|
الانقلاب
آلان
الصالحاني
يلتفُّ،
يعشق الالتفاف، يُعشِّق الصمت بصمت حراشفه إذ
تلتمع وتسودُّ، تدغدغني حتى العظام، حتى نقي
العظام، تدغدغني كأنها تنهش آخر رغبة فيَّ،
وتعتصر جلدي وجَلَدي حتى آخر قطرة وأبقى بارد
الوجه والنظرة كما عَرَقي وأتركه يبقى. -1-
يستيقظ ويبقى بعض الوقت
ينتقل بين هنا وهناك وبين رنين المنبِّه الذي
كصوت بائعه، كزحمة الشارع، كرائحة المدن قبل
فوات الأوان وبعده وقبل الأوان وبعده وقبل
أمور كثيرة لا يجديها الأوان. يحاول أن يتذكر حلم الليلة:
لا شيء! ليلة أخرى تمرُّ دونها، مع أنه حفظ
الصورة ودقق فيها وصحَّح كل تفصيل كل انحناء
كل تكوُّر، وحين أغلق عينيه آخر مرة وقرر أنها
لابد آخر مرة كانت الصورة فيهما أجمل، ولكن يا
للخسارة! يبحث بين أعقاب السجائر
ويجد عقباً لا بأس به، يدخن، يبحث مرة أخرى
يجد عقباً لا بأس به، يدخن ويفكر أن كل
الأعقاب لا بأس بها ويدخن. ينفث ويبتلع ما
تيسَّر، يشعر بدوار بسيط، يسعل، يمسك حلقه
كأنه يخنق نفسه: لابد أنهم الآن يشربون الشاي.
ينظر إلى ساعة يده لا يجدها، يبصق سائلاً
أصفر، لزجاً أصفر، يعلق دوماً بين السماء
والأرض كخيط عنكبوت صغير. لابد أنهم الآن
يشربون الشاي، أولاد العاهرة الأولى. يحاول
أن يشرب الشاي لكنه يخطئ فيشرب رائحة الغاز
المتسِّرب ووجه المعتوه أبي حنان حين أخرج
رأسه المتفحم من فرن الغاز: اتركني، اتركني
أموت! المغفَّل أفرغ قنينة الغاز ولم يفطس
وحين سأله لماذا أقحم رأسه داخل الفرن أجابه
عبر سعاله: ظننت أنه هكذا أسرع. ظنَّ المعتوه
أنه هكذا أسرع والفرن لا يعمل! يدخل في التابوت الكبير،
تستحيل الألوان أبيض أسود، أسود أبيض، تمرِّغ
وجهَه بأبيضَ أسود وجوهُ أشباحٍ تميل للأزرق
في الأبيض الأسود، وجوهٌ مكرَّرة تمرِّغ
وجهه، تُكرِّر وجهه وتَتكرَّر... يعمل منذ فوات الأوان
ملاحقاً طيف الأرقام وطيف ساعات على أيادٍ
تومئ نحو ساعات عليها أرقام، عليه أرقام،
عليهم جميعاً أرقام، والمكبس يعمل، والعرق
مَهَل يشوي عينيه، والمكبس يعمل، ويكبس لحن
صفيره ويعمل، ويكبس صرخة الشاب الجديد إلى
يساره ويعمل، ويكبس لحماً، عروقاً ودماً يشرب
ويعمل، يلطِّخ مكبَسَهُ الأبيض الأسود بسائل
أحمر، يدقق في كلتا يديه لا يبدي شيئاً، يدير
وجهه نحو اليسار لا يبدي شيئاً، يقترب من
الانتفاض المحمرِّ، يخرج من الجيب منديلاً
يعقده فوق المخلوق الجديد الأبيض الأسود. يخرج من التابوت الكبير. في
أنهار الإسفلت تسير حياة الحديد كما تسير،
كَرٌّ ثم توقف، فَكَرٌّ ثم توقف، وشيخ أشيب
مترهِّل يمسك بإحدى يديه عكازه وبالأخرى علبة
مناديل. يعيش مع الاحمرار، يجوب مع الاحمرار،
أنهار الحديد يبيع، تشيح بالوجوه وجوهٌ في
علب السردين ذات النوافذ، وجوهٌ أخرى تبقى
جامدة أو تتأمل سرديناً يجلس مستريحاً في
علبة أخرى فالسردين لا يرى غير السردين
والدمية ذات العكاز تدور باحثة عن ابتسامة،
عن يد تمتد، عن نافذة تفتح، تدور وفق خط
المسير المقرَّر بصمت أو بدعاء حين يدٌ تمتد.
لكن الوقت انتهى ورقصة الدمية ذات العكاز
تستمر، والوقت انتهى، والدمية تهمد لحظة،
مدركةً، وتسرع بين قطيع الحديد إذ يخور
ويتأهب، لكن الوقت انتهى والحديد لا يأبه،
وعكازٌ ينزلق على الإسفلت، نسي صاحبه أن
الخشب لا يعرف المشي على الإسفلت وأن العكاز
يحتاج لنعل كاوتشوك كي يعرف المشي على
الإسفلت، لكن الوقت انتهى والحديد لا يأبه،
لا يفهم الحديد قصة الخشب على الإسفلت ولا
يعرف قصة قطعة الكاوتشوك، وتقع الدمية لأن
المسار الوهمي انتهى عند هذه النقطة. ثم حديد
يختلط بدم وحديد وبأصوات وبآهات وباسم الإله
العليِّ ذي الحول والقوة، ويتابع هو مسيره
نحو شمس تغيب لأن مساره لا يمر بنقاط أخيرة. يفتح باباً لا وجود له ويدخل
شقة اشتُقَّت من بناء غير محدد، اشتُقَّت
عشرين مرة، بالطريقة ذاتها، بكلِّ ما فيها
وكلِّ من فيها... يفتح باباً غير محدد، باباً
لا وجود له. يدخل في الغسق الدائم وفي الضباب
يلتهمان كل صباحٍ وليلٍ صباحاً وليلاً،
والمصباح يظلِّل بامتراءٍ كل من يدخل وكل من
يبقى لأن الباب لا وجود له وكذلك الشقة. يدخل
في الغسق الدائم والضباب الغسَّاق، يسبقه شبح
الجدران والسُّقُف التي كالجدران. يشمُّ رائحتها ثم رائحة
عطرها، المصباحُ الشَّكوك يرسمها في العمق
شبحاً دون شبح، يرسمها كما يخشاها تماماً
شبحاً دون شبح، يعرف أنها الآن تبتسم، تذيب
رائحة عطرها بالسم خلايا دماغه التي حفظت
كلام الوداع خلال ليالٍ كثيرة، يقاوم، يحاول
أن يبدع كلام وداع جديد لكن الرائحة تجتث كل
الكلام. -
ألست
سعيداً برؤيتي؟ -
لا
أدري. -
لا
بأس، من الأفضل لك ألا تدري. ترتبك قليلا،
تصطنع الارتباك والحياء المريء وتُخرِج من
الحقيبة سيجارة، تبحث عن شعلة، تصطنع البحث
عن شعلة، يُخرِج كبريتاً من جيبه ويبدي ضجراً
وضيقاً، شهيقاً. -
هل
ستبقى واقفاً هكذا؟ تقولها بغنج ودلال لا
يليقان بما شهدته عيناها وما خبرته. يفكر،
سابراً وجهها للمرة الألف وللمرة الألف
مدركاً كم كلَّفه ذلك الخطأ العابر. -
ما
بك تنظر إلي مجدداً بتلك الطريقة. تمسكه من
يده وتُجْلِسُه على الأريكة، تئن الأريكة. -
لماذا
جئتِ؟ -
اشتقتُ،
متُّ شوقاً. تحافظ على كفِّه ضمن كفيها، يحاول
سحب يده، يحاول أن يجد النافذة، لا يجدها،
يحوِّل نظره نحو السجادة. -
وأنت
ألم تشتقْ إليَّ؟ -
لا
أدري. -
أعرف،
أعرف أنك لا تدري ولذا أحبك. تقرن آخر جملة
بانسحاب بطيء وانزلاق مفعم بمرونة جسد خَبِر
الكثير في عصره وفي غير عصره. يشعر بها على
ركبتيه، وبفيها على أذنه اليمنى، بلسانها على
أذنه اليمنى، على وجنته اليمنى، على فمه، لا
يمانع. يخلع عنها الثياب بيد عارف، جسدها أوضح
من أن يبحث فيه عن شيء جديد، عن شيء محبَّب،
جسدها كهذه الشقة، كالباب، كالمصباح
الشَّكوك يصنع للظلال ظلالاً أبهت منها وأسخف. يشرئبُّ فينتصب رأسه الدبُّوسي،
يبدو انتفاخان على جانبيه، يفغر فاه، يكشِّر،
ليس مضطراً لأن يكشِّر، يكفيه أن يفغر فاه
وتبقى العينان الثابتتان كنجمتين في ليل قطبي
طويل وموحش، الثابتتان لأن الليل القطبي عديم
الأقمار هنا، لأن الليل القطبي طغى. يفغر فاه
فيبدو نابان ونبدأ لعبة الجندي الأخير سوية. -2-
يستيقظ، يمدُّ يده نحو هاتف
يقبع في غرفة أخرى، بعيداً، بل ربما في عالم
آخر، يستيقظ، إنه الباب، رنين الجرس العفن
الذي كأسلاكه، كالكهرباء، المزعج كالصباح
هنا واللحوح اللجوج كَيَدِ أبي حنان الواقف
خلف الباب الوهمي: لابد أنه الآن يأكل منقوشة
ويقطر زيتاً ويفكر في شرب الشاي هنا وتقطير
الزيت فوق الأريكة والابتسام. -
صباح
الخير يا عريس! يقولها عبر ابتسامة الزيت
والزعتر المخنوقة بالعجين. -
تبدو
اليوم أحسن حالاً، لكني لست كذلك [يسكت،
يتفحَّص وجهه، يضيف:] ولا غاز عندي للشاي ولا
للانتحار. -
ومن
قال لك إني جئت لشرب الشاي. ثم هل ستبقيني
واقفاً هكذا كالشحاذ. يقولها ماداً رأسه عبر
شقِّ الباب، مبتسماً أكثر لمشهد رآه أو
تخيَّله. -
أبعد
رأسك أبو حنان، عيب! هل رأيتني يوما أتدخل في
خصوصياتك؟ -
يا
أخي تدخَّلْ، أنا لا أمانع أبداً! أصلاً لم
يبقَ عندي خصوصيات تتدخل فيها. يبتسم أكثر
بأسنان الزعتر. -
اتركني
وشأني! -
مَن
هي؟ -
ما
كل هذه السماجة منذ الصباح؟ أمعقول هذا يا أبو
حنان؟! يا أخي اذهب إلى القهوة وألحق بك بعد
قليل. -
طيب،
ولكن لا تتأخر. فعندي كلام كثير واليوم عطلة.
ويغمزه بغموض كعادته ويعرض عليه سيجارة ثم
يقحم رأسه مستغلاً انشغاله بإشعالها، يسترق
نظرة، يدفعه ويغلق الباب في وجه يبتسم أكثر. -3-
المكان صندوق ألعاب سحري
وموحش، هما لعبتان سحريتان لا تخرجان من
الصندوق، سحريتان لأنهما تريان ولا تُريان
بكل بساطة، سحرٌ أتفه من أن يُذكَر، أو هكذا
يبدو للوهلة الأولى لولا أن أحد أوجه الصندوق
لوحة إعلانية من النوع الكبير والموحش، لوحة
تظهر فيها كل وجوه المدينة في وجه واحد حي
وميت وهنا يكمن السحر. يدخل الصندوق مخشخشاً بكل
كيانه، بكيس في يده، يقطع نقد في جيبه
وبالمفاتيح. -
ماذا
اشتريت؟ يسأله المخلوق ذي الظهر الأسود
والوجه المضاء بوميض شاشات كثيرة، كبيرة. -
فلافل.
يفلت الكيس الأبيض فيبقى عالقاً في الفراغ
المظلم، يظهر خِفَّان بلاستيكيان، يختفي
الحذاءان، يأخذ الكيس الجامد في الفراغ، يتجه
نحو المخلوق الجالس، يجلس إلى جانبه، يخشخش
الكيس دون سبب يُذكَر ثم يسقط قليلاً ويعلق من
جديد، ويبدأ الفيلم اليومي بخمسة مسارح لا
تتغير والكثير من الممثلين الجُدُد والفلافل. -
كيف
كانت الأمور في غيابي؟ -
لا
شيء مهماً، بعضُ الوِلْد ممن يبيعون في
الساحة حاولوا إصابة العين اليمنى. يجتزئ
لقمةً ملء فمه ويمضغ. -
لماذا
اليمنى؟ -
لأنها
أصغر وإصابتها أصعب ولأنهم ملُّوا إصابة
اليسرى. وكما تعلم غداً موعد الانقلاب. يصيب
إحدى الشاشات بوابل من ذباب صغير لا يئزُّ
يخرج من فمه منجذباً نحو الضوء. -
أعلم،
أعلم. ولكن لابد من حلٍّ لأولاد العاهرة
هؤلاء، لابد من حل. يمسِّد ذقنه، يقطِّب
حاجبيه، ينتبه إلى الذباب، يختلق من الفراغ
خرقةً ويمسح الشاشة. -
إنهم
يهربون بسرعة في الأزقة ولا تلحق الضابطة أن
تمسك بأي منهم. -
يكفي
أن نمسك بواحد فقط. يمسِّد ذقنه. سأجعلهم
يدفعون ثمن هذه اللعبة القذرة. إذا كنا نسمح
لهم بهذه الانقلابات التافهة فلن نسمح لهم
بالتعدِّي على الرسم الجليل. -
صحيح،
وِلْدٌ قليلو التربية والحياء. -
بل
عملاء يستحقون الحرق. يمسِّد ذقنه. -4-
المقهى أبو حنان يبتسم
أكثر، يحلف بأن ما يقوله حق ويكذِّب كل
الأقوال المطابقة والمضادة، يسحق المعارضة
سحقاً وكذا الحلفاء ويلعب النرد ويبتسم أكثر
ويربح دوماً. المقهى أبو حنان لأن باقي الرواد
ليسوا رواداً بل مقيمون، نماذج خشبية،
يُخرَجون مع الكراسي كلَّ صباح على الرصيف
ليتمتع بمرآهم سيَّاح المدينة ويلتقطوا صورة
بخمس ليرات لسكان البلاد وخمسمائة لغير
السكان من غير البلاد لأنهم لا يظهرون على
الشريط الحساس للضوء بغير خمس ليرات أو
خمسمائة لغير السكان. -
سلام
أبو حنان. -
يا
أهلاً ويا سهلاً. يقولها دون التفات مثبتاً
ناظريه على طاولة النرد ليُرهِب شياطين الحظ
السوداء على الحجر الأبيض. اقعد! ما بك واقف
هكذا؟! يمسكه من يده ويُجلِسه على الكرسي
المحضَّر سلفاً لكل من يأتي دون التفات. -
بكم
اللعبة؟ -
بعشر
ليرات. -
وإذا
ربحت؟ -
يعيد
لي خمسة. يراقب اللعبة، يداعب أبو
حنان الشياطين الصغيرة فتستشيط ذعراً من
دعارة أصابعه ولزوجة قطرات العرق على أطرافها
المدبَّبة الباحثة بحذق عن مكان تدخل فيه،
فتنطلق الشياطين الصغيرة مفزعة ساحبة وراءها
المكعب الأبيض، ثم يهمد الحجر على الخشب
العفن الأسود فتنتشر النقاط السوداء على
الوجه العلوي تماماً كما أمرتها أصابع الداعر
أبي حنان المبتسم أكثر. -
ما
رأيك؟ يقولها ضارباً بيده على فخذ الجالس إلى
جانبه فتنهش فخذه سابرة أكثر المواضع طراوة
واكتنازاً. يرد يد الداعر أبي حنان
باشمئزاز وحدة. -
بتُّ
أخاف من حركاتك هذه أبو حنان. ما كل هذه
القذارة؟! -
ما
بك؟ يصطنع سحنة طفل بريء مدهش من ظلم أبيه
السفَّاح أو تخلِّي أمه المومس عنه مبتسماً
أكثر ابتسامة الظافر إذ ربح اللعبة. -
لا
شيء، لماذا جئت بي إلى هنا؟ -
لنتجاذب
أطراف الحديث، نأخذ ونعطي. يسحب قطعة النقد من
يد الدمية الخشبية. -
تقصد
أعطي وتأخذ. -
لماذا
أنت حادُّ هكذا؟ يا أخي رُقْ، وأطِلْ بالك. -
أبو
حنان! لا وقت عندي لقذاراتك الصغيرة. إذا كان
لديك أمر مهم فهاتِ وإلا فدعني أذهب في حال
سبيلي واجزِ وقتك مع غيري. يغذَّان السير في أزقة
شوارع عالم ما بعد الطوفان وما قبل بناء
السفينة، العريضة، الهادئة إلا من عويل رتيب
هو الصمت ذاته، يغذَّان السير لأن السير هنا
إذا لم يُغَذَّ يضيع، يُنفى في فوات الأوان. -
افهم
يا أبو حنان. الأمر ليس بهذه السهولة. -
بل
بهذه السهولة! إنهم لا يتوقعون شيئاً من
هذا القبيل. -
لا
أدري. أريد أن أرى الشخصين الآخرين. -
كنت
أعرف ذلك لذا رتبت لقاءً اليوم في بيتي. ما
رأيك؟ -
الآن؟ -
بالطبع. -
طيب،
هيا بنا. الطوفان لم ينتهِ بعدُ، رغم
الجفاف والقحط، فالجثث مازالت تطفو، كثيرة
ولكن أقل من المعتاد لأن أحدهم قرر أمراً
خطيراً، تلفحُها أضواءُ لوحات الإعلان بكل
أنواع الأشعة المرئية وغير المرئية فتنبعث
منها روائح النايلون المحروق، تعافها كل
ديدان الأجداث، الغربان لا تقرب أعينها
البلورية، الطوفان لم ينتهِ بعد وسيبقى
طويلاً، طوفان الجثث النايلونية. -5-
الساحة ليست كبيرة، في
مركزها لوحة إعلانية كبيرة بما فيه الكفاية
لتبدو مقتطَعة من عالم آخر الساحات فيه أكبر
وكذا وجوه من تعرضهم اللوحات، الساحة ليست
كبيرة لكنها اتَّسعت في ركن منها لعشرة من
الشبان المختصرين، وحتى كثيراً، بشكل مبالغ
فيه، بشكل يصعب معه لعين غير معتادة أن تحصي
عشرة من الشبان بكل تلك الهيئات وكل ذاك
التنوع المختصر جداً. اللعبة التي يلعبونها بسيطة
جداً ومفيدة جداً في تجزية الوقت الطويل
الكئيب بين الانقلاب والآخر، اللعبة ليست من
محض ابتكارهم، اللعبة عملٌ تعرضه شركات تصنيع
واقيات المطَّاط ذوات الطعم اللذيذ، اللعبة
استعراض للاتحاد بين المطَّاط واللحم، بين
المطَّاط والرغبة، في ساحة ليست كبيرة لكنها
كافية لعروض من نوع كهذا. في ساحة ليست كبيرة ذكورٌ
تنتصب مزدهية بكل الألوان وقد عُلِقَّت على
كل منها لافتة تشير للطعم: دراق، تفاح، توت
بري، توت شامي... ولا مانع قبل الشراء من تجربة
الطعم والتأكد من جودة المنتجات المعروضة. -
هل
تشعر بألم في الليل؟ -
لا،
ولماذا تسأل؟ -
وكم
حبة تأخذ في اليوم؟ -
واحدة.
وأنت؟ -
اثنتين.
باتت واحدة لا تكفيه، يذبل بعد ساعتين ونحن
نعمل خمساً. -
وهل
من مضارٍّ لهذه الحبة؟ -
لا
أدري. الشركة تؤكد أن لا مضارَّ. انتبه جاءتك
زبونة. * -
يا
أهلاً ويا سهلاً، شرَّفتِ، عندي كل الأنواع،
وهذا المعروض بطعم الفراولة، تذوَّقيه بالله
عليكِ، لذيذٌ للغاية، هدية إذن؟ بأية مناسبة؟
عيد العشاق؟ أنصحك بأخذ الفراولة فلونها
أحمر، عندنا أيضاً خليط تغلب فيه الفراولة
ولونه أحمر أيضاً، فيها كحول؟ رأيتِ إعلاناً
لها في النمسا؟ لا والله لم نصنِّع منها هنا
ولكننا نشكرك على هذا الاقتراح الجريء
والمبدع، سنعمل حتماً على تصنيع أنوع فيها
كحول، بطعم الشامبانيا؟ أكيد بالطبع،
ستأخذين واحداً بطعم الفراولة؟ شكراً، شكراً
لك. * -
مرحباً
يا شباب. يحيِّي الجميع ويقترب من الجميع ومن
الجميع يبتاع قطعة واحدة يريد أن يجد فيها كل
الصفات المحمودة. -
يا
أهلاً. يردُّ بعضهم التحية ويحجم بعضهم ممَّن
يعرف الزبون من وجهه. -
يا
إلهي، أبو حنان، أهذا ما يشغل بالك الآن؟!
يتردد قليلاً ثم يسترق نظرة إلى الديدان
الملونة، ترتعد فرائصه، يبصق. -
انظر،
انظر إلى هذا اللون! أليس جميلاً؟ يتبادل شابان ابتسامة وغمزة
عين يلحظها فيبصق مرة أخرى ويبتعد. -
بكم
هذه القطعة الظريفة يا حبيب؟ يقولها ممسكاً
بالحنش الأخضر وهازاً إيَّاه. -
بعشرين. يقرِّب رأسه، يروم تذوُّق
الشيء اللذيذ، يوقِفُه الشاب ويومئ إلى بائع
آخر يقف معزولاً في طرف الساحة النائي. التذوق للمخنَّثين هناك،
يكشِّر مستهزئاً، يتبادل غمزة أخرى مع صاحبه
معجباً بطرافته وحذقه، ثم تتبدل ملامحه فجأة،
فأبو حنان لم يزل ممسكاً بالحنش الأخضر مسكَ
صيادٍ يبتغي خنقه. يبدل الشاب رأيه يقول:
تفضل، يا أهلاً، شرَّفت! لكن أبا حنان كان قد
غير رأيه بشأن التذوق. -
أعطني
واحداً فوسفورياً. وضع أبو حنان المشترى في
جيبه ولحظ جلبة نَمَت باطِّراد في الساحة
كأنما مسَّها جِنِّي أحمر، توقفت سيارة حمراء
بعنف، فانسحبت بعض الأحناش بقلق إلى أوكارها
وبقي بعضها يتدلَّى مهتزاً في كل اتجاهات
الفضاء مع ركض أصاحبها المحمَّلين بأكياس
البضاعة. -
الحقوا
بهم أريد واحداً على الأقل. سأعلِّم أولاد
العاهرة هؤلاء كيف يحترمون صور العظماء. يرفع مسدساً في الهواء،
يطلق عياراً ويجأر: توقفوا وإلا سأطلق النار
في الرأس! يتوقف اثنان من الراكضين
ويختفي الباقون في الأزقة النتنة. يلتفت إلى
بدين يأكل سندويش فلافل، يحاول أن يكبح
ابتسامة الانتصار الساعية للوصول إلى سطح
وجهه المتجهِّم: أرأيت؟ الأمر سهل، لابد من
بعض الحزم فقط وبعض الإصرار. يبتسم فم الفلافل السخي في
كل شيء، في إطلاق الرذاذ والابتسام والكلام
الوديع: والله إنك لمعلِّم، كبير والله كبير.
سأكتب في التقرير كل تفصيل. والله تستحق كل
خير! يسحق صرصوراً يقطع الساحة
بكعب حذائه ويُمعِن في السحق بإدارة الكعب
قليلاً في الاتجاهين، يبقى قرنا استشعار
الصرصور بارزين وينتفضان محاولين الهرب من
تحت الحذاء، يرفع كعب حذائه، تبدو بقعة غير
محددة الهوية وقرنان يتحركان. -
لابد
من بعض الحزم فقط. بعض الحزم وبعض الإصرار.
ويبتسم. -6-
الشقة تعبق بريح الإيجار
الرخيص، الشقة تقع قبل الباب لا بعده، تراها
بأنفك حيطاناً عشَّشت فيها ديدان الطلاء
والطين، حيطاناً تنُزُّ عفونة ماءٍ صدئ
وصراصيرَ تنُزُّ، تخرج من كل فجوة وفي كل فجوة
تدخل، في أنفك، في شرجك، وتبدأُ لعبةُ
الاختفاء والبحث ولا تنتهي. يدقُّ أبو حنان الباب. يرمقه
بارتياب إذ ظنَّ أن أبا حنان يسكن وحده. -
لا
تَخَفْ، لا أحد غريب. إنه واحد من الاثنين
الذين حدَّثتك عنهما. يفتح الباب شاربان وأنف،
يبتسم الشاربان فيبرز الأنف بشكل قميء لوهلة
ثم يختفي الكل ويصدر صوت عن شاربين وأنف ينمُّ
عن دعوة للدخول. الغرفة أنف وشاربان وأبو
حنان وصوت أم كلثوم وعبوات فيها سائل أصفر
رائحته تخبر عنه رغم إحكام الإغلاق. -
هذه
لفحص البول غداً. يمسك الشاربان والأنف إحدى
العبوات ويقرِّبانها من وجهه، يميل بجذعه نحو
الوراء يحاول أن يتنفس من فمه. -
لفحص
البول هذه. يومئان إليها مرة أخرى. نعم لفحص
البول. أترى قطرات الدم هنا. منذ أسبوع أحاول
أن أصيدها واليوم نجحت. يهزان العبوة
الزجاجية، يبتغيان خلط السائل الأصفر. أترى؟
القطرات لا تختفي، أليست جميلة؟ يبتسم
الشاربان ويبقى الأنف مكفهراً. -
بلى
جميلة جداً. يقولها أبو حنان محاولاً إنقاذه
من العبوة إذ أخذت تقترب أكثر فيأخذها من
الشاربين فيكفهر الاثنان الأنف والشاربان
هذه المرة. يفتح الباب يدخل أنف
وشاربان ويجلسان مرة أخرى، ينقِّل نظره بين
الأربعة المرحة بكل أجزائها هذه المرة ينظر
إلى أبي حنان بشيء من التوسل يرفع الداعر أبو
حنان إصبعيه ويغمزه ويبتسم أكثر، يضرب على
رأسه تراوده رغبة في البكاء يلجمها ويبتلع ما
تبقى في كأس العرق دفعة واحدة. يلعن دينك يا
أبو حنان! تنبجس اللعنة من بين أسنانه وتضيع
في حشد أصوات أبي حنان وعبوات السوائل
والصراصير وأم كلثوم. صوت أنات غريبة، ورائحة عرق
رجالي نتن إلى حد التقيؤ والإغماء، يكابر على
نفسه ليبقى واقفاً لأنه غير مسموح له بأن
يسقط، يتجه نحو الصوت والرائحة كما الممسوس
في نومه، يومض المشهد فجأة: أبو حنان يحصر أحد
الشاربين والأنف إلى الحائط إذ ظهر لهما شرج،
يتفصَّد أبو حنان عرقاً ويجأر، يئنُّ
الشاربان ويلتصقان بالأنف، الشاربان الآخران
يظهر بينهما "هو" بحراشفه السوداء
ولسانه ذي الشطرين ويلعق عرق أبي حنان، وفجأة
يدق الباب بعنف ثم بعنف، يخلع ودون أي إنذار
مسبق أو حتى لاحق، يدخل ساحق الصراصير ومعه
شابان مألوفان يلبسان طقماً مطاطياً بلون
أحمر تفوح منه رائحة فراولة ممزوجة برائحة
المبيدات، يلصق ساحق الصراصير بوجهه وجهه
ويصيح: هنا بيت الصرصور أبي حنان؟ تهتز أذناه
ويختفي منهما الصوت ومن كل الغرفة ويظهر بدل
الصوت أزيز، طنين ووشَّة كما في الفراغات بين
محطات الإذاعة، يومئ ساحق الصراصير لشابَّيْ
المطاط أن: اهجموا! وتبدأ حفلة الدخان برائحة
الفراولة والمبيدات فيشعر بالغثيان وينظر
إلى الساعة ويقرر العودة إلى السرير لأن
الوقت تأخر ولا وقت لديه للاحتفال، يلج
الدهليز المؤدي إلى حيث السرير ويلتفت لآخر
مرة لكن الضوء كان قد انطفأ وبدت سابحةً في
الظلام أحناشٌ بلون الفوسفور وشاربان
وصراصير طيارة وود لو أنه يمكث برهة لتأمُّل
عروض الفوسفور لكن الوقت تأخر. -7-
الوقت صباح كئيب كالعادة،
لا يتطَّلب منه الكثير، لابد فقط من رفع قرص
الشمس قليلاً ولا يهمُّ من أية جهة من الجهات
الأربع سيظهر، فقط لابد من رفعه فوق خط الأفق
لتبدأ البكرة الضخمة في التحرك والدوران ولا
يهم أيضاً في أي اتجاه. -
من
أين لك هذه السيارة؟ -
إنها
له. يشير إلى الشاربين الممسكين بقرص السكن
فيبتسمان. إنه يعمل سائق تكسي وهي ليست ملكاً
له. -
هذا
جيد، والأسلحة والمتفجرات؟ -
هذه
اختصاص الحبيب. يومئ برأسه إلى الشاربين
الجالسين في الخلف فيبتسمان. -
تظنها
تكفي؟ -
بكل
تأكيد. قلت لك إنهم لا يتوقعون أمراً كهذا. -
هذا
جيد. وبشأن الخطة لم يتغير شيء، أليس كذلك؟ -
كله
تمام. فقط لا تقلق ورُقْ. تمر سيارة تكسي بالساحة
التي ليست كبيرة، ككل الساحات هنا، الشباب
هنا يقفون واللوحة الإعلانية أيضاً وإن كانت
ملطخة بعض الشيء ببقع حمراء عند العين اليسرى
للوجه المأخوذ من عالم آخر. -
انظر
إلى ذلك الأبله في سيارة التكسي. -
أي
واحد منهم؟ -
الجالس
بجانب السائق. -
ماذا
به؟ -
ابن
الكلب يومئ نحو الرسم الجليل ويضحك انظر إليه
ماذا تُراه يقول؟ وجه نحوه المدفع الصوتي! تُسمَع وشَّةً في علبة
السِّحر ثم يُسمَع صوت رديء النوعية خافت
وبعد برهة تصبح الكلمات واضحة بعض الشيء: -
انظر
إليه. يا إلهي ما أغبى شكله! ثم صوت ضحك شرير
جداً نظراً للتشويش. -
أسمعت
ما قاله؟ والله لألعن أباه ابن العاهرة! يمسك باللاسلكي ويصرخ: -
يا
بطيخ الجبل. حوِّل. -
هنا
بطيخ الجبل. حوِّل. -
أوقفوا
سيارة التكسي رقم 956784 في الساحة رقم خمسة.
حوِّل؟ -
ما
لونها؟ حوِّل. -
أصفر
يا جحش! حوِّل. -
سنحاول.
حوِّل. يمرون بساحة أخرى وشباب
ولوحة أخرى ملطخة أيضا فيقلق ويعبِّر عن قلقه
لأبي حنان بنظرة. -
لا
تقلق الأمور كلها تحت السيطرة. -
لا
يبدو لي الأمر كذلك. -
أقول
لك لا تقلق. المعلِّم يعرف الطريق غيباً أليس
كذلك؟ يهوي بيده على فخذ الشاربين ويغمزهما
ويتبادل معهما بضع همسات فيبتسمان. يمرون بساحة أخرى ولوحة
أخرى وتتوقف السيارة عند إشارة المرور فالضوء
هذه المرة أحمر لأن أحدهم ظن أنه قرر أمراً
خطيراً. -
أنت!
تعال إلى هنا! يقترب حاملاً علبة كرتونية
رُصِفَت فيها علب السجائر من مختلف الأنواع
والجنسيات. -
أعطني
البلدي. -
البلدي؟ يبتسم فتبدو أسنانه
ذات الترسبات البيضاء والأصل الأسود ويرفع
يده التي جُرِّدت من أصابعها ويتحدث بها بلغة
الأصابع المقطوعة والعظام الناتئة والجلد
المشدود في غير مكانه. -
يبدو
أنك ابن حلال لذلك سأقدم لك عروضي: اشترِ خمس
علب من البلدي واحصلْ على واحدة من الأميركي
أو ثلاثاً من الأميركي واحصل على أربع من
البلدي وهناك نوع جديد يسمى دخان الحرية يمكن
أن تربح في قرعته مقعداً في البرلمان أو حتى
في الوزارة أنصحك به فصديقي الذي كان يبيع
الدخان معي لابد أنك تعرفه كان يلبس قفازاً
المهم تصور أنه أصبح الآن وزيراً للثورة ينظم
ثورة كل أسبوع البارحة شاركت في واحدة وقد
وعدني بأنه في الثورة القادمة سينصِّبني
وزيراً للاتصالات بدل وزير هذا الأسبوع الذي
سيطاح أما هذا النوع... -
هل
عندك دخان البلدي يا معلِّم؟ يمسك بياقة
قميصه المتملِّح الخرقي ويُقحِمه بعنف في
النافذة. -
نعم.
يقولها مبتسماً ببلاهة لشدة الخوف. -
أعطني
واحداً بعد إذنك. -
تفضل.
يُخرِج علبة بيده الأخرى ذات الأصابع التي لا
تتقن أي نوع من أنواع الكلام. -
شكراً.
يعطيه ثمن العلبة. يُمعِن النظر في وجهه: كأني
أعرفك، يتمتم: لكن لا تهتم. وتمضي سيارة تكسي. -8-
يبدأ كل شيء برمي الحجارة
وصوت الزجاج المكسور والهتافات، يبدأ كل شيء
كأنما يجب أن يبدأ هكذا وأن يستمر، ثم يتحولون
من الهتاف إلى التدافع وتعصف بالكتلة ريح
مخيفة تخلقها الكتلة ذاتها وتستهلكها في كل
لحظة، للعرق روائح عدة وللصرخات إذ تخرج من
الأفواه الملفوحة المجففة بالصرخات روائح
عدة، كلها تُخرج من الأحشاء لكنها عدة، ثم
تكون البوابة، بوابة تليق بالمهمة التي
تؤدِّيها في جعل تاريخ الكتلة قسمين أحدهما
يترك في الأرجل شعوراً ببلل دافئ لزج
وبالمرونة والارتداد الغريبين على حقول
الإسفلت وآخر ينتهي دوماً ببوابة أخرى شديدة
الشبه بسابقتها، وما بينهما بناء بلا شكل
محدد أو وضع محدد تقترب الكتلة منه، تقلبه،
تعطيه شكلاً، إنه الانقلاب. في أوج الغبطة والانفعال
تصل سيارة تكسي صفراء اللون تشقُّ نهراً من
الإسفلت الرث المغبرِّ الأبيض في غابات
الجمهور المهتاج، يخرج أبو حنان فجأة قبل
توقف السيارة يصيح: -
أين
البرلمان؟ -
قلبناه.
تردُّ حفنة من السكارى المرحين. -
والأعضاء. - أي أعضاء؟ لم نجد أحداً سوى
وزير المطاط. إنه معلَّق هناك. يتجهَّم وجه أبي حنان بشكل
غريب لأول مرة ويشقُّ طريقه بين الجموع نحو
رجل المطاط المعلَّق من قدميه بحبل مطاطي
يمتطُّ جيئة وذهاباً على منصة أمام الصرح
الجديد المقلوب. يلحق به تاركاً الأربعة
المرحة التي أخذت تشارك السكارى في بصق
النكات وتحوير كلمات الخطاب بالنفخ عليها
قليلاً فتتحول السلاسل الرمادية إلى نهود
وكؤوس ويبدأ الشرب والالتقام. يصعد أبو حنان المنصة،
يتحاشى الكتلة المطاطية المتوجهة إليه بحذق،
يمسح المنصة بنظرة سريعة، يلقي تحية يد سريعة
على الخطيب ويقترب من رجل يقف خلفه يلبس طقماً
مطاطياً معرَّقاً غالي الثمن يكشف عن صدره
الأسود الخروفي. -
مرحباً
يا أبا مصطفى. -
من؟
أبو حنان؟! يا أهلاً! أين كنت يا رجل؟ تغيب في
يوم كهذا؟! بالله عليك أن تلقي كلمتين على
الشباب لأنهم ملُّوا قليلا كما ترى
فـ... -
أبو
مصطفى، ما هو اليوم؟ يمسكه من فروته خافضاً
صوته. -
خميس. -
وماذا
قلت لك الأسبوع الماضي؟ أجبني يا حيوان! ما بك
تُجحِظ عينيك؟ أجبني! ألم أقل لك أن اليوم
ستكون هناك مهمة خاصة، ألم أقل أن اليوم سيكون
هناك تفجير يا جحش؟ وأنت ماذا فعلت؟ جلبت لي
هؤلاء السكارى البلهاء وملأت بهم الساحة. لقد
أفسدت كل شيء يا ابن الكلب! ينتشل بعض الفراء
من صدر الخروف، يعيِّط الخروف. تقف سيارة حمراء بعنف، يخرج
شرطيان يقتربان من سيارة تكسي صفراء. -
أهذه
هي السيارة رقم... ما هو الرقم مساعد أول سعيد؟ -
رقم
956784 سيدي. -
...
اسقنيها، زلالاً... سلسبيلاً من نهديك
اسقنيها، زلالاً... سلسبيلاً. -
هيه،
أنت يا مواطن! يدفع أحد الشاربين بأسفل حذائه
المطاطي، فيهتزان قليلاً ويبتسمان دون أن
يفتحا عينيهما ويرفعان كأسهما. -
أين
المدعو أبو يحيى يا مواطن؟ -
أبو
حنان سيدي. -
لا
يهم. -
أنت!
يا مواطن! يركل الشاربين الآخرين اللذين بدوا
له أكثر صحواً بقوة فيبتسمان. -
أين
المدعو أبو حنان؟ يشير نحو المنصة. -
هناك،
يفجِّر البرلمان. يوسِع الخروف ضرباً ونتفاً
وتفاً ثم يتوقف فجأة وينظر حوله، يجده، إنه
يقف خلفه ويبتسم بهدوء وحزن دون أسنان دون
ابتسام. -
والغاز،
والزيت والزعتر. -
كله
حق، كله حق حبيب. يحاول أن يبتسم أكثر لكن
البسمة تعلق في مكان ما، لا يعرف أين تماماً. -
نعم،
كله حق، أبو حنان، كله حق. يستدير متجهاً نحو السيارة،
يحاول أن يلحق به. -
توقف
من فضلك يا مواطن! ألست المدعو أبو حنان؟ -
بلى، وماذا إذن؟ يحاول أن
يتملص. -
مقبوض
عليك يا مواطن بتهمة... -
بتهمة
الأذية المعنوية للرسم الجليل سيدي. -
نعم،
لك الحق، كل الحق بالصمت أو بالكلام... -
بالالتزام
بالصمت سيدي. -
نعم
بالالتزام، تفضل معنا إلى القسم. -
أي قسم يا جحش أنت وهو؟! أنا
أبو حنان، ألا تعرفانني. -
إنه
أبو حنان يا سيدي، إنه... -
لا
يهم يا مساعد أول سعيد. أصبحت عندك تهمتان
الآن يا مواطن: الرسم الجليل والأذية
المعنوية لممثلي الدولة. يحاول أن يفلت منهما لكن
الرقيب كان قد أحكم تقييد يديه. -
والمقاومة
الجسدية أيضاً. السيارة تمضي في الطريق
الأخيرة، طريق لا تنتهي بساحة أو لوحة أو
شباب، لا تلامس الأفق حتى، بل تنقطع قبل الأفق
بقليل لكنها لا تنتهي أبداً وتمضي السيارة. تدغدغني حتى العظام، حتى
نقي العظام، تدغدغني كأنما تنهش آخر رغبة في،
وتعتصر جلدي وجَلَدي حتى آخر قطرة وأبقى بارد
الوجه والنظرة كما عَرَقي وأدرك أنه ليس
للصبر حدود، أن للصبر أشكالاً كثيرة وأن لعبة
الجندي الأخير لا تنتهي وأودُّ لو أني أتركه
يبقى لحظة أخرى لكن يدي المتراخية تتصلب،
فيغرز فيَّ نابيه، يبثُّ سمَّه، فأمسك برأسه
الدبُّوسي ذي الانتفاخين وأسحقه فيلدغني
فأسحقه غير مبالٍ وأسحقه... ***
*** ***
|
|
|