|
مطارح
سجود
رؤى
لاهوتية للأزمات المعاصرة
أنطوان
سيف
لا
تروي المناجاة شغفَ النفس بالانعتاق، ولا
تُخمِد توقَها الدائم إلى التسامي على
المألوف الذي تملأ به الحياة سيرورتها
الجماعية اليومية. فالأفق، إذ هو نقطة التقاء
السماء بالأرض، يغدو وجهةً لبوصلة لا تستقيم
معارج النفس من دونها، ويستقطبها لتتحرر،
بفرح المجاهدة والوعد بالبلوغ، من
ترابيَّتها وزمانيَّتها. لم
يشأ المطران جورج خضر أن يجزِّئ مضمون كتبه
إلى فصول تحمل عناوين إلا ليكرر الدعوة، كل
مرة، للمشاركة في الدرب الذي يتماهى مع
الحياة الحقيقية. والدعوة مفتوحة للسفر معاً.
الدعوة في معناها الرَّسولي تصبح سرَّ
الكتابة وكنهَها. ولا يؤبَه فعلاً إن اتخذت
معنى التحفيز، والإغواء، أو حتى التحريض.
فروَّاد الآفاق وعشاق الفرح الأسمى الذي
يتجلَّى بالقيامة قلَّما ينتبهون إلى نبرة
أصواتهم واتِّساع خطاهم. هذه العناوين حلقات
صغرى تؤلف حلقة كبرى يمكن اختصارها بثنائية
لغوية هي: الصليب والفصح، وجميع مرادفاتها;
لكنها وحدانية كيانية وإيمانية لا ينفصم
قطباها ولا عراها. بهذه
الثنائية–الوحدة افتتح كتابه مطارح سجود
بفصل أول عنوانه "صليب الفرح"، مشدداً
على أن "المسيحية ليست دين الصليب بل دين
المجد" (ص 7). فالمسيحيون
لديه هم "فصحيُّون"، "قياميُّون"،
لا يستعذبون الصليب إلا لأن إكليله الفرح.
فالألم المرافق للحياة لا يقدم بصدق حقيقة
الحياة المسيحية! يرسم
المطران خضر حدوداً للتصورات اللاهوتية داخل
الكنيسة نفسها – الكنيسة الرومية والكنيسة
الرومانية – حيث المعتقد لا يمارَس إلا ضمن
أُطُر جمَّدها التكرار وحجَّرها، لا بل
قدَّسها في النفوس! ويتألَّم ألماً شخصياً من
الانقسام بين أتباع المسيح؛ ولكنه يتألم أكثر
حينما يُنعَت بالتعصُّب والتقوقع الذاتي
عندما يكشف في صراحة وصدق عن تلك الخلافات
وأسبابها التاريخية–الاجتماعية–الثقافية
التي يسوِّغها اختلاف البيئات الشرقية
والغربية! وتؤلمه محاولة لفِّ الاختلاف
بأغطية المظاهر، من دون الولوج إلى حوار
الأعماق المرهق والمؤذي، ووحده المجدي. يقول:
"عيب الانقسام لا تغطُّوه بالقشور." تعجب
كيف أن هذا المُبْحِر في نفس المؤمن المسيحي،
أي في نفسه، يستنبش فيها كل إطلالة نحو المطلق
القياميِّ، يصحِّح الرؤى؛ لا يدَّعي، مع ذلك،
أنه يقدم لاهوتاً جديداً، بل يقدِّم، في رأيه، "توضيحاً
لاهوتياً دقيقاً" (ص 7)! لكأنَّ باب اللاهوت أُغلِق على التراث وأغلق
أبوابه بوجه أجيال لها من غنى الحياة ما
يجعلها قادرةً، لا بل في أمسِّ الحاجة، إلى
رؤى لاهوتية موائمة لأزماتها المعاصرة. إنه
يستشرق لاهوتاً جديداً "كما الهلِّينية
الإسكندرانية استشرقت أفلاطون". لا
يتكلَّم جورج خضر في كتبه إلا على المسيح. وكل
كلام آخر لديه يفتقر إلى اسم السيِّد ليس سوى
هوامش وحواشي وإيضاحات له! إنه كاتب مسيحي
بامتياز، لا من حيث الانتماء والإيمان فحسب،
بل خاصة من حيث الموضوع والهاجس الحياتي
الروحي. بذا، فإن ميزته الكبرى هي أنه علامة
فارقة في الآداب العربية، قديمها ومعاصرها;
غالباً ما يرى علامات شرقية مسيحية إسلامية
لم يسبق مصالحتها قبله في توق روحي. اللاهوت
لديه، من غير قول صريح أو اعتراف، هو الكلام
الصافي في الدين، هو الجهد لمواءمة الحياة
بالمسلك; ولديه: "المحدِّقون إلى وجه الله،
وحدهم يحرِّكون العالم كما ينبغي." (ص 97) الصيام،
الفصح، أليعازر، مريم المصرية، القيامة...
عناوين تتكرر على مرِّ الكتب؛ تتشابه كأن
النقطة النهائية في أحدها ليس سوى هلال مفتوح
على عنوان لاحق، كلام جذَّاب أعجز من أن
يستنفد مضمونه الأعظم. جورج
خضر، كاتباً شاعراً عاشقاً البهاء الإلهي،
ينضم إلى رهط من المتنوِّرين من كل المشارب
والمذاهب الذين بدَّدوا الحدود بينهم
والتخوم. يمتطي اللغة فرساً عربية تتطوَّع له
بها كل الآفاق. يقول: "إن حضور المسيح
يتجاوز تلك الجماعات التي تدين بدينه."
توحيدي أكبر، يعطي صورةً لم نألفها ربما
للبنان والحضارة العربية التي يساهم مع إخوته
الكُثُر في صونها وفي صنعها دائماً لتغدو
إطاراً للحرية وأداةً للتحرُّر. يدهشك
هذا الذي لا مطمح له إلا أن يكون حراً من المدى
والزمان، الذي يغمره هاجس الفصح، لِمَ يصرُّ
أن تكون لرحلته النورانية معالم تاريخية، في
المعنى الهيغلي، تتدرَّج، تتسلسل، تتتابع،
وتتخذ مكانها في زمان ومدى محددين، فوق كل
عنوان من عناوين فصوله الصغيرة، بدءاً من 9
شباط 1986 إلى كانون الأول 2000! إنه
يعي ثقل التراث والحاجة إليه معاً! والمسيحيون،
إذ ليسوا عشيرةً تُضاف إلى نهر البشرية، بل
مشاركون فيها مع سواهم، فإن تلك "الوحدة"
المنشودة في صفوفهم المبعثرة قادرة أن تغني
خيرَها من قيمة التنوُّع والانفتاح والحق في
الاختلاف، والحاجة دائماً إلى حوار مفتوح لا
سقوف له ولا أغلال تاريخية. عشاق
الحرية غالباً ما يمضون أعمارهم في السجون!
أليس بذلك تكون الدرب والغاية (أو بلغة خضر
المسيحية جداً: الصليب والفصح القيامي) هما
معاً حقيقة واحدة، عندما تبغي تجاوز الزمان
العيني في اتجاه الله المطلق؟ إنما بذلك تكون
أكثر انغرازاً في مسيرة صنع التاريخ البشري. *** *** *** عن
النهار، السبت 28 تموز 2001
|
|
|