|
شيء
من الذكريات توفيق
عبيد البطل
تحية
إلى
روح الصديقة إكرام أنطاكي
(الفراشة
التي تحب النور)
إن
للحقيقة طعماً ليس مراً، ولا حلواً، بل هو طعم
الحقيقة. عمر
فاخوري
في
صيف عام 1965 حصلتُ على شهادة الدراسة الثانوية
بعلامات جيدة. وكان عليَّ أن أصوِّر عدة نسخ
عن وثيقة نجاحي لأتقدَّم بها إلى الدراسة
الجامعية. حتى ذلك الوقت كان تصوير الوثائق
يتم على جهاز التصوير الشمسي ذي الأداء
البطيء. ولكن، في ذلك العام، ولأول مرة في
دمشق، استورد أحدهم جهازاً كهربائياً للنسخ
والتصوير سريع الأداء. وقد أدهشتْنا هذه
التقنية المتطورة في حينه، وأُطلِق على هذا
الجهاز اسم "ديفلوب"، ثم لُقِّب لاحقاً
بـ" فوتوكوبي". على
الرغم من الأداء الفعَّال لهذا الجهاز –
الوحيد في حينه –، فإنه كان أعجز من أن يحقق –
بسرعة – متطلبات كل حَمَلَة الشهادة
الثانوية لذلك العام. لذلك كنتَ ترانا ننتظر
دورنا صفوفاً وأرتالاً طويلة في جادة عين
الكرش بدمشق. الطقس
حار... وفي اللحظة التي بدأتُ فيها أشعر بالتعب
والملل وبطء الزمن، لمحت إلى جانبي فتاتين:
الأقرب منِّي كانت قصيرة القامة نسبياً،
وزنها قد لا يتعدَّى 40 كغ، ذات بشرة بيضاء
غضَّة، ووجه بتقاطيع خاصة، تجتاحه عينان
كبيرتان جداً وشديدتا التركيز. عندما تلاقت
نظراتنا مباشرة، وبشكل عفوي، شعرتُ بانجذاب
شديد مشوب بقلق غامض. وتبيَّن لي، فيما بعد،
أن هذا الانطباع الأولي ما كان إلا إحدى
السمات الأساسية لمكوِّنات هذه الشخصية
الغريبة. كان
خجلي الفطري يمنعني من إيجاد الكلمات
الملائمة للتحدث إلى هذه الجارة اللطيفة.
ولكن – بخبث – حملت وثيقة نجاحي براحة يدي
اليمنى ومددت ذراعي إلى الأمام والأسفل
قليلاً لتصير بمستوى نظرها، وتصنَّعت قراءة
الوثيقة وأنا أدير يدي باتجاهها، و... نجحت
الخطة. لقد
دفعها الفضول إلى التأمل في الوثيقة، فقرأت
مجموع علاماتي لتقول: "يبدو أنك طالب مجتهد
. ما اسمك؟" ثم قرأت في الزاوية العلوية
للوثيقة، ببطء وبصوت مسموع: "توفيق البطل." -
من
أين أنت؟ -
من
دير عطية. -
وماذا
ستدرس؟ -
الطب...
وأنتِ؟ -
اسمي
إكرام أنطاكي، من دمشق، وسأدرس الأدب الفرنسي. الزمن
الذي كان حتى اللحظة بطيئاً مملاً، صار
سريعاً بشكل مزعج. فرأيتُ هذا الجهاز قد أنجز
طلباتنا بسرعة أكبر مما كنت أتمنى، مما
اضطرني أن أودِّعها قائلاً: "سألقاك في
الجامعة." وعدت مزهواً. وبالفعل
فقد التقيت بها في الجامعة... كانت برفقة أخيها
أكرم. ومنذ اللحظة الأولى التي تعرفت فيها إلى
أكرم، بدا وكأن كلاً منا قد اطمأن إلى الآخر،
وارتسمت فوراً ملامح صداقة عميقة لن تلبث أن
تتأصَّل، بقوة، مع الأيام. أما علاقتي مع
إكرام فسيكون لها شأن آخر. كان
الأخوان أنطاكي متشابهَين في وجوه عديدة، مع
بعض التمايزات الواضحة: من منبت شبه برجوازي،
يتمتعان بدرجة عالية من الثقافة، ويجيدان،
بالإضافة إلى العربية، الفرنسية بشكل خاص،
والإنكليزية. وكان الاثنان من الوجوه البارزة
للطلبة الشيوعيين في الجامعة (بعد وقت طويل،
سيبتعدان عن هذا المنحى، وكلٌّ وحده). وإذا
كان أكرم قد استطاع
أن يوفِّق، بشكل أو بآخر، بين ثقافته
ومتطلبات الحياة الاجتماعية والنضالية، فإن
إكرام، بعكسه، كانت ذات فكر قلق طموح، يحلِّق
بعيداً عن الواقع ليحقق آفاقاً جديدة،
وعالماً أجمل، ضمن منظور تجريدي واضح. كانت
إكرام فنانة تشكيلية، ولها العديد من
اللوحات، تعالج في معظمها ملامح السمات
الإنسانية. وما زالت منطبعة في ذاكرتي صورة
إحدى لوحاتها الجميلة، المنفَّذة بطريقة "الكولاج"،
وعنوانها "الغباء". وبالإضافة
إلى ذلك، كانت نهمة جداً للمطالعة. وكثيراً ما
كانت تتأبَّط عدداً من الكتب، بالإضافة إلى
زاد قليل، لا يكفي عشاءً لهرٍّ صغير، وتذهب
إلى منزل آخر لأهلها في الزبداني، لتمكث،
غالباً وحدها، لبضعة أيام، تلتهم ما طاب لها
من الصفحات، وتدوِّن ما تشاء، ثم تعود. كانت
ذات نفسية فنان قلق، حساسة جداً لدرجة المرض،
نزقة. منحتْها ثقافتُها العالية ثقة كبيرة
بالنفس. مجادِلة مماحِكة من طراز رفيع، لا
تتوانى عن قذف مجادِلِها بعبارات قاسية إذا
خرج بآراء ركيكة. جمال خاص، عينان جاذبتان،
وحضور متميز... كل هذا أعطى إكرام وضعاً
نجومياً، فأعجِب بها كثيرون: بعضهم أُعجِب
بثقافتها، وبعضهم الآخر ادَّعى الإعجاب
بثقافتها، لعلَّه يصل إلى مبتغاه، وبعضهم
الثالث أُعجِب بها لأسباب غامضة، إنما بإخلاص.
وأعتقد أنني كنت من هؤلاء... لعبت
صداقتي مع أكرم دوراً كبيراً في إيجاد جو من
الألفة بيني وبين إكرام، وأصبحت صديقاً
مألوفاً في محيطها العائلي. إلا أن التباينات
بدأت تنسج خيوطها ببطء. كانت
إكرام تنظر إلى الشخص الذي قد تُعجَب به من
منظار موضوعي أكثر منه ذاتياً. وربما كانت
تفضل أن يكون هذا الشخص فناناً أو أديباً أو
مسؤولاً حزبياً، أو على الأقل مثقفاً كبيراً.
ولم أكن واحداً من هؤلاء. كانت
غالباً ما تجذبك إلى عالمها الخاص بدون أن
تترك لك مجالاً للتنفس. وغالباً ما تفرض جدلها
الخاص بعبارتها الشهيرة: "ما رأيك بكذا؟"
وهذا "الكذا" قد يكون شخصاً ما، ولكنه
غالباً ما يتعلق بموضوع فكري أو سياسي أو أدبي
أو غير ذلك. وكانت إجاباتي على تساؤلاتها دون
المستوى الذي ترغبه بكثير. وكانت تقول
بانزعاج: "الآخرون يجادلونني بشكل أفضل منك
بكثير..." أعترض قائلاً: "إن ثقافتك
العالية تنقصها الثقافة النفسية، لأنك
تؤخَذين بآراء مدبِّجي الكلمات أكثر من معرفة
حقيقتهم. وهذا ما يوقِعُك بإشكالات عديدة..."
فترفض رأيي "السخيف" هذا... في مرات أخرى
أحتجُّ قائلاً: "ولماذا علينا أن نناقش
دائماً مثل هذه المواضيع المعقدة؟ لماذا لا
نبحث في همومنا وتطلعاتنا ومستقبلنا؟"
تقول: "أنا أجادل في كل الأمور، ولكنكم
جميعاً لا يعنيكم إلا "الموضوع إيَّاه"!" وضعتني
هذه الأمور وغيرها أمام مأزق صعب. كنت أميل
إليها، وبدا لي واضحاً أن من الصعب عليَّ جداً
أن أتسلق، بالسرعة المطلوبة، إلى عالمها
الصعب والمموَّه الحدود. ولم تكن هي،
بالمقابل، على استعداد للنزول إلى عالمي
المتواضع... كانت الألفة تزداد، وبين الجِّد
والهزل، أنجزت إكرام تقييمها لي. ويتلخص هذا
التقييم بكلمتين رائعتين: "فلاح... وطبيعي." أما
كلمة "فلاح"، حسب مفاهيمها آنذاك، فهي
مرادفة تقريباً لكلمة "متخلِّف". وأما
"الطبيعي" فهو الشخص الذي ينساب مع
مجريات الحياة الاجتماعية، بكل غبائها
وتخلُّفها وبلادتها، بدون أن يجد غضاضة في
ذلك، بينما المطلوب رفض ذلك على الأقل،
تمهيداً لتغييره. أقول
– بكل أريحيَّة – أن جانباً هاماً من هذا
التقييم كان صحيحاً... وكانت الصداقة تتعمق
والتباينات كذلك. ذات
يوم اصطحبتها في زيارة لمتحف دمشق الوطني، ثم
عدنا أدراجنا إلى منزلها مشياً على الأقدام.
وفي سياق حديثي إليها قاطعتني فجأة لتقول أن
جانباً من حديثي كان إهانة لها... وأشاحت
بوجهها عني، وسرنا صامتين، وأنا أبحث عن هذا
الكلام المسيء لها، بدون أعثر عليه... وعندما
وصلنا إلى منزلها، وكان أكرم هناك، قالت له
بغضب: "خذ صديقك عني!" ودخلت غرفتها
وأوصدت الباب بقوة. كان أكرم يعرف طبع أخته
تماماً. تحدثت وإيَّاه بعضاً من الوقت،
وودَّعته وانطلقت، دون أن تخرج إكرام من
غرفتها... هذه الحالة التي بدت لي استثنائية
أصبحت مألوفة. فكثيراً ما كنا نبدأ بنفس
المقدمات لننتهي إلى نفس النتيجة. وأعتقد
أن ما جرى معي جرى مع آخرين، إنما بملامح
مختلفة. وبدأت إكرام تفقد طابعها النجومي
لتدخل عالمها الذاتي المنغلق، فابتعد عنها
الكثيرون. بعضهم أبعدتهم هي، وبعضهم الآخر
ابتعد من تلقاء ذاته. وربما كان عليَّ أن
أبتعد بدوري، لكني لم أتمكَّن، وذلك لعدة
أسباب: الأول،
هو صداقتي الحميمة لأكرم؛ والثاني، كان
إلمامي الفطري ببعض الجوانب النفسية. فقد كنت
على قناعة بأن هذه الفتاة، على الرغم من
مظهرها النزق، ذات سريرة طيبة، وهي لا تُحسِن
التعبير عن ذلك؛ وإذا عبَّرت فهي تعبِّر بشكل
سيِّئ جداً. أما العامل الثالث، والأهم، فهو
أني كنت أسيرَ بعض الدوافع المتضاربة؛ فإذا
كان أحد هذه الدوافع، بمنطقه الجميل الواهي،
يدعوني إلى الإقدام، فإن دوافع أخرى، ذات
منطق صريح محدَّد قاسٍ، كانت تدعوني إلى
الإحجام. وعشت أسير هذه التناقضات لفترة ما
قبل أن أحسم أمري. في
خضمِّ ذلك استعدَّتْ إكرام للسفر إلى باريس. * قبل
هذا، لا بد لي من التوقف عند محطتين جميلتين
سابقتين: ففي مناسبة ما، دعا أهلي عدداً
كبيراً من الأقرباء والأصدقاء لتناول طعام
الغذاء عندنا. وكان منزلنا مكتظاً بالناس
عندما جاءتنا إكرام مصادفةً، ولم تلبث أن
اندمجت بالحاضرين وشاركتْهم أحاديثهم.
وراحت، بطريقتها الخاصة، تطرح رأياً هنا،
وتصويباً هناك، ونقداً في مجال آخر. وعندها
انتحت بي إحدى قريباتي جانباً لتسألني: "هل
صديقتك هذه مجنونة؟" ضحكت ولم أرد، وقلت في
سرِّي: "كيف يمكن لهذا العقل الفلاحي
البسيط أن يستوعب مثل هذا الفكر القلق
المركَّب؟!" أما
المحطة الثانية فكانت زيارتنا دير عطية. فقد
اصطحبتها وأكرم في زيارة لبلدتي. وهناك كنا
وحدنا في المنزل. إذ إن الأهل كانوا في دمشق.
ولكن الأقرباء والأصدقاء غمرونا بكرمهم. وقد
قمنا بزيارات عديدة تمكَّنتْ إكرام خلالها من
التعرف إلى بعض جوانب حياتنا. ذات
يوم استيقظنا صباحاً وتساءلت: "ماذا سنفطر
هذا اليوم؟" انطلقنا
إلى منزل صديق لي، أهله من أكابر البلد. كانت
الساعة حوالى التاسعة صباحاً. رحَّبوا بنا ثم
جاء صديقي يفرك عينيه، فقد أيقظوه للتو. قلت
له إني جئت وأصدقائي لتناول الإفطار عندهم،
فرحَّب بنا ترحيباً حاراً. إلا
أن هذا الإفطار تأخَّر وتأخر... وأخيراً
دُعِينا إليه. وكانت مائدة عامرة بالفعل! فقد
احتوت أطباقاً عديدة وشهيَّة، من أهمها كبد
الخروف النيئ والمشوي. وتصدَّرت زجاجة العرق
والكؤوس الطاولة. هذا الأمر كان مدعاةً
للتندُّر علينا من قبل أكرم. فكثيراً ما كان
يقول أمام الأصدقاء: "تصوروا أن أهالي دير
عطية يشربون العرق مع إفطارهم!" في
اليوم التالي ذهبنا لمشاركة بيت جدِّي لأمي
وبيت خالي في ما يُسمَّى "الشطاح". لحقنا
بهم إلى الكَرْم، وكانوا قد سبقونا إليه منذ
الصباح الباكر، وشاركناهم في جميع أعمالهم.
وكانت هذه الأعمال مضنية وطويلة. فهي تقتضي في
البدء قطف العناقيد وتجميعها في سلال، ثم
نقلها وتكويمها في زاوية محددة من الكرم، يلي
ذلك غمس العناقيد تباعاً في سائل قلوي مضافاً
إليه بعض من زيت الزيتون، وأخيراً تُنثَر
العناقيد فوق التراب الجاف لمدة أسبوعين
لتتحول إلى زبيب. وعندما حان موعد الطعام،
وُضِعَت الأطباق مباشرة على الأرض، ووجدت
إكرام صعوبة بالغة في إيجاد وضعية ملائمة
للجلوس على الأرض وتناول الطعام. وفي المساء
عدنا فرحين منهكين، والغبار يجلِّلنا، وخاصة
إكرام التي كانت تحبِّذ اللون الأسود
لملابسها. أعتقد أن هذه الزيارة تركت
انطباعاً ما لديها، وهو ما ستعبِّر عنه
لاحقاً. * عشية
سفرها إلى باريس، لم يأتِ لوداعها من بين عديد
أصدقائها إلا صديقة واحدة أمضت معها بعض
العشية. وفي اليوم التالي – وكان أكرم خارج
دمشق – رافقتُها وحدي إلى المطار. بقيتُ هناك
أرقب الطائرة تستعد للإقلاع، ثم تسير ببطء،
فبسرعة، ثم ترتفع وترتفع، وتدور بشكل نصف
دائري، حتى تغيب في الأفق. أحسست بوحشة ما،
وعدت أدراجي. في
رسالتها لتشكرني على مرافقتي إيَّاها،
افتتحت إكرام الرسالة بعبارة: "إلى أعزِّ
فلاح في سورية"! ولم تكن هذه العبارة
لتضيرني أبداً. وافتتحتُ
رسالتي الجوابية بعبارة: "إلى إكرام،
الصديقة التي لا صديق لها"، ولكني خشيت أن
تجرحها هذه العبارة وهي في بلاد الغربة،
فشطبتها واحتفظتُ بها لنفسي، معتبراً
إيَّاها معبِّرة عن واقع الحال. في
فرنسا التحقت إكرام بجامعة باريس السابعة،
كلية العلوم الإنسانية، فرع علم الأقوام أو
الأجناس Ethnologie
. وكان عليها في سبيل الحصول على الدبلوم أن
تتقدم بأطروحة تتناول من خلالها بيئة
اجتماعية محددة وتدرسها من كافة نواحيها.
فكَّرتْ في موضوع لأطروحتها، حتى اختارت دير
عطية... وبالفعل، جاءت إلى دمشق، فإلى دير
عطية، واستأجرتْ غرفة لدى عائلة، ومكثتْ هناك
أكثر من شهرين، جمعتْ خلالهما المعلومات
الضرورية، ثم قدمت الأطروحة لتنال درجة
امتياز. وبعدها اهتمت بدراسة بيئة اجتماعية
أخرى أكبر وأكثر تعقيداً للحصول على شهادة
الدكتوراه. لم
أتمكَّن من مشاهدتها كثيراً في أثناء وجودها
في دمشق. فقد أصبحتُ في أواخر سنيِّ دراستي
وأصبح وقتي ضيقاً. ورغم ذلك، التقيت بها مرات
قليلة، إلا أنها حاسمة. ذات
مرة، كنا نسير سوية عندما طرحتْ عليَّ سؤالاً
بطريقتها المعتادة قائلة: "ما رأيك بي؟" ضحكتُ،
وقلتُ: -
في
أثناء وجودك في باريس ألَّفتُ لك قصيدة
تعبِّر عن رأيي بك تماماً. -
أعطني
إيَّاها. -
لا،
فهي لن تعجبك، وربما أزعجتْك. -
لا
عليك. أعطيتها
القصيدة. لم
أعد ادري أين هي هذه القصيدة. وربما كانت
ركيكة، إلا أني أعرف مضمونها تماماً. تقول
القصيدة ما معناه أنكِ تحاولين التحليق
بعيداً عن واقعك إلى عوالمك الغامضة، ولا
أظنكِ تملكين أجنحة قوية بما يكفي لذلك،
وأخشى عليك من الوقوع، وربما كان الأفضل لك لو
بقيتِ قريبة. بعد
يومين اتصلت بي قائلة: "تعالَ خُذْ الجواب."
وأعطتني قصيدة جوابية مليئة بالتحدِّي. فقد
ابتدأتها بكلمة "أتحداك"، وبما معناه
أنني أملك أجنحة أقوى مما تعتقد... كنت أقرأ
القصيدة وأنا أبتسم، عندما قاطعتني قائلة:
"دَعْ هذه القصيدة جانباً، فلي معك شأن آخر."
نظرتُ إليها، فقالت فجأة: "هل تحبُّني؟" باغتني
السؤال فلم أُحِرْ جواباً. أردفتْ
قائلة: "لا يشترط بك أن تجيب، ولكنِّي وددت
لو سمعت رأياً." قلت:
"في الواقع إنِّي لا أعرف." وكنت يومئذٍ
منسجماً مع نفسي. صمتتْ
لبرهة، ثم قالت بنزق: "أنت جبان... و..."
أشاحت بوجهها عنِّي... و... و... وغادرت إلى باريس. * في
أواخر عام 1973، ذهبتُ بدوري إلى باريس لمتابعة
دراستي هناك. وكنت قد تزوجتُ من فتاة أحببتُها
وأحبَّتْني واستوعب كلٌّ منًا الآخر. وقد
حافظتْ إكرام على مكانة مرموقة جداً في نفسي.
وهناك التقيت بها مرات قليلة، ولكن أياً من
هذه اللقاءات لم يحمل طابعاً حميماً على
الإطلاق. ومن بعدُ لم أعد أراها، وعلمت فيما
بعد أنها تركت باريس. أما
مغادرتها فرنسا فلها قصة محيِّرة بذاتها،
ربما كانت تعبيراً عن هذا الفكر القلق،
المتوثِّب أبداً. فلسبب،
ما أو بدون سبب، قررت إكرام مغادرة باريس.
ولكن إلى أين؟ لم يلبث الجواب أن جاء: وضعت
خريطة صغيرة للكرة الأرضية أمامها، ثم ثبَّتت
رأس إبهام يدها اليمنى على موقع مدينة دمشق،
وباعدت بين أصابع يدها وأغمضت عينيها، ودارت
باليد حتى أقصى حركتها. وعندما توقفت الحركة،
فتحت عينيها، فكان رأس الخنصر يقع على
المكسيك. فحزمت أمتعتها وانطلقت. هناك
تزوَّجت من شاب مكسيكي، لم تلبث أن طلَّقتْه،
وكان لها منه طفل. وتعلمت اللغة الإسبانية
فأتقنتها. نحَّت جانباً علم الأقوام،
وتفرَّغت كلياً للدراسات الفلسفية. وعبر عمل
دؤوب، مضنٍ، شاق ومدمِّر، ما كان له إلا أن
يفتك ببطء بهذا الجسد الناحل، أنجزتْ عدداً
من الكتب والمؤلفات والأبحاث الفلسفية،
كُتِبَت جميعاً باللغة الإسبانية. أتمنى من
الصميم أن تترجَم هذه الأعمال إلى لغتنا،
لأنها، بدون شك، ستغني مكتبتنا العربية بقلم
واحدة من المبدِعات في هذا الوطن. * في
خريف عام 1999 جاءت إكرام في زيارتها الأخيرة
دمشق. وفي الطريق للسلام عليها، كانت تنتابني
مشاعر الفضول وبعض القلق... كان منزل أكرم
مكتظاً بالناس. وعندما وقع نظري عليها كانت
ملامحها العامة هي هي... بعضٌ من الذبول في
العينين. أما بصمات الزمن فكانت واضحة عليها. انتهت
مجاملات التحية الأولى، وبدأ الجو يبدو لي
ثقيلاً مزعجاً. فالأحاديث القليلة التي دارت
بيني وبينها مباشرة اتَّصفت بالتصنُّع
وبالتكلُّف. ولم يعثر أحدنا على جمل عفوية
يتحدث بها إلى الآخر. وانتظرت منها بعضاً من
الكلام الودي، فلم أعثر عليه. وربما انتظرت
منِّي نفس الشيء. وفي سياق حديثها إلى
الحاضرين، أعربت إكرام عن ألمها من جحود
أصدقائها القدامى، وأنها عندما سافرت للمرة
الأولى إلى باريس لم يأتِ لوداعها إلا صديقة
واحدة فقط، وهي لن تنسى هذه الصديقة أبداً.
ولم تذكر أني كنت الوحيد الذي رافقها إلى
المطار. شعرت
بضيق شديد وانتهزت فرصة ملائمة لأودِّعهم
وأنطلق وأنا أقول في نفسي: "الآن يحق للزمن
أن يطوي، إلى الأبد، ملامح هذه الصداقة
القديمة." في
اليوم التالي، اتَّصلت بي هاتفياً منى زوجة
أكرم لتقول إن إكرام أعربت عن انزعاجها
الشديد من طريقة لقائي بها. قلت: "أنا من يحق
له الانزعاج!" فكان أن طلبت إكرام مقابلتي. بكل
لطف، تركنا أكرم ومنى، وبقينا وحدنا في
الغرفة. افتتحتْ إكرام الحديث، وكان مركَّزاً
حول نقطة واحدة: بعد هذا الفراق الطويل لم تكن
تتوقع مني أبداً أن ألقاها بمثل هذه الطريقة
البائسة. وعندما
جاء دوري بالحديث، ركَّزتُ حديثي على مفهومي
عن الصداقة والأصدقاء، وذكرت أن الصداقة ربما
كانت هي الأجمل، خاصة أمام التباين الكبير في
المواقع. وعاتبتها على ما جاء في حديثها في
اللقاء السابق، وأضفتُ أني إذا كنت بطبعي
مخلصاً لصداقاتي وأصدقائي بشكل عام، فإني
مخلص لصداقتها بشكل خاص. وتأكيداً على ذلك،
رحت أذكِّرها بأمور تعرفها وبأمور أخرى لا
تعرفها. أسهبتُ في الحديث لأكتشف أن بي رغبة
مكبوتة بالتحدث إليها. وأخيراً وصلتُ إلى
نتيجة مفادها أني أنا من يحق له الانزعاج من
طريقة لقائها بي. كانت
تصغي إليَّ بانتباه. لم تنبس ببنت شفة، وبدا
واضحاً أن حديثي قد أثَّر بها، بل أقنعها. عدت
لألاحظ أنها ربما كانت المرة الأولى، منذ
تعرفي إليها، التي أقدِّم لها فيها حديثاً
مقنعاً. عندما توقفتُ عن الكلام، قفزتْ من
مكانها على المقعد المقابل وجاءتني مسرعة
تقبِّلني من جبيني قائلة: "لا تزعل مني.
فإنِّي في الواقع لا أعرف ولا أجيد التعامل مع
متطلبات الحياة الاجتماعية." استعرتُ
عبارة من الموروث الشعبي لأقول: "صافي يا
لبن." *** بعض
الناس يشعرون بدنوِّ الأجل، حتى لو كانوا في
أعمار صغيرة نسبياً، ويعبِّرون عن ذلك بشكل
مباشر أو غير مباشر. قالت إكرام لأخيها ما
معناه أنها بدأت تشعر بالحنين إلى الجذور،
إلى الوطن، إلى رائحة الأرض. وأنها ستعود إلى
المكسيك لتنجز أعمالها وتضمن مستقبل ابنها،
وتعود لتموت في دمشق. (قالت الجملة الأخيرة
حرفياً!) وعوضاً عن تحقُّق الحلم كان هناك نبأ
يطوي الجزيرة ... ... ... . الهاتف
يرنُّ، وعلى الطرف الآخر صوت متهدِّج يقول:
"أنا أكرم. العَوَض بسلامتك... ماتت إكرام!" صُعِقْتُ
للحظات، ثم استدركتُ لأسأله ببلاهة: "هل
أنت حزين؟!" قال: "لا بأس!" وأغلق
الهاتف. إذن...
ماتت إكرام في ربيعها الثالث والخمسين، وكان
ذلك في 31 /10/2000. ........................ ........................ ........................ ........................ ........................ ربما
كان أجمل تعبيرٍ عن الحزن هو الصمت، أو البكاء
الصامت. عندما
تُفجَع بصديق عزيز، خاصة إذا كان ذلك
مفاجئاً، يحمِلُك هذا الصمت إلى عالم من
الوحشة القاتلة. وعندما تستفيق من ذلك، يرتسم
أمامك، فجأة، شريط طويل من الذكريات، *** لا
يهم كثيراً معرفة السبب المباشر للموت. إنما
المهم لدى بعضهم (على حد قول نزيه أبو عفش) هو
المقدمات التي يبدو وكأنها ستؤدي حتماً،
وبسرعة، إلى مثل هذه النتيجة المفجعة. أن
ينجرف شخص ما، على حساب متطلبات الروح
والجسد، وراء عمل فكري دؤوب متواصل مضنٍ قاتل
– وكل ذلك في محاولة إبداعية ذاتية للإجابة
على بعض الأسئلة الإشكالية، أو لإضاءة جانب
من تساؤلات هذه البشرية المتسائلة أبداً –
فذلك عمل لا يجيده إلا قلة من الناس، وقد لا
يهتم به الكثيرون. وأما نحن "الطبيعيين"
فقد نسميه هراء أو ما شابه ذلك لفظاً، بينما
يسميه غيرنا، على لسان جان والون، "مغامرة
التأمل الكبرى". *** دير
عطية، بلدتي التي أحب، والتي عرفتْ مؤخراً
نهضة شاملة تصلح لأن تكون مثالاً يُحتَذى
لبقية بلدات ريفنا السوري، كتب عنها أبناؤها
الكثير. وعلى ما أعتقد فإن الدراسة الوحيدة
عنها التي أنجزها شخص لا يمتُّ إلى هذه البلدة
بصلة كانت بقلم إكرام أنطاكي، إنِّما باللغة
الفرنسية. لذا
رأيت من واجبي أن أقوم بترجمة هذا العمل
ليقرأه من يشاء، ويكون منِّي بمثابة وقفة
وفاء وتحية: إلى
روح الصديقة الغالية إكرام الصديقة
التي لها أصدقاء أوفياء الصديقة
التي، ذات يوم، زيَّنت إحدى لوحاتها بعبارة
تقول: "وكل
هذا لأنك يا فراشة تحبين النور." ***
*** *** دمشق،
2001
|
|
|