الفصل الأول - الجزء الثاني: رزّوق، فلادو، جورج وأريس...  الفصل الأول: على ضوء كتاب مقدّس وأيقونة

الفصل الأول..

 على ضوء كتاب مقدّس وأيقونة

الكتاب المقدس والأيقونة...

آ

لطف الله وكريم..

 

طائر الليل: لأن هذه، وإن كانت لن تسرَّكم، بعضٌ من أصولكم. فصاحبها من أبناء هذا البلد عموماً، ومن هذه الأسرة تحديداً، ومن حاملي تراثها الذي نقله وينقله قدر المستطاع لأبنائه (ولكم) مضيفاً إليه ما تراكَمَ عنده خلال مسيرته.

وتراثه هو قطعاً بعض من تراثكم؛ بفضائله المعلنة التي كانت، ربما، بعضاً من فضائلكم المعلنة؛ وبمساوئه المعلنة التي هي قطعاً بعض من مساوئكم التي تحاولون إخفاءها. حيث...

 تتحدث بعض المراجع التاريخية المختصة عن أسرة يونانية الأصول، سكنت أنطاكية قبل أن تنتقل لتستقر في حلب في منتصف القرن الثامن عشر. وكان مؤسِّس الأسرة في حلب من أعيان أنطاكية، ويدعى الحاج الياس بن الحاج داوود السكاكيني الشهير بالأنطاكي (1)، الذي يقال إنه...

أراد أن يبني في مدينته، على نفقته، كنيسة لطائفة الروم الأرثوذكس، كان قد حصل على إجازة ببنائها من السلطان العثماني. لكن طائفته عارضته في ذلك، فهاجر إلى حلب في عام 1749، وأقام في دار واسعة ابتاعها من بيت البرغل كانت تقع خارج باب النصر في المحلة المعروفة باسمهم. وتعاطى صناعة الأقمشة، وتبعه في ذلك أبناؤه وأحفاده.

كانت هذه الأسرة في ذلك الحين أسرة متنفِّذة من أصحاب البراءات السلطانية (برئتلية)، ويعتمر أفرادها القلابق التي كان يختص بها أتباع الطريقة المولوية وجنود الجيش الانكشاري، خلافاً لسائر المسيحيين الذين كانت الدولة العثمانية في فترة ما قبل "التنظيمات" تفرض عليهم اعتمار العمائم السوداء. كما كانت مع آل زمريا من الأسر المسيحية الحلبية القليلة التي بقيت على المذهب الأرثوذكسي، بعد أن تحول معظم مسيحيي حلب في أواخر القرن الثامن عشر إلى الكثلكة.

ثم كان من نتائج تطبيق العثمانيين، في الستينات من القرن التاسع عشر، لبرنامجهم الإصلاحي الجديد (التنظيمات – قانون إدارة الولايات) الذي تضمن شيئاً من المساواة للرعايا غير المسلمين مع المسلمين وإشراكهم في أجهزة الحكم والإدارة، أن ظهرت بعض الأسر المسيحية البارزة على المشهد السياسي في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وانضمت إلى النخبة المدنية في حلب في أواخر القرن التاسع عشر. وكان "آل أنطاكي" في طليعة هذه الأسر.

فمن الإداريين من ذوي المراتب الذين نطالع أسماءهم في الحوليات العثمانية السنوية لولاية حلب (سالنامه) نجد: ديميتري أفندي الأنطاكي (2) الذي كان من أكثر وجهاء حلب احتراماً؛ وباصيل أفندي الأنطاكي (3) ونصري بك الأنطاكي (4)، اللذين احتلا مقعداً في مجلس إدارة الولاية، وهو أهم مجلس محلي، وفي مجلس المعارف في التسعينات من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين؛ وفتح الله أفندي الأنطاكي (5)، الذي كان قاضياً في محكمة الاستئناف في الفترة نفسها؛ وبشير أفندي الأنطاكي (6) الذي كان مسؤولاً عن الشؤون التجارية في حلب في مطلع القرن العشرين؛ وتلميذ الكواكبي الأديب والصحافي عبد المسيح الأنطاكي (7)، صاحب "القصيدة العلوية" في مدح الإمام علي؛ وفي الربع الأول من القرن العشرين كان (ابن عمنا) تيودوري أفندي الأنطاكي (8) الذي خدم في الإدارة العثمانية... ولكن...

إن كانت الوجاهة لا تعنيني كثيراً فإن...

ذلك "الكتاب" القديم المهترئ، الذي أضحى اليوم عند شقيقتي إكرام (9) والذي كان مرجعي الأساسي في أيام شبابي وفي لحظات تعاستي، كان يورِد على صفحاته الأولى، مخطوطاً باليد، بعضاً من سجلِّ شجرة عائلتنا. وتلك كانت تقول، على لسان ابن ذلك الجيل من الأسرة الذي عاش في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أن...

"... في الـ 14 من تموز 1863 تم زواجنا على يد صاحب الغبطة البطريرك تيموثاوس من أنصطاسيا ابنة الياس اليان...

- وفي الـ 23 من شباط 1868 رزقنا طفلاً مباركاً أسميناه في المعمودية سامي جرجي اليان اسكندر. وهبه الله طويل العمر والحياة السعيدة.

- وفي الأول من تشرين الأول 1870 رزقنا طفلاً مباركاً أسميناه في المعمودية ميخائيل توما. وقد غادرنا إلى جنان الخلود.

- وفي الـ 21 من كانون الأول 1872 رزقنا طفلاً مباركاً أسميناه في المعمودية جبرائيل. وهبه الله طويل العمر والحياة السعيدة.

- وفي الـ 20 من نيسان 1875 رزقنا طفلاً مباركاً أسميناه في المعمودية نيقولاقي. وهبه الله طويل العمر والحياة السعيدة.

- وفي الـ 3 من حزيران 1877 رزقنا طفلة مباركة أسميناها في المعمودية أفدوقيا كاتارينا. وهبها الله طويل العمر والحياة السعيدة.

- وفي الـ 11 من تموز 1879 رزقنا طفلاً مباركاً أسميناه في المعمودية قسطنطين لطف الله (10). وهبه الله طويل العمر والتوفيق.

- وقد رزقنا بابنة أسميناها أميلي لكنها غادرتنا إلى جنان الخلود.

- وفي الـ 12 من شباط 1885 رزقنا طفلاً مباركاً أسميناه في المعمودية ميخائيل كريم (11). وهبه الله طويل العمر والتوفيق.

- وفي الـ 23 من أيلول 1887 رزقنا طفلة مباركة أسميناها في المعمودية أميليا أولغا (12). وهبها الله طويل العمر والتوفيق..."

وأتوقف أمام ذلك الذي كان جدي لأبي، والذي كان يدعى "لطف الله  (13)"، المولود في حلب عام 1879. فمعظم الآخرين لا يعنونني بشيء، حيث لم أدرك منهم سوى أولغا الابنة الأخيرة التي أضحت جدتي لوالدتي، وكريم، الشقيق الأقرب إلى قلب لطف الله الذي...

لم يكن، ربما، شأنه شأن أبنائه وشقيقه الأصغر، كأجدادكم وأشقاؤهم وأبناؤهم من خلال ما هو معلن، مثالاً للورع وللفضيلة. فقد ارتكبوا خلال حياتهم بعض الموبقات. ولكنهم في نفس الوقت، وحالهم في هذا كحال معظمكم أيها السادة، لم يكونوا أشراراً...

"... كرَّست العائلة ابنها لطف الله (14) للكهنوت، فأرسلته إلى روسيا حيث قضى بضع سنين في المدرسة الكهنوتية في زاغورسك قرب موسكو، ثم في كييف عاصمة أوكرانيا. وكان من بين زملائه في الدراسة آنذاك من أضحى يعرف فيما بعد بألكسندروس (جحا) (15) مطران حمص. وأيضاً في المدرسة الكهنوتية في كييف، حيث قضى بعض الوقت كان يدرس، كما تقول كتب التاريخ، جوزيف دوغاتشفيلي (ستالين) (16)، الذي يدَّعي جدُّك أنه عرفه..." ولكن...

شاءت الحياة ألا يكمل المدعو لطف الله أنطاكي (17) (كستالين، ولكن لأسباب مختلفة!) دراساته الكهنوتية. فستالين، الذي عرف المذلَّة، وحُرِم في طفولته وشبابه من ملذَّات هذه الحياة الدنيا، ترك الكهنوت ليطلب مجده الأرضي من خلال العنف والسياسة. أما جدي الذي كان ابن عائلة ميسورة، فقد ترك الكهنوت ضارباً عرض الحائط بكلِّ الأمجاد، الأرضية منها والسماوية، من أجل ملذات هذه الحياة الدنيا تحديداً وحصراً...

وأهم ما في هذه الحياة كان بالنسبة له النساء والميسِر. فبدَّد من أجل النساء، وعلى موائد الميسِر، ما تحدَّر إليه من ثروة أهله...

"لم يكن يهمه شيء سوى الكيف..."

"لم يكن جميلاً جداً ولكنه كان جذاباً. وكانت صبايا حلب يعشقنه ويلاحقنه..."

"في تلك الأيام أنشدت له المغنية الحلبية راحيل قدُّك الميَّاس يا لطفي..."

"كانت الصبايا الحلبيات يحضرن صلاة صباح الأحد من أجل رؤيته وجذب نظره. أما هو فكان يتبختر أمامهنَّ في باحة الكنيسة مع أصدقائه، كالديك الرومي بشاربه المفتول وطقمه الأبيض وطربوشه الأحمر..."

"كان له عدد كبير جداً من العشيقات. كان وسيماً وجذاباً. كما كان يتحدث بطلاقة خمس لغات هي: العربية والتركية والروسية واليونانية والفرنسية..."

عنه تروى القصة الطريفة التالية تقول:

"... إن إحدى عشيقاته – وكان زوجها عاجزاً – أرادت ذات يوم أن تتبناه لتحتفظ به في متناول يدها، فاتصلت بأخيه كريم وأقنعته، مقابل بعض المال، أن يقنع جدَّك بالأمر. و(اقتنع) جدُّك بالأمر لأنه وجده طريفاً ووافق على التبنِّي بعد أن اقتسم مع كريم رشوته. فأحضرت السيدة وزوجُها كاتب العدل الذي طلب رؤية المحروس. لكن كاتب العدل صُعِق حين وجد أمامه رجلاً مفتول الشوارب، مكتمل الرجولة، فأحس أن في الأمر شيئاً غير قويم ورفض تثبيت الواقعة. وهكذا بقي جدك، لحسن حظِّنا، من آل أنطاكي..." ثم...

"تزوج من امرأة جميلة جداً وغنية جداً، عشقته فهجرت زوجها الأول (المصري من بلدة المنصورة ومن عائلة الأوضه باشي التركية الأصل) من أجله..." وكان أن...

"... في الـ 16 من آب 1907 [و] على يد صاحب الغبطة البطريرك استفانوس، تم عقد قران ابننا لطف الله (18) على أميلي هلال (19) ابنة السيد المحترم باصيل اليان هلال..."

وانتقل "الكتاب المقدس" إلى جدِّي. ولكن معه – وهذا هو الأهم – انتقلت "أيقونة السيدة العذراء" التي تزيِّن اليوم داري، والتي أحضرتها جدَّتي "ابنة باصيل هلال" مع جهاز عرسها عربوناً من منزل أبيها إلى لطف الله الذي أحبته ووهبته حياتها والذي...

تابع مسجلاً على صفحاته وفق التقاليد العائلية أن...

- في الـ 31 من آذار 1908 رزقنا طفلاً مباركاً أسميناه رزق الله (20)... وهبه الله طويل العمر والتوفيق...

- وفي الـ 20 من آذار 1910 رزقنا طفلاً مباركاً أسميناه فلاديمير (21)... وهبه الله طويل العمر والتوفيق...

- وفي الـ 10 من كانون الأول 1912 رزقنا طفلاً مباركاً أسميناه جورج (22)... وهبه الله طويل العمر والتوفيق...

- وفي الـ 20 من كانون الثاني 1915 رزقنا طفلاً مباركاً أسميناه ألبير (23)... لكنَّه غادرنا إلى جنان الخلود...

- وفي الـ 23 من تشرين الأول 1917 رزقنا طفلاً مباركاً أسميناه أريستيدي (24)..." (الذي كان والدي).

 وبقي لطف الله (25)، رغم أنه أضحى أباً لعائلة، على منوال حياته السابق... يتسامر صباحاً ومساءً فقط مع أصدقائه من المتنفذين العرب والأتراك، و/أو يغزو ليلاً ونهاراً ما كان يتيسر له من النساء الجميلات – وما أكثرهنَّ! فبدَّد أيضاً ثروة زوجته التي توفيت مصابةً بالفالج نتيجة ما لحق بها من عذاب نفسي وألم على يده. حيث...

" كانت تلبس أجمل ثيابها، وتجرُّنا وهي تبكي نحن الأربعة وراءها إلى حيث تفترض أنه كان موجوداً... إلى منازل عشيقاته أو إلى حيث كان يلعب القمار أحياناً... في محاولة لا تيأس لتعيده إلى المنزل. وكان يعود معها في كلِّ مرة. ثم في اليوم التالي كان يعاود الكرَّة من جديد وكأن شيئاً لم يكن..."

كان يبدو فاسقاً. ولكن، إن نظرنا بعين التسامح إلى ذلك الجانب السلبي من حياته لقلنا إنه كان يعيش على سجيَّته، وكان بهذا صادقاً مع نفسه. فقط ما كان يفترض وفق مفاهيمكم أن يبقى مستوراً (كالمعاصي) كان بالنسبة له معلناً بعض الشيء وموضوع تندُّر. وإن أخذنا جانبه الآخر – فلكلٍّ منَّا (ألا تعتقدون؟) جانبه الإيجابي – للاحظتم ما قد يستحق بعض التأمل...

فحين واجه تلك المأساة الإنسانية العامة، التي كانت خلال حياته متمثلة بمجازر الأرمن، لم يهرب، إنما تصرف بنبل وشهامة وأنقذ من استطاع بلا أي مقابل...

"لم يكن لطف الله (26) هكذا عبثياً كما يبدو، إنما كان له أيضاً الكثير من المواقف النبيلة. فخلال الحرب (سفر برلك أو الحرب العالمية الأولى) وجد لنفسه، للمرة الأولى والأخيرة في حياته، وظيفة لكي لا يذهب إلى ساحات القتال. فاستفاد من وظيفته وأنقذ من حبل المشنقة، خلال المجازر، الكثير من العائلات الأرمنية المنكوبة..."

"هذا صحيح. فعمُّك رزق الله (27) كان ينجح بالنيابة عن حلب نتيجة عاملين هما: أولاً، أصوات الأرمن الذين كانوا يحبون جدك؛ وثانياً، الأصوات التي كان يؤمنها له شقيقه كريم..."

وتضيف شقيقتي إكرام (28) (رحمها الله) أن "ربما كان جدُّنا عظيماً فعلاً، ونحن لم نكن نعلم. على كلِّ حال، اسمع يا أكرم هذه القصة التي قد تصدِّقها وقد لا تصدقها. أنا في المكسيك، كما تعلم، منذ عشرين عاماً. وقد اشتريت مؤخراً داراً جميلة وبدأت أفرشها على مزاجي هذه المرة. وذات يوم، بينما كنت أتجول في أحد الشوارع، استوقفتني واجهة محل لبيع السجاد العجمي القديم، صاحبه أرمني. فدخلته وشرعت أتفحص موجوداته وأسأل صاحب المحل الذي وجدته أمامي عن أصلها وسعرها. وكانت الأسعار غالية إلى حدٍّ جعلني لا أفكر حتى بشراء أبسطها. عندما سألني صاحب المحل...

-       من أي بلد أنت مدام؟ أجبته:

-       من سورية... فسألني مرة أخرى...

-       من أين في سورية؟أجبته:

-       من دمشق، ولكن أصلنا من حلب. فسألني أيضاً، وبمزيد من الاهتمام:

-       مِن بيت مَن في حلب؟ فأجبته وقد بات الحديث مشوقاً:

-       من بيت الأنطاكي... فسألني وقد تملَّكه العجب:

-       وهل كان لطف الله أنطاكي (29) من أقربائك؟ فأجبته:

-       نعم، لقد كان جدِّي...

فتأمَّلني طويلاً ثم قال للعامل الذي يعمل لديه في المحل:

-       أنزل هذه السجادة يا .. .. واستدار نحوي ليقول:

-       اسمحي لي أن أقدم لك هذه الهدية... فقلت له محتجة وكأني لم أفهم:

-       ولكن... لم يدعني أكمل كلامي حيث تابع قائلاً:

-       مدام، هذا مجرَّد وفاء دين صغير من أسرتي لأسرتكم. فقد أنقذ جدُّك أهلي من الموت أيام المجازر...

نعم، هذا ما حصل معي يا أكرم (30). كان وفاء دين بعد ثمانين سنة، أدَّاه ذاك التاجر الأرمني كحفيد أسرة أنقذها جدُّك في حينه، إلى حفيدة ذلك الذي أنقذهم. والمصادفة (إن لم نقل الحكمة الإلهية) شاءت أن تحصل هذه الواقعة في المكسيك، في الطرف الآخر من الكرة الأرضية..."

-       هل كان جدِّي مؤيداً أم معارضاً للحكم العثماني؟

-       كان مؤيِّداً له. كان، كالكثير من أبناء جيله آنذاك ( كإبراهيم هنانو (31) فيما بعد مثلاً)، موالياً للدولة العثمانية، وبالتالي، رافضاً في بداياته ذلك الاتجاه العروبي الذي كان يبغي، بمعونة الدول الغربية، الانسلاخ عن الدولة القائمة وفرطها. كذلك كان ابن عمه تيودوري (32) الذي أضحى عضواً في المجلس العمومي للولاية في أواخر العهد العثماني...

وحين دخلت القوات العربية والإنكليزية إلى حلب بعد أن غادرتها القوات العثمانية، غامر جدك بحياته لينقل إلى السلطات العثمانية ما تركه الوالي الهارب عنده من باب الأمانة – "تنك من الذهب... كما يقولون – فحاز بهذا العمل على رسالة شكر من الدولة العثمانية المنهارة...

وغالباً ما كانت والدتي تقاطع والدي حين كان يقصُّ علينا هذه القصة معترضة... "بأن كان من الأفضل لو احتفظ بهذه الثروة لنفسه ولعائلته..." ودائماً كان والدي ينظر إليها شزراً وهو يتمتم قائلاً: "... إنهم لا يفهمون اليوم معنى الأمانة..."

"لأنه حين اؤتُمِن على ما ائتمنه عليه الوالي الهارب، خاطر بحياته وأعاده كما كانت تملي عليه قيمه..."

-       ولكن، ماذا عن مظالم ذلك العهد؟ ماذا عن شهداء 6 أيار وعن جمال باشا السفَّاح (33)؟

-       لقد كانت هناك مظالم في هذا العهد، كما في أي عهد. لكني أعتقد أنه بولغ بقضية شهداء 6 أيار. فقد كانت الأوضاع صعبة والحالة حال حرب عالمية. وبعض الذين حوكموا وأعدموا كان من منطق الدولة القائمة على اتصال مع جهات معادية للدولة القائمة – الإنكليز والفرنسيين – فماذا كنت تتوقع؟

وأسأل والدي عن السنة التي توفيت فيها والدته (34) (جدَّتي) فيجيبني:

"توفيت عام 1923، وكان عمري في حينه ست سنوات. في نفس العام أصيب عمُّك جورج (35) بالجدري وكاد أن يموت، لولا أن الخدَّامة صوفيا التي كانت تعمل لدينا أنقذته... لفَّت جسمه بالقطن وربطت يديه لتمنعه من حكِّ جلده، وظلَّت أكثر من عشرين يوم إلى جانبه حتى تعافى..."

 "ثم انتقلنا إلى دمشق..."

فقد "أثَّر على جدك كثيراً موتُ زوجته التي تركته وحيداً مع أربعة أولاد، ولم يعد بوسعه الاستمرار على منواله السابق في حلب، حيث بات يُنظَر إليه كمسؤول عن وفاة زوجته. وهذا أمر لم يكن بوسعه احتماله. فانتقل مع عائلته في عام 1925 إلى دمشق..." ولكن...

-       ممَّ كان يصرف جدِّي الذي لم يكن يعمل؟ وكيف كان يعيلكم؟

-       كان يصرف مما تبقى له من مال زوجته. كما كان عمِّي كريم (36) أيضاً يساعده. فوالدي كان صاحب الفضل الأول في ثروة شقيقه الطائلة.

-       كيف؟

-       كان دائماً يساعده بالدعم لدى المسؤولين..."

"وكان كريم كما تعلم قبضاي، وكان في نفس الوقت صاحب نخوة، وبالتالي يعرف ويقدِّر فضل أخيه عليه..."

"ذات يوم، في أحد شجاراته، جرح كريم شخصاً تشاجر معه، فلاحقته الشرطة وكادت أن تقبض عليه، لو لم يلتجئ إلى منزل شقيقه الذي كان يتسامر مع الوالي التركي وبعض الأصدقاء. فأدخله جدك واستفسر منه عمَّا حدث. وعاد ليكمل الحديث مع الوالي وقصَّ عليه القصة مخبراً إياه بأن الجندرمة تطارد شقيقه. وطُرِق الباب بشدة، فقال الوالي لجدِّك: "بسيطة دعني أتولى الأمر..."

وفتح الوالي الباب لشرطته بنفسه وسألهم:

-       ماذا تريدون؟

-       أفندم نحن نلاحق شخصاً جرح شخص آخر ونشك أنه التجأ إلى هنا... قال الوالي:

-       إن أصاحب هذه الدار من جماعتنا، وهم من المعتبَرين. اذهبوا الآن وراجعوني غداً...

-       أمرك أفندم..

"... ولُفْلِفَت القضية، وانتهت القصة..."

-       شيء عظيم...

-       ربما ليس عظيماً، ولكن هكذا كانت طبيعة الأمور في حينه...

-       كيف؟

-       اسمع هذه القصة.

"في تلك الأيام، كان كريم (37) مخطوباً إلى صبية من عائلة متواضعة تسكن في حي باب الفرج وتدعى بهيَّة (التي تزوجها فيما بعد). فتعرَّض منزلها للسطو، وسرق منه بعض التنك الفاضي. فالمنزل كان خاوياً. والتجأ كريم إلى أخيه (جدِّك) الذي أخبر صديقه الوالي بتلك السرقة العظيمة التي حلَّت بالبيت العامر لخطيبة أخيه. فعُمِّمَت الحادثة مبالغاً بها على كافة المخافر في المدينة. وبعد يومين، تم استدعاء عمِّي كريم وأهل خطيبته إلى المخفر الرئيسي في حي العزيزية ليخبرهم قائد الجندرمة أنه تم القبض على اللصوص وتمَّت استعادة بعض ما سُرِق. فقط، يجب التعرُّف على ما وُجِد، هل هو حقاً ما سُرِق من المنزل. وكان ما وُجِد هو العشرات من تنك السمن والزيت وأكياس الصابون والرز والسكَّر، ما كان من الممكن أن يطعم حياً بكامله. فتعرفت بهيَّة وأهلها على بعض ما فقد من منزلهم. وانتهت القضية..."

-       ولكن، هذا أيضاً عمل شنيع...

-       ربما، ولكني قلت لك أن كريم كان هكذا، وأن جدَّك كان متنفِّذاً. على كل حال، يا بابا، في تلك الأيام، كانت طبيعة الأحوال هكذا. ثم إن طبيعة الأمور اليوم ليست أفضل منها بالأمس...

وأسأل والدي عن كيف كانت الحياة في حلب ودمشق في حينه؟ فيجيبني:

"يقولون إنها كانت هادئة، وإن الناس كانوا أبسط وأطيب. وقد بقيت الحال هكذا حتى جاءت الحرب الأولى وانهار كلُّ شيء. خرج العثمانيون وجاء بعدهم الفرنسيون. الذين، في ظلِّ انتدابهم، شبب وترعرع..."

***  

الفصل الأول - الجزء الثاني: رزّوق، فلادو، جورج وأريس...  الفصل الأول: على ضوء كتاب مقدّس وأيقونة

===========================

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود