت الشمس
صباحاً / نورها الذهبي تأشيرة / تجوب بها
العالم / وأضاءت مساحات / وتلالاً وزوايا /
تتبختر، تنثر ضفائر / تنساب شلالات / زاهية /
تلمع بريقاً / وتزرع الأرض مرايا. وتتابع
الشاعرة رحلة الصمت مع القمر، من دون مناجاة
سطحية، بل في همس شعري رقراق، رافعة إليه
الدعاء: أيها القمر / امنحني
غصناً / من شجرة الضوء / كي أزيل بعضاً / من عتمة
المكان... وهكذا،
على مدى ست وسبعين صفحة من القصائد النجوم،
تحكي الشاعرة قصتها مع القمر بمفردات شعرية
مبتكرة، تزاوِج فيها بين الكلمات،
فتُكسِبُها معنى لم يكن لها من قبل. فإذا
الأشياء تحيا بروح خاصة بها، وتأخذ أبعاداً
تخالها محسوسة، رغم التجريد الحاد في بنيتها
أصلاً. مفردات ترقى لتصبح لغة ذاتية تنفرد بها
الشاعرة حتى ليصعب اقتباسها؛ إذ سرعان ما
يُكتشَف مصدرُها لأنها نابعة من شاعرة الصمت. نادراً
ما تعبر قصيدة من دون أن تستوقفك فرادة أدوات
التعبير فيها مثل: "عتبة الصمت"، "أرجوحة
الذكريات"، "أقطف الصمت"، "استراحة
الكلمات على أكتاف الصمت"، "قمر يمشي"،
"تغتسل أجساد السحاب"، "تفاصيل الضجر"،
"مياه السواقي تسافر دون ضجيج"، "غصناً
من شجرة الضوء"، وسواها من الصور المتلاحقة
التي تعجز بحور الخليل عن استيعابها من غير أن
تنال من جمالها. من قال إن حدائق النثر لا ينبت
فيها الشعر؟! سيدتي
الشاعرة، بورك لك قمرك! فهو ليس قمر الكسالى
وفارغي الأحلام. إنه قمر مُؤَنْسَن، ليس فيه
وهم الخبز وسراب الخدر، بل هو الصفاء
والسكينة والمحبة. وبئس
الذين قمرهم لا يمشي، ويتعب! ***
*** *** عن
النهار، السبت 30 آذار 2002 *
صدر
في منشورات "ديناميك غرافيك للطباعة
والنشر"، 2001.
|
|
|