القيمة والمعيار ليوسف اليوسف:

إثراء لتجربة نقدية متميزة

 

فائز العراقي

 

في كتابه الجديد القيمة والمعيار: مساهمة في نظرية الشعر* يطرح الناقد المعروف يوسف سامي اليوسف العديد من القضايا النقدية ذات الطابع الإشكالي. ولأنه الناقد الحصيف المتمرس، المؤمن بالجدل وبزوايا الرؤية المتعددة التي يمكن من خلالها تذوُّق الظواهر الفنية والأدبية أو النظر إليها وتحليلها، فهو لا يدَّعي التوصل إلى أحكام نهائية مطلقة تغلق الآفاق أمام العقل المجتهد وتقودنا إلى أحادية مقيتة تضيِّق من مساحة الرؤيا وتحول دون إخصاب العقل وإثراء التجربة الإنسانية.

إذاً نحن أمام ناقد يعترف بنسبية أحكامه النقدية، خصوصاً ونحن نتناول النقد والأدب الذي لا يقبل الأحكام المطلقة وشبه الثابتة، كما هو حال علوم الرياضيات والفيزياء والكيمياء. وحول هذه الحقيقة يقول في كتابه: "ما كان لهذه المقالات الثلاث، وهي الضيقة المساحة أو الرقعة، أن تزعم بأنها قد حلَّت أية معضلة من معضلات الأدب؛ إذ لا ريب في أن تلك المعضلات لا تقبل أية حلول مطلقة أو نهائية أصلاً. ولئن تمكنَّت من إثارة الأسئلة والحاجة إلى التخويض فيها فإنها تكون قد أنجزت الكثير." (ص 97)

وإذا كان اليوسف يروم إثارة الأسئلة المنتِجة التي تقود إلى إعمال الفكر فهو قد وصل إلى ما يهدف إليه؛ بل إنه أضاف بعض الآراء النظرية الجديدة في النقد العربي الحديث فيما يخص القيمة والمعيار ووظيفة الشعر. وسواء كنت تتفق مع طروحاته النقدية أو تختلف فإن ذلك لا يغير من حقيقة أن الناقد يوسف اليوسف يمتلك عقلاً ابتكارياً، وليس اتِّباعياً تقليدياً؛ وهذا هو الذي أهَّله لأن يضيف بعض الآراء الجديدة في مجال النقد النظري. كما أنه يمارس النقد كفاعلية إبداعية، وليست كعملية تابعة للنص، تعتاش عليه، ولا تضيف له شيئاً.

يحتوي كتاب اليوسف على "مدخل" وثلاث مقالات رئيسية: "الشعر وسؤال القيمة"، "الشعر والذائقة"، "وظيفة الشعر"، مع كلمة ختامية.

في "المدخل" يؤكد الناقد أن معظم الدراسات الأدبية والنقدية، منذ أوائل القرن العشرين، هي "نقود من النمط التطبيقي، وأن الكتابات المتخصصة بنظرية الأدب، أو بالتعرُّف إلى ماهية هذا الجنس الأدبي أو ذاك، قليلة الكمية وضئيلة القيمة في آن واحد" (ص 5).

وللمرء أن يتمايز عن رؤيته هذه، فيؤكد أن غالبية النقود هي من النمط التنظيري، وأن ما نحتاج إليه هو نقد تطبيقي، يستطيع سبر النص وتحليله وتفكيكه، ثم التوصُّل إلى أحكام قيمة نقدية ذات طابع نسبي تقريبي، بالرغم من أننا نرى أن هذا النقد النظري ليس في حقيقته – في الأغلب الأعمِّ – سوى محاولة لإعادة صياغة النظريات والمناهج النقدية الحديثة، كالبنيوية، واللسانيات، والسيميولوجيا، والتفكيكية، وغيرها. ونستثني من ذلك بعض الإضافات النظرية الجادة التي لم تشكِّل لنا حتى الآن نظرية نقدية عربية حديثة تتواصل مع الجهد النظري الأدبي القيِّم للنقَّاد والعلماء القدماء من أمثال الجرجاني والقرطاجني والآمدي والفارابي وابن سينا والزمخشري وغيرهم.

يؤكد اليوسف على أن مسألة القيمة ومعيار القيمة هي "واحدة من أبرز القضايا الأدبية وأحقِّها بالبحث والتنظير؛ إذ العقل البشري معياري بطبعه، أي بحكم ماهيَّته نفسها؛ فهو لا يقبل من الأشياء إلا ما كان ذا قيمة وحسب. ولا ريب في أن نزعته المعيارية آية على حرارته وحيويته وخصوبة نشاطه. ومع ذلك فما من أحد في هذا الجيل الراهن قد حاول أن يحدد أية منظومة من المعايير بغية الاستعانة بها في تحديد القيمة" (ص 6).

ثم يعدِّد الناقد، بروح أقرب إلى الحيادية، أهم المعايير التي اهتم بها النقاد والتي يمكن، استناداً إليها، إصدار حكم قيمة ناضج يقارب النصوص الأدبية أو يحاول استبارها وتحليلها؛ وأولها "الوجدان"، ثم "الخيال"، باعتباره منتج الصورة الفنية، كما جاء في قول أبي اسحق الصابي: "أفخر الشعر ما غَمُضَ، فلم يعطِك غرضه." (ص 8)

وحول المعيار الأخير (الغموض) يحذِّر اليوسف – وهو محقٌّ في ذلك – من الوقوع في مطبِّ "الشكلانية التي تعتمد على التجريد العمائي الخاوي" (ص 8)؛ إذ هناك من النقاد من ناقض معيار الغموض، معتمداً على معيار "البداهة " والوضوح وعدم التعقيد.

ثم يذكر المعيار الذاتي، أو الذائقة الفردية التي يمكن الاعتماد عليها لمعرفة النصوص وتحليلها.

في مقالته الأولى "الشعر وسؤال القيمة" يؤكد اليوسف على نسبية المعيار الذي يحدد القيمة، ويتوصل، من خلال المفهوم النسبي، إلى استنتاج هام، هو عدم وجود معيار واحد شامل ومطلق يمكن من خلاله التوصُّل إلى حكم قيمة نقدي نهائي. فهو يقول: "... إننا نُحرَم بالضرورة من المعيار المطلق، وسوف نرضى بمعيار نسبي، قد لا يستحق أن يسمى معياراً؛ إذ المعيار لا يكون إلا مطلقاً على الدوام، شأنه في ذلك شأن القانون الطبيعي. وفي هذه الحال نكون قد جزمنا بأن المعيار لا وجود له بتاتاً، ولكن لا محيد عن الاعتقاد بأن ثمة معايير، بدلاً من معيار واحد." (ص 13)

ثم يستطرد الناقد ذاكراً هذه المعايير، ومنها: الانتشار في الزمان والمكان وصموده أمام الزمن، أو التقادم الزمني؛ ويلخِّصه بهذا القول: "إن النص الشعري، بل العمل الفني جملةً، تتناسب قيمته تناسباً طردياً مع سعة انتشاره في آفاق الأرض، وكذلك مع صموده أمام تصرُّم الأزمان..." (ص 14). إلا أن اليوسف يرى بعين الناقد المتمرس أن هذا المعيار لا يصحُّ أن يكون معياراً كلياً لاستصدار حكم القيمة؛ وهو محقٌّ برؤيته هذه لأن هذا "المعيار" تواجهه العديد من المثالب، منها، كما يقول اليوسف، "أن هناك أعمالاً أدبية عظيمة قد ظلت مجهولة، أو غير واسعة الانتشار، سواء في المكان أو في الزمان، ثم اكتشفها بعض الناس، فأخذت تجتاح العالم كلَّه" (ص 14). وللتدليل على صحة رأيه هذا يثير هذه الأسئلة الوجيهة: "أليس من المؤكد أن شكسبير، مثلاً، لم يُكتشَف إلا بعد وفاته بأكثر من مائة عام؟ وكذلك هو أمر هولدرلِن الذي مات مغموراً، وظلَّ كذلك حتى اكتشفه القرن العشرون." (ص 14)

وبالوسع أن نضيف بعض الأمثلة الأدبية الهامة الأخرى التي تثبت صحة رأي الأستاذ اليوسف، منها الروائي والشاعر الفرنسي لوتريامون الذي لم تُعرَف قيمته الحقيقية إلا بعد وفاته بفترة؛ ويصحُّ الأمر كذلك على الروائي الشهير كافكا.

يلي ذلك معيار "التأثير في النفس المتلقية لفحواه، أو لمحتواه" (ص 15). وهذا مذهب قال به القاضي الجرجاني في الوساطة منذ ألف عام ونيِّف، إذ قال: "تأمَّلْ كيف تجد نفسك عند إنشاده، وتفقَّد ما يتداخلك من الارتياح، ويستخفُّك من الطرب إذا سمعته." (ص 15)

ثم يحدِّد اليوسف المزايا الأربع التي كان يتمتع بها الناقد التراثي غالباً، ويراها شرطاً أساسياً لنجاح أي ناقد، وهي (ص 16):

1.    الذوق المرهف الحساس.

2.    أصالة النزوع المعياري.

3.    القدرة على الموازنة.

4.    غريزة التمييز بين الغثِّ والسمين، مما يؤهله لإصدار حكم القيمة الناضج.

ولعل من الممكن أن نضيف لهذه الشروط شروطاً أخرى، أهمُّها: سعة الثقافة والرؤية الشمولية، النزاهة والموضوعية، الجرأة والشجاعة، الدقة والمنهجية العلمية المعلِّلة التي تتزاوج مع الذائقة المرهفة التي أشار إليها اليوسف، إلخ.

ثم يذكر اليوسف معيار "الحميميَّة"، ويعرِّف بهذا المعيار قائلاً: "... مما لا بدَّ منه أن يكون الحميم أو الدافئ والنبيل هو المحتوى الجوهري لكل شعر أصيل. والحميم، تعريفاً، هو تلك العاطفة الوجدانية ذات المحتوى العيني..." (ص 17).

يؤكد اليوسف بأن محتوى الشعر هو محتوى النفس حصراً. والمرء، إذ لا يخالفه في أهمية المستوى النفسي في بناء القصيدة، أي باعتباره أحد مستوياتها العامة، بوسعه أن ينظر إلى علاقة الداخلي بالخارجي، أو الذاتي بالموضوعي (أي مسألة محاكاة العالم الخارجي وارتباطه بالعالم الداخلي أو النفسي للذات الشاعرة) نظرة متمايزة، إلى حدٍّ ما، عن الأستاذ اليوسف. فهو يقول، مؤيداً الناقد التراثي حازم القرطاجني الذي ذهب في المنهاج إلى أن الشعر نتاج لـ"حركات النفس": "وما دام محتوى النص الشعري هو محتوى النفس البشرية حصراً فإن القصيدة لا تحاكي شيئاً قائماً سلفاً، وفي الخارج العيني أو التجريبي..." (ص 18-19).

النقطة التي يمكن التمايز فيها عن اليوسف هنا هي أن محتوى النفس البشرية يتكون بعد أن يفعل العالم الخارجي أو الشرط الموضوعي فعله في هذه النفس. ومن هنا يمكن القول إن الشعر، في أحد تجلِّياته ومستوياته، تعبير عن النفس البشرية بعد أن استوعبت وتمثلت الخارج العيني. وهو بذلك يعبِّر عن الداخل والخارج معاً، ضمن علاقة جدلية وتأثيرية متبادلة.

ثم يرى اليوسف بأن "القصيدة العظيمة شديدة الشبه بالأسطورة". وسبب ذلك أن كلتاهما تنبثقان "من أسٍّ واحد هو الخيال..." (ص 19). من هنا يتوصل إلى أننا يمكن أن نتخذ من روح الأساطير أحد المعايير لنقد الشعر أو لتأسيس قيمته.

وعند اليوسف يمكن أن تكون الصورة المتألقة فنياً أحد المعايير الهامة في نقد الشعر وتأسيس قيمته، لكنه يربط التصوير بالحميميَّة والوجدان: "فالتصوير وحده ليس أدباً من الطراز الأول، ولكنه يصير أدباً عظيماً حين يوظِّفه الشاعر في نص حميم." (ص 23)

ويتعرض الناقد إلى قضية هامة هي مسالة علاقة الكلِّي بالجزئي في الفعالية النقدية، فيقول: "فالنقد في جوهره هو الحكم على المُجْمَل، أو على المناخ والكلِّية والفحوى." والنقد الموضعي أو الجزئي مشروع "إذا جاء في مسار نقدي شامل" (ص 24).

وهناك أيضاً معيار "الشعور"، وخاصة الشعور الذي يرتبط بالفقدان والألم والغياب. فالشعر بالأساس هو لفظة مشتقة من "الشعور". ولليوسف رأي هام في هذا المجال يدلُّ على عمق رؤيته حينما يرى أن "ذلك الصنف [من الشعور] الذي يتألَّم، أو يحنُّ، أو يكابد الحاجة إلى ما يتأبَّى على الاسترداد، بل ما يتعذر الحصول عليه بإطلاق، هو أنبل أصناف الشعور البشري برمَّتها. ولكم كان حازم القرطاجني سديد الرأي حين ذهب إلى أن أول الدوافع إلى إنتاج الشعر هو الوجد والشوق والحنين إلى النائيات." (ص 25) وفي الحقيقة فإن هناك العشرات من الأدباء والمفكرين، العرب والعالميين، التراثيين والمعاصرين، الذين أكدوا أن الأدب السامي العظيم هو الذي ارتبط، غالباً، بالتراجيديا، أو الذي عبَّر عن سمو الألم الإنساني، أو القدرة على تجاوزه.

ثم يذكر الناقد معياراً آخر هو: "التوتر أو الانخراط في التوتر على نحو مغرق في الجدية." (ص 26) وهو ما وجده الناقد في شاعرين كبيرين ومتمايزين من شعراء العربية: المتنبي والمعري.

ولعل الأستاذ اليوسف لا يجانب الصواب حينما يرى بأن النقد الأدبي الذي يلازم الشعر "ينبغي أن يكون معياريا،ً أو تقويمياً وذوقياً"، وضرورة أن يكون الناقد الجيد "شديد الاهتمام بالقيمة والمعيار"، أو أن يكون "تأويلياً ألمعياً ذا بصيرة ثاقبة،" يأتي النص "من داخله" (ص 32).

وفي قوله هذا يقارب الأستاذ اليوسف مسألة هامة جداً، وهي ضرورة أن ننطلق من بنية النص ذاته للوصول إلى حكم قيمة نقدي، أي تحليل عناصره الداخلية المكوِّنة، وقانونيَّته وآليَّته الداخلية التي تتحكم في ولادته ونموه وصيرورته وتحوُّله. وإن هذه المقاربة تتضمن نقداً ضمنياً لواحدة من أهم مثالب النقد العربي الحديث، ألا وهي الانطلاق من المفاهيم والمناهج النقدية الجاهزة وتطبيقها بشكل قسري على النص، ومن ثَمَّ تقويل النص ما لم يقله. حينذاك يحصل الافتراق والاغتراب بين النقد والنص الإبداعي: النقد بِوادٍ، والشعر بِوادٍ آخر. ثم يعرِّف بالنقد الأدبي على أنه "... علم القيمة أو الدراية بما تنطوي عليه النصوص من قيم فنية. وكل نقد لا ينخرط في هذه التجربة لا موقع له إلا على حاشية النقد، وليس في متنه الأصيل" (ص 33).

ويرى الناقد بأن الشعر هو "إطلاق لاستطاعة اللغة أو لقدرتها المتعالية" (ص 34). في هذا القول، وفي العديد من الأقوال الأخرى المبثوثة في كتابه، يُحَسُّ أن اليوسف يتعامل مع "اللغة" – أحياناً – كهدف مطلق، وغاية بحدِّ ذاتها، شأنه شأن العديد من النقاد اللسانيين والبنيويين. واللغة، على أهميتها كواحدة من أهم عناصر البناء الشعري، لا تستطيع وحدها بناء هرم شعري عظيم. فالشعر ليس مغامرة لغوية، كما يرى بعضهم، بل هو مغامرة وجودية، مغامرة حياتية، أو تعبير عن عمق التجارب الإنسانية، وعمق المعاناة الإنسانية. إنه تعبير عن المعاني السامية والخالدة في الروح الإنسانية. ولكن ناقدنا المتمرس الخبير سرعان ما يستدرك الأمر، ويعدِّل مبالغته فيما يخصُّ اللغة ودورها في العديد من مواضع الكتاب، مؤكداً على أهمية التجربة الإنسانية والمعنى ودورهما في انبثاق الشعر، كقوله هنا: "... لابدَّ من الاقتناع بأن المعيار، إن كان له أيَّما وجود، فإنه مركوز في بنية النفس البشرية حصراً، أقصد في تلك الراقة التحتانية التي تنتج كل شيء عميق." (ص 37)

و"العميق"، لا ريب، هو مرادف "المعنى المبتكر" الذي عبَّر عنه اليوسف بقوله عن القيمة إنها "حياة النص ونبضه ويخضوره المبثوث في مجمل نسيجه الرطيب" (ص 37). بديهي القول هنا إن هذا "النسيج الرطيب" لم يتشكل إلا عبر اللغة وبواسطتها. ومع ذلك فاللغة ليست هدفاً مطلقاً كما يرى بعضهم.

وهناك مثال آخر أكثر وضوحاً على المبالغة في دور اللغة أو تحويلها إلى غاية مطلقة، كقوله: "بعد هذا كلِّه صار من البدهي أن يقال بأن الشعر هو حرية اللغة. وحريتها هي سمتها الأثيرية نفسها..." (ص 76). ويضيف: "... لا تعود اللغة وسيلة لغاية تعلو فوقها، بل تصير غاية ذاتها..." (ص 77).

ولأنه الناقد العميق، العارف بمكنونات النفس البشرية وبأهمية التجربة الإنسانية باعتبارها مصدر الإبداع، فهو يستدرك قائلاً: "بيد أن هذا المذهب لا يتضمن البتة أيَّما دعوة للتخويض في وحول التجريد والتهويم، والتعمية الباهتة المعقومة التي هي مقتل من مَقاتل الشعر. فالذات منخرطة في الزمان دوماً، وعلى نحو لا فكاك لها منه. والزمان هو التجربة العينية، أو هو ما يعاش حقاً أو فعلاً." (ص 77)

ثمة ملاحظة أخرى تتعلق بأسلوب اليوسف، وهي أنه يكرر أحياناً مفاهيمه النقدية بأشكال متعددة؛ وهذا يقلل من رونق وتماسك آرائه النقدية. من التكرار، مثلاً، تأكيده على أهمية العنصر الحميم أو العاطفة الوجدانية كمعيار هام يُستنَد إليه لمعرفة قيمة النص الشعري (ص 17)، وعودته إلى هذا المعيار مرة أخرى بقوله عن الوجدان الحميم إنه "قد يصلح معياراً لأجود أصناف الشعر..." (ص 36).

أما المقالة الثانية في الكتاب فقد كانت بعنوان "الشعر والذائقة"؛ وفيها يؤكد اليوسف على أهمية تحديد تعريف لهذا المصطلح: "الذائقة" أو "التذوق الأدبي". إلا أنه يحصر هذا التعريف بحدود النسبي وليس المطلق قائلاً: "ومع أن الحاجة ماسَّة إلى تعريف الذوق فإنني أرتاب في أن يتفق اثنان من البشر على حدٍّ واحد وموحَّد، لا للذائقة فحسب، بل كذلك لمعظم المفاهيم المجردة، كالحب والحرية والجمال." (ص 41)

ثم يعرِّف بالذائقة بقوله عنها إنها "الانفعال (التأثر، الالتقاء) بالوسيم أو باللطيف على نحو ممتع أو منعش. وهذا يعني أنها فاعلية مبدؤها مقاربة المناسِب أو الموائم بطريقة من شأنها أن تحذف كل فرق بين الذات، أي بين الذائقة، وبين المحتوى الذي يُذاق؛ إذ لابدَّ من مضمون تمتلئ به الداخلية، وإلا فلن تكون سوى شبح أو وهم أو خواء مُفرَغ من كل ما يملأ أو يعني." (ص 42)

ثم يذكر الناقد، باهتمام وولع شديدين، ما قاله الصوفيون عن مفهوم "التذوق"، وخاصة الصوفي الكبير ابن عربي الذي عرَّف بالتذوُّق على أنه "أول مبادئ التجلِّي، وهو حال يفجأ العبد في قلبه؛ فإن أقام نَفَسين فصاعداً كان شرباً. وهل بعد الشرب ريٌّ أم لا؟ فذوقهم في ذلك مختلف." (ص 43) ويعلِّق اليوسف على ذلك بقوله: "وبهذا يكون الشيخ الأكبر قد جعل من الذوق فاتحة للتجلِّي ومقدِّمة للسكر والانتشاء، أي قد أحاله إلى طاقة ذاتية شديدة القدرة على توليد الأحوال في داخل النفس. ومما هو معلوم أن الصوفيين يجعلون الذوق منهجهم المعرفي الأول. ففي مبدأ مذهبهم أن "من ذاق عرف"، كما تقول عبارتهم المشهورة." (ص 43-44)

ثم يعرض الناقد لقضية هامة، وهي علاقة التذوق بالتعليل النقدي، وهل إن التذوق وحده يكفي لفهم النص وتحليله. يرى اليوسف بهذا الصدد أن التذوق يأتي في طليعة المقولات التي تؤسِّس للنقد الأدبي جملة، لأن التذوق هو الاستجابة الإيجابية الأولى للتأثير الذي تمارسه النصوص الأدبية والمنجزات الفنية على الروح الحي. وبالرغم من أهمية التذوق فإن اليوسف يرى – وهو مصيب في رؤيته هذه – بأن التذوق وحده لا يكفي لإصدار حكم قيمة نقدي، ولا يجب أن نجعل منه أسَّ النقد الأدبي أو جذره الوحيد. فكما يقول: "ويبدو أنه لا بدَّ من الوساطة بين الذوق والمعيار، أو بين الانطباع والتعليل، أي بين الوجدان والذهن اللذين يتنازعان السلطة على النص الأدبي." (ص 48)

وفي الحقيقة فإن "التذوق" يحتاج حاجة ماسة إلى عملية "التعليل النقدي" المستند إلى أسس معرفية وفكرية قادرة على إصدار حكم قيمة نقدي، وقادرة على تبيين أهم الأسس الجمالية–الفنية والفكرية العامة في النص الأدبي. وفي النتيجة النهائية أننا لا نستطيع معرفة القيمة الجمالية لأي نص بدون الاستناد إلى معايير فنية وفكرية عامة – ذات طابع نسبي – تساعدنا في عملية تحليل وسبر الأغوار العميقة للنص.

من الأفكار المهمة في هذه المقالة المفهوم الجديد الذي يبدعه اليوسف حول "الذائقة". فهو يرى أنها "طاقة ديناميَّة حية وشديدة القدرة على الاستبصار والاكتشاف. وهذا يعني أنها فعالية معيارية تهدف إلى الالتقاء بالعناصر الجمالية الصانعة للمزية في كل نص أدبي تلامسه..." (ص 53).

أما في مقالته الثالثة فيتناول الناقد قضية ذات طابع إشكالي، وهي "وظيفة الشعر". وهذه القضية أثارت صراعاً حاداً بين أنصار "الفن للفن" وأنصار "الفن للواقع والحياة". فبينما ركَّز أصحاب الاتجاه الأول على القيمة الجمالية في النص، أي الجمال من أجل الجمال، أو الجمال لذاته، ركَّز أصحاب الاتجاه الثاني على الوظيفة الاجتماعية للفن وطاقته التحويلية والتغييرية.

أما اليوسف فقد كان ينوس بين هذين الرأيين. فهو "أحياناً" يؤكد على الوظيفة الجمالية للنص، مركزاً على أهمية اللغة كهدف جمالي مطلق. من ذلك قوله إن "ترفيع اللغة إلى أفق اكتمالها هو الوظيفة الأولى للشعر، بل ربما لكل نص أدبي عظيم..." (ص 71).

لقد سبق أن سجَّلنا إمكان التمايز عن رأي الأستاذ اليوسف في هذه النقطة تحديداً. ونحن نرى بأن هناك وظيفتين للشعر: وظيفة جمالية–فنية ووظيفة اجتماعية–فكرية ذات طابع تحويلي تغييري، يستهدف تغيير الواقع صوب الأجمل والأرقى والأحسن والأعدل.

إلا أن اليوسف سرعان ما يستدرك رأيه السابق في أكثر من موضع في الكتاب، مؤكداً على الوظيفة الاجتماعية–الفكرية للشعر، بالإضافة إلى الجمالية، كقوله في الشعر إنه "محاولة يبذلها الوعي الوجداني، أو الحدسي، وأحياناً وعي الثمالة النشوان، كي يقف على سنام الوجود، أو قمَّته الأكثر شموخاً، وذلك لاستشراف المشهد الكوني برمته" (ص 73). ثم يصحح الناقد موقفه من اللغة كهدف جمالي مطلق، ويضعه ضمن إطاره كعنصر هام في البناء الشعري، قائلاً: "ولكن القول بالوظيفة اللغوية للشعر، أو بالوظيفة الشعرية للغة، ليس من شأنه أن يخوِّل المرء حق الزعم بأن الشعر أسلوب أو شكل وحسب. إذ إن مثل هذا الزعم لا يفضي إلا إلى الاتِّضاع، أقصد إلى انحطاط الشعر، الذي لا آفة له قبل التحذلق أو التلاعب باللغة..." (ص 75).

ثم لا يلبث الناقد أن يؤكد رأياً متوازناً وصحيحاً حين يجمع بين الوظيفة الجمالية–اللغوية للشعر والوظيفة الحياتية، إذ يربط الشعر بالحياة والواقع قائلاً: "وممَّا هو بدهي أن يقال بأن الشعر لا يملك إلا أن يعاشر الحياة، أو الموجودات العينية والوقائع، وكذلك الأحداث التاريخية. فهو، في الحق، شديد الحساسية تجاه أصغر حركة أو هزَّة تجري على سطح الواقع الخارجي، أو في جوفه العميق. فالقول بأن الشعر – بل الفن بعامة – يتأسس على مبدأ العلوِّ لا يتضمن البتة أن يُستأصَل مبدأ المحايثة، أو يعطِّله على نحو كلِّي..." (ص 85).

كتاب يوسف سامي اليوسف الجديد يتضمن مادة نقدية غنية مكثفة وعميقة، لعل من أهم ميزاتها: الإضافة وتحريك العقل، وإثارة الأسئلة، وطاقة الاجتهاد، والاختلاف غير المجاني الذي يُخصِب العقل، ويُثري المعرفة، ويوسع الرؤيا والرؤية معاً.

*** *** ***


* يوسف سامي اليوسف، القيمة والمعيار: مساهمة في نظرية الشعر، دار كنعان، دمشق 2000، 102 صفحة من القطع المتوسط.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود