|
كارل
بوبِّر
مدخل
إلى العقلانية النقدية
أسامة
عرابي
صدر
عن المؤتمر الدائم للحوار اللبناني كتاب كارل
بوبِّر، مدخل إلى العقلانية النقدية
لأسامة عرابي ضمن سلسلة "قضايا معاصرة
وشخصيات". يشغل كارل بوبِّر موقعاً مميزاً
في الثقافة المعاصرة، ويُعدُّ بحق واحداً من
أساطين العقلانية المنفتحة الذين لم يتخلوا
عن ثقتهم بالعقل، ولم يتوانوا عن نبذ العنف
والاستبداد، وعن التشديد على ضرورة سيادة
الحوار العقلاني في حل الإشكالات العالقة،
على الرغم من الأزمات التي عصفت بالتفكير
العلمي وبالقيم الثقافية والأخلاقية. جاء في
مقدمة الكتاب كلمة للمؤلف نقتطف منها: شكَّلت
الفوضى الفكرية في الفيزياء الجديدة في الربع
الأول من القرن العشرين، وإرهاصاتها
الفلسفية الوضعية، الخلفية التي نشأت فيها
فلسفة كارل بوبِّر في الثلاثينيات. ويمكن
القول إن فلسفة العلوم المعاصرة متصلة اتصالاً
مباشراً بالتغييرات الأفهومية
الجذرية التي أدخلتها نظرية أينشتاين في
النسبية، الخاصة والعامة، وميكانيكا
القسيمات الكوانتية. وكان لهذه الثورات في
التصور الفيزيائي للكون أثر على العلماء
أنفسهم، فتحوَّلوا، من دون التخلِّي عن
ممارساتهم العلمية، إلى فلاسفة ومنظِّري
معرفة، علَّهم يمسكون بالأمواج العاتية التي
بدأت تحيط بعلمهم منذ أواخر القرن الماضي. إن
بولتزمان، واضع مبادئ الترموديناميكا thermodynamics،
وهيرتز، صاحب نظرية ذبذبات الراديو،
وأينشتاين نفسه، وغيرهم من كبار فيزيائيي تلك
الحقبة، أحسوا بأن الدور المتزايد للرياضيات
النظرية في تشكيل الفرضيات والقوانين
العلمية يطرح بإلحاح مسألة العلاقة بين
المفاهيم المجردة – وهي مادة الفكر العلمي –
والظاهرات الطبيعية المحيطة بالإنسان.
وبطبيعة الحال، لم يتأخر الفلاسفة عن اللحاق
بالركب الإشكالي، وبادروا إلى وضع تصورات
وحلول لتلك المشكلة، آخذين في الاعتبار الوضع
الجديد الناشئ عن الدور الأساسي للتجريد
الرياضي في الفهم العلمي للطبيعة. فكان
الاتجاه الوضعي، أو ما يُعرَف بالوضعية positivism
في نظرية المعرفة، خليطاً هجيناً من العلم
والفلسفة. بيد أن من العلماء والفلاسفة مَن
رأوا أن الاعتقاد الساذج بوجود علاقة مباشرة
بين النظريات العلمية والواقع الطبيعي لا
يمكن القبول به من دون مراجعة جدِّية. فهذا
بولتزمان، مثلاً، يرفض وجود الذرات في
الطبيعة لأنه لا دليل حسي مباشر على وجودها.
وقد أطلق عليها اسم الكائنات النظرية virtual
creatures، أي كائنات من بنات
أفكار العلماء، لابُدَّ منها لتفسير نتائج
الاختبارات العينية، دون أن يعني ذلك أنها
موجودة فعلاً في المادة. إن الذرات
والبروتونات والإلكترونات والموجات
الكهرمغناطيسية تتصف بسمة مشتركة: إنها نتاج
التفكير الفيزيائي الرياضي في محاولة لإضفاء
المعقولية على جانب من الظاهرات الطبيعية لا
يمكن للإنسان أن يتفحَّصه مباشرةً، لا عبر
حواسه، ولا بواسطة المجاهر الأكثر تطوراً؛
لذلك تُعرَف بالكائنات النظرية. وقد تكون
مقارنتها بالخلايا التي لا تُرى بالعين
المجردة محاولة لتخطي المشكلة: فكما أنه كان
يصعب الاعتقاد بوجود خلايا البكتريا وغيرها
من الطفيليات قبل ظهور المجاهر الحديثة، دون
أن يقلل ذلك من واقعيَّتها، كذلك فإن عدم
إمكان رؤية القسيمات particles
وحقول الجاذبية يجب ألا يكون عامل تساؤل حول
وجودها. الفرق بين الخلايا والقسيمات هو أنه
قد وُجِدَت تقنيات مكَّنت من تفحُّص الأولى
مباشرةً بالعين، بينما لا تسمح حدود التكبير
الحالية بأي تثبُّت من هذا القبيل من وجود
الذرات والقسيمات الأولية. وفيما يخصُّ حقول
الجاذبية فهي أكثر تجريداً من القسيمات،
كونها انحناءات غير مرئية للمتَّصل الزماني–المكاني،
بحسب نسبية أينشتاين العامة. ثمة،
إذن، أسباب عميقة دفعت الاتجاه الوضعي إلى
إعادة النظر في العلاقة بين النظرية والواقع
في الفيزياء الحديثة، نذكر منها: 1.
الانقلاب
على فكرة الجاذبية كقوة مستقلة عن المكان،
حسب معادلة نيوتن التي حكمت تصور الفيزيائيين
لقرن ونيف من الزمن: قوة التجاذب بين جسمين =
حاصل جداء كتلتي الجسمين وثابت التجاذب
الكوني مقسوماً على مربع المسافة بين الجسمين. 2.
ظهور
أفهوم الكوانتوم quantum،
وهو كمية من الطاقة لا يمكن قسمتها، على عكس
التصور الكلاسي بإمكان الانقسام المطَّرد
لأي فعل فيزيائي. كانت
فكرة الجاذبية كقوة جذب بين الأجسام قريبة من
الإدراك العادي، الأمر الذي سهَّل تصورها
كقوة فاعلة في الطبيعة على غرار قوة الدفع
المسبِّبة لحركة جسم ما. لكن ما إن أطلَّ
القرن العشرون حتى ظهر مفهوم جديد للجاذبية
قائم على اختبارات هندسية ورياضية معقدة أصبح
معها الكون رباعي الأبعاد، والجاذبية
انحناءات مجردة في المكان الرباعي الأبعاد. تتساءل
الوضعية: ما هي الجاذبية؟ أهي قوة التجاذب،
بحسب معادلة نيوتن، أم هي انحناء مجرَّد في
المعادلة، بحسب أينشتاين؟ إن تغيير المعادلة
الرياضية تعبير عن تغير في التصور الفيزيائي
لظاهرة التجاذب. فهل تتَّجه الفيزياء إلى عمق
الظاهرة مع هذا الانقلاب الأفهومي، أم أنه
مجرد استبدال بفرضية فرضية أخرى أكثر تلاؤماً
مع نتائج الاختبارات، كما هي الحال مع نظرية
أينشتاين؟ لقد
أصبح الكون أكثر تعقيداً وأكثر استعصاء على
الإدراك العادي، إلى حد بدأ معه العلماء
والفلاسفة يتساءلون عن معنى معادلاتهم
المجردة، وعمَّا إذا كانت بالفعل سبيلاً إلى
فقه أعماق الطبيعة، أم أنها مجرد نظم أفهومية
رياضية يستخدمها العقل لترتيب الظاهرات
الحسية والسيطرة عليها. إن هذا التردُّد ظاهر
حتى في فكر أينشتاين نفسه الذي عرفت فلسفتُه
تحولاً من الاتجاه الوضعي في بداياته إلى
نظرة أقرب إلى الواقعية realism
لاحقاً. وفي التغييرات الجذرية التي عرفتها
الفيزياء ما يزعزع الثقة بأيِّ تصور بسيط
للعلاقة بين الفهم الفيزيائي من جهة ومعطيات
الحواس من جهة أخرى. وإذا كانت الوضعية قد
وضعت ثقلها لصالح الظاهرات المحسوسة،
مشكِّكة بالكائنات النظرية للعلم المعاصر،
فإن الواقعية تنحو نحواً معاكساً، واضعةً
ثقتها في الفهم الفيزيائي الرياضي للظاهرات
بكل تجريده وتعقيداته. ومما زاد الطين بلَّة
ظهور أفهوم الكوانتوم لدى بلانك وعلاقات
اللاتعيُّن indeterminism
في فيزياء الكوانتا، حيث تعطي المعادلات
الرياضية نتائج مغايرة ومختلفة تماماً عن
توقعات الفيزياء الكلاسية. من
وجهة نظر هذه الأخيرة يتمتع أي جسم متحرك
بسمتين متلازمتين: موقع في المكان وكمية حركة
(حاصل جداء الكتلة بالسرعة). ويمكن تحديد
هاتين السمتين في أية لحظة من مسار الجسم، حيث
يقال إن الجسم موجود في هذه اللحظة في المكان س
ويتمتع بكمية حركة ج. أما في حركة
الإلكترونات فقد توصَّل هايزنبرغ في
العشرينيات إلى المعادلة التالية: حاصل ضرب
اللاتعيُّن في الحركة هو أكبر من أو مساوٍ
لثابت! هذه
النتائج التي تضرب عرض الحائط بكل المفاهيم
الفيزيائية التقليدية في علاقة المكان
بالحركة، حَدَتْ بالوضعيين إلى التوغُّل
أكثر في نقدهم لواقعية النظريات الفيزيائية،
رافضين إعطاءها أي مضمون يتخطَّى دور التنظيم
والتأطير المنطقي لنتائج التجارب العينية. وكان
رد فعل أينشتاين في منحاه الواقعي هو أن نظرية
الكوانتا برمَّتها غير مكتملة؛ ودأب على
البحث عن بديل يجمع بين الفيزياء الكلاسية
والكوانتية لتجنب تلك الفجوة الأفهومية
الهائلة بين ما يجري على مستوى حركة الأجسام
العادية وما يجري على مستوى حركة القسيمات ما
دون الذرية. أقول:
شكَّلت الفوضى الفكرية في الفيزياء في الربع
الأول من هذا القرن، وإرهاصاتها الفلسفية
الوضعية، الخلفية التي نشأت فيها فلسفة كارل
بوبِّر في الثلاثينيات. وإذا كان مِن خيط رابط
بين مراحل فلسفته المختلفة فهو التحضير
لإعادة الثقة بالفهم الفيزيائي الرياضي،
مهما بلغ من التعقيد والغرابة. إن إعادة
الاعتبار للواقعية العلمية كانت مهمة بوبِّر
الرئيسية في نظرية المعرفة وشغله الفلسفي
الشاغل. وكان
لابُدَّ من معرفة العدُّو الوضعي معرفة تامة،
من الداخل. حيث انكبَّ فيلسوف العلوم النمسوي
على المسلَّمات الأساسية للوضعية: -
افتراضها أن النظريات
العلمية تقبل الصدق أو الإثبات المطلق. -
إعلاؤها
شأن المعطيات الحسية على حساب الأفاهيم
النظرية. -
اعتقادها
بوجود لغة خالصة للحواس. -
تقديمها
الاستقراء على الاستنباط. -
إقصاؤها
الميتافيزيقا عن مجال المعنى. لقد
أدرك بوبِّر أن الوضعيين بنوا نقدهم للواقعية
العلمية على مفهوم ضيِّق للحقيقة، حقيقة
الأجسام والحركات والألوان والأصوات المحيطة
والمدركة إدراكاً مباشراً بواسطة الحواس. إلا
أنه لم يعمد إلى مواجهة ذلك التصور بتصور
مقابل للحقيقة يجعلها قائمة في النظريات
الفيزيائية المجردة، بل ذهب إلى القول بعدم
قبول إضفاء الحقيقة على أي معرفة سواء كانت
حسية أم نظرية، قائلاً إن كل المعارف البشرية
في الظاهرات تقبل الدحض refutation
لكنها لا تقبل البرهان؛ وإن نمو المعرفة
العلمية ليس عملية تراكم متواصل للحقائق بقدر
ما هو إزالة مضطَّردة للأخطاء. إن عدم إضفاء
الصدق على أي من المعلومات كان الوسيلة التي
اعتمدها بوبِّر لإلقاء الشك حول صدقيَّة
المعلومات الأكثر شفافية لدى الوضعيين. وهو
يسخِّر المنطق الصوري لهذه الغاية، مثلما
يسخِّر التطورية الداروينية للهدف ذاته،
الذي هو النيل من صفة الإطلاق في صحة الأوصاف
الناتجة من الملاحظات العيانية والحسية.
وهكذا يُمِدُّ بوبِّر الواقعية بعناصر القوة، لكنه لا يفعل ذلك بطريقة فجَّة
مباشرة، عبر افتراض علاقة التطابق بين الفكر
العلمي والواقع الطبيعي، بل يتَّخذ أسلوب
المواربة، وربما الأسلوب الأكثر غنى من
الناحية الفلسفية. وتقديرنا أنه شخَّص مكمن
الداء في الرغبة الوضعية في اليقين والبرهان
الإثباتي لكل ما نعلم عن محيطنا الطبيعي؛ وهي
رغبة تعود إلى ديكارت وإلى الوعي العفوي
للعلماء أنفسهم. ومعظم
محاجَّاته، من رفضه للإثباتية إلى نقده
للنفسانية، تهدف إلى ضعضعة مفهوم اليقين في
المعرفة واستبدال به مفهوم الشك النقدي، وكأن
لسان حاله يقول: لقد تخلَّى الوضعيون عن
التفسير الواقعي للفرضيات الفيزيائية لأنهم
كانوا يسعون أصلاً إلى البرهان اليقيني
لمعتقداتهم؛ فإذا بالتغييرات الأفهومية
المتلاحقة تزعزع ثقتهم بقبول النظريات
المجردة من النسبية والكوانتية لهذا
البرهان، فيتراجعون إلى الملاحظات
والمعلومات العينية، جاعلين منها الملجأ
الوحيد لليقين والإثبات. أما بوبِّر فيضع
جميع أنواع المعارف في سلَّة واحدة، رافضاً
فكرة قبولها للبرهان الإثباتي. *** *** ***
|
|
|