|
الحقيقة
الفلسفية الإنسان,
في جانب أصيل من جوانب كيانه الروحي, إرادة
وعيٍ وتطلُّعٌ إلى الحق. وقد
يميل بنا الظن إلى أنه تطلُّع إلى الحقائق
كلِّها, ورغبةٌ نهمةٌ في معرفة كلِّ شيء. ذلك
أن نزعة غامضة, خفيَّة في أعماقه, تصوِّر له
المثل الأعلى للمعرفة معرفةً محيطةً شاملة, معرفة
تَهْدُم مثلها الأعلى عن طريق تحقيقه. وليس
لنا أن نسأل هنا عمَّا إذا كانت هذه النزعة
الغامضة علامة من علامات العقل المطلق، تدمغ
النفس المخلوقة وتدفعها إلى التشبُّه
بالعارف العليم قدر طاقتها, أو أثراً
إبليسياً من آثار شهوة العجرفة والفضول.
ويكفينا أن نقرِّر أن الإنسان، في وجوده
المتناهي وواقعه المتزمِّن ونشاطه الحي, إنما
يتجلَّى في رفضه المستمر لجملة غير متناهية
من الحقائق المحرَّمة والمعارف التافهة, وفي
اختياره الحرِّ لنوع الحقائق التي تستحق أن
تُعرَف أو يجب أن تُعرَف. فتطلُّع الإنسان
إلى الحقيقة يعني إذاً أنه انفتاح على النور
وجهد متصل لتركيز الحقائق الكبرى, الحقائق–القيم. ونريد
في حديثنا عن الحقيقة الفلسفية أن نقصر
الكلام على الخصائص العامة للحقيقة
المتضمَّنة في الحكم الفلسفي, لنخلص إلى ما
يميزها من الحقائق الأخرى. نذكر، أولاً، بأن الحقيقة
صفة من صفات الأحكام وحدها. فالحكم، أو
التصديق، يقرر علاقة بين موضوع ومحمول, ويوصف
بأنه حق إذا تطابق مضمونه مع الواقع. الحقيقة،
إذن، هي تطابق ما في الأذهان مع ما في
الأعيان، والتعبير اللفظي عن الحكم هو القضية.
فقولي: "الكون متناهٍ في الزمان والمكان"
قضية تعبِّر عن حكم يُسنِد التناهي إلى
الكون؛ وهي تتصف بالحقيقة أو الصدق إذا كان
الكون فعلاً متناهياً في الزمان والمكان. وإذا
كانت الحقيقة صفة من صفات الحكم, وكان الحكم
بدوره فعلاً من أفعال العقل, فلا معنى للتحدث
عن الحقيقة إلا حين يقوم عقل معين بإطلاق حكم
معين. والنتيجة أن الحقيقة هي، أولاً
وبالذات، حقيقة بالنسبة إلى صاحبها, لأنها
متضمَّنة في الحكم الذي يطلقه, وملازمة
للقضية التي يقرِّرها. والواقع أنه لا فرق بين
تقرير القضية وبين تقريرها على أنها صادقة أو
متَّصفة بالحقيَّة. نستطيع
إذن أن نؤكد, في خطوة أولى, أن كل قضية, مهما
يكن مضمونها, قضية صادقة بالنسبة إلى صاحبها
الذي يقرِّرها, وأنها ليست صادقة إلا بالنسبة
إليه. ولا نريد أن ننتقل من هذا اليقين الأول
قبل أن نرفع عنه كل لبس ونستخلص نتائجه في
التطبيق. قلنا
إن القضية صادقة بالنسبة إلى صاحبها لأن الإنسان
لا يملك أن يطلق حكماً لا يؤمن
بصدقه.
فمن الواضح أن الاعتقاد ملازم للحكم, مقوِّم
لوجوده كحكم أو كتصديق، بحيث
يكفي أن ينسحب منه حتى يتفتَّت الحكم أو
يُعلَّق ألفاظاً في الفراغ. وينطبق قولنا ذلك
على جميع ميادين المعرفة وصورها. فالمعرفة
العامية معرفة صادقة تعبِّر عن الواقع عند
صاحبها, وهي صادقة صدقاً مطلقاً حتى يتكشَّف
له خطؤها، أو حتى يتجاوزها إلى معرفة أدق
وأشمل. وكذلك المعرفة العلمية والدينية
والفلسفية. ويكفي أن يتأمل كل منا في البنية
المنطقية للقضية التي تعبِّر عن معتقَد من
معتقداته الدينية أو الفلسفية حتى يجد أنها
لا تختلف مطلقاً, من حيث كونها متَّصفة
بالصدق، عن القضية العلمية الخالصة. قد
يُعترَض هنا بأن الحقيقة الفلسفية لا تملك,
حتى بالنسبة إلى صاحبها, هذا اليقين الجازم
الذي تملكه الحقيقة الرياضية أو الطبيعية.
وجوابنا أن تاريخ الفلسفة يشهد أن الفيلسوف,
حين يقرِّر أحكامه تقريراً مليئاً خالياً من
كل تحفظ, فهو يقرِّرها على أنها حقائق لا
يقلُّ يقينها عن يقين أية حقيقة علمية.
فديكارت يصرِّح لنا بأن وجود الله أوثق عنده
من حقائق الرياضة. أما إذا كان الفيلسوف يتردد
أحياناً في بعض أحكامه ويقرِّرها على أنها
مرجحة فحسب, فيجب أن نعدَّ جملة التحفظات التي
تمنعه من توكيد أحكامه توكيداً مطلقاً جزءاً
من مضمون حكمه الحقيقي؛ أي يجب، بعبارة أخرى,
أن نُدخِل جهة الحكم في مادَّته بحيث يظل
الحكم نقياً صافياً, يعبِّر عن الحقيقة
تعبيراً كاملاً. فإذا قيل إن أفلاطون – أو
غيره من الفلاسفة – لم يكن واثقاً كل الوثوق
من خلود النفس, وأنه لم يقرِّر هذا الخلود إلا
بوصفه مرجَّحاً, قلنا إن القضية المعبِّرة عن
موقف أفلاطون تعبيراً كاملاً تنطوي هي نفسها
على هذا الترجيح وتصاغ بالعبارة القائلة إن
خلود النفس أمر مرجَّح. ولكن هذه القضية
لابدَّ أن تتصف بأنها, بالنسبة إلى صاحبها,
صادقة صدقاً يقيناً. طبيعي أن الخلود, في ذاته,
لا يمكن أن يكون مرجَّحاً. فهو إما أن يكون أو
لا يكون. وإنما يُحمَل الترجيح على حكم يتصل
بدوره بمسألة الخلود. إنه إذن جزء من مضمون
حكم على حكم ينتقل بنا من سطح مشكلات الوجود
إلى سطح مشكلات المعرفة.* وقد
يُعترَض أيضاً بأن القضية الفلسفية, حتى ولو
نظرنا إليها من حيث اتصافها بالصدق بالنسبة
إلى من يقررها, تختلف عن غيرها من القضايا
العلمية؛ ذلك أن القضية العلمية واضحة الحدود,
ثابتة التصورات، بحيث نستطيع أن نقرر صدقها
استناداً إلى دلالتها المحددة الثابتة. أما
القضية الفلسفية, كقولنا مثلاً "الله موجود",
فهي غير واضحة الحدود لأن المعنى المقصود
بلفظة "الله" يختلف من فيلسوف إلى آخر,
كما يختلف معنى الوجود نفسه. وجوابنا أننا حين
نربط القضية بصاحبها فإننا نقرر, في الوقت
ذاته, أن معناها الحقيقي هو المعنى الذي يقصده
من يقررها. فإله أفلاطون غير إله أرسطو, وإله
ديكارت غير إله باسكال. ولكن معنى اللفظة واضح
في ذهن كل منهم, ولابدَّ لنا، لكي نفهم ما
يقصده الفيلسوف نفسه, من أن نرجع إلى تجربته
الروحية وجملة مذهبه الفلسفي. وهذا يعني أن
ألفاظاً واحدة قد تُستخدَم في الفلسفة لتدلَّ
على معانٍ متباينة. فبرغسون، مثلاً، يؤكد
حرية الإنسان، ويؤكد هذه الحرية أيضاً لالاند.
ولكن لالاند يقول بصدد الكلام على حرية
برغسون: "وقانا الله من الحرية إن كانت
الحرية هي هذه!"
والخلاصة
إن عجز اللغة عن أن تقدم لنا لفظة خاصة بكل
فكرة هو الذي يجعل معنى القضية الفلسفية
يتجاوز الألفاظ التي تعبِّر عنها, دون أن يفقد
وضوحه في ذهن صاحبه. القضية
إذن صادقة دائماً بالنسبة إلى من يقررها, إذا
أخذنا بعين الاعتبار أنه هو الذي يعطيها
معناها, وأنه يقررها دائماً بصورة مطلقة من كل
قيد. وما دام ذلك صحيحاً بالنسبة إلى القضية
من حيث هي توكيد, أي مهما يكن مضمونها, فلا
مجال للتفريق هنا بين الحقائق العلمية وبين
الحقائق الفلسفية والدينية. ولكننا
قلنا أيضاً إن القضية ليست صادقة إلا بالنسبة
إلى صاحبها. وهذا القول بديهي في الواقع؛ إذ
كيف يقرر إنسان ما صدق قضية دون أن يتبنَّاها؟
ألا نشعر جميعاً بأننا لا نستطيع أن نعترف
بصدق حكم من الأحكام إلا إذا كنا نعدُّ أنفسنا
أصحاباً لهذا الحكم؟ فلسانُ حال كلٍّ منا،
إذن، هو أن الحقيقة هي التي أعترف أنا نفسي
بأنها حقيقة. ولا تكتسب أقوال الآخرين صفة
الحقيقة عندي إلا حين أقررها. فكل فرد منا
ملزَم بأن يعدَّ نفسه مقياساً للحقيقة, أي
مقياساً وحيداً للحقائق كلِّها. ولا مخرج له
من ذلك إلا بالتناقض؛ إذ من التناقض الواضح أن
أعترف بصدق حكم قبل أن يصبح حكمي, أي قبل أن
أصدِّقه. ولكن
هذا لا يعني مطلقاً أن الحقيقة التي أقررها هي
في نظري مجرد حقيقة ذاتية أو شخصية. فأنا لا
أستطيع أن أقرر حقيقة ما وأن أعدها في الوقت
نفسه حقيقتي وحدي؛ ذلك
أني حين أعترف بها كحقيقة إنما أعترف بها
حقيقة موضوعية مطلقة. بل إن تعريف الحقيقة، من
حيث هو تطابق الفكر مع الأشياء, يتناقض مع
المفهوم الذاتي للحقيقة. ومعنى ذلك أنه إذا
كان على الفرد، من جهة أولى، أن ينتظر تصديقه
الذاتي لحكم من الأحكام حتى يعترف بحقيقة
مضمونه, فإنه يكفيه، من جهة ثانية, أن يعترف
بهذه الحقيقة حتى يقرر أنها موضوعية مطلقة. فقولنا
إذن إن كل فرد يعدُّ نفسه بالضرورة مقياساً
وحيداً للحقائق كلِّها إنما يعني أنه يعدُّ
نفسه مقياساً للحقائق المطلقة. ربما
بدا أن في ما انتهيت من الإشارة إليه مفارقة
غريبة تبتعد بنا عن المفهوم المستقر في
أنفسنا عن الحقيقة. ولكني أنبِّه، أولاً، إلى
أن الحقيقة التي يدور الكلام عليها إنما توجد
في الأحكام، ولا توجد إلا في الأحكام. فهي إذن
لا تعني الواقع والوجود. وأنبِّه،
ثانياً، إلى ضرورة التخلي – ولو مؤقتاً – عن
كل مفهوم مسبق عن الحقيقة وأنواعها المختلفة,
وعن كل محاولة لاستباق النتائج التي يُظَنُّ
أنها تترتب على ما سبق أن قررناه من توحيد
معنى الحقيقة في الميادين المختلفة, ومن ربط
الاعتراف بالحقيقة بصاحب الحقيقة نفسه. وأنبِّه،
ثالثاً، إلى أن الحقيقة العلمية نفسها لابدَّ
أن تستند إلى اقتناع الفرد بها حتى تصبح حقيقة
بالنسبة إليه. فأنا لا أقبل حقيقة هندسية إلا
لأن البرهان يُلزِمُني بها بحيث يمتنع عليَّ
أن أقاومها, وذلك بصرف النظر عن اقتناع
الآخرين بها. فليست الكلِّية إذن شرطاً من
شروط الحقيقة العلمية لأني أقبل هذه الحقيقة
من غير اعتبار لقدرتها على أن تثبت في العقول
جميعاً. وهي، بالتالي، لا تتميز عن الحقائق
الدينية أو الفلسفية. وأنبِّه،
رابعاً، إلى أنه إذا رجع كل منا إلى تجربته
الفكرية أحسَّ بأن معنى الحقيقة في الحكم لا
يتعلق بمضمون الأحكام, وبأن هذا المعنى يظل،
بالتالي، واحداً في جميع معتقداته؛ وأحسَّ
أيضاً بأن الحقيقة التي يقررها هي وحدها
الحقيقة الفعلية, وبأنها، في الوقت ذاته،
حقيقة مطلقة. وأنبِّه،
أخيراً، إلى أني لم أقل أبداً إن كل فرد منا هو
فعلاً مقياس الحقائق، وإنما قلت إن كل فرد منا
يعدُّ نفسه بالضرورة مقياساً للحقائق. فإذا
ما طبقت هذا القول على نفسي – كما يمكن أن
يطبقه كلٌّ منكم على نفسه – قلت: "ليس
صحيحاً أن كل فرد مقياس للحقيقة المطلقة",
كما يتوهم, وذلك لأني أنا نفسي مقياسها الوحيد. ننتقل
الآن إلى نقطة ثانية لنسأل: متى يحق للفرد أن
يطلق حكمه على أنه صادق؟ لا
شك أن الجواب المباشر على هذا السؤال هو أن
الحكم لا يكون صادقاً إلا إذا قام عليه الدليل.
فكل قضية تُقرَّر إذن – بصرف النظر عن
مضمونها – تعني أنها مبرهَنة في نظر صاحبها.
ذلك أن البرهان هو الذي يسمح لها أن توضَع
وتستقيم. إنه القوة التي تسندها من الداخل
وتمنحها القدرة على الوجود. إن إدراك حقيقة من
الحقائق هو إدراكها في منابعها وأسسها
المشروعة. فالبرهان، بهذا المعنى – ونحن لا
نستطيع أن نجد له معنى آخر – ضروري لكل قضية
مقرَّرة, إلا إذا كانت القضية بديهية في ذاتها,
أي تحمل برهانها في نفسها. صحيح
أن أشكال البرهان كثيرة – ونحن نستطيع أن نلح
على الخصائص النوعية التي تميز البرهان
الرياضي من البرهان الطبيعي أو التاريخي أو
الفلسفي –، ولكن عصب كل برهان، مهما يكن شكله,
هو ما يحمله في طيَّاته من قوة الإقناع
والإفحام. إن
هذه القوة هي العنصر المشترك في البراهين
جميعاً, بل هي الخاصة التي تسمح لنا أن نسميها
بالبراهين. وأول نتيجة لذلك أنه لا مجال
للتمييز بين البرهان الكامل في علوم الرياضة،
مثلاً، وبين البرهان الناقص في مجال الحقائق
الفلسفية أو الدينية. فالفيلسوف
لا يستطيع أن يعدَّ برهانه أقل قوة من برهان
العالِم لأنه يعرف أن البرهان إما أن يكون أو
لا يكون. وكل ما هنالك أنه لا يشترَط في صحة
البرهان أن يفرِض نفسه على العقول جميعاً, بل
يكفي أن يفرِض نفسه عليه وحده.
ولكن
هل يشذُّ الفيلسوف في الواقع عن غيره من أصحاب
الحقائق في هذه المسألة بالذات؟ إن نظرة
نلقيها على تكوُّن البراهين في الميادين
المختلفة للمعرفة تبيِّن لنا أن البرهان لا
ينفصل أيضاً عن صاحبه. فمن الواضح، أولاً، أن
حقائق العلم لا تقرَّر إلا على أنها مبرهنة.
ولكننا أشرنا إلى أن البرهان فيها لا يتعلق
بقدرته على إقناع العقول، أي بطابعه الكلِّي,
وإنما يتعلق بقدرته على هدم كل مقاومة يحاول
أن يقاومه بها فرد من الناس. فالحقيقة العلمية
تستمد حقيقتها من برهانها الذاتي لا من إيمان
الناس بها. ولا ننسى مع ذلك أنه يكفي أن نترك
نطاق العلوم الرياضية والطبيعية إلى حد ما
حتى نصطدم باختلاف الحقائق في العلوم
الإنسانية. فالحقيقة التي يقررها عالم من
علماء النفس أو الاجتماع أو التاريخ وينقضها
عالِم آخر ليست عند صاحبها سوى حقيقة مبرهَنة.
ولا يطعن في برهانها عند هذا العالِم أنه لم
ينجح في أن يقنع بها غيره من العلماء. وما
قلناه عن الحقيقة العلمية نقوله أيضاً عن
الحقيقة الدينية أو الإيمانية. فالإيمان،
هنا، لا يعني انتفاء البرهان أصلاً، وإلا لما
فهمنا مطلقاً لماذا يقرِّر فرد من الناس هذه
الحقيقة دون تلك في مجال المعتقدات. يقول
الأكويني: "لا يؤمن الإنسان إلا إذا رأى أنه
يجب عليه أن يؤمن." ومعنى ذلك أن الحقيقة
الإيمانية تبرهَن بصورة غير مباشرة، وإن
تعذَّر برهانها مباشرة. وليس البرهان غير
المباشر أضعف من البرهان المباشر ما دمنا
نعترف أنه برهان. ولا نريد أن نحلِّل هنا هذا
النمط من البرهان, وما يستند إليه من مقدمات
تُعَدُّ بديهية عند صاحبها, كالمعجزة أو
الكمال المذهبي أو الثقة بالآخرين. والمهم أن
نلاحظ حضوره، صريحاً أو ضمنياً، في ذهن صاحب
العقيدة الإيمانية. إنه برهان كامل بالنسبة
إليه ما دام يسمح له أن يقرر قضيَّته تقريراً
جازماً. أما إذا قيل هنا أيضاً إن الحقيقة
الدينية لا تؤكد على نحو ما تؤكد الحقيقة
العلمية، عدنا إلى ما كنا أشرنا إليه من
ارتباط معنى القضية بصاحبها واعتبار القضية
المجردة من كل شك أو تحفظ هي التي تعبِّر عن
موقف صاحبها الفعلي. والخلاصة
أن الإيمان معرفة مبرهَنة بنوع غير مباشر من
البرهان, يكتفي به صاحبه حين يقتنع به شخصياً,
وإنْ لم يقتنع به غيره, ليؤكد حقيقته على أنها
حقيقة مطلقة. والحقيقة
الفلسفية، أخيراً، حقيقة مبرهَنة، بمعنى أن
صاحب النظرة الفلسفية لا يستطيع أن يؤكد
أمراً إلا إذا كان بديهياً في نظره، أو
مستنداً إلى حقائق بديهية. فالقضية الفلسفية
التي لا نعترف بأنها بديهية ولا نقدم عليها
برهاناً نعتقد بقوته الإقناعية هي قضية
محرَّمة من الناحية النفسية والمنطقية
والأخلاقية. فإذا حُقَّ للفيلسوف أن يتحرَّر
من رقابة عقول الآخرين عليه، فإنه لا يحق له
أن يؤكد ما يشاء ويهوى. بل هو لا يستطيع ذلك،
برغم أنه يجد في كتابات الفلاسفة كل تقرير
ممكن. وطبيعي
أننا لا نقصد هنا مجرد القول الظاهري الذي
يمكن أن يكون كاذباً، بل نقصد به فعلاً عقلياً
داخلياً مصحوباً باعتقاد. إن ما يمنع
الفيلسوف من أن يسترسل في أحكامه ليس نقصاً في
جرأته، أو خَوَراً في اندفاعه، وإنما هو
انتهاء تجربته الفلسفية عند حدٍّ معيَّن لا
يستطيع تجاوزه. فقد سأل الأب تونكيدك
الفيلسوف برغسون عمَّا إذا كان يرغب في إضافة
شيء إلى أفكاره التي أوردها في كتابه التطور
المبدع، فأجاب برغسون في رسالة خاصة: "إنني،
بوصفي فيلسوفاً لا أرى شيئاً أستطيع أن أضيفه
الآن، وذلك لأن المنهج الفلسفي كما أفهمه لا
يسمح لي بتقرير نتيجة تتجاوز أقل تجاوز ممكن
الشروط الاختبارية التي تستند إليها." ثم
إن الفيلسوف لا يرفض قولاً من الأقوال إلا على
أساس اعتقاده بأنه قول غير مبرهَن، وإلا لما
استطاع أن يرفضه دون أن يقع في تناقض. ومع
ذلك فإننا نجد عدداً من الفلاسفة المعاصرين
يضيقون بنير المنطق والبرهان. فنيتشه, كما
يقول سوريو, لا يبرهن على أقواله، وإنما
يطلقها في كبرياء. وغابرييل مارسيل, على الرغم
من إيمانه بقيمة التواصل, لا يتردد في أن يقول:
"إن الفيلسوف الذي يعرض حقائقه التي
اكتشفها, في تسلسل جدلي مذهبي, قد يشوِّه
تشويهاً عميقاً طابع هذه الحقائق نفسها."
ولوكيه يرى أن الحرية لا تبرهَن لأن البرهان
عليها يعني فرضها. ويقول ياسبرس: "إن الإله
المبرهَن ليس إلهاً." ويعتقد شتوف بأن طريق
الفلسفة يظل مقفلاً ما دام المنطق سائداً.
وتلميذه فوندان يريد أن يبعد عن نفسه جثة
الضرورة، ويعلن أنه مستعد لأن ينكر العقل وأن
يُخرِج له لسانه وأن يجيب على منطقه بالصواعق
والرعود. ويمكن
أن نجيب على ذلك كلِّه باختصار بأن نيتشه، إذا
كان يقرر في كبرياء ودون برهان، فهو يصرح من
جهة ثانية بأنه ليس من ضيق الأفق بحيث يؤمن
بمذهب معين، ولو كان مذهبه. ومعنى ذلك أن
الإنسان لا يطالَب بالبرهان إلا إذا كان
جاداً في ما يقول. أما غبرييل مارسيل فليس
هناك من يطلب إليه أن يعرض حقائقه بصورة جدلية
لأن الجدل الحقيقي يناسب في لحمة التفكير
نفسه. ولكن ليس هناك من هو مستعد للاستماع إلى
فيلسوف إذا أصر على أن يفرَّ من مسؤولية
أحكامه. هذا ولم يشترط أحد على لوكيه ومارسيل
أن تُخضِع الحرية نفسها أو أن يُخضِع الإله
نفسه لمنطق العقل الإنساني, وإنما يشترط أن
يخضع ادعاء الفيلسوف لهذه الحقيقة دون تلك
إلى ما يبرره العقل. وأخيراً، لقد ذهب كل من
شتوف وفوندان بعيداً بعيداً في التمرد، حتى
تمردا على وهم من الأوهام. إذ لا يُطلَب من
البديهية الفلسفية أن تكون بديهية عقلية يتفق
فيها الناس جميعاً؛ وإنما يكفي أن تكون
بديهية عند صاحبها، سواء اتصل مضمونها بالعقل
أو بالعاطفة والقيم. فكأن أصحاب المدرسة
اللاعقلية لا يثورون ضد البرهان إلا لأنهم
يظنون أن البرهان الحقيقي هو الذي يستطيع أن
يفرض نفسه على كل عقل. ويكفي أن نعود بالبرهان
إلى واقعه العيني ضمن التجربة التي يعيشها
الفيلسوف حتى يستقيم قولنا بأن القضية
الفلسفية لا تقرَّر في ذهن صاحبها إلا بوصفها
مبرهنة كاملة البرهان. يلاحَظ
في كل ما قلنا أننا لم نتجاوز حدود الوصف
والتحليل؛ بل لم يكن قصدنا أبداً أن نتجاوز
هذه الحدود. فواقع الأمر أن الفلاسفة يؤلفون
مذاهبهم من جملة الحقائق التي يبرهنون عليها.
فلابن سينا حقائقه وبراهينه, ولديكارت حقائقه
وبراهينه, ولهيغل حقائقه وبراهينه. ولم يتفق
لفيلسوف أصيل أن تردَّد في توكيد ما يراه حقاً
بسبب شعوره بأن الآخرين لن يقبلوا حقائقه. وهو
لم يتردَّد في أن يعدَّ حقائقه حقائق موضوعية
مطلقة, تسندها الأدلة الصحيحة. وليس هذا
الموقف موقف الفلاسفة وحدهم، ولكنه موقف
العلماء في كل ميدان, وموقف المؤمنين
بالحقائق الدينية، مهما يكن مضمون حقائقهم؛
بل هو موقف كل واحد منا في جملة ما يصدِّقه
ويؤمن به. نقول
إننا لم نتجاوز حدود الوصف والتحليل؛ ولكننا
نعتقد أن النتيجة اللازمة عن هذا الوصف
والتحليل نتيجة هامة. إذ يكفي أن يعي الفرد
أنه لا يستطيع إلا أن يعدَّ نفسه مقياساً
للحقائق المطلقة حتى ينتبه إلى خطورة
المسؤولية التي يحمل أعباءها. إن وفاءه لمعنى
الحقيقة يُلزِمه بأن يعيد النظر دائماً في
جملة أحكامه عن طريق فحص البراهين التي
تدعمها. فالتجربة تعلِّمنا أننا كثيراً ما
نخطئ ونبدِّل أحكامنا. وسبيلنا إلى رفع الخطأ
الممكن أن نكون على صلة حية دائمة بالحقائق
التي انتهينا إليها. فإذا ما أعطينا حق
التقرير فيها فقد ألزمنا أيضاً بواجب تطهيرها
وتحريرها بفضل التجربة والتأمل. إننا لسنا
أحراراً في توكيد الحقيقة التي نريد, ولكننا
أحرار في البحث عن الحقيقة التي تفرض نفسها
علينا. إننا لا نملك الحقيقة إلا عندما
تملكنا. ننتقل
بعد ذلك إلى نقطة ثالثة تتصل بما يميز القضية
الفلسفية من غيرها من القضايا. ذلك
أننا حتى الآن حاولنا أن نقرِّب بين صور
المعرفة وأن نوحِّد فيما بينها على صعيد
التقرير والبرهان. والواقع أن القضية
الفلسفية إنما تتميز بمضمونها، لا بطريقة
وضعها. ونحن، حتى حين نعترف بأن لها منهجاً
خاصاً بها, لا نستطيع أن نعرِّف بها بالوسائل
التي توصِلُنا إليها, لأننا لا نعرِّف،
مثلاً، بعلم الفلك بأنه العلم الذي يعتمد على
المراصد. للفلسفة
إذن موضوعها الخاص بها. وما دمنا نقصد بها في
هذا الحديث الفلسفة الأولى أو
ما بعد الطبيعة métaphysique,
فهل نرجع إلى تعريف أرسطو ونقول إنها علم
الوجود بما هو موجود؟ الواقع
أننا لا نجد فائدة كبيرة في البحث عن تحديد
ثابت لموضوع الفلسفة, نعرف مقدماً أنه لا يرضي
الفلاسفة جميعاً. فتعريف أرسطو لا يُقنِع
ديكارت, وتعريف ديكارت غير تعريف هيغل. أما
تعريف هيغل فقد جعل وليم جيمس يقفز فوق الأرض
مرتين! وليس الأمر مقصوراً على الاختلاف في
الحلول، وإنما يتصل الاختلاف في الأسئلة
نفسها. فالسؤال: "لماذا كان الوجود بدلاً من
العدم؟" سؤال رئيسي عند هيدغِّر. ولكن وليم
جيمس يرى أن مهمة الفلسفة هي أن نفسر العالم
كما هو في واقعه بدلاً من أن نسأل لماذا كان
موجوداً. وبرغسون يعدُّ هذا السؤال سؤالاً
زائفاً مبنياً على فكرة العدم الزائفة. وإذا
كانت مشكلة المصير الإنساني بعد الموت قد
أقلقت كلاً من أفلاطون وباسكال ومارسيل فإنها
لم تكن ذات بال عند هيغل وكروتشه وميرلوبونتي.
ولهذا قال ريكور إن مهمة الفيلسوف أن يخلق
أسئلته وأن يجدِّد طرح المشكلات, ولاحظ
بْرِهييه أن المشكلة الواحدة قد تأخذ أهمية
كبيرة في مذهب معين وتفقد كل أهميتها في مذهب
آخر.
ولكن
هل يعني ذلك أن الفلسفة لا تملك موضوعها
الخاص؟ نعتقد أننا نستطع أن ندرك هذا الموضوع
إذا رجعنا إلى منابع التجربة الفلسفية في
أعماق الإنسان. لقد قلنا في البدء إن انفتاح
الإنسان على الحقيقة يعني أنه اختيار للحقائق
الكبرى. ونستطيع أن نقول الآن إن الفلسفة هي
البحث عن أكثر الحقائق أهمية في حياة الإنسان
الروحية. والفيلسوف هو الذي يحدِّد هذه
الحقائق ويطوِّرها وفق تجربته وتطلُّعاته.
ونحن نجد في تاريخ الفلسفة ما يؤيِّد هذه
النظرة تأييداً قوياً. فأفلاطون يرى أن
الفلسفة محاولة لبناء إنسان جديد, وأنها
تطهِّر نفس الفيلسوف من علائق البدن في سبيل
تحريره وإعداده للاتصال بالحقائق المحضة.
إنها، إذن، بناءٌ للحياة وإعداد للموت.
والفلسفة عند أرسطو هي أسمى العلوم على
الإطلاق, وهي إلهية بمعنيين: فهي تبحث في
الأمور الإلهية، وهي أيضاً أجدر العلوم بأن
تكون موضوعاً للعلم الإلهي. ويكرر
باسكال أن الإنسان يستطيع أن يهمل معرفة رأي
كوبرنيكوس, ولكنه لا يستطيع أن يهمل معرفة
مصيره. وليس صحيحاً أن سبينوزا كان يحمل
مثلثاً في رأسه. فهو قد ثار على تفاهة الحياة
اليومية وانطلق في البحث عن خير حقيقي يولِّد
في نفسه الفرح الدائم. وهو حين سمَّى كتابه
الفلسفي الأخلاق كان يؤمن بأن هناك علاقة
قوية بين وحدة الجوهر وأساس الحياة الأخلاقية.
أما هيغل فقد كتب يقول: "إن الفلسفة التي
تستحق فعلاً هذا الاسم هي التي تستطيع أن تجيب
على سؤالنا: ما معنى أن نتقرب من الله؟"
وبرغسون, على الرغم من مهارته في هدم المشكلات
الفلسفية المقلِقة, يعترف بأن الفلسفة, إذا لم
تستطع أن تقول شيئاً عن أخطر الأسئلة التي
تطرحها الإنسانية, فإنها لا تستحق تعب ساعة
واحدة. والفلسفة المعاصرة التي تعيش على
القلق والتمزق تحاول أن تثبِّت نظرها على
الهاوية وأن تبحث، في الوقت نفسه، عن معنى
جديد للحياة. فألبير كامو يعلن أنه لا توجد
إلا مشكلة فلسفية واحدة, مشكلة جادة حقاً, هي
مشكلة الانتحار. فإذا أجبنا عن السؤال: "هل
تستحق الحياة أن تعاش أم لا تستحق؟" فقد
أجبنا عن المشكلة الرئيسية في الفلسفة.
الحقيقة
الفلسفية، إذن، تتميز بخطورة مضمونها الروحي.
قد يقال إنها تقترب بذلك من بعض الحقائق
الإيمانية. والواقع أن القضية الإيمانية
تعبِّر في كثير من الأحيان عن جواب لمشكلة
فلسفية. وبما أن صاحب القضية الإيمانية ينظر
إليها على أنها صادقة مبرهَنة، كما أسلفنا,
فهو يجد فيها حلاً صحيحاً لمشكلة فلسفية. ولا
أهمية في رأينا للاختلاف بين الفلسفة
والإيمان في طريقة الوصول إلى الحقيقة.
فالفيلسوف الذي تقضُّ مضجعه قضية مصيره بعد
موته لا يستطيع أن يشترط في الجواب على سؤاله
أن ينهج نهجاً معيناً أو أن يلجأ إلى برهان
مباشر. فإذا وجد جواب سؤاله في قضية إيمانية
يعدُّها صادقة مبرهَنة, فقد وجد ضالَّته. إن
سؤاله الفلسفي الحقيقي هو: "هل النفس
خالدة؟"، وليس أبداً: "هل يستطيع العقل
أن يثبت مباشرة خلود النفس؟" وينتج عن ذلك
أن الفلسفة الحيَّة عند من يؤمن دينياً بخلود
النفس إنما هي إيمانه ذاته, ضمن الحدود التي
يجيب فيها الإيمان على أسئلته الفلسفية. وهذا
ما نلاحظه في واقع الأمر عند المؤمنين
بالحقائق الدينية, سواء أكانوا من الفلاسفة
أو لم يكونوا. ونعتقد أن هذه النظرة تستطيع أن
تحلَّ الإشكال الضخم الذي أُثير في أوروبا
منذ ربع قرن حول معنى الفلسفة الدينية بصورة
عامة، والفلسفة المسيحية بصورة خاصة. فالذين
يرفضون هذه الفلسفة الدينية، من أمثال
ْبِرهييه وبرنشفيك, يفصلون بين المجالين،
فينظرون إلى عبارة "الفلسفة المسيحية"،
مثلاً، كما ينظرون إلى عبارة "الهندسة
المسيحية". أما الذين يقبلون هذه الفلسفة،
من أمثال جِلْسون وبلونديل، فإنهم يفصلون
أيضاً بين الدين والفلسفة؛ ولكنهم إما أن
يقولوا مع جِلْسون بأن المسيحية قد أثارت
أمام الفكر الفلسفي مشكلات جديدة عليه،
كمشكلة اللانهاية والخلق, بحيث تستحق الفلسفة
التي تجيب على هذه المشكلات إجابة عقلية محضة
اسم "الفلسفة المسيحية"؛ وإما أن يقولوا
مع بلونديل بأن الفلسفة المسيحية هي الفلسفة
العقلية المحضة التي تنتهي خطواتها عند فجوة
لا تملؤها غير المسيحية. ونعتقد
أن هذه الحلول المختلفة تنطلق من ربط الفلسفة
بمنهج معين وتنتهي إلى الفصل بين نوعين من
الحقائق. ولكنا نرى، وفق ما قدَّمنا، أن الحقيقة
الفلسفية هي التي يعيشها فعلاً صاحبها, وهي
التي تغذي واقعه الروحي. فجِلْسون، مثلاً،
فيلسوف تومائي ومؤمن كاثوليكي؛ وهو يرى أن
الفلسفة لا تستطيع إثبات الخلق, كما يفهمه
الدين, إثباتاً عقلياً، ويؤمن في الوقت نفسه,
بوصفه مسيحياً، بأن الخلق حقيقة مطلقة. فهو
إذن لا يقف حيث تقف فلسفته العقلية، وإنما
يتجاوزها إلى إيمان غريب عنها. إنه إما أن
يحيا حياة روحية مزدوجة، وإما أن يُبطِل
الطابع الجدي للفلسفة. لذلك
نستطيع أن نخلص, بناء على مفهومنا لوحدة
الحقيقة ولتعادل الأدلة، إلى أن الفلسفة
الجادة الدينية التي لا تعبث هي الفلسفة
المرتكزة على الإيمان الديني, هي الدين نفسه،
وقد أصبح عند صاحبه نظرة حية في الوجود. ويكفي
أن يقرِّر المؤمن حقائقه دون خجل كاذب، ودون
إحساس بالنقص، حتى يستطيع إدماجها ضمن مذهبه
الفلسفي الشامل. وكل المطلوب منه هو أن يكون
واثقاً من صدق أحكامه الإيمانية وصحة
أدلَّتها الخاصة. الحقيقة
الفلسفية، إذن، هي تلك التي يعيشها الفيلسوف
ويعيش لأجلها، لا تلك التي يعيش منها ويقتات,
ثم يتجاوزها في السر. إنها حقيقة شخص معين
يختار مشكلاته اختياراً حراً وينطلق في البحث
عن حلول لها مستنداً إلى جميع الوسائل التي
يملكها, حتى إذا تراءى له الحق أقرَّ به
واستكان إليه دون أن يكفَّ عن الانفتاح إلى كل
ما يزيده دقة وغنى وعمقاً. لقد
عاش الفلاسفة الصادقون فلسفاتهم وطوروها وفق
إلهامات العقل والتجربة والضمير. فما على
الفرد منا إذن إلا أن يبني حياته الروحية
بناءاً متصلاً ومتجدداً. وإذا صح ما قدَّمنا
من تحليل أولي بسيط لفعل التوكيد عامة، ولفعل
التوكيد الفلسفي بصورة خاصة, فهو يجنِّبنا
طريق الريبيَّة الرخوة وطريق التعصُّب
المغلق في وقت واحد. إنه يجنِّبنا طريق
الريبيَّة لأن هذه تتولد من فقدان الشعور
الداخلي بالحقيقة. فصاحبها يقف عند اختلاف
المذاهب والمعتقدات ليستخلص أن أحكام الناس
باطلة كلُّها أو صادقة كلُّها، والرأيان سواء!
فالقول إنها باطلة كلُّها يرتكز في الواقع
على مفهوم مجرد للحقيقة الكلِّية وعلى محاولة
للبحث عنها في متاهات الآراء والأقوال.
فالريبِيُّ هنا يرفض الحكمين المتناقضين في
موضوع واحد لأنه لم يستطع أن يجد في نفسه صدق
أحدهما. إنه، بدلاً من أن يتجه إلى المشكلة
بالذات من أجل أن يجد لها حلاً يرتضيه, تجرفه
تناقضات الناس بعيداً عن طريق الحق. أما القول
إنها صادقة كلُّها, بمعنى
أن كل فرد محقٌّ في أن يجعل نفسه مقياساً
للحقيقة, فهو قول يهدم معنى الحقيقة نفسه. ولا
خلاص للإنسان من كل ذلك إلا في مجابهة
المشكلات مجابهة مباشرة ودفع العقل على
اكتشاف حلولها. وعندئذٍ تتحول المذاهب
والعقائد المختلفة من متاهات أو أثقال إلى
أدوات تساعده على بلوغ الحقيقة. فإذا ما تحقق
له ذلك قبض على المقياس الذي يسمح له بالحكم
على الآراء المتضاربة. فالحقيقة التي ينتهي
إليها هي إذن وحدها التي تنقذه من التشتت
والغرق والضياع. وعند ذلك يتجاوز الريبة إلى
إيمان بحقيقة يملكها وتملكه. ولكن
تجاوز الريبة هذا لا يمكن أن يقذف به إلى
الطرف الآخر, طرف التعصُّب المغلق. ذلك أن
المتعصِّب ليس هو من يستمسك بالحقيقة التي
تملأ أفقه، وإنما هو من يريد أن يفرض حقيقته
فرضاً على غيره. إنه في أغلب الأحيان ذلك الذي
لم يعانِ تجربة الكشف الحر عن الحقيقة. لهذا
يستبدُّ به منطق القسر والجمود والعطالة. أما
المؤمن الصادق بالحقيقة، العارف بأسرار
اكتشافها ونموِّها داخل ذاته، فهو بالضرورة
منفتح على أفكار الناس وتجاربهم، مؤمن بإمكان
الالتقاء بهم على صعيد مرتفع. لا شك بأنه
غير مستعد للتفريط بحقائقه والتنازل عنها
باسم التسامح الكاذب؛ فهو يفرق بين المساومة
وبين التسامح الحق. المساومة بالحقيقة خيانة
لها؛ أما التسامح مع الآخرين فهو تقرير
لحقيقة عليا تؤكد قيمة الإنسان وحقَّه في
التفكير. إن المؤمن الصادق بالحقيقة يحترم
كل باحث صادق عن الحقيقة. فهو لا يسمح لنفسه
بأن يقسر الآخرين على الإيمان بحقيقته لأنه
يختزن طاقته الهجومية لهدم كل ما من شأنه أن
يسلب الإنسان كرامته ويُفقِده شرف الوجود
الحر... الحقيقة
الفلسفية، إذن، لا تنفصل عن القيمة، والقيمة
لا تترسَّخ في النفس إلا بالحرية. فإذا آمنا
بالحقيقة والقيمة والحرية فقد ملكنا الطريق
إلى تحقيق الإنسان. *** *** *** *
لا
يتسع الوقت هنا لتفصيل العلاقة بين هذين
النوعين من المشكلات, لهذا أعتذر عن عدم
الكلام فيها. |
|
|