حول الدافع والتوق اللامتناهي...

محاولة في مسار وفكر بولس الرسول

أيقونة تصور بولس الرسول 

أكرم أنطاكي

 

أنا الحق!

الحلاج

 

1

هل فكَّرت يا صديقي يوماً ببعدك الآخر؟ بذلك الذي يجعلك، وأنت في قلب مأساتك، تتطلع إلى الأعالي، وأنت في سحيق حضيضك الأرضي، تطلب السماء؟ فإن فعلت ذلك وفكرت، هل اقتنعت به يوماً؟

لأنك لو فعلت، وحققت ذلك فعلاً، لفهمت كيف تجسَّد المسيح من على صليبه إلهاً... وفهمت حقيقة صرخة الحلاج "أنا الحق!" وهو عالم أنه سيُقتَل... ولِمَ طلب ذلك "السقط" المعروف ببولس، وهو في غمرة انهزام كل ما آمن به في حياة ماضية، رأس السلطة في روما... ولِمَ وكيف حصل عليه، وإن بعد مماته، مقدَّماً على طبق في النهاية... والحقيقة أني...

منذ بدأت أتأمل منفرداً في باطن الأشياء كنت أفكر ببدايات المسيحية، وكانت تؤرقني شخصية يسوع المسيح الذي حقق خلال حياته في هذا العالم ألوهته كابن للإنسان. وأيضاً، كانت تؤرقني شخصية بولس الذي كان، من بعدُ، داعيته الأول والأهم...

فالجميع يقرُّ اليوم أنه كان حقاً ذلك العملاق الذي نشر ما نعرفه اليوم كأحد أعمق الأديان السامية. والكل يقرُّ اليوم أن بولس كان في البداية من أعداء ذلك الدين الذي عُرِف من بعده بالمسيحية. والمفارقة هي أنه لولاه، ربما، لما عرفنا تلك المسيحية على حالها، وأن ما يُنسَب إليه في النهاية هو بحق جزء من كتبها المقدسة. لذا...

قل لي، بربك، هل فكرت يوماً يا صديقي ببعدك الآخر؟

فإن لم تفعل – وأنت ربما في العمق، كأغلبنا، لم تفعل – تعال إذن نتابع معاً مسيرة ذلك المدعو بشاؤول الطرسوسي، الذي عُرِف في المسيحية ببولس الرسول...

2

في الأصول والمواطنية الرومانية...

يقول عن نفسه مباشرة: "... أهُم عبرانيون فأنا أيضاً. أهُم إسرائيليون فأنا أيضاً. أهُم نسل إبراهيم فأنا أيضاً..."[i]. وأيضاً: "... أنا بالأوْلى. من جهة الختان مختون في اليوم الثامن من جنس إسرائيل من سبط بنيامين، عبراني من العبرانيين، ومن جهة الناموس فريسي..."[ii]. ومن خلال أعمال الرسل: "أنا رجل يهودي ولدت في طرسوس كيليكية ولكن رُبِّيت في هذه المدينة مؤدَباً عند رجلي جملئيل على تحقيق الناموس الأبوي. وكنت غيوراً كما أنتم جميعكم اليوم..."[iii]. وأيضاً: "... أنا رجل يهودي طرسوسي من أهل مدينة غير دنية من كيليكية..."[iv]. حين "... جاء الأمير وقال له: قل لي. أنت روماني؟ فقال: نعم. فأجاب الأمير: أما أنا فبمبلغ كبير اقتنيت هذه الرعوية. فقال: بولس أما أنا فقد ولدت فيها..."[v].

عن لسانه نستنتج إذن أنه كان يهودياً، ومن سبط بنيامين، وكان فريسياً صميمياً، ومن النخبة المنتمية إلى تلك الحلقة الداخلية التي تربَّت عند قدمي جملئيل، أحد أكابر أساتذة اليهودية وواحد من صفوة الفريسيين في حينه، وأنه كان أيضاً مواطناً رومانياً أصيلاً. كما نستنتج من رسائله، التي سنستعرض مقتطفات منها في سياق بحثنا، أنه كان ذا ثقافة عميقة، يهودية وهلنستية معاً.

وجمعُ صفتي المواطنية الرومانية والمذهبية اليهودية كان آنذاك، كما يقول بعضهم، من أندر ما ندر. وهذا (المعلَن وغيره مما لا يُعلَن) دفع الكثير من الباحثين إلى التشكيك في عمق يهوديَّته. لذا تراهم (كجيرالد مسادييه مثلاً)، بسبب ما ثبت عن مواطنيَّته الرومانية وأصوله التي قد تكون نبيلة، يعيدونه اليوم – بكل ثقة – إلى سلالة هيرودوس أنتيبار، أي لأصول أبوية عربية مفترضة، ولأصول أمومية صدُّوقية منحلَّة، تفسِّر، من وجهة نظر هذا الكاتب، "تنكُّره" من بعدُ لنسب أمِّه.

لكن لبعضهم الآخر وجهة نظر أخرى، كالأستاذ أندريه فوتييه الذي كتب بهذا الخصوص مقالة طريفة يبدو أن السيد مسادييه لم يطَّلع عليها:[vi] "... كما نعلم، يُعتبَر يهودياً كل من وُلِد من أم يهودية. فإن كانت أم شاؤول يهودية فهذا يعني أنه كان كذلك. وإن كان أبوه مواطناً رومانياً، فهذا يعني أيضاً أنه كان كذلك. فالرعوية الرومانية كانت تنتقل من الأب لأبنائه الذكور منهم والإناث...

"بالتالي، لا يوجد أي مستحيل في واقع أن شاؤول الطرسوسي كان في نفس الوقت يهودياً ومواطناً رومانياً. ومن يدَّعي استحالة هذا يخطىء كثيراً...". ويتابع كاتب مقالتنا، فيقدم اقتراحاً لأصول أخرى لشاؤول... أصول تستند إلى كتاب يعود للقرن الثالث الميلادي يحمل عنوان الخطب الكليمنضية Homélies Clémentines، المنسوبة للمدعو كليمنضوس، أحد تلاميذ القديس بطرس، التي يهاجم فيها على لسان بطرس شخصاً يدعى سمعان الساحر، وتُنسَب إليه أقوال هي في الحقيقة لبولس الرسول. فيستنتج أن ذاك المدعو في ذلك المؤلف بـ"سمعان الساحر" هو نفسه بولس الرسول، وأن أبويه، بحسب كتاب كليمنضوس، كانا يدعيان "... أنطونيوس وراحيل، حيث الاسم الأول لاتيني، والثاني [كما هو واضح] عبري...". ولكن...

كل هذا من وجهة نظري اليوم لا يهم. فقد يكون بولس، كما يورد السيد مسادييه، من سلالة أنتيبار (ما قد يشير لشيء من هذا يستند إلى ما ورد في رسالته إلى رومية حين يقول: "... سلِّموا على أهل بيت أرسطوبولس، سلِّموا على هيروديون نسيبي..."[vii])، وقد لا يكون، حيث لا شيء يؤكد أن ذلك المشار إليه في تلك الرسالة بهيروديون هو من أسرة أنتيبار تحديداً. فالأهم أن بولس لم يكن فعلاً مجرد يهودي عادي ومواطن روماني عادي، إنما، كما جاء على لسانه، "... من سبط بنيامين الذي هو عبراني من العبرانيين...".

ونتوقف هنا قليلاً... ذلك أن لقول شاؤول هذا، من وجهة نظرنا، أهمية خاصة. مستغربين ما يورده بهذا الخصوص السيد مسادييه في كتابه حول حياة بولس الرسول، "مشعل الحرائق": "... أن لا معنى لانتساب بولس لبنيامين في القرن الأول الميلادي..."، وما ينقله بهذا الخصوص عن السيد هيام ماكوبي في كتابه بولس واختراع المسيحية مما يدلُّ، حسب ذلك الباحث الذي يستقي منه مسادييه بكل ثقة، "... عن جهل بالأمور اليهودية...". ونعجب، فنعود إلى العهد القديم حيث لقصة بنيامين بين الأسباط مكانة أكثر خصوصية من سواها. فلبنيامين قال موسى على لسان ي هـ و هـ: "... حبيب الربِّ يسكن لديها آمناً تستره طول النهار، بين منكبيها يسكن..."[viii]، ولها حين وُزِّعت الأراضي المقدسة كانت "... يبوس وهي أورشليم..."[ix] من نصيبها... وبنيامين كانت تلك العشيرة التي جابهت بالقتال باقي أسباط إسرائيل دفاعاً عن بني بلعال، فكان عقابها أن "... حلف رجال إسرائيل في المصفاة وقالوا أن لن يزوج رجل منَّا ابنته لبنيامين..."[x]، وعليها من بعدُ ندموا لأن "... الربَّ جعل ثلمة في أسباط إسرائيل..."[xi]، فحاولوا استعادتها. ومن "... بنيامين أصغر أسباط إسرائيل وأصغر عشائرها..."[xii] كان شاؤول أول ملوك العبرانيين، إلخ. ونعجب فعلاً من مدَّعين للفهم في شؤون معينة ينفون أية أهمية عما يتَّضح من العهد القديم أنه أحد أهم أسباط إسرائيل، وبالتالي، عن تأكيد شاؤولنا انتسابه إليه، مشيرين إلى/مؤكدين على أن شاؤول، في حديثه عن انتمائه لبنيامين، إنما كان، من وجهة نظرنا، كالمسيح، يتكلَّم بلغة الأمثال لعوام لم يتمكَّن بعضهم حتى الآن من فهم أبعادها. ونتابع...

حيث المهم أيضاً أن شاؤول كان من تلك الحلقة الضيقة من المسارَرين Initiates التي وقفت عند "... قدمي جملئيل على حقيقة الناموس الأبوي..."، وربما على أكثر من ذلك، كما سنرى، مشيرين بهذا الخصوص إلى أننا، بغض النظر عن اجتهادات السيد مسادييه (التي لم يقنعنا أغلبها والتي سنستعرض بعضها تباعاً في سياق هذا البحث)، نميل آسفين لتصديق ما يقوله بولس عن نفسه، أو ما تنقله أعمال الرسل التي جرت على لسان لوقا – وإن كانت تلك الأقوال، كما يعلم الجميع، منقوصة عمداً...

وتلك تقول أن بولس، قبل تحوله إلى داعية للمسيح، كان يضطهد أتباعهن "... يتلف في الكنيسة، ويدخل بيتاً فبيتاً ويجرُّ الرجال والنساء، ويسلمهم إلى السجن..."[xiii] و"... يقذف تهديداً وقتلاً على تلاميذ الربِّ..."[xiv]. ولكن، قبل الغوص في تحوِّل رجلنا من مضطهِد للمسيحيين إلى كبير دعاتهم، فلنعد معاً إلى الأوضاع التي كانت سائدة آنذاك في فلسطين عموماً، وفي قلب "اليهودية" تحديداً...

3

فلسطين في زمن ولادة المسيحية...

لم تكن أوضاع فلسطين زمن ولادة المسيحية هادئة، إنما كانت بلاداً مضطربة تمزقها الصراعات والحروب. وكان أغلب سكانها في حينه من العبرانيين، كما كانت في الوقت نفسه جزءاً من الإمبراطورية الرومانية.

في عام 63 ق. م. اجتاحتها الجحافل الرومانية بقيادة بومبي. وقد سلَّمت روما الحكم فيها آنذاك لملوك من سلالة هيرودوس اليهودية (التي يذهب مسادييه إلى القول بأنها عربية). وكان أول ملوك تلك السلالة هيرودوس الكبير بن أنتيبار الذي سلَّمته روما الحكم عام 37 ق. م. وهيرودوس هذا، الذي لم يكن "كبيراً" جداً في الواقع، كان ربما أبرز ملوك هذه السلالة؛ إذ كان أكبر منجزات عهده كسبُ رضى كلٍ من الحاكم الروماني والطائفة اليهودية الغالبة في بلاده التي كان يؤكد، دون أن تنفي هي، انتماءه إليها. وقد رُمِّم في عهده هيكل أورشليم، واستمر حكمه حتى عام 4 ق. م.

من بعده، لم تستقر الأمور لأبنائه الثلاثة الذين تقاسموا تركته بسبب خلافاتهم ورفض السكان لهم. فوقع تمرد، قمعه في حينه القائد الروماني فارُّوس، كانت عاقبته تقسيم المملكة من بعده بين جليل صار يحكمه، بدءاً من السنة السادسة للميلاد، هيرودوس أنتيباس حفيد الأول، ويهودية تضم أورشليم، كانت واقعة تحت الإدارة الرومانية المباشرة.

في تلك الأيام، كما تقول كتب الشريعة المسيحية، "... ولد يسوع في بيت لحم اليهودية في أيام هيرودوس الملك، وإذا مجوس من الشرق قد جاءوا إلى أورشليم قائلين أين المولود ملك اليهود..."[xv]. ولكن[xvi]...

في تلك الأيام كان العبرانيون في الأراضي المقدسة منقسمين إلى عدد كبير من الفئات والأحزاب، أهمها:

-       الصدوقيون: وهم غالباً من أبناء تلك الفئة الميسورة من أبناء الكهنوت اليهودي المحافظ؛ وكانوا متعايشين من حيث الظاهر مع الحكم الروماني.

-       الفريسيون: وهم المتشدِّدون والحرفيون من حيث العقيدة؛ وكانوا معارضين للحكم الروماني. وحولهم كانت مجموعات أخرى أصغر وأكثر تطرفاً كالغيارى.

-       وكانت توجد أيضاً فئات باطنية، مثل الأسينيين أو الحصيديم، وهم تلك الفئة المتصوفة السرَّانية التي بات يُعتقَد اليوم أن يسوع كان ينتمي إليها قبل انتقاله إلى الحياة العلنية.

عن الأسينيين يقول المؤرخ الروماني اليهودي الأصل فلافيوس يوسيفوس في الجزء الثاني من مؤلفه حروب اليهود: "... كانوا يتبعون قواعد صارمة. فقد كانوا يهوداً من حيث المنشأ، ومتضامنين فيما بينهم. يستنكرون اللذة ويرفضونها باعتبارها خطيئة، ويدعون إلى الاعتدال وضبط العواطف، ويرفضون الزواج ويختارون أطفال غيرهم الصغار ليربُّوهم وفق قواعدهم. كما كانوا يحتقرون الثروة...".

أما "مخطوطات البحر الميت" فقد جاء فيها أنه خلال تلك الفترة المضطربة التي رافقت السيطرة الرومانية المباشرة على فلسطين، حوالى عام 63 ق. م.، ونتيجة تعرض الأسينيين في قمران لتجاوزات من خصومهم، انتقل معلِّم البرِّ (رئيسهم)، الذي كان يدعى أيضاً بـ"المشيح"، مع عدد من أتباعه إلى دمشق. وهناك، طُرِحت على لسانه دعوة "العهد الجديد" في بلاد الشام، وأخذت الدعوة إلى المسيح المنتظر أبعاداً جديدة.

في فلسطين آنذاك، حيث كثر الأنبياء والأدعياء والسحرة، وحيث كان مخاض في العمق يبشر بولادة ما لشيء آخر، يقال إن المسيح بشَّر إبان سنواته العلنية الثلاث بدعوته الجديدة التي كانت ذروتها، حسب كتب المسيحية، صلبه هو و"... اثنين آخرين معه من هنا ومن هنا ويسوع في الوسط. وقد كتب بيلاطوس عنواناً وضعه على الصليب وكان مكتوباً عليه يسوع الناصري ملك اليهود.."[xvii] – وبيلاطوس البُنطي كان الحاكم الروماني لليهودية في تلك الأيام. وأيضاً...

شهدت تلك الأيام أحداثاً كبرى تمخضت عن أجواءها الملتهبة. وظاهر تلك الأحداث وأهمُّها يتحدث عن تلك الثورة اليائسة التي قام بها غلاة العبرانيين آنذاك ضد الوجود الروماني بين عامي 66 و 70 للميلاد والتي سُحِقت عام 70 على يد القائد الروماني تيتوس الذي احتل أورشليم ودمَّرها، مدشناً بذلك الشتات الثاني والأكبر لليهودية في العالم؛ وباطنها – وهو الأهم الذي لا يعلمه إلا "أهل الباطن" – كان ربما تدوين القباله qabbalah على يد الرابي شمعون بن يوشع، تلك التي "... لقَّنها الله في البدء بنفسه لمجموعة مختارة من الملائكة الذين شكَّلوا أول مدرسة ثيوصوفية في الجنة... ولم يتجرأ أحد أن ينقلها قبل ذلك...". وأيضاً...

في فلسطين تلك الأيام ولد وترعرع، ومنها انطلق إلى العالم كمبشر أول بالمسيحية كما نعرفها، شاوولنا الطرسوسي...

4

على طريق دمشق

باب كيسان

وكانت طريق شاؤول إلى دمشق حيث قابل المعلِّم طويلة وشاقة؛ إذ كانت طريق شخص آمن بعقيدته وحارب كل من اعتقد أنه يقف عقبة في طريقها. لكنه كان أيضاً، في الوقت نفسه، شأن الكثيرين اليوم مثلاً، رجلاً ممزقاً في أعماقه وهو يرى تصدُّع وانهيار كل ما آمن به. ومن يحلل – وإنْ بعقل اليوم – ظروف تلك الأيام ويستعرض أحداثها لابدَّ له من أن يتساءل في العمق تساؤلات كبيرة...

-       عن المسبِّبات التي دفعت بعضهم آنذاك لكتابة تلك التعاليم السرَّانية المعروفة بالقباله التي "... لم يتجرأ أحد أن ينقلها كتابة قبل ذلك..."؛ فماذا عساها تكون هذه المسبِّبات إن لم تكن عمق الشعور بالأزمة والخوف من ضياع رسالتها السرَّانية؟ وأيضاً...

-       عن مسببات تفشِّي كل أولئك المبشرين والسحرة والأحزاب في فلسطين آنذاك، وانعكاسات ذلك على مجتمعها المغلق والمتصدع؛ وأيضاً...

-       في حينه كانت سطوة روما وما تعكسه من تأثير متعدد الجوانب على مختلف أرجاء إمبراطوريتها؛ ومن خلالها كان شعور من الأعماق (لم يكن مخطئاً) أن عالماً قديماً كان يحتضر، وإن لم تكن بشائر العالم الجديد بعدُ واضحة المعالم في حينه.

وشاؤولنا الذي كان في تلك الأيام، كما قلنا، يضطهد المسيحيين الذين كانوا يُعرَفون آنذاك بـ"النصارى" بشراسة "المؤمن" حين يتصدى لأعداء عقيدته، "... يتلف في الكنيسة ويدخل بيتاً فبيتاً ويجر الرجال والنساء ويسلمهم للسجن..."[xviii] و"... يقذف تهديداً وقتلاً على تلاميذ الرب..."[xix]، كانت مأساته أنه لم يكن من العامة، لا من حيث المنشأ، ولا من حيث المسؤولية. فعند قدميه آنذاك، يقولون، "... وضع الشهود ثيابهم..."[xx]، حين رُجِم القديس استفانوس الذي "... كان شاؤول موافقاً على قتله..."[xxi]. ولكن...

ربما في تلك اللحظة، ربما أمام صرخة استفانوس الذي "... جثا على ركبتيه وصرخ بصوت عظيم: يا رب، لا تُقِم عليهم هذه الخطيئة..."[xxii]، حين التقت نظرات الرجلين بدأ التحول في شاؤول...

وشاؤول كان من النخبة؛ ولعله كان من ذلك التيار السرَّاني القديم جداً الذي كان قائماً في الأعماق ولم يزل... ذلك التيار النابع – والله أعلم – من كونه من بنيامين وما يمثله من عمق جعله يسكن حبيب الربِّ "... لديها آمناً تستره طول النهار بين منكبيها..."[xxiii]. وأفكر بكلمات لاحقة لبولس تقول: "... إنِّا ننطق بالحكمة بين الكاملين، لا بحكمة هذا الدهر ورؤساء هذا الدهر الذين يعدمون، بل ننطق بحكمة الله في السر، بالحكمة المكتوبة التي سبق الله فحدَّدها قبل الدهور لمجدنا..."[xxiv]. وأفكر في عمق ذلك التيار الذي بشَّر به ومات من أجله ابن الإنسان الذي أضحى إلهاً... أفكر بذلك اللقاء الذي بات محتَّماً أن يحصل من بعدُ على طريق دمشق أو في قلبها بين شاؤول والمعلِّم.

عن هذا اللقاء يقول القديس لوقا على لسان بولس في أعمال الرسل: "... اتفق، وأنا سائر وقد دنوت من دمشق عند الظهر، أن أبرق حولي من السماء نور عظيم. فسقطت على الأرض وسمعت صوتاً يقول لي: شاؤول شاؤول لماذا تضطهدني؟ فأجبت: من أنت يا رب؟ فقال: أنا يسوع الناصري الذي أنت تضطهده..."[xxv]. وكان حديث بين الاثنين بـ "... كلمات سرِّية لا يحلُّ لإنسان أن ينطق بها..."[xxvi].

وفي دمشق عُمِّد شاؤول على يد حنانيا ثم أُخبِر "... بجميع ما رسم عليـ[ـه] أن [يـ]ـعلمه..."[xxvii] ومنها، بعد أن قضى ثلاث سنين في "... ديار العرب..."[xxviii]، حيث تعلَّم ربما حياكة الخيام، انطلق إلى العالم. ولكن...

منطق العوام الذي ما زال سائداً في عالمنا حتى يومنا هذا يسجِّل، على لسان مسادييه مثلاً، وجود تناقض بين ما يقوله بولس في أعمال الرسل حول ما جرى بينه وبين المسيح من حديث أوردناه أعلاه،[xxix] وذلك الآخر الوارد في رسالته الثانية إلى كورنثوس، حيث قال إن ذلك الحديث جرى بين الاثنين بـ "... كلمات سرِّية لا يحل لإنسان أن ينطق بها..."[xxx]، دون أن ينتبه إلى لغة الرمز والأمثال التي كانت تُستعمَل آنذاك في نقل الرسائل الروحية. ونتوقف هنا قليلاً لنفكر بعض الشيء في...

5

في جدلية الانتقال من اليهودية إلى المسيحية...

لعل المأساة الأساسية لأي دين و/أو فكرة إنسانية جامعة تكمن في علاقتها بأصولها. فمأساة المسيحية كانت، ربما، ولم تزل، أصولها اليهودية والرواقية؛ ومأساة الإسلام كانت، ربما، في أصوله اليهودية والنصرانية؛ ومأساة اليهودية كانت، ربما، في أصولها المصرية والبابلية والعربية. أما المأساة الثانية، التي لا تقل عن الأولى أهمية (وأنا أعني هنا جميع الأديان والأفكار الجامعة، لا أستثني منها ديناً أو فكرة)، فهي تكمن في علاقتها بعوامها.

ولتلك المآسي أوجه متعددة ومتشابكة. فكل فكرة تنبع من أخرى أقدم منها، ومن تفاعلات وظروف محيطة تجعل ظهورها من بعد محتماً، إن لم نقل ضرورة. ووعاؤها هو الإنسان، وجدليَّتها هي جدلية الحياة النابعة من احتكاكات البشر وصراعاتهم وتفاعلاتهم. تراكمات كمِّية تتفاعل في الأعماق الإنسانية لتولِّد تحولات نوعية تبدو لنا فيما بعد وكأنها جديد يختلف نوعياً عمَّا سبقه.

وقد يموت القديم أحياناً حين يظهر ذلك الجديد. لكنه غالباً لا يموت وإنما ينحسر فقط. ويبقى في الأعماق متفاعلاً ليشكل تراكمات أخرى، تتحول، بدورها، إلى تحولات نوعية من نوع آخر. هكذا كانت الحال بالنسبة لجميع الأديان والأفكار الجامعة، الأمر الذي يشرح عموماً تحولاتها اللاحقة. ونتعمق قليلاً بـ...

اليهودية، النابعة من سحيق الفكر السرَّاني لكهنة بابل ومصر ومن أساطير جزيرة العرب، التي كانت، ولم تزل، تحمل، من خلال كتبها المقدسة، ما أخذته عن أصولها من حكايات وقصص لأدوار مضت، كتلك التي تتحدث عن نشوء الحياة من العدم، وعن شقاء إنسان تلك الأدوار السابقة من خلال سعيه عن طريق المعرفة إلى الألوهة. وفي العمق السرَّاني لكتبها نجد تأكيداً لسلالة سرَّانية للمعرفة، منها، ومن خلال تقمُّصها في عقول عوامها، شُوِّهت فكرة "الشعب المختار"، فأضحت تلك الفكرة الأجمل في ذلك الدين (الذي أضحى منحرفاً عن أصوله الإسرائيلية)، من بعدُ – مع الأسف – عرقية وعنصرية.

ولكنها – وهذا قانون ما زال سائداً، مع الأسف أيضاً! – حتمية علاقة المعرفة بعوامها؛ تلك التي جعلت موسى يقسِّم تلك المعرفة المجزوءة التي أخذها من المصريين، بشكل غير متساوٍ بين أسباطها، ويحوِّطها بذلك السور الكثيف من الشريعة، تلك الشريعة التي جعلت أبناء ذلك الدين من العوام يعتقدون أنهم "مختارون" تحديداً؛ مما حوَّلهم، بالتالي، حقيقةً، إلى "أبناء لإله أصغر".[xxxi] ولكن...

تلك اليهودية التي نبعت عن سواها عينها لم تكن أيضاً في تلك الأيام، في ظلِّ الإمبراطورية الرومانية، بمنأى عن ذلك التفاعل الإنساني الطبيعي مع تلك الحضارة المادية المظهر، الفلسفية والإنسانية العمق، التي كانت سائدة آنذاك، التي كانت تُعرَف بالرواقية[xxxii] Stoicismوالتي انتمى إليها كبار خطباء روما، كسينيكا (ناهيك عن إمبراطورها ماركوس أوريليوس)، ولا عن تلك التيارات الغنوصية التي كانت تتفاعل في أعماقها...

وكانت المسيحية ابنة تلك الظروف ونتاج تلك التراكمات وتفاعلاتها. فمفاهيمها التي ولدت من قلب اليهودية قد تبلورت وتطورت تدريجياً لتصل إلى ما وصلت عليه، كما تعكسها كتبها المقدسة، وأقصد:

-       أولاً: إسرائيلية (إن لم نقل يهودية) في أعماقها، من خلال العهد القديم وأيضاً...

-       ثانياً: يهودية (إن لم نقل إسرائيلية) فرضت عليها ظروفُ أزمتها تجاوزَ نفسها؛ فكان هذا على يد ذلك "الإنسان–الملك–المشيح" من قلبها الذي حقق خلال حياته، عبر فدائه، ألوهته كابن للإنسان.

-       ثالثاً: غنوصية، سرَّانية، كما هو واضح جداً من كتبها (إنجيل يوحنا والرؤيا تحديداً). ولو لم تكن كذلك لما كان بوسعها أن تكون أيضاً و...

-       رابعاً وأخيراً: هلنستية ورواقية، وأن تنتشر بين الأمم. ومنحاها الأخير هذا كان على يد بولس الرسول المتمثل لتلك الأبعاد الأربعة مجتمعة.

لعلنا، من هذا المنطلق، نقدر أن نفسر بداياتها الصعبة وصراعاتها، ونفسر أيضاً ما قد يظهر من تناقضات في كتبها المقدسة التي سنتوقف عندها قليلاً قبل العودة إلى بولسنا.

6

الكتب المقدسة للشريعة المسيحية...

تلك التي أقرَّها، منقحة بشكلها النهائي كما يقال، في مجمع قرطاجة عام 397 م رؤساء كنيسة تلك الأيام، بعد إبعاد و/أو إخفاء كل ما كان متداولاً قبلها و/أو إلى جانبها في القرن الأول من المسيحية من أناجيل أضحت مستورة apocrypha (كلمة نفضلها على "منحولة")، والمدعوة بـ"العهد الجديد"، وأضحت، إلى جانب "العهد القديم" (التوراة)، الكتبَ المقدسة للشريعة المسيحية. وهي تتألف من:

-       الأناجيل الأربعة لمتى ومرقس ولوقا ويوحنا.

-       سفر أعمال الرسل الذي يُنسَب للوقا الإنجيلي.

-       الرسائل التي تُنسَب للقديس بولس، وعددها 14.

-       الرسائل الأخرى المنسوبة ليعقوب وبطرس ويوحنا ويهوذا، وعددها 7.

-       الرؤيا المنسوبة للقديس يوحنا، صاحب الإنجيل الرابع.

وأهم تلك الكتب مسيحياً هي الأناجيل لأنها تنقل سيرة المخلِّص. والأناجيل الأربعة المعتمدة للمسيحية لا تعود لأيام المسيح، وإنما كُتِبت، على ما يبدو، في تلك السنوات المضطربة اللاحقة، ما بين 70 و 100 للميلاد، حيث يُعتبَر أقدمها

-       إنجيل مرقس الذي، بحسب ما يرى الأب اسطفان شاربانتييه، "... كُتِب في روما حوالى سنة 70 للميلاد... وتناول بشارة بطرس...". أما مؤلِّفه فقد بات "... من المؤكد تقريباً أنه الشاب يوحنا مرقس الذي ورد ذكره في أعمال الرسل..."[xxxiii]. وجغرافيته هي الجليل، ومن بعدُ أورشليم. أما ثانيهما فهو..

-       إنجيل متى؛ وقد سمي بـ"الإنجيل الكنسي" لأنه، كما يقولون، أكثر الأناجيل تأثيراً في الغرب. وأيضاً "... بحسب تقليد يرقى إلى القرن الثاني ولا يمكن التأكد منه، أن متى، جابي كفرناحوم الذي أصبح أحد الإثني عشر، كان قد كتب بالآرامية من أقوال يسوع. أما كاتب الإنجيل الحالي فهو غير معروف. ولعله قد استوحى مما وضعه متى، فكتب إنجيله باليونانية حوالى السنين 80-90 م لجماعات يهودية سورية–فلسطينية، ربما في أنطاكية...". وجغرافيته أيضاً الجليل وأورشليم. أما ثالث الأناجيل فهو...

-       إنجيل لوقا الذي كُتِب، على ما يبدو، ما بين 80 و 90 للميلاد أيضاً، كما يُعتقَد، في أنطاكية على يد لوقا، ذلك "الطبيب الحبيب" الذي رافق بولس إلى فيليبي، حيث أقام، ثم لحق به في ميلة ورافقه إلى قيصرية ثم إلى روما. وقد كان مثقفاً ويستعمل بأناقة اللغة اليونانية الشائعة في ذلك الزمان. وله أيضاً تُنسَب، كما سبق وأشرنا، أعمال الرسل. أما إنجيله فموجَّه للهلينيين، وجغرافيته، التي تبدأ من أورشليم، تركِّز على الجليل قبل أن تعود من جديد إلى أورشليم حيث انتهت قصة يسوع.

تدعى هذه الأناجيل الثلاثة السابقة الذكر بـ"الإزائية" synoptic أو، بحسب الأستاذ ندره اليازجي، "أناجيل الحوار" بين المسيحيين الأوائل ووسطهم اليهودي الأصلي. أما رابع أناجيل الشريعة المسيحية فهو...

-       إنجيل يوحنا الذي يتفق الجميع مع الأب شاربانتييه أنه "... كتاب غريب. فالألفاظ فيه بسيطة جداً؛ فهي ألفاظ الحياة اليومية. ومع ذلك فإن أهل الاختصاص لن ينتهوا من سبر أغواره. يستسهله الأولاد، ويجعل منه المتصوفون كتابهم المفضل. يروي حياة يسوع على غرار الأناجيل الإزائية. ومع ذلك، يختلف عنها تماماً. سُمِّي بالإنجيل الروحي لأنه يبدو وكأنه... شهادة إنسان أو جماعة وضعته... أثناء تأملات طويلة...". ويتحدث بعضهم هنا عن وجود جماعة ليوحنا من ورائه و"... يقولون إن هذه الجماعة كانت في أفسس وأنها تأثرت بأمور كثيرة..."، أهمها...

أ‌.       الفلسفة اليونانية التي حاول فيلون الإسكندراني التوفيق بينها وبين إيمانه اليهودي.

ب‌.  الغنوصية الداعية إلى الخلاص عن طريق المعرفة المقصورة على المسارَرين التي جاء المسيح ليرفع عنها النقاب.

ت‌.  اليهودية، ولكن في أعماقها السرَّانية التي تعرِّف يسوع بـ"الراعي" و"النور" و"أنا هو" (أي يهوه) – وهي صور وألقاب مقصورة في القباله على الإله.

هذا ونشير هنا إلى أن إنجيل يوحنا هو، من حيث اليهودية، ذلك الأقرب إلى تعالم الإسينيين أو الحصيديم. عن كاتبه يقول الأب شاربانتييه: "... من المحتمل أن تكون شخصية يوحنا الرسول في أصل تلك المؤلفات التي تُنسَب ليوحنا. ولكن كتابته كانت على عدة مراحل، حتى التحرير الأخير الذي تم حوالى السنين 95-100، مما يجيز الاعتقاد بوجود تلك المدرسة اليوحنوية المؤلفة من فريق من التلاميذ، تأملوا وتعمقوا في تعاليم..." ذلك الذي كان، كبنيامين، أصغر الإثني عشر.

وأيضاً تختلف جغرافية إنجيل يوحنا عن تلك التي تنقلها باقي الأناجيل الإزائية؛ مما يدلُّ على معرفة دقيقة لكاتبها بأراضي الرسالة المسيحية الممتدة في هذا الإنجيل من أورشليم، إلى الجليل، فاليهودية، التي لا تتطرق لها باقي الأناجيل.

وليوحنا تُنسَب أيضاً، كما سبق وأشرنا، تلك الرؤيا، الشهيرة والمحيِّرة معاً، التي يقول الأب شاربانتييه أنها "... وُضِعت حوالى السنوات 95-100، وإن كان من كتبها يتظاهر أنه فعل هذا حوالى سنة 60...".

وتبقى أقدم كتب "العهد الجديد" تلك الرسائل المنسوبة إلى بولس التي كتبها خلال رحلاته التبشيرية الثلاث والأخيرة، حين اقتيد سجيناً للمحاكمة في روما ما بين 41 و 63 ميلادية، والتي تعطينا، مع أعمال الرسل، تصوراً شبه واضح لكنيسة تلك الأيام؛ مع ملاحظة أن ما يورده منها "العهد الجديد" للشريعة المسيحية ما هو إلا جزء يسير من المنسوب إلى بولس الرسول والوارد في الكتابات "المنحولة"، من أعمال ورؤى ورسائل، منها تلك التي يقال إنه تبادلها في حينه مع سينيكا الذي "... أظهرت تأملاته تلك الأشياء التي أخبرها الله لصفوته المنتقاة...".

7

بولس وكنيسة القرن الأول...

تحدِّثنا أعمال الرسل أنه في تلك الأيام كانت هناك خلافات بين "الإخوة" حول موضوع "الختان" ومدى ضرورته بالنسبة لمن اعتنق المسيحية من خارج اليهودية، حيث "... انحدر من اليهودية قوم يعلِّمون الإخوة قائلين: إن لم تختتنوا على سنة موسى فلا تستطيعون أن تخلصوا..."[xxxiv]، وعن خلافات بهذا الخصوص بين بولس وكلٍّ من برنابا وبطرس، وعن اجتماع للـ"... رسل والكهنة..." عُقِد في حينه (عام 49؟) في أورشليم لحسم الخلاف، وتحدث فيه كلٌّ من بطرس وبرنابا وبولس ويعقوب، ولم يُنقَل منه إلا ما قاله بطرس، وخاصة يعقوب، مما يوحي أن اتفاقاً تم بين المجتمعين صيغ على لسان هذا الأخير: "... كيف افتقد الله الأمم منذ الأول ليتخذ منها شعباً لاسمه. وعليه وافق الأنبياء حين قالوا إني من بعد هذا أرجع فأقيم مسكن داود الذي سقط وأبني ما هدم منه وأنصِّبه ثانية حتى تطلب الربَّ باقي الأمم الذين دعا اسمي عليهم يقول: الربُّ صانع هذا. ومعلوم عند الربِّ عمله منذ الدهر. لذلك، أحكم بألا يُثقَل على من يرجع إلى الله من الأمم. وبأن يرسَل إليهم أن يمتنعوا عن نجاسات الأصنام والزنى والمخنوق والدم..."[xxxv] الأمر الذي نفهم منه اليوم:

أ‌.       أن المجتمعين كانوا ما زالوا يعتبرون أنفسهم يهوداً.

ب‌.  أن المجتمعين، وهم متفقون على التبشير بين الأمم (افهم: غير اليهود)، قد وافقوا بالنسبة لهؤلاء على قواعد (تشبه ما يُعرَف بـ "الشريعة النوحية") مخفَّفة تقرِّب تلك الأمم من اليهودية دون أن تهوِّدها، حيث تم إعفاؤها من الختان.

ت‌.  وأيضاً فقد اتفق المجتمعون على أمور أخرى من بينها "... اختيار رجلين [يبعثونهما] مع حبيبينا برنابا وبولس..." إلى أنصار الفريقين المتخاصمين في أنطاكية لشرح ما تم الاتفاق عليه...[xxxvi]

وتلك الأمور الأخرى كانت، على ما يبدو، توازُعاً للمهام؛ مما يتفق تماماً مع ما جاء على لسان بولس حين قال: "... إني قد ائتُمِنتُ على إنجيل القلف [الأمم] كما ائتُمِن بطرس على الختان. فإن الذي عمل في بطرس لرسالة الختان عمل فيَّ أيضاً للأمم..."[xxxvii]. فالمسيحية الأولى كانت ما تزال يهودية، وحول هذه النقطة كان الجميع متفقاً. أما الخلاف بينهم، الذي تعمَّق فيما بعد، فقد كان حول مدى ما يجب إيصاله من معارفها إلى الأمم، وربما، لو لم تكن لبولس أبعاد أخرى، حول الشكل في نهاية المطاف.

عن مسيحية تلك الأيام يقول مارسيل سيمون في كتابه حضارة العصور القديمة والمسيحية: "... لم تكن من نوايا من أعلنوا... قيامة المسيح المصلوب الانفصال عن اليهودية... فقد استمروا في الاتباع الدقيق لشريعتها... ولم تكن كنيسة تلك الأيام إلا طائفة من طوائفها المتعددة...". ولكنها كانت يهودية بحاجة لتجاوز نفسها والانطلاق لنشر دعوتها بين الأمم.

ونتابع مع بولس الذي بدأ فور عودته من "بلاد العرب" التبشير بين "خراف إسرائيل الضالة" وبين الأمم...

8

في الرحلات وظروف الرسائل البولسية...

رحلة بولس الأولى

بدأت رحلات بولس فور عودته من ديار العرب حين "... انطلق إلى أورشليم لـ[يـ]ـرى بطرس... ولم ير غيره من الرسل سوى يعقوب أخي الرب... ثم أتى إلى أقاليم سورية وكيليكية..."[xxxviii]. وقد كانت هذه الرحلة الأولى، على ما يبدو، برعاية برنابا، انطلاقاً من أنطاكية إلى قبرص موطن برنابا،[xxxix] حيث تم كسب الوالي سرجيوس إلى الدعوة.[xl] ومنها ذهبا إلى أنطاكية التي بسيدة حيث بشَّر ومعه برنابا يوم السبت في المجمع بين اليهود، وحيث تبعهما "... كثيرون من اليهود والدخلاء... مما تمخض عن صدام مع الآخرين[xli] أدَّى لطردهما. فاتجها لأيقونية، فلسترة ودربة، حيث لقيا نفس المعاملة. ثم عادا من نفس الطريق إلى أنطاكية حيث "... لبثا هناك مع التلاميذ مدة غير قصيرة..."[xlii]. وكانت هذه الرحلة الأولى، على ما يُعتقَد، في السنوات الأولى للأربعين الميلادية.

رحلة بولس الثانية

أما رحلته الثانية التي دامت ثلاث سنوات (ما بين عامي 49 و 51 م) فقد بدأت بعد عودته من مجمع أورشليم. وقد أدت إلى تأسيس تلك الكنائس التي ارتبطت به. وقد اختار بولس في هذه الرحلة سيلا "... وانطلق بعد أن استودعه الأخوة إلى بركة الله. فطاف سورية وكيليكية يثبِّت الكنائس ويسلِّم إليهم وصايا الرسل والكهنة ليحفظوها..."[xliii]. فمن أنطاكية، إلى دربة، فلسترة، فأيقونية شمالاً، ثم إلى فريجة، فميسية، حيث أقلعا من تراوس بحراً باتجاه "... فيليبي التي هي أول مدينة في أرض مكدونية..."[xliv]، حيث سُجِنا ظلماً، وحيث استعمل بولس لأول مرة رعويته الرومانية.[xlv] فاتجها بعدها إلى تسالونيكي "... حيث كان مجمع لليهود فدخل عليهم بولس على عادته.. فآمن بعض منهم وانضموا إلى بولس وسيلا، ومن اليونانيين المتعبدين جمهور كثير..."[xlvi]. وكالعادة، كان الصدام مع الآخرين. ومن تسالونيكي، انطلقا إلى بيرة حيث يبدو أنهما التقيا بتيموثاوس. ومن هناك، انطلق بولس وحيداً إلى أثينا التي "... اغتمَّ روحه فيها إذ رأى المدينة منهمكة في عبادة الأصنام... [وحيث] كان يفاوض اليهود والمتعبدين في المجمع ومن يوجد في السوق كل يوم... [و] الفلاسفة الأبيكوريون والرواقيون..."[xlvii]. ونتوقف هنا قليلاً عند خطابه في محفل أريوس بين الأثينيين الذي جاء فيه: "... إني أرى أنكم تغلون في العبادة لأني في مروري ومعاينتي لمناسككم صادفت مذبحاً مكتوباً عليه لـ"لإله المجهول". فهذا الذي تعبدونه وأنتم تجهلونه أنا أبشركم به. إن هذا الإله الذي صنع العالم وجميع ما فيه لكونه رب السماء والأرض، لا يحل في هياكل مصنوعة بالأيدي ولا تخدمه يد البشر كأنه محتاج إلى شيء، إذ هو يعطي للجميع حياة ونفساً وكل شيء..."[xlviii]. وبعد ذلك خرج من أثينا وجاء إلى كورنثوس. ومن هناك كتب رسالته الأولى (وربما الثانية) إلى أهل تسالونيكي. وفي كورنثوس، حيث كان الحاكم الروماني لوسيوس جيلون، لبث بولس "... سنة وستة أشهر يعلِّم كلمة الله..."[xlix]. ومنها انطلق بحراً إلى آسيا الصغرى من جديد، فكانت أفسس حيث لبث مدة قصيرة. ومن بعدها، كانت قيصرية (في فلسطين) حيث "... صعد وسلَّم على الكنيسة [ثم] انحدر إلى أنطاكية..."[l].

رحلة بولس الثالثة

وكانت رحلة بولس الثالثة في الأعوام ما بين 52 و 55. وفيها انطلق على نفس طريقه السابق براً نحو أفسس، حيث مكث ما يقارب السنتين. وفيها كتب، على ما يبدو، ثلاث رسائل إلى أهل كورنثوس وأهل غلاطية. وبسبب مشاكل كانت قائمة آنذاك في كورنثوس، اتجه إليها آنذاك، ثم عاد إلى أفسس عن طريق مقدونيا ماراً بترواس، حيث استقر في فيليبي، أو ربما في تسالونيكي. من بعدها، ذهب إلى أليركون حيث كتب رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس التي عاد إليها مجدداً. ومنها كتب، على ما يبدو، رسالته إلى رومية. ثم عاد بعد ذلك إلى مقدونيا حيث احتفل بعيد الفطر في فيليبي.[li] ومنها عاد عن طريق البحر إلى صور فأورشليم.

في كل رحلاته، كما يتضح من أعمال الرسل لتلميذه لوقا، كان يبشر بين اليهود أولاً، ثم بين الهلنستيين ثانياً. وكان يلقى رفضاً من الأولين غالباً، وقبولاً أكثر من الآخرين.

وفي أورشليم اعتُقِل بولس. ونتوقف هنا قليلاً أمام ما تورده هذا الخصوص أعمال الرسل مما يوحي بتعمق الخلافات بينه وبين باقي الرسل الذين لم يهبُّوا لنجدته في مواجهة اليهود الغاضبين، حيث تتكرر مأساة "المخلِّص" واستيفانوس مع رسولنا: "... ولما قدمنا إلى أورشليم، قبلنا الأخوة بفرح. وفي الغد دخل بولس معنا إلى يعقوب وكان الكهنة كلهم حاضرين. فسلَّم عليهم، وطفق يقص عليهم شيئاً فشيئاً ما صنع الله بين الأمم بخدمته. فلما سمعوا مجَّدوا الله وقالوا له: أنت ترى أيها الأخ كم ربوة من اليهود قد آمنوا وهؤلاء كلهم أولوا غيرة على الناموس، وقد بلغهم عنك أنك تعلِّم اليهود الذين بين الأمم أن يرتدُّوا عن موسى، موصياً بأن لا يختنوا بنيهم ولا يَجروا على عوائدهم. فماذا يكون؟ إن الجمهور لابدَّ أن يجتمعوا لأنهم سمعوا بقدومك. فافعل ما نقوله لك... فيعرف الجميع أنك أنت أيضاً تسلك محافظاً على الناموس. فأما الذين آمنوا من الأمم فقد كتبنا عليهم وحكمنا أن يصونوا أنفسهم مما ذبح للأصنام ومن الدم والمخنوق والزنى...". ولكن هذا لم ينفع، "... فهاجت المدينة كلها وتبادر الشعب إلى بولس فأمسكوه وجرُّوه إلى خارج الهيكل... وفيما هم طالبون أن يقتلوه بلغ الخبر إلى قائد الفرقة.."[lii] وأنقذته في حينه رعويته الرومانية...

في تلك القصة ما يؤكد، مرة أخرى، إضافة لتنكُّر أولئك الحاملين لإنجيل الختان لأخيهم الذي حمل عنهم إنجيل الأمم، أن كنيسة تلك الأيام كانت ما تزال في حينه يهودية قلباً وقالباً، وأن بولس أيضاً كان ما زال كذلك، كما يتضح من كلمته التي ألقاها في حينه بعد أن أنقذه منهم قائد الألف.[liii] ولكن مأساته النابعة من كونه مسارَراً Initiate حقيقياً قد فرضت عليه أن يكون "... حراً من الجميع..."[liv]. ونتابع مع...

رحلة بولس الرابعة والأخيرة

رحلة بولس الرابعة – والأخيرة – إلى روما حيث كان ينوي الذهاب.[lv] وكانت هذه الرحلة "... عبر بحر كيليكية... إلى ميرة في ليكية... [فـ]ـكنيدُس... [ومنها] إلى فينيكس... وهي ميناء لكريت... وعبر العواصف إلى... مالطة... [فـ]ـساراكوسا... [فـ]ـراجيون... [فـ]ـبوطيول... [التي منها] انطلق إلى رومية. وهناك لما سمع الأخوة بخبر[ه] خرجوا للقائه.. [حيث] أُذِن لبولس أن يقيم وحده مع الجندي الذي يحرسه..."[lvi].

من سجنه في روما كتب بولس رسائله إلى كولسي وإلى اللاذقية (التي لم تصلنا)[lvii] ورسالته إلى فيليمون. وفي روما، حيث يبدو أنه أضحى طليقاً، "... أقام بولس سنتين كاملتين في بيت استأجره وكان يقبل جميع الذين يقصدونه ويبشر بملكوت الله ويعلِّم ما يختص بالرب يسوع بكلِّ جرأة ولا يمنعه أحد..."[lviii]. ثم أُعدِم بعد ذلك...

9

في محاولة لتلمُّس فكر بولس من خلال أعماله...

رسالة القديس بولس إلى أهل غلاطية

أعود لما كتبه حول فلسفة بولس الأستاذ ندره اليازجي، يقول: "... يُعَدُّ الدخول إلى فلسفة بولس أمراً صعباً. فقد كان منظِّر الفكر المسيحي وفيلسوف العقيدة وحامي الإيمان. إن ما يميز بولس عن غيره من رسل المسيح أنه كان ضليعاً في اليهودية ومتعمقاً في المسيحية. ففي يهوديَّته كان فريسياً، تحت الناموس، وفي مسيحيَّته، كان مؤتمَناً على إنجيل الأمم. لذلك جمع بولس بين فهم عميق للناموس والحرف وبين إدراك عظيم للنعمة والروح. ولم يستطع غيره من الرسل أن يقوم بدوره لأنه كان مثقفاً بثقافة يهودية ويونانية وأممية...". هنا تحديداً كانت ميزة بولس... وهنا تحديداً كانت أيضاً مأساته...

ففي أمميَّته كان بولس إسرائيلياً، ولكن "... من بنيامين..."، ورسالته، بالاتفاق مع بعض إخوانه، كانت ردة فعل مبررة لذلك التيار السرَّاني من دين كان آنذاك في حضيضه – تيار يتطلع إلى إيصال رسالته إلى قلب من يفترض أنهم "أعداؤه". ومأساته كانت أن لليهودية (كما لكل دين) عوامها الذين هم أول من لا يفقه عمقها الباطني؛ وهم، بالتالي، أول من يحارب أي تأويل، مهما كان صحيحاً، لحرفية نصوصها (افهم هنا: الشريعة أو الناموس). وهنا تحديداً كان صدام بولس مع بني دينه، وكان الفارق بينه وبين إخوته من تلامذة المسيح. وقد عبَّر عن هذا بمنتهى البلاغة حين قال: "... لقد كنت حراً من الجميع عبدت نفسي للجميع لأربح الأكثرين. فصرت لليهود كيهودي لأربح اليهود. وللذين تحت الناموس كأني تحت الناموس مع أني لست تحت الناموس لأربح الذين هم تحت الناموس. وللذين بلا ناموس كأني بلا ناموس مع أني لست بلا ناموس الله بل أنا تحت ناموس المسيح لأربح الذين بلا ناموس..."[lix].

وحول ناموس اليهودية الذي فرضه موسى على أولئك البدو في سيناء، وعلاقته، من خلال رسالة المخلِّص، بباقي الأمم، يدور تبشير بولس ورسل المسيحية الأوائل؛ ولكن مع هذا الفارق الذي يجعل بولس الأكبر بينهم لمجرَّد أنه كان الأشجع والأعمق والأكثر إنسانية والأقرب، بالتالي، إلى روح الرسالة. يقول: "... فإن كنت يا هذا تُدعى يهودياً وتعتمد على الناموس وتفتخر بالله وتعرف مشيئته وتميز ما هو الأفضل إذ قد تلمذك الناموس وتثق بأنك قائد العميان ونور الذين في الظلام ومؤدب الجُهَّال ومعلِّم الأطفال كأن لك في الناموس صورة العلم والحق فأنت الذي تعلِّم غيرك ألا تعلِّم نفسك؟ الذي تكرر أن لا تسرق أتسرق؟ الذي تأمر أن لا تزني أتزني؟ الذي تمقت الأوثان أتنتهك ما هو مقدس؟ الذي تفتخر بالناموس أتهين الله بتعدي الناموس؟ فإن اسم الله يجدَّف عليه بين الأمم بسببكم كما كُتِب. إن الختان ينفع إن عملت بالناموس، ولكن إن كنت متعدياً للناموس فقد صار ختانك قلفاً. فإن كان الأقلف يحفظ حقوق الناموس أفلا يُعَدُّ قلفه ختاناً. ويكون القلف الذي بالطبيعة وهو يتمِّم الناموس يدينك أنت الذي بالحرف والختان تتعدى الناموس لأنه ليس اليهودي هو من كان في الظاهر ولا الختان من كان ظاهراً في اللحم. بل إنما اليهودي هو من كان في الباطن والختان هو ختان القلب بالروح لا بالحرف ومدحه ليس بين الناس بل من الله..."[lx].

اليهودية، في أعماقها القبالية، هي أول من يعلِّم أن لا فرق بين شعبها وبين باقي الأمم سوى ذلك الذي جعلها في لحظة من الزمن مؤتمَنة على جانب من المعرفة السرَّانية للأسبقين؛ وأن ما انتقل إليها في حينه سيتجاوزها، حين تحين الساعة لذلك، إلى الآخرين؛ وأن ناموسها، الذي هو شريعتها والذي فرضه عليها في حينه داعيتُها الأكبر، إنما كان يتناسب مع مستوى إدراكها. لذلك كان جلُّ تعليم بولس في أحاديثه مع اليهود، الذين كان يبغي كمؤتمن على إنجيل الأمم إفهامهم إيَّاه، يركز على الناموس وعلاقته بالأمم. فكان "... بحسب النعمة التي [أوتيها بنَّاء حكيم] وضع الأساس..."[lxi].

نعم، ليست قراءة بولس وفهمه بالأمر السهل؛ وحول تفسير فلسفته تختلف التقويمات. فأغلبها ينطلق من ذلك الظاهر الذي يحاول اليوم إن كان "محافظاً" التمسك بالحرف، وإن كان "تقدمياً" الاكتفاء بعقلنة ما يلمسه من تلك التمزُّقات الداخلية المترافقة مع ولادة ديانة تاريخية قبل 2000 سنة. وفهمه لا يمكن أن يتم استناداً إلى الظاهر المعلَن فقط. فالباطن (أو الرمز) عنده هو الأساس؛ وكلُّ ذلك ضمن الأجواء الملتهبة لتلك الأيام: أجواء صراعات اليهودية وتفاعلاتها مع العالم الروماني؛ وأجواء ما يتفاعل معها في العمق من تيارات غنوصية ورواقية.

كانت لتعاليمه أبعاد سرَّانية جزماً. ولكن لم يكن يبشر فقط بين المسارَرين، يهوداً كانوا أم أمماً. إنما أيضاً، وخاصة، كان يبشِّر بين عوام أولئك اليهود وعوام تلك الأمم؛ وبلغتها بغية الوصول إلى قلبها وإلى عقلها؛ بُعد ولغة مباشران يتعلقان باحتياجات ذلك الزمان وأناسه.

عن هؤلاء، عن المعذبين في الأرض، كان أجمل ما كتب يقول: "... انظروا دعوتكم أيها الأخوة أنه ليس كثيرون حكماء بحسب الجسد [يقصد المادة] ولا كثيرون أقوياء ولا كثيرون شرفاء. بل اختار الله الجاهل من العالم ليخزي الحكماء واختار الله الضعيف من العالم ليخزي القوي واختار الله الخسيس من العالم والحقير وغير الموجود ليعدم الموجود لكي لا يفتخر ذو جسد أمامه..."[lxii]. أي عمق هو عمق رسولنا!

وهذا العمق يشكل المضمون الحقيقي لما وصلنا من رسائل بولس وأقواله. فها هو ذا يتحدث عن "... برقع... لكي لا يتفرَّس بنو إسرائيل في غاية ما يبطل. حيث أعميت بصائرهم لأن ذلك البرقع نفسه باقٍ إلى يومنا هذا غير مكشوف عند قراءة العهد العتيق إذ هو بالمسيح يبطل. حتى إنه اليوم، إذا قُرِئ موسى فالبرقع موضوع على قلوبهم وحين يرجعون إلى الرب يُرفَع البرقع. إن الرب هو الروح وحيث يكون روح الرب فهناك الحرية..."[lxiii]. والبرقع، على ما يبدو، هو الشريعة؛ أما تحقق المسيح فهو ظهور الحقيقة.

هذه الحقيقة التي تشكل الدعوةُ لها أساسَ وسرَّ الدعوة البولسية التي أصبحت مسيحية. هذا "... السرُّ المكتوم منذ الدهور والأجيال وقد أعلن الآن لقديسيه الذين أراد الله أن يعلمهم ما غنى مجد هذا السرِّ في الأمم الذي هو المسيح..."[lxiv] والذي ينبغي، لفهمه، السعي، ربما، لتفهم جديد لغاية الله في خلقه، إن لم نقل السعي لإنسانية جديدة. فـ"... الروح عينه يشهد لأرواحنا بأنَّا أبناء الله. وحيث نحن أبناء فنحن ورثة الله ووارثون مع المسيح إن كنَّا نتألم لكي نتمجد معه..."[lxv]. فالبشر، إن لم نقل "أبناء الله"، أصبحوا، من خلال تجسد "ابن الإنسان" إلهاً، مؤهَّلين لتقبُّل سرِّ المسيح "... الذي لم يعلم عند بني البشر كما أعلن الآن بالروح لرسله القدِّيسين وأنبيائه. وهو أن الأمم هم من أهل الميراث وأعضاء الجسد وشركاء في الموعد في المسيح يسوع بالإنجيل الذي جعلت أنا خادمه حسب موهبة نعمة الله المعطاة لي بعمل قوته. لي أنا أصغر القديسين جميعاً أعطيت هذه النعمة أن أبشر في الأمم بغنى المسيح الذي لا يُستقصى وأوضح للجميع ما تدبير السر الذي كان منذ الدهور مكتوماً في الله خالق الجميع..."[lxvi]. ولأن غاية الخليقة التي تحققت في المسيح هي إمكانية تحقيق الإنسان الجديد لألوهته يقول بولس: "... اخلعوا الإنسان العتيق مع أعماله والبسوا الإنسان الجديد الذي يتجدد للمعرفة على صورة خالقه حيث ليس يوناني ولا يهودي ولا ختان ولا قلف ولا أعجمي ولا إسكوتي ولا عبد ولا حر بل المسيح هو كلُّ شيء وهو للجميع..."[lxvii]. وتحقيق تلك القيامة لا يكون إلا بالموت عن حياة قديمة و"القيامة" بحياة جديدة...

ونلاحظ أن بولس، في كل ما كان يدعو إليه، نادراً ما كان يتحدث عن مسيح مادي؛ إنما، في المحصلة، عن ذلك الفهم الذي يعبِّر عن تماهي الإنسان مع مبدأ الألوهة الكامن في نفسه. فالغاية هي "... أن يحل المسيح بالإيمان في القلوب... لكي تمتلئ إلى كل ملء الله..."[lxviii].

وتماهي الإنسان بالألوهة يستوجب الترفع عن الجسد (المادة): "... فالذين هم بحسب الجسد يفطنون لما هو للجسد والذين هم بحسب الروح يفطنون لما هو للروح. لأن فطنة الجسد موت وفطنة الروح حياة وسلام..."[lxix]، لأن ".. اللحم والدم لا يستطيعان أن يرثا ملكوت الله والفساد لا يرث ما ليس بفساد... إنَّا سنقوم كلنا ولكن لا نتغير كلنا... لأنه لابدَّ لهذا الفاسد أن يلبس عدم الفساد ولهذا المائت أن يلبس عدم الموت. ومتى لبس هذا الفاسد عدم الفساد ولبس هذا المائت عدم الموت فحينئذ يتم القول أن قد ابتلع الموت في الغلبة..."[lxx].

ونكتفي بهذا القدر لأنه، وقد شارفنا...

10

خاتمة قصتنا...

نجد أنفسنا وكأننا عدنا من جديد إلى المأساة الأرضية لرسولنا ولكلِّ الرسل... علاقة الرسول بعامية أبناء ديانته الأم وعدم التمكُّن (عموماً) من اختراق ذلك "... البرقع الموضوع على قلوبهم..."، تلك الشريعة التي منعتهم من قبول مضمون رسالته التي أضحت ديناً أممياً جديداًً. وأيضاً...

تلك اللاحقة المتعلقة بعلاقة ذلك الدين الجديد بعوامه وتحوُّله، بدوره، من خلال الطقوس والممارسات، إلى شريعة جديدة؛ شريعة كان الهدف منها، كما كانت الحال دائماً، حماية الحقيقة التي عادت من جديد لتحتجب في الأعماق.

هذا ما ينقلنا إلى موضوع قصة أخرى تكمل الأولى ولا تنتهي. قصة تكمل قصة بولس الذي وصل كإنسان إلى مبتغاه، وحقق، من خلال غرس رسالته في قلب روما، توقه اللامتناهي لتحقيق ألوهته التي هي التجسيد المستمر لمأساة إنسان هذا "العصر الحديدي" وسعيه، عن طريق المعرفة والخطيئة والألم، إلى اللانهاية. ولكن ما بقي ما زال كلَّ شيء، حيث...

ما زالت روما، بوصفها تجسيداً لمظاهر تلك الأبهة المادية المزيِّفة لكل ما هو إنساني، مادية في النهاية؛ وما زال البشر في عالمنا، إلى أن تتحقق الغاية من وجودهم، أسرى تلك المادة التي يسعون للتحرر منها...

*** *** ***

 

المراجع

-        الكتاب المقدس: العهد القديم والعهد الجديد.

-        ندره اليازجي، رد على اليهودية واليهودية المسيحية.

-        ندره اليازجي، رد على التوراة.

-        الأب اسطفان شاربانتييه، دليل قراءة الكتاب المقدس.

-         Gerald Méssadié, L’homme qui devint Dieu (tomes 1, 2 et 3).

-         M. R. James, The Apocryphal New Testament, Oxford.

-         Claude Tresmontant, Saint Paul et le Mystère du Christ, M.S.

-         M. J. Mathers, The Cabbalah Unveiled, Weiser.

-         E. M. Laperroussez, Les Esséniens selon leurs témoignages directs.

-         Atlas du Monde Biblique, Larousse/Times.

-         Pierre Greppons, Les Évangiles Apocryphes, Retz.

-         Le Lotus Bleu, Nos 4, 5 et 7, 1991.


[i] 2 كورنثوس 11: 22.

 [ii]فيليبي 3: 5.

[iii] أعمال 22: 2-5.

[iv] أعمال 21: 39.

[v] أعمال 22: 27-28.

[vi] مجلة Lotus Bleu العدد 4 للعام 1991.

[vii] رومية 16: 11.

[viii] تثنية الاشتراع، 23: 12.

[ix] يشوع 18: 26.

[x] القضاة 21: 1.

[xi] القضاة 21: 15.

[xii] ملوك 1، 9: 21.

[xiii] أعمال 8: 3.

[xiv] أعمال 9: 1.

[xv] إنجيل متى 2: 1.

[xvi] هناك كتب عبرانية تتحدث عن شخص يدعى يشوع، ولد في اللد قبل مئة عام من التاريخ المعتمد، من أب يدعى بانديرا، وعاش خلال حكم الملك اليهودي اسكندر ياني وزوجه صالومه (Lotus Bleu العدد 5، 1991).

[xvii] يوحنا 19: 18-19.

[xviii] أعمال 8: 3.

[xix] أعمال 9: 1.

[xx] أعمال 7: 57.

[xxi] أعمال 7: 59.

[xxii] أعمال 7: 60.

[xxiii] تثنية 23: 12.

[xxiv] 1 كورنثوس 2: 7-8.

[xxv] أعمال 22: 6-8.

[xxvi] 2 كورنثوس 12: 2-4.

[xxvii] أعمال 22: 10.

[xxviii] غلاطية 1: 17.

[xxix] أعمال 22: 10.

[xxx] 2 كورنثوس 12: 2-4.

[xxxi] راجع ما كتبتُ بهذا الخصوص في الإصدار الثالث من معابر.

[xxxii] كانت الفلسفة الرواقية تدعو إلى المحبة الإنسانية الشاملة و(ربما من خلال أسطورة هرقل) إلى ألوهة لهذه المحبة.

[xxxiii] أعمال 12: 12.

[xxxiv] أعمال 15: 1.

[xxxv] أعمال 15: 14-20.

[xxxvi] أعمال 15: 22-26.

[xxxvii] غلاطية 2: 7-8.

[xxxviii] غلاطية 1: 18-21.

[xxxix] أعمال الرسل 4: 36.

[xl] أعمال 7: 12.

[xli] أعمال 13: 14-49.

[xlii] أعمال 14: 27.

[xliii] أعمال 15: 13-40.

[xliv] أعمال 16: 12.

[xlv] أعمال 16: 13-40.

[xlvi] أعمال 17: 1-4.

[xlvii] أعمال 17: 16-18.

[xlviii] أعمال 17: 22-25.

[xlix] أعمال 18: 11.

[l] أعمال 18: 22.

[li] أعمال 20: 6.

[lii] أعمال 21: 17-31.

[liii] أعمال 22: 1–21.

[liv] 1 كورنثوس 9: 19.

[lv] أعمال 27: 1-28.

[lvi] أعمال 27: 5–28.

[lvii] كولوسي 4: 16.

[lviii] أعمال 28: 30-31.

[lix] 1 كورنثوس 9: 19–21.

[lx] رومية 2: 17-29.

[lxi] 1 كورنثوس 3: 10.

[lxii] 1 كورنثوس 1: 26-29.

[lxiii] 2 كورنثوس 3: 13–18.

[lxiv] كولوسي 1: 26-27.

[lxv] رومية 8: 16-17.

[lxvi] أفسس 3: 5-9.

[lxvii] كولوسي 3: 9-11.

[lxviii] أفسس 3: 17–19.

[lxix] رومية 8: 5-6.

[lxx] 1 كورنثوس 15: 50-54.

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود