|
الشعر والوجود
بعل
أم طاغية أم فيلسوف شعري؟
عبد
الكريم درويش
أثار
أدونيس، عبر كتاباته الشعرية والنقدية،
سجالات نقدية كثيرة تراوحت بين السخط والرضى.
فالشاعر لم يركن يوماً إلى الهدوء، بل كان –
ولا يزال – دائم البحث في خبايا اللغة
ومفارقات الحياة وكنوز التراث عن الجديد
والمدهش، ترهقه دوماً أسئلة الحياة. من
بين الساخطين على أدونيس كان الناقد عبد الله
الغذامي، الذي تتَّبع في كتابه النقد
الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية شَعْرَنَة
الذات العربية وصناعة ما يمكن تسميته بـ"الشخصية
الشعرية" التي هي النسق المهيمن في الثقافة
العربية. تناول الغذامي في كتابه رموزاً
ثقافية لا يطاول خطابها الجمالي ولا حضورها
الشديد الوطأة في الثقافة العربية أيُّ شك.
وليس الخطاب الحداثي الأدونيسي بمنأى عن هذا
النسق. وهو، فيما يقوم بادِّعاء حداثة شعرية،
كان يكرِّس نمطاً رجعياً لا يرى الحداثة إلا
في الشعر. بل إن أدونيس يبلغ إيمانه بالشعر
حداً يراه كقيمة مطلقة؛ حيث يمكن لنا أن
نتغنَّى بكوننا أمة شاعرة أو بوصف أدونيس
الشعر بكونه "الموت العظيم الذي يلازمنا
خليةً خلية". ويرى الغذامي: "إن أدونيس،
منذ اتَّخذ لذاته موقع الأب الحداثي ذي البعد
الأسطوري، وهو في حدود تصنيم الذات وتتويجها
بصورة البعل الذي ترد صورته في نقوش الأوابد
التاريخية على هيئة الفحل الكامل ذي الجسد
الضخم، والشاعر الذي يتعالى على الشعر، الذي
هو الأعمق والأكمل، والذي شعره هو اللهب، أو
ما هو أبعد من اللهب، فإنه يشرع في إحلال نفسه
محلَّ كلِّ ما عداه وفوق الجميع. فهو الخلاصة
الكونية، وهو الحق والمطلق." (!!!) لكن
أدونيس – بخصوصيَّته وفرادته – جلب انتباه
النقَّاد الراضين عن شعره أيضاً؛ فراح هؤلاء
يبحثون عن جوانب مختلفة لمغامرات الشعرية
اللاعادية. ومنهم عادل ضاهر الذي يذهب في
كتابه*
بأن اهتمامه بشعر أدونيس يعود إلى عام 1961، حين
أصدر الأخير ديوانه أغاني مهيار الدمشقي.
وانتظر الباحث كل هذه العقود إلى أن أصدر
أدونيس الكتاب، أمس المكان الآن الذي
يقدم، برأيه، المعادل الشعري لنقد فلسفي جذري
للثقافة السائدة في عالمنا العربي، مما يجعل
الديوان رديفاً شعرياً للنقد الذي "كنت وما
زلت أقوم به للإيديولوجيا الإسلامية"، على
حد تعبير ضاهر. ويبدو
أن الديوان المذكور استطاع أن يؤجِّج الجمر
الذي كان متوقداً تحت الرماد، ليقود الباحث
إلى تقصِّي تجربة أدونيس الشعرية برمَّتها،
وخصوصاً ما يتعلق منها بالرؤية الفلسفية،
لأنه يعتقد أن أدونيس ابتداءً من أوراق
الخريف (1958) وانتهاءً بـالكتاب، أمس
المكان الآن (1998)، غنيٌّ بالإيحاءات
الفلسفية إلى حدِّ أن الفلسفة تخترق هذه
الأعمال بأكملها في صورة حضٍّ للقارئ على طرح
الأسئلة العميقة والصعبة حول القضايا التي
تقلقه بعمق كإنسان، وفي صورة استنفار لحسِّ
النقد عنده بمعناه الفلسفي الجذري. كما يذهب
الباحث إلى أننا قد نجد أحياناً، حتى في مقطع
شعري قصير، ما يثير من الأسئلة الفلسفية ما
تعجز عن إثارته صفحات من الكتابة المنهجية
الفلسفية العقلانية. على
الرغم من ذلك، فإن الباحث يعترف بأن قراءة
الشعر قراءة فلسفية ليست بالأمر السهل، لا
سيما في ضوء الآراء المتباينة. فبعضها يقول
بخلوِّ الشعر أساساً من أية معرفة – فهو محض
خيال؛ وأخرى تقول بالعكس. ومع ذلك فإن الباحث
يجد المفتاح لمثل هذه القراءة، أو لبعض
جوانبها على الأقل، في الكشف عن الشعرية
الفلسفية لأدونيس. وهذا ما فعله في الفصل
الأول المعنون بـ"مدخل إلى عالم أدونيس"،
حيث يتناول ثلاثة عوامل يعتقد بأنها أدَّت
دوراً مهماً في تكوين شخصية أدونيس: أولها
انتماؤه إلى الحركة القومية الاجتماعية في سنٍّ مبكِّرة الذي استمر عشر
سنوات؛ فيصف
الباحث هذه العلاقة بـ"الراسخة"، ليقول
إنها لا بدَّ أن تكون تركت آثاراً عميقة في
نفس وفكر من هو طرف فيها، لا تزول بمجرد
انتهاء هذه العلاقة. كما يولي الباحث اهتماماً
خاصاً بما سمَّاه العلاقة الفكرية
الروحية التي ربطت أدونيس بمنظِّر الحركة
وزعيمها أنطون سعادة في الخمسينيات. والعامل
الثاني هو احتكاكه المبكِّر بالتراث الصوفي
الذي أثَّر فيه تأثيراً عميقاً. ويتجلَّى ذلك
في شعره المشبع بالرموز الصوفية (وهي رموز
ليست مشحونة دينياً، بل مفرغة تماماً من
مدلولها الديني). ويوضح الباحث هذه الإشكالية
التي تنطوي على بعض التناقض. أما العالم
الثالث الذي يراه الباحث مهماً فهو انتقال
أدونيس من دمشق – وهو لم يتجاوز الثالثة
والعشرين – إلى بيروت؛ وهو انتقال لم يقتصر
على البعد "الجغرافي" فحسب، بل كانت له
انعكاسات كثيرة، أثْرَت تجربته الشعرية
وأعطتها أبعاداً كونية لم تعرفها من قبل، من
أهمها البعد الفلسفي. في
فصل لاحق يتناول ضاهر قضية "التذوُّت"،
إذ يسلط الضوء على عودة أدونيس إلى ذاته وما
تعنيه فلسفياً، والأسئلة التي تثيرها حول
المكوِّنات الأنطولوجية للوجود الفردي. ثم
يخوض في قضية الحرية الفردية وعلاقتها
بالمعرفة وبالتماهي الذاتي، ليخلص في هذا
الإطار إلى أن إرادة الكشف كانت تحرك
أدونيس في البداية، وأن ما ينتهي إليه أدونيس
في الأخير هو احتضان إرادة الخلق. من
المسائل التي يثيرها الباحث تلك المتعلقة
بتجاوز الثقافة السائدة. ينصبُّ اهتمامه
لمعالجة هذه المسألة على الجزء الثاني من الكتاب،
أمس المكان الآن لأن ما يميز هذا العمل – في
رأي الباحث – هو أنه يضعنا، من جهة، أمام
السمات البارزة للثقافة السلطوية التي نحيا
في كنفها، كاشفاً عن مدى حَمْلها لتركة
الماضي الرمزية الثقيلة، ويقدِّم لنا، من جهة
ثانية، النظير الشعري لنقد هذه السمات فلسفياً. فأدونيس يثير في هذا الكتاب أسئلة
فلسفية عن المعرفة والحقيقة وعلاقتهما
بالسلطة، وحول طبيعة الكلمات وعلاقتها
بالأشياء، عن اللغة المجازية وما يفسِّر
الفجوة بينها وبين اللغة الحرفية. ثمة
قضايا فلسفية أخرى يعالجها الكتاب، حيث يعقد
ضاهر المقارنات، ويُبرِز التفاصيل، ويورد
الأمثلة، مستشهداً خلال ذلك بآراء فلاسفة
كبار، كهيغل ونيتشه وهايدغر وكيركغور، ويعود
إلى أفلاطون وأرسطو في محاولة منه لإغناء
بحثه المكتظِّ بالمصطلحات الفلسفية،
والمكتوب بلغة أكاديمية؛ خصوصاً أن المؤلف
درَّس الفلسفة في جامعات عدة في الولايات
المتحدة الأميركية. *** *** ***
*
عادل ضاهر، الشعر والوجود: دراسات فلسفية
في شعر أدونيس، دار المدى، دمشق.
|
|
|